التربية الخُلقية
(١) الدين أصل من أصول الأخلاق
الدين والأخلاق حقيقتان لا تنفصلان في الديانة الإسلامية، كما تتلازَمان في جميع الأديان، وهناك أديان سادت في شعوب مختلفة وتبعها الناس زمانًا بعد زمان وجيلًا بعد جيل، وليس فيها من أصول الدين إلا نزر يسير لا يُلقى إليه بال، إلى جانب ما فيها من حكمة خلقية وفضائل نفسية. مثال ذلك ديانة الصين وهي الكونفوشيوسية، وهي مجموعة فضائل بثها حكيم الصين لخير الإنسانية، ولم تنزل إليه وحيًا من الله. فالأمة التي ينتشِر فيها الفساد يذهب ريحها وتُمحى من صفحة التاريخ هي ودينها إن كانت تدين بدين.
ولم يكن القابسي في حاجة إلى النص على أنه يُريد من التعليم تهذيب الخلق، لأن تعليم الدين يحمل في طياته هذا التهذيب.
فالإسلام يُفصل الكلام في المسائل الأخلاقية الرئيسة التي تناولها القدامى والمُحدثون: فيه بيان عن الأصل الأخلاقي للسلوك الإنساني، وفيه بيان عن البواعث الخلقية، كما ينظُر في الحكم الأخلاقي، وفي الغاية من الفعل الخلقي.
وجماع هذه المبادئ الأربعة نجدها في القرآن، فهي مبسوطة وافية، ولكنها متناثرة في شتَّى آياته على الطريقة القرآنية، وهي ظاهرة لكلِّ من ألمَّ بالكتاب، ونظر فيه نظَرَ أولي الألباب.
مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (الأنعام: ٣٨).
لهذا جعل المسلمون القرآن حُجتهم ومرجعهم، ولهذا السبب ألزموا تعليمه ومعرفته. والفقهاء يعتبرون القرآن الأصل الأول من أصول الدين، ويعتبِرون السنة مُكملة للكتاب. قال القابسي: «ومُشتهر عند المسلمين أنه جاء عن النبي ﷺ أنه قال: تركتُ فيكم أمرَين لن تضلوا ما تمسَّكتم بهما: كتاب الله وسُنتي؛ فهو شيء لا بدَّ من تعلمه.» ٣١-ب.
والأخلاق من العلوم المعيارية التي تبسط للناس مُثُلًا عُليا ينبغي اتباعها، وتختلف عما يكون عليه الإنسان في الواقع.
ويرجع الأصل في الاختلاف بين الواقع والواجب إلى ظهور الدين والعُرف، وكلاهما سلطتان قاهرتان خارجتان عن الفرد، ويخضع لهما الفرد.
وظلَّ الإنسان زمنًا طويلًا لا يُميز بين السلطتين؛ سلطة نفسه وسلطة الدين والعرف، الخارجتَين عنه. والطفل لا يُميز بينهما لقصور عقله؛ والعامة من الناس كذلك لا يُفرقون بين هذه الذاتية وبين السلطة الخارجية، وذلك لجهلِهم، وبُعدهم عن التفكير في أنفسهم.
وأقدم الحضارات التي بيَّنَت في وضوح سلطة الدين على الأخلاق هي حضارة قدماء المصريين، التي آمنت بخلود الروح، والبعث والحساب والعقاب. وإنك لتجِد في أوراق البردي، والكتابات المُسجَّلة على جُدران المعابد كثيرًا من قواعد السلوك تُعتبر هدايةً إلى الخير، ومِيزانًا للعمل الصالح. لهذا السبب ارتقى العمران عند قدماء المصريين، واستمرَّت حضارتهم أحقابًا طويلة.
أما أفلاطون فيُقابِل بين العالَم المحسوس والعالَم المعقول، ولا يجد الخير إلا في العالَم العلوي المعقول، حيث نجد المُثُل تتدرَّج نحو الإله الخيِّر الصانع. وقد أعجبت الأفلاطونية المسيحيين لِما فيها من روحانية تتَّفِق مع روح المسيحية. وتعتمد المسيحية على مبادئ ثلاثة: فكرة الذنب الموروث، والدعوة إلى محبَّة الناس كافة، والاعتقاد في الثواب والعقاب في الآخرة.
فالأخلاق إلى عهد المسيحية كانت تسلك طريقَين: الأول محاولة الرُّقي بالإنسان نحو الكمال، والثاني التسليم بأن المعصية موروثة، وأن الخلاص منها بيد الله.
وكِلا الطريقين يستند إلى وجود الله، ويعتبِر أنه تعالى الأصل في الأخلاق.
ونظر الفلاسفة المُحدثون إلى مشاكل العالم والإنسان بالعقل الحُر الطليق من جميع الآراء السابقة، وقد وجدوا أن وجود الله ضرورة من ضرورات هذا العالم. فديكارت والمدرسة الديكارتية تصِل بين الأخلاق وبين ما بعد الطبيعة، وتجعل الله، وهو الكمال المُطلق، أصل الأخلاق.
وهوبز الفيلسوف الإنجليزي ممن يعتبرون الدين وهو سلطة خارجية مصدر التشريع الخلقي، وأن الفعل الخلقي يُعتبر خيرًا لأن الله يريده، وبذلك يتَّفِق مع الإرادة الإلهية.
فإذا كنَّا في العصر الحديث لا نزال نُفسح المكان للجانب الإلهي الذي يصدر عنه الخَلْق والخُلُق بل كل شيء، وعلى الرغم مما يسود العالم من حرية رأي، وجرأة فكر، وفلسفة مادية مُلحدة تحاول تفسير كل شيء، فليس من الغريب أن نجد فقهاء المُسلمين، ومن بينهم القابسي، يَردُّون كل شيء إلى الله، ويجعلون الواحد القهار الرحمن الرحيم، أصل الأخلاق، ومصدر الأعمال، وهو القائل في كتابه: وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (الصافات: ٩٦).
كانت البيئة دينية؛ التفكير الديني يسُود فيها كل شأن من شئون الحياة.
(٢) القرآن أصل الأخلاق الإسلامية
الأخلاق نظرية وعملية. ولم ينصَّ الإسلام على أخلاق نظرية مُنفصلة، يتبعها السلوك العملي، ويستمد قوَّته من تلك النظريات المُقررة. وإنما رسم للناس قواعد العمل الصالح الذي ينبغي أن يسيروا عليه. ومرجع المسلمين في ذلك هو القرآن أولًا، ثم السنة المُكملة للكتاب.
والقرآن زاخر بهذه القواعد العملية التي تتناول أغلب أحوال الناس في معاشهم، وفي صِلاتهم بغيرهم من الناس، ومُعاملتهم بعضهم بعضًا.
والإسلام دين السلام؛ سلام بين المرء ونفسه، وبين المرء وغيره.
وهو أول دين يحمل الخير للإنسانية كافة، لا يقتصر على شعبٍ دون شعب، أو يُؤْثِر أمةً على أمة، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
فهو شريعة الله لنفع العباد: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ.
أما الأديان الأخرى فإنها تُنسَب لأصحابها من الأنبياء والرسل والحكماء.
ويفسر القابسي الإسلام تفسيرًا يؤكد به العمل المفروض على الناس من الله، على طريقة النظَّار من أهل السُّنَّة، لا على طريقة المُتأخرين، فالإسلام هو: «عمل الجوارح بما افترض عليها؛ لأنه يدل على استسلام من قال: أسلمتُ لله.» ٥-ب. وإذا لم يقترن الإسلام بالإيمان فهو النفاق.
فالإسلام هو الإيمان بالله، يُضاف إليه العمل الصالح.
هذا التفسير يتلاءم مع مبادئ الأخلاق؛ لأنه يجعل الإنسان مسئولًا عن أعماله، ويؤكد حرية إرادته، وسنرى كيف يوفِّق القابسي بين الإرادتَين: إرادة الله وإرادة الإنسان فيما بعد.
أما مبادئ الإسلام فهي ثابتة مُقررة في القرآن.
وإذا نظرْنا إلى القرآن نظر الباحث الذي يريد تحليل ما جاء فيه، وجدْنا أنه ينقسِم إلى أربعة أقسام: قسم للعقائد وما يتَّصِل بها، وقسم للتشريع وثالث للأخلاق، ورابع للقصص.
وقسم التوحيد يدعو الناس إلى الإيمان بالله الواحد القهار، وذلك بأدلةٍ كثيرة منها ما هو عقلي يدعو إلى التفكير والنظر، ومنها ما هو وجداني يثير العواطف المختلفة، ويبعث الرغبة والرهبة، فيقع المرء تحت تأثير العاطفة ويسهُل عليه الانقياد. ويتصِل بهذا القسم القول في الوحي والآخرة والجنة والنار، وأشباه هذه المسائل التي تُعتبر جزءًا من العقائد، وتندرِج تحت ما وراء الطبيعة. ويتبع هذا القسِم أيضًا العبادات المُختلفة، وأولها الصلاة وهي ذكر الله؛ لأن معرفة الله لا تَتمُّ بالنظر، وإنما تُستكمَل بالعبادة والقُرب ودوام الذكر.
وقسم التشريع يبسط القوانين التي ينبغي اتباعها وتطبيقها في المعاملات المختلفة. وبهذا يحلُّ القرآن كثيرًا من المشاكل الدنيوية وهي مشاكل خاصة بعلاقة الإنسان بالإنسان، وبحياته الاجتماعية والسياسية، وصِلته بأُسرته وزوجته وما ينشأ عن ذلك من طلاق وميراث. ويُشرِّع القرآن أيضًا تشريعًا يتَّصِل بتوزيع الثروة، فيحل مشكلة رأس المال والعمل؛ تلك المشكلة العويصة التي برزت في العصر الحاضر بروزًا واضحًا، ونشأت عنها نظرية الشيوعية والاشتراكية.
والغرَض من القصص هو ضرب الأمثال للناس للعِبرة والقدوة كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ (الكهف: ٥٤). ومخاطبة الخيال أوقع في النفس وأشدُّ تأثيرًا. وبذلك جمع القرآن بين خطاب العقل والعاطفة والخيال، فملَك على الناس مناحي تفكيرهم، وسلَب أفئدتهم، وكسَب قلوبهم، وأثَّر في نفوسهم.
والقسم الخاص بالأخلاق ينظم أفعال المرء مع نفسه، وأفعال المرء مع غيره أي المجتمع. فهي أخلاق شخصية واجتماعية. على أنَّ هناك بعض المذاهب تَعتبِر أن الأخلاق جميعًا اجتماعية، وحتى الشخصية منها مَرجعها إلى المجتمع.
وقد نصح الله الإنسان في أخلاقه الشخصية أن يقتصِد في المال كما يقتصد في تناول الطعام، لصلاح جسده وصلاح شأنه. وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ (الإسراء: ٢٩). وقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا (الأعراف: ٣١)، هذه فضيلة الوسَط بين الإفراط والتفريط، التي تتلاءم مع طبيعة الحياة الواقعية.
وفي أخلاق الأُسرة كثير من الآيات. فالقرآن يحث على الزواج، ويُنفِّر من الزنا، ويُنظم العلاقة بين الزوج وزوجته على أساسٍ خُلقي من المودة والرحمة، كما يأمر الأولاد بالإحسان إلى الوالدين، والآباء أن ينظُروا في خير أبنائهم.
وجماع الأخلاق الاجتماعية، أو الأخلاق الفاضلة على وجه العموم يلتقي في التفسير الذي بسطَه القابسي للاستقامة والصلاح بعد حديث الإسلام والإحسان.
أما الاستقامة فهي: «القيام بما أمر الله به» ١١-أ.
أما الصلاح: «فما تقدَّم وصفه (أي الإيمان والإسلام والإحسان والاستقامة) من وفَّى بجميعه وفاءً حسنًا، فقد استكمل صفة الصالحين.» ١٣-ب.
وقد أمر الله المسلمين بالإيمان به، وأداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، كما جاء في حديث الإيمان والإسلام.
ومن أراد أن يُحيط بجميع أوامر الله، فعليه أن يرجع إلى القرآن.
وخلاصة هذه الأوامر تجتمع في أول سورة البقرة، ثانية سور القرآن بعد فاتحة الكتاب.
الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
اعتقاد بالله، والآخرة، والوحي، ثم الصلاة والزكاة.
والإنفاق ممَّا ملكَت اليد هو الصدقة بأوسع معانيها، أي العمل الصالح للناس جميعًا. ذلك أن الله لم يهب للإنسان المال وحدَه، بل وهب له كذلك عافيته وملَكاته.
وقد جمع الله بين الصلاة والزكاة في غير آية من الكتاب، مما يدل على الصلة الوثيقة بينهما. فالصلاة تُهيئ الإنسان لخدمة الإنسانية.
والاعتقاد في الله هو النواة التي يدور حولها الإسلام: ومن هذه النواة يتصِل الإنسان بالله عن طريق الصلاة. ولا خير في الصلاة إذا لم تؤدِّ إلى فعل الخير، كما قال تعالى في سورة الماعون: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (الماعون: ٤–٧).
ورد في القرآن في مناسباتٍ شتَّى الحث على الإنفاق، والصدقة والزكاة؛ كما يؤكد كثيرًا من أفعال الخير كعِتق العبيد، وإطعام المسكين، والعناية باليتيم.
وفي سورة البلد: فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (البلد: ١٣–١٦).
والصدقة الظاهرة أو الخفية لها جزاؤها. في سورة البقرة: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (البقرة: ٢٧١).
في بعض آيات القرآن دعوة إلى الابتعاد عن الدنيا وإيثار الآخرة: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (الأعلى: ١٦-١٧) وفي سورة النازعات: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. (النازعات: ٣٧–٤١).
والحقيقة أن دائرة الإسلام لا تشمل الآخرة وحدَها، بل الدنيا أيضًا، كما قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص: ٧٧).
والروح الصحيح للإسلام لا يتطلَّب الشدة، ولا يفرض القسوة على النفس. فالاستقامة في الدين كما يقول القابسي: «هو مداومة المُقام فيه، لا يُنَكِّب عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا يلتزم منه ما لا يُطيقه.» ثم ذكر من أحاديث الرسول. «اكفلوا من الأعمال ما تطيقون.» وفي حديث آخر: «إن الدين يُسر.»
من هذا نرى أن القرآن أكبر مرجع للمُسلمين، وأول أصلٍ من أصول الدين؛ والجانب الخلقي في القرآن عظيم.
لهذا كانت معرفة الدين عند القابسي لا تتمُّ إلا بتعلُّم القرآن. ولعلَّ القابسي لم يُلزِم الأمة ذكورًا وإناثًا بالتعليم، إلا ليتعلَّموا القرآن. وهو ينص على ذلك في صراحة إذ يقول: «إن حُكم الولد في الدين حُكم والده ما دام طفلًا صغيرًا: أفيدع ابنه الصغير لا يُعلمه الدين؟ وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين.» ٢٨-أ.
(٣) الضمير والأخلاق
تبيَّن لنا أن الأصل في الأخلاق الإسلامية على مذهب أهل السُّنَّة يرجع إلى سلطة خارجية قاهرة هي سلطة الدين. وأساس هذا الدين القرآن الواجب تعليمُه وتعلُّمه. والصِّلة بين الدين الإسلامي والأخلاق عظيمة تبلُغ حدَّ التوحيد بينهما. فالدين وسيلة لتكوين الخلق، والأخلاق مُستمَدة من الدين. ولا غِنى لصاحب الأخلاق عن عقيدة تسمو على مطالب هذه الحياة الدنيا. إلى هذه العقيدة تتطلع النفوس وتذهب نحو الكمال.
ولعل الذي يجعل الإنسان يتطلَّع في أُفق هذا العالم إلى شيءٍ بعيد يتلمَّسه ويرقبه ويستمدُّ منه العون، ويركن إليه في ساعات اليأس والمتاعب والنازِلات هو امتياز الإنسان بالشعور.
والشعور النفساني هو المرآة التي تنعكِس عليها أعمال المرء، فيرى فيها تقدير هذه الأعمال ويتسنَّى له أن يحكُم عليها بالخير أو الشر.
هذا الشعور النفساني هو الذي يُعبرون عنه في علم الأخلاق بالضمير؛ ذلك الذي يقف من المرء موقف الرقيب، يحثُّه على أداء الصالح، ويَنهاه عن فعل الضار؛ ويُعاوده بعد أداء الأعمال، فيؤديه مُستنكرًا ما أساء، ويَجزيه براحة الضمير أحسن الجزاء.
ولا أخلاق بلا ضمير، سواء اعتبرنا أصل الأخلاق سُلطة خارجية دينية أو اجتماعية أو قانونية، أو اعتبرنا أصل الأخلاق هو هذه السلطة النفسية الصادرة عن النزعات الذاتية والأفكار الباطنة.
فالشعور بالواجب الخلقي هو الذي يدفعنا إلى الأعمال الصالحة.
والضمير هو الحد الفاصل بين الرغبات المطلوبة، والواجبات المفروضة في الطبائع الإنسانية يُدركها صاحبها بالبديهة. وبعضهم يَرجِع بالضمير إلى الكسب والخبرة، وبذلك ينشأ الضمير فينا بالتعليم والتطوُّر الاجتماعي.
ومِن الواضح أن القابسي لا يقول بفطرة الضمير؛ لأنه أحال الأعمال الخلقية إلى سلطة خارجية هي السلطة الدينية.
والضمير على رأيه مُكتسَب مُستمَد من الدين.
والقابسي من المُوفِّقين يؤلفون بين شتَّى المذاهب، ويُلائمون بينها. فهو يُثبت أن الله يعلم ما في السرائر، ويعرف خبايا النفوس، وهو الذي يُراقب العباد، وفي الوقت نفسه يُثبِت أن الإنسان يعرف ما يعمل، وهو الذي يراقب نفسه؛ ثم يوفق بين مراقبة الله للأعمال وبين مراقبة صاحبها لها.
والسبيل إلى ذلك هو إحلال الضمير الديني محلَّ الضمير الخلقي، بأن يَستمِدَّ الضمير الخلقي وجوده من الدين، وبذلك يتوحَّد الضميران.
ويعتمد القابسي في هذا التأليف على حديث الرسول؛ سُئل النبي: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.»
وقد ضرب القابسي في تفسير هذا الحديث المثَل بالسيد والعبد الذي يُجهد نفسه في حضرة سيده ليُرضيه بحُسن طاعته، فإذا خلا العبد من مُعاينة سيده له، فإنه قد يُقصِّر. وقياس حال الإنسان مع الله على حال العبد مع سيِّدِه قياس مع الفارق العظيم؛ لأن دائرة المُشاهدة عند السيد محدودة ويَخفى عنه الكثير، وبذلك يتسنَّى للعبد أن يستغفله. أما العباد فإنما يستغفلون أنفسهم إذا أرادوا الاستخفاء من الله.
فالله يعلم كلَّ كبيرة وصغيرة، ولا يخفى عليه شيء.
والقابسي يُمثل مذهب أهل السُّنَّة، وهو أن الله يعلم الكليَّات والجزئيات، لهذا ساق آياتٍ كثيرة من الكِتاب لتأكيد هذه المسألة، نذكر منها: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (يونس: ٦١). وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ (البقرة: ٢٣٥). وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (ق: ١٦). وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الحديد: ٤).
والأصل أن الضمير هو الذي يَطَّلِع على خافية الأنفس؛ لأن الإنسان كساكِن الدار لا يعلم ما يجري فيها على وجه التحقيق إلا صاحبها.
والقابسي يُسلِّم للضمير بهذه القوة وهذه الوظيفة: قوة الحفز على العمل الصالح، والنهي عن ارتكاب السيئات، ووظيفة الاطلاع والرقابة على الأعمال. ولكنه في الوقت نفسه يؤمِن بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وهو الذي يعلم السرَّ والجهر، فهو رقيب على الرقيب من نفس الإنسان، بل هو ضمير لضمير الإنسان والإنسانية.
ولا خير في الضمير إن لم يكن حيًّا يقِظًا يؤدي وظيفته على وجهها الصحيح من الرقابة الصادقة والاطلاع الدقيق. فكثيرًا ما يتبلَّد الضمير مع الإلف والاعتياد، فيقع في سُبات لا يقوى معه على الشعور بالحُسن والقبيح. وإن شعر فإنه لا يقوى على شحذ الهمَّة إلى أداء الفضائل، أو حفز النخوة إلى الابتعاد عن الرذائل.
لذلك قالوا عن صاحب الضمير المَيِّت: إنه شخص بلا ضمير.
ولا أخلاق مع انعدام الضمير، والشرط أن يكون الضمير يقظًا مع الأخلاق.
والرأي عند القابسي في إحياء الضمير يكون بوسيلتَين تتفرَّعان عن أصلٍ واحد. فالأصل هو الإيمان الخالص بالله القوي العليم الغفور، والسبيل الأول: «أن تعبد الله كأنك تراه، وأن هذا يلتزِمه العبد لله في أحوالٍ مُتقلِّبه ومَثواه … لأنه يُجدِّد للمؤمن إيمانه كلَّما ذكره.» ١٣-ب.
والسبيل الثاني الاعتصام بالله؛ لأن الانزلاق الخُلقي مَرجِعه اتِّباع الشهوات، ولا عاصم للإنسان من نفسه الأمَّارة بالسوء إلا الله … «فإن همَّ به الشيطان أن يُلبِّس عليه شيئًا، فاستغاث ربه، واستعاذ به منه، فكفاه عدوه، وأعانه عليه … وإنما المعصوم مَن عصَمَه الله جل وعز.» ١٤-أ.
الإيمان بالله، والتزام عبادته، والاعتصام به تعالى، هي الوسائل المؤدية إلى حياة الضمير، فتستقيم الأخلاق. وهذه أمور لا يعرفها الإنسان ويعمل بها بالبديهة والفطرة، وإنما تُكتسَب بالتعلم.
فالمُعلم مُكلَّف بتلقين الصبيان الإيمان الصحيح، والعبادات المُختلفة والدعاء. وتمام يقظة الضمير، ومراقبة المرء لنفسه، ترفعه إلى مرتبة الصالحين، تلك المرتبة التي لخَّصَها القابسي فقال: «إن كمال ذلك كلِّه في قول الله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (البينة: ٥)» ١٥-أ.
ذلك أن العبادة ليست عبثًا في الدين، فالصلاة وهي الركن الركين في الإسلام عبادةٌ الغرَض منها معرفة الله، وذِكره في كل وقت، ودوام الذِّكر هو السبيل إلى يقظة الضمير. لهذا السبب نصَّ الفقهاء على وجوب انصراف المرء في الصلاة إلى ذكر الله مع عدم الاشتغال بأي أمرٍ من أمور الدنيا. والصلاة المفروضة على المسلمين يؤدُّونها في خمسة أوقات مُتفرقة من كل يومٍ لدوام الذِّكر. وقد طُلِب إلى المسلمين أن يأمروا أولادهم بتأديتِها وهم بنو سبعٍ ليسكنوا إليها ويألفوها ويتطبَّعوا بها، حتى إذا تأصَّلَت فيهم هذه العبادة، انطبعت شخصيتهم بها، فأصبح المِحور الذي تدور حوله الشخصية، ومنه تستمدُّ حياتها وكيانها، هو المِحور الديني.
قد تزيد هذه الشخصية الدينية قوةً مع قوة الشعور بوجود الله ومعرفته والإقرار برقابته، بشرط أداء العبادة أداءً صحيحًا.
وقد تضعف هذه الشخصية إذا كان صاحبها يُردِّد العبادات ترديدًا آليًّا ينعدِم معه الشعور بوجود الله، فتنعدِم الرقابة الدينية، ولكنها لا تُمحى تمامًا.
(٤) البواعث الخلقية
هل الباعث على الأعمال الخُلقية هو العقل أم الوجدان؟
قبل أن نبحث حقيقة هذه البواعث الخلقية عند القابسي، لا بدَّ أن نرى رأيَه في حُرية الإرادة. ذلك أن الباعث إن لم ينطلِق عن اختيارٍ فلا سبيل إلى الحُكم الأخلاقي، ولا مَوضع للمسئولية أو التكليف.
ومشكلة حُرية الإرادة من المشاكل الدقيقة التي جرى البحث فيها في شتَّى العصور. ولم يصِل المُسلمون حتى الآن إلى حلٍّ سليم يتَّبِعونه فيها، مع ما لهذه المشكلة من آثارٍ اجتماعية بعيدة الشأن في حياة المسلمين.
والأصل في هذه المشكلة يرجِع إلى التوفيق بين حرية الإنسان والإرادة الإلهية؛ ولا بدَّ من حلِّ هذه المشكلة الدقيقة الشائكة ليستقيم أمر الأخلاق. فقد يستسلِم الناس إلى أمر الله استسلامًا أعمى فيركَنون إلى التواكُل، ويلجئون إلى التكاسُل. ويذهب بعض الناس إلى حدِّ ارتكاب المعاصي قائلين إن كل شيءٍ بأمر الله، أو هذا ما كتبه الله على العباد.
وينتقِد أهل السُّنَّة الذين يُثبتون الحرية والإرادة للإنسان، بأن في خلق العباد لأفعال أنفسهم سَلبًا للقُدرة الإلهية. وفي ذلك يقول صاحب الإنصاف في تعليقه على تفسير الكشاف: «ويجعلون أنفسهم الخسيسة شريكةَ الله في مخلوقاته، فيزعُمون أنهم يخلقون لأنفسهم ما شاءوا من الأفعال على خلاف مَشيئة ربهم، مُحادَّة ومُعاندة لله في مُلكه، ثم يتستَّرون بعد ذلك بتسمية أنفسهم: أهل العدل والتوحيد والله أعلم بمن اتقى. ولَجبرٌ خير من إشراك؛ إن كان أهل السُّنَّة مُجبِرة فأنا أول المُجبِرين.»
ولم يذكر القابسي حلًّا صريحًا لهذه المشكلة؛ لأن كتابه لم يتعرَّض لبحث المسائل الكلامية. وأهل السُّنَّة على وجه العموم لا يخوضون في بحث هذه المسائل الشائكة التي تدعو في نظرِهم إلى الانزلاق نحو الكفر، وإنما يقبلون ما فيها من تعارُض بإيمان العقيدة، لا بيقين العقل، كما كان يفعل السلَف.
وقد أراد الأشاعرة أن يحلُّوا هذه المشكلة فما زادوها إلا تعقيدًا؛ ورأيهم في الكسْب دقيق، ولذلك يُضرَب به المثل، فيُقال: هذا أدقُّ مِن كسْب الأشعري.
أما أهل السُّنَّة فقد كفَوا أنفسهم مَئونة هذا التحايُل على التوفيق، وقالوا إن الناس مُطالبون بالأمر لا بالقدَر.
فالقابسي يُثبت القُدرة الإلهية، كما يُثبت الإرادة الإنسانية، ويُضيف إلى الإنسان الاختيار وبذلك يكون مسئولًا عن أعماله، مُحاسبًا عن أفعاله.
والباعث إلى تحريك الإرادة نحوَ جهةٍ مُعينة باعث ديني.
فإن قلتَ كيف يكون الباعث دينيًّا، والبواعِث تصدُر من باطن الإنسان وهي التي تُحركه؟
قُلنا: إن هذه المسألة ينطبق عليها ما ذكرْنا في الضمير. فكما تَوحَّد الضميران الخلقي والديني، كذلك تتوحَّد البواعث الإنسانية والدينية؛ ونقصد بالبواعث تلك الأوامر والنواهي التي وردت في القرآن، وطُلِب إلى الناس فِعلُها. فالزواج باعث إنساني لا شكَّ في ذلك؛ لأنه يرجع إلى الغريزة الجنسية. وهو باعث ديني أيضًا لأنَّ الله أمَرَ بالزواج. والباعث إلى الامتناع عن الرِّبا يكون باعثًا اجتماعيًّا ودينيًّا، فهو اجتماعي لما فيه من أضرار تَحِلُّ بالمجتمع، وهو دِيني لأن الله نهى عنه.
والقابسي يرى أن البواعث يجب أن تكون دينية، أي أن يتبع المرء ما جاء عن الله والرسول.
فإذا كان الأمر كذلك، فالتعليم واجب لأنه يُبصِّر المسلمين بأسباب الدوافع المُحركة للإرادة على اختيار الأفعال. ولا بدَّ أن ينتهي الأمر بالمرء إذا استغرق في الحياة الدينية، أن يتصوَّر مَنازِعه صادرة عن الدين، وأن يُوزِّع أعماله بين الحلال والحرام.
فإذا بدأ الصبي الصغير في حفظ القرآن ومعرفة تعاليم الدين، اختلطت هذه التعاليم بشخصيته كلَّما نما وبلغ مَبلغ الرجولة، فتتَّحِد البواعث الدينية في نفسه مع الزمن مع البواعث الشخصية.
فمرجع البواعث إلى الدين، وإلى القرآن.
والقرآن كما ذكرْنا يُخاطب العقل والوجدان؛ لأن الطبيعة الإنسانية فيها التفكير والتدبير، وفيها المَحبة والكراهية؛ ويعمل الإنسان بدافع من الرأي والنظر كما يتحرَّك بقوة الخوف والغضب.
ومذهب العقليِّين في الأخلاق — والفلسفة القديمة أغلبها على هذا المذهب — تُهمِل جانب الوجدان. وأصحاب هذه المذاهب يُغلِّبون الحِكمة والعقل على أهواء النفس، ويرَون في العقل أساس اختيار الفضائل.
وسقراط وأفلاطون وأرسطو والرواقيُّون، وديكارت وليبنتز وكانط، وغيرهم كثيرون على هذا المذهب العقلي.
وعند المسيحيين أن الباعث الأساسي إلى أفعال الخير هو الشعور بالمحبة. ويميل أغلب المُحدثين — على الأخص علماء النفس — إلى اعتبار الوجدان أساس الإرادة، ويعتبرون العاطفة أساس الاختيار الإرادي، وليس العقل.
وبعض المُفسِّرين يُفسِّرون الآية الآتية من سورة الإنسان: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (الإنسان: ٨)، أي محبة الله.
ولكن أهل السُّنَّة يأخذون بالجانبين جميعًا، بالبواعث العقلية والوجدانية.
مثال ذلك ما جاء عن تعليم اليتيم الذي ليس له مال، فإنَّ المُعلم قد يُعلِّمه احتسابًا لله عز وجل، فهذا باعث وجداني يرجع إلى العاطفة الدينية.
وجاء في تعليم الأُنثى أنها: «تُعَلَّم ما يُرجى لها صلاحُه، ويُؤمَن عليها من فتنته.» فالباعث إلى تعليمها عقلي؛ لأن القابسي ينظُر في مصلحتها، ولو أنه يقصد بالمصلحة المصلحةَ الدينية بطبيعة الحال.
ولا نُريد استقصاء جميع الأمثلة التعليمية الواردة في كتاب القابسي، فكلُّها على هذا النمَط من الجمع في البواعث بين العقل والوجدان.
(٥) الغاية الخلقية
يختلف المُفكرون اختلافًا كبيرًا في تحديد الغاية من الأفعال الخلقية. وعندنا أن مَرجع الخلاف هو إلى تبايُن الطبائع البشرية في المزاج والتفكير والإدراك والسلوك والشخصية.
جعل القورينائيون في الفلسفة القديمة اللذَّة الحِسِّية غاية الأعمال الخلقية. وأنصار هذا المذهب قليلون؛ لأن الأخذ باللذَّات الحسية يؤدي إلى آلام كثيرة، كما يتعارَض مع تقدُّم الإنسانية، إلى جانب وجود لذَّات أشرف من اللذَّات الحسية.
ومذهب السعادة أدنى إلى القبول؛ وسقراط وأفلاطون وأرسطو على هذا المذهب. وفي السعادة راحة النفس والضمير، وسرور الفرد وغبطة المُجتمع. وإذا كانت السعادة أشرف من اللذَّة الحسِّية لأنها فضيلة الحكمة واختيار الوسط العدل بين الإفراط والتفريط، ففي الإمكان التوفيق بين الارتياح الذي يشعُر به الفرد وبين السعادة العامة. بينما يصعُب التوفيق بين اللذَّة الشخصية وبين اللذة العامة التي يحسُّ بها الناس جميعًا؛ لأن تحقيق اللذَّة عند الغير يكون على حساب الفرد، بينما الاشتراك في إسعاد الآخرين لا يتنافى مع سعادة المجتمع.
وهناك مذاهب أُخرى تنشُد غايات خارجية موضوعية، منها الكمال؛ فالذي يفعل الخير إنما يُريد أن يصِل إلى الكمال.
والذين يقولون بالتطوُّر يرَون أن تاريخ الإنسانية صراع دائم نحو التقدُّم والرُّقي، وأن وجود هذه الغاية الأخلاقية، هو الذي يجتذِب الإنسان مع الخير إلى التقدُّم دومًا.
ويعترِضون على المذهبَين السابقَين بأن الصفات الخلقية هي نفسها الكمال أو التطور، وهاتان الغايتان خاضعتان لغايةٍ أخرى.
قالوا: إن الطبيعة هي الغاية الخلقية. فالحياة الموافقة للطبيعة هي الحياة الخيِّرة التي تجلب اللذَّة والسعادة، وروسُّو في المذاهب الحديثة عنوان على هذه الفلسفة الطبيعية.
وهناك مذهب المنفعة الذي راج في الفلسفة الإنجليزية رواجًا كبيرًا. والمنفعة العامة إذا كانت رائد الأعمال الخلقية، والغاية منها، حقَّقت الخير لأكبر عددٍ من الناس.
وقد تجنَّب بعض الفلاسفة الاعتراضات على المذاهب السابقة فقالوا بأن الخير واجب لذاته، يفعله المرء لأنه واجب. فالواجب الخُلقي هو الغاية، لا الكمال أو التطوُّر أو الطبيعة أو المنفعة. وكانط من أنصار مذهب الواجب في الأخلاق.
ومذهب أهل السُّنَّة لا يرى رأيَ هؤلاء جميعًا؛ لأنه خرج بالغايات الخلقية من ميدان الدُّنيا إلى ميدان الآخرة.
وبذلك يلتقي الناس جميعًا في غايةٍ واحدة، تتَّسِع لهم جميعًا، ولا يقع عليها خلاف، هي التمتُّع بنعيم الجنة في الآخرة.
وقد وصف الله الجنة في أكثر من آيةٍ من القرآن؛ ليكون الناس على بصَرٍ بما يلقَون من جزاء.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (الغاشية: ٨–١٤).
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (النبأ: ٣١–٣٦).
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (المرسلات: ٤١–٤٤).
من هذا الوصف للجنة يتبيَّن لنا أن الله وعَدَ المُتقين في الدار الآخرة متاعًا من اللذَّة الحسِّية والسعادة، فجمع بينهما. وإذا كانت الجنة غاية خارجية، ففيها تحقيق للغايات النفسية.
وفي الوقت نفسه أوعد الله المُفسدين الذين يؤثِرون أنفسهم، بنار الجحيم، وفي ذلك يقول: إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (المدثر: ٣٩– ٤٤).
والمنفعة من الغايات الأخلاقية الدنيوية، التي تخضع لغايةٍ أسمى هي الفوز بالدار الآخرة وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (البقرة: ١١).
والمُسلم مُطالَب بالمعيشة وفق الطبيعة، والتمتُّع بالطعام والشراب والزوج. كلُّ ما في الأمر أن تكون هذه المعيشة الطبيعية مُلائمة لمَطالب الفرد ومطالب المُجتمع، لا إسراف فيها، كما تُحقِّق صلاحه وصلاح المجتمع وخيره.
وهناك مصالح رفعها الله إلى مرتبة الواجبات، وفرضها على الناس، كالصلاة والزكاة. فالذي يؤدي الزكاة إنما يؤديها لأنها واجب ديني، وهي في الوقت نفسه واجب خُلقي. وبذلك تتوحَّد الواجبات الدينية والخلقية، كما رأينا في التوحيد بين الضمير الديني والخُلقي.
والواجب الخُلقي في الإسلام يختلف عن الواجب عند كانط؛ لأن الواجبات الإسلامية ليست غاياتٍ في أنفسها، تُطلَب لذاتها، ولكن من ورائها الجنة تنتظِر مَنْ أحسن أداءها. أما الواجب الكانطي فهو غاية لذاته.
وبذلك تجتمع الغايات المُختلفة التي نظَر إليها المُفكرون تحت رايةٍ واحدة، وغاية أسمى وأعلى هي الغاية الدينية. ولا يمنع السعي إلى الآخرة من التعلُّق بأهداب الدنيا، إذ لا تَعارُض بينهما.
والقابسي ينشُد من الأخلاق الغاية الدينية، والسعادة في الدار الآخرة، وهو في الوقت نفسه لا يرى بأسًا في طلَب غاياتٍ دينوية؛ لأن الدين أقرَّها.
من الغايات الدنيوية التي يُحققها الوالد من تعليم ابنه، أن يكون به سعيدًا، أو كما يقول القابسي: «فمن رغب إلى ربِّه أن يجعل له من ذُريته قُرَّة عين، لم يبخَل على ولدِه بما يُنفق عليه في تعليمه القرآن.» ٢٨-أ.
أما الغاية الأصلية فهي رِضا الله: «فلعلَّ الوالد إذا أنفق ماله عليه في تعليمه القرآن، أن يكون من السابقين بالخيرات بإذن الله.» ٢٥-أ.
والذي يُعلِّم ولدَه فيُحسِن تعليمه، ويؤدِّبه فيُحسِن تأديبه، فقد عمل في ولده عملًا حسنًا، يُرجى له من تضعيف الأجر فيه. كما قال الله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً (البقرة: ٢٤٥) ٢٥-ب.
وصِفَة الصالحين عند القابسي هي حُسن العبادة، وأداء الفرائض واجتناب المَحارم، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (النساء: ١٢٤) ١٣-أ.
ويتعلَّق بالغاية مذهبٌ آخر، هو القول بأن الخير هل يلحَق الفرد أو الجماعة؟
والإسلام على مذهب الجمعيين؛ لأنه ينشُد خير المجتمع، بل الإنسانية كافة. وقد رأينا في سورة القيامة كيف دخل المُجرم النار لأنه لا يُطعِم المسكين.
ويؤثر القابسي خير الجماعة على خير الفرد، ويحضُّ باستمرارٍ على المصلحة العامة.
مثال ذلك ما جاء عن المُعلم الذي يُعلم الصبيَّ الفقير احتسابًا: «فإذا آثره على نفسه، استأهل — إن شاء الله — حظًّا وافرًا من أجور المؤثِرين على أنفسهم.»
(٦) شخصية الصبيان الخلقية
تصِل أعمال المرء بعد زمنٍ إلى درجةٍ من الثبات والآلية، فتكون هذه الأعمال عنوانًا عليه، وتُنسَب إلى شخصه، ويُعبَّر عنها بالشخصية. وجزء من هذه الشخصية يكون خُلقيًّا، كالأمانة والصدق إذا عُرِفَت عن شخصٍ مُعيَّن.
ومرجع الصفات الخلقية في تكوين الشخصية إلى المُجتمع؛ لأن الإنسان على أي الحالات كائن اجتماعي قبل كلِّ شيء.
والمدرسة جزءٌ من المجتمع، بل هي عنصر مُهم، وعامل من أكبر العوامل في التأثير الاجتماعي، خصوصًا في المراحل الأولى من تربية الصبيان. وأول تأثير يتلقَّاه الطفل في حياته هو تأثير الأشخاص الذين يُحيطونه، وهم والده وأهله في المنزل؛ فإذا شبَّ قليلًا واشتدَّ ساعده، فإنه يختلط بغيره من الناس في ذلك المُحيط الضيق الذي يعيش فيه قريبًا من المنزل. ومنذ سِنِّ الخامسة أو السادسة أو السابعة، ينتقِل الطفل إلى بيئةٍ جديدة هي الكُتَّاب، حيث يبقى فيه إلى أن يُتمَّ حفظ القرآن بأكمله، أو يحفظ جزءًا منه، إلى جانب تعلُّمه القراءة والكتابة، وبعض النحو والعربية، وشيئًا من الحساب، وما إلى ذلك من الأمور التي كانوا يعتبرونها وسائل للإحاطة بالدين.
في هذه البيئة يتَّصِل الطفل بغيره من الصبيان ممَّن هم في مثل سِنِّه، أو ممن يَكبُرونه قليلًا، ويتَّصِل أيضًا بالمُعلم الذي يقوم بتعليم الصبيان وتأديبهم.
وأكبر الظن أن الصبي في مثل هذه السِّنِّ الصغيرة لا يزِن الأمور، ولا يُقدِّر مرامي الأعمال، وإنما يتصرَّف ويسلك تحت وحيٍ من المُحاكاة الفطرية في النفس. ومُحاكاة الحركات والأعمال أسبق من مُحاكاة المعاني والآراء.
والشخصية الجديدة التي يتأثَّر بها ويُحاكيها لأنها أعظم الشخصيات بالنسبة للصبيِّ وبالنسبة لجميع الصبيان، هي شخصية المُعلم. فهم لا يجدون أمامهم إلا هو، يتعهَّدهم منذ الصباح الباكر سحابة النهار، وهو الذي يُعلمهم أو يُلقِّنهم هذه المبادئ المُختلفة، وهو الذي يُرشدهم إذا أخطئوا سواء السبيل. وهو الذي يَؤمُّهم في الصلاة إذا حضر وقتُها؛ وله عليهم سيطرة شديدة تسمَح له أن يضربهم في بعض الأحيان؛ فهو منهم بمنزلة القائد. والصبيان في هذه السِّنِّ الصغيرة اللَّيِّنة يكونون كالعجينة التي يسهُل تشكيلها. لهذا نجد الصبيان يُحاكون المُعلِّم في كل شيء.
ومن هنا تنطبِع شخصية الصبيان بطابع المُعلم إلى جانب انطباعها بشخصية زملائهم في الكُتَّاب، بتأثير القرآن الذي يتعلَّمونه.
على أن تصرُّف المُعلم لا يكون إلا في حدود هذه المعاني القرآنية. وقد يشذُّ بعض المُعلمين عن تعاليم القرآن الصحيحة، ولكنهم قِلة لا يُعمَل لها حساب.
فالمرجع في سلوك الصبي يكون لتأثير المُعلم، وتأثير الصبيان الذين يختلط بهم، وتأثير آبائه في المنزل، والمَرجع لهؤلاء جميعًا هو القرآن في تلك البيئة الإسلامية. ومن صفات القرآن أنه كلام الله، لا مُبدِّل لكلماته. وهو صريح في كثيرٍ من المسائل الأساسية في سلوك الإنسان صراحةً لا تحتمِل التأويل.
أما الخلاف بين الفِرَق الإسلامية، فهو خلاف في تأويل بعض النظريات العميقة في الإسلام. ولا يستطيع الصبيان لِقُصورِ عقولهم أن يفهموا مدى هذا الخلاف، أو ينزلوا إلى معتركه. على أن أهل السُّنَّة يأخذون الأمور على ظاهرها، ويتعمَّقون في التأويل إلى الدرجة التي تُبعِدهم عن الروح البسيط الموجود في القرآن. لذلك كان أهل السُّنَّة قريبين من قلوب العامة وأفهامهم، وقريبين من قلوب الصبيان وعقولهم أيضًا.
فالسيرة الخلقية التي ينتهِجها الصبي، والشخصية التي يتركَّب منها في الفترة التي يقضيها في الكُتَّاب، ترجع في نهاية الأمر إلى شيءٍ واحدٍ هو القرآن، بالتفسير الذي يُقدِّمه المُعلم على مذهب أهل السُّنَّة.
وفي القرآن، إلى جانب النصِّ على أخلاقٍ عملية مُعينة، أُسُس خلقية تُعَدُّ عمادًا للأخلاق الحسنة أو الفضيلة. والأخلاق في خُلاصتها مجموعة من الفضائل ترمي إلى الخير. والفضيلة والرذيلة، أو الخير والشر، طرفان مُتناقِضان لا يجتمعان؛ لأن الفضيلة هي الكمال، والرذيلة هي النقص. والإنسان يُحِسُّ نقصَه، وهو حين يرتكب الرذائل المختلفة إنما يُثبِت على نفسه هذا النقص. ولكن الإنسان يحاول التخلُّص من النقص، ويتطلَّع نحو الكمال. هذا التطلُّع هو الرقي بنفسه. والحياة كلها ترمي إلى الرُّقي والكمال، وقد يصِل الإنسان إلى شيءٍ من هذا، ولكنه لا يبلُغ النهاية ولا يصِل إلى الذروة، لأن الكمال لله وحده؛ ولذَّة الإنسان في هذا السعي، وفي هذا الرُّقي لتحقيق المُثُل العُليا.
ولا يَتيسَّر الوصول إلى الفضيلة إلا بأمرَين: التعليم والقدوة.
وسيرة الرسول هي قدوة المُسلمين كما قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر: ٧)، وقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ (الأحزاب: ٢١). لذلك كان تعليم سيرة الرسول ذا فائدة خُلقية عظيمة؛ لأنه يضرِب الأمثال للصبيان في الأخلاق الفاضلة. وكذلك تاريخ العرَب وهو المعروف بأيام العرَب وأخبارها، والذي نصَّ عليه القابسي وغير القابسي من المُربِّين مع المواد التي يتعلَّمُها الصبيان، إنما الغرَض منه سَوق العِبَر الفاضلة، والعظات الخلقية التي يقتدي بها الصبيان.
وإذا كانت هذه السيرة بعيدةً عن أنظار الصبيان، لا يتم التأثر بها إلا بمقدار، فالمُعلم ينبغي أن يكون هو نفسه مثلًا حيًّا للسيرة الفاضلة، ليكون عنوانًا على الفضيلة. لهذا أوجب القابسي أن تكون صفات المُعلم حميدةً ليتأثَّر بها الصبيان، وتتمَّ بها الفائدة في التربية الخلقية.
وهذا جانب من الطريقة السقراطية في الأخلاق؛ لأنه هو نفسه كان مثلًا حيًّا للفضيلة.
والأمر الثاني المُفيد في كسب الفضائل هو معرفتها أو العِلم بها. فالإنسان يُحب أن يخضع لِما يعقل، أو لِما له سبب، فهو لا يذهب مذهبًا خُلقيًّا إلا بعد الإيمان بأنه مشروع. والإنسان يكون واثقًا من نفسه إذا سار على هُدًى من المعقولات، لا بدافعٍ من النزوات. لذلك نجد المُجرم يُبرِّر جريمته، ويُقنع نفسه بأن ما يعمله مشروع.
لذلك كانت الأخلاق تحمِل في طيَّاتها جراثيم التعليم، سواء أكان تعليمها أو العِلم بها صادرًا من الشخص إلى نفسه، أم من شخصٍ آخر إليه؛ والبيئة التي تُريد أن تنشُر الفضيلة، لا بدَّ لها من تعليمها وبيان العِلَّة فيها. وقد أشار القابسي إلى هذا التعليم الواجب للفضيلة قبل الأمر بها، وقبل إنزال العِقاب على مُخالِفيها. قبل أن يلجأ المُعلِّم إلى الضرب، ينبغي أن يُنبه الصبي مرةً بعد مرةٍ إلى خطته. وقال في موضع آخر: «ويأخُذ عليهم ألا يؤذي بعضُهم بعضًا.» وحين تكلَّم عن التبايُع الذي يحصل بين الصبيان أوجب على المُعلم: «أن يُشدِّد عليهم في الأخذ ألا يعودوا إلى التبايُع فيما بينهم، ويُعرِّفهم وجه الرِّبا فيما صنعوا على ذلك، يُخبره بعَيبِه ويُقبِّحه عنده …»
فنحن نرى القابسي يطلُب العِلم بالفضائل أولًا، أو المعرفة بها، على أن يكون هذا العِلم مُستمدًّا من القرآن والسُّنة بطبيعة الحال. والقرآن غني بالفضائل وأسبابها، زاخر بالتوجيهات الخُلقية، والدوافع إلى الخير.
وتلك هي الطريقة السُّقراطية في جانبها الثاني، وهو العِلم بالفضيلة، بل إن سقراط وحَّد بين العِلم والفضيلة، فجعل العِلم شرطًا للفضيلة لا تتحقَّق إلا به، وجعل الذي يعمل الفضيلة عالمًا بها.
وسبيل الوصول إلى الفضيلة عند سقراط هو الاستقراء والنظر إلى النفس، وفي ذلك يقول الحِكمة المأثورة: «اعرف نفسك بنفسك.» وفي القرآن إشارة إلى ذلك حيث قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (الذاريات: ٢٠-٢١) كما حث الله العباد على وجوب النظر والاستدلال.
ولكن الصبيَّ الصغير لا يستطيع أن ينعطف على نفسه ليستخرج منها هذه المعاني الخُلقية بنفسه. لهذا اكتفى القابسي بما يفعله المُعلِّم من توجيه نظره وتفهيمه ما يجب عليه. هذا التفهيم مُستمَد من القرآن والسنة. وقد أشار القابسي إلى ذلك عندما أراد مُعالجة الولد العاق لوالدَيه فقال: «فاقرأ على ولدِه القرآن، وفهِّمْه ما عليه لوالده في لِينٍ ورفق لعلَّه يتذكَّر أو يخشى.»
بذلك يكون الدين نفسه هو المحور الذي يدور عليه التعليم، والذي تدور حوله التربية الخُلقية. والنظريات الحديثة في التعليم والتربية تجعل الطفل نفسه هو المِحور الذي يدور عليه التعليم. هذا الانقلاب في وجهة النظر التعليمية لم يتمَّ إلا في عصرٍ مُتأخر، أما في العصر الذي نتحدَّث عنه فكان الدين مُستغرِقًا حياة الناس العقلية والخلقية والاجتماعية. ولهذا السبب كان أول شيءٍ يعرفه الطفل ويتعلَّمه هو القرآن، فيه كل ما يحتاج إليه الإنسان في حياته، كما قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ. (الأنعام: ٣٨).
(٧) الفصائل والرذائل
الفضائل حِلية الإنسان. وهي حسنة إذا عمل بها صاحبها؛ أما العِلم بها دون عمل، فلا فرق بين إنسانٍ يحملها، أو كتاب يحويها.
وقيل إنَّ الإنسان مجموعة من العادات. وأغلب أعمال الإنسان عادات وهي توفِّر الوقت والمجهود، وتؤدي إلى الإتقان والسهولة، وتجعل صاحبها يتفرَّغ لأعمالٍ جديدة يُفكر فيها. فإذا كان الأمر كذلك فمن الخير للإنسان المُبادرة بتكوين العادات الفاضلة حتى تتأصَّل منه، وتنزل منزلة الطبع، ولأن الإقلاع عن العادات المَرذولة، إذا تمكَّنَت، يكون شاقًّا عسيرًا.
لهذا كان من الواجب على القائمين بتربية النشء أن يزرعوا في أنفسهم الصفات الخلقية الحميدة منذ الصغر؛ ليشبُّوا عليها، ويألفوها مع الزمن.
وقد فطن القابسي لهذه النتائج المُترتِّبة على تكوين العادة فقال بصدد تعليم الصلاة: «وقد أُمِر المُسلمون أن يعلموا أولادهم الصلاة والوضوء لها، ويُدرِّبوهم عليها، ويُؤدِّبوهم بها، ليسكنوا إليها ويألفوها، فتخفَّ عليهم إذا انتهَوا إلى وجوبها عليهم.» ٢٧-أ.
وهناك فضائل أوحى القابسي بتوجيه الصبيان إليها، كما أنَّ هناك رذائل نصَّ عليها، ونبَّهَ المُعلم إلى وجوب الحذَر منها، وإبعادها عن طريق الصبيان. والنصُّ على رذائل خاصة، وذنوب بعينها، يدلُّ على ما كان يجري في ذلك العصر، ويُنبئ عن أسرار تلك البيئة الاجتماعية.
من هذه الصفات الخُلقية التي ينبغي أن يتحلَّى بها الصبيان: الطاعة. وليست الطاعة واجبًا على الصبيان نحو المُعلم فقط، بل هي واجب المُسلمين كافة لأوامر الله والرسول، كما جاء في القرآن: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (النساء: ٥٩). وفي القرآن آيات كثيرة تحثُّ على الطاعة بل تأمُر بها، فقد أمر الله المرأة أن تُطيع زوجَها، والابن أن يطيع أباه. وبذلك نجد الإسلام يضع الناس في درجاتٍ من السيطرة والخضوع، والأمر والانقياد. وفي قمَّة هذه الدرجات الله تعالى الذي أمر العباد بعبادته وتسبيحه وحمده، كما أمرَهُم بأنواع كثيرة من السلوك بينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين غيرهم. ويلي طاعة الله طاعة الرسول وأُولي الأمر، كل ذلك بنصٍّ في الدين. والوالد هو الوليُّ الشرعي لأبنائه، لذلك وجبت طاعة الأبناء للآباء بأمر الدين. والمُعلِّم يحلُّ محل الوالد، ومنزلته هي نفس منزلته، وفي ذلك يقول القابسي: «فإنما هو لهم عِوَض من آبائهم.» وبذلك تجِب طاعة الصبيان للمُعلم.
هذه الطاعة إنما أوجبها الشرع على الناس لحِكمة؛ ذلك أنَّ خير المجتمع ومصلحته إنما تكون في الألفة بين الأفراد، والتعاون بينهم. وتتحقَّق مصلحة الصبيان بما يُمليه عليهم أولياء أمورهم، الذين قد سمَتْ عقولهم، واتَّسعَت مَداركهم، وكثُرت خبرتهم، وعرفوا الشرع والدين والحياة حقَّ المعرفة. فلا يتمُّ تعليم الدين، بل تعليم أي أمرٍ من الأمور، إلا بالتلقين الصادر من الكبار إلى الصغار؛ ولا يتحقَّق هذا التلقين إلا بالطاعة.
المُعلِّم وهو يلقِّن الصبي إنما يُقدِّم إليه خُلاصة ما بلغت إليه الحضارة في أجيالٍ مُتلاحقة. ولو تركت الطفل يُحصِّل بمُفرده حقائق الحياة وأسرار الوجود، لوجب أن يطول عمره آلافًا من السنين ليبلُغ ما وصلت إليه المدنية الحاضرة.
وعلى الصبيِّ حين يكبُر أن يُضيف إلى خبرة الأجيال الماضية خبرةً جديدة.
ومن الصفات الخُلقية التي ينبغي أن يتعوَّدها: النظام. والنظام والطاعة صِنوان، فإذا كان خير المُجتمع في الطاعة، فإنها تستوجِب النظام، حيث كانت الفوضى مُفسِدة للمجتمع، ومُضيِّعة للتعاون الضروري للحياة الإنسانية؛ ولا دولةَ مع الفوضى.
هذا النظام مطلوب من الصبيان في حضورهم إلى الكُتَّاب، وفي انصرافهم عنه، وفي استماعهم للدرس، وفي أعمالهم المدرسية.
والعبادات في الإسلام تحمِل في طيَّاتها إلى جانب الطاعة والنظام كثيرًا من الصفات الخلقية الحميدة.
فالصلاة عماد الدين. وتأديتُها في أوقاتها يُعلِّم النظام والدقة في حفظ المواعيد، حتى إذا شبَّ الطفل على إقامة الصلاة مع المحافظة عليها تعوَّد الإقبال على العمل في الوقت المناسب، والمبادرة إلى انتهاز الفرصة قبل ضياعها، وابتعَدَ عن التثاقُل، وامتنع عن التكاسُل.
وفي الصوم من النتائج النفسية والخُلقية مثل ما للصلاة؛ لأن التعوُّد على الإفطار في ساعةٍ مُعينة هو النظام الدقيق، الذي يطبع المُسلمين بطابع الإحساس بالوقت، وحُسن الاستفادة منه.
ولا تصحُّ الصلاة بغير وضوء؛ لأنه شرط للصلاة. والوضوء غُسل وطهارة ونظافة. والنظافة من الفضائل الشخصية العظيمة الأثر في الصحة، كما تنتقِل فائدتها إلى النفس فتُطهِّرها. ذلك أن الشعور بالنظافة الظاهرة، يُهيئ الإنسان إلى النظر في المعاني بنفس الأسلوب، فيُعِف اللسان ويُطهِّر الفكر.
فالطفل مُطالب بطهارة الجسم، كما هو مُطالَب بطهارة القلب والنفس. ولذلك ينبغي أن يكون صادقًا، عفيفًا، أمينًا، حافظًا للعهد.
والمُعلم مُكلَّف تعليم الصبيان الوضوء، والصلاة مع تأديتها في أوقاتها؛ وهو في هذا التعليم الديني لهذه العبادة، إنما يُلقِّنهم في نفس الوقت الطاعة والنظام والنظافة والعفَّة والطهارة.
ومن الدواعي التي تبعَث الصبيَّ على الانصراف عن المُعلم والعِلم: اللعب. ومن طبيعة الأطفال اللعب، ففي هذه السِّن الصغيرة تشتدُّ حيويَّتُهم، وتكثُر حركتهم ويُقبلون على اللعب بدافعٍ من الفطرة، وقد نصَّ القابسي على أن اللعب من الذنوب التي تستوجِب العقاب. فاللعب عندَه من الرذائل.
والمُعلم معذور إذا حاول أن يزجُر الصبيان عن اللعب؛ لأنه يُريد الهدوء وينشُد النظام المؤدي لحُسن سَير الدرس والتحصيل، ولم تكن الدراسات النفسية للأطفال قد بلغت في ذلك الزمان مَبلغ ما وصلت إليه الآن.
لذلك كانوا يعتبرون الطفل رجلًا صغيرًا يُعامَل معاملة الرجال، أما التربية الحديثة فإنها تنظُر إلى حياة الطفل نظرة تختلف عن الكبار. لهذا سايرَت التربية الحديثة مُيول الطفل وغرائزه، فاستغلَّت اللعب في مصلحة التعليم. وبذلك وفَّقَت بين طبيعة الطفل وحاجة المجتمع. فقامت المدارس الخاصة بالأطفال على اللعب في الظاهر، بينما الغاية المقصودة هي تعليم الأطفال. وعندئذٍ تتحقق المصلحتان، مصلحة الطفل في الترويح عن نفسه، واستغراق الحيوية الفائضة في كيانه المُتدفِّق نشاطًا في هذه السن الصغيرة، كما تتحقق مصلحة المجتمع من تثقيف الصغار على الوجه المطلوب القائد إلى التقدُّم والرُّقي.
هذا الجهل بطبيعة الطفل، واعتبار ميله إلى اللعب، ونزوعه إلى الحركة، من الرذائل التي ينبغي أن تُحارَب، أدَّت إلى كراهية الصبيان للكُتَّاب. ومن شأن الإنسان إذا أحبَّ شيئًا أن يُقبل عليه، وإذا كره شيئًا أن ينصرف عنه، ويبتعِد منه. فليس غريبًا أن نرى الصبيان في ذلك العصر يتحوَّلون عن المكان الذي يكرهونه، ولا يجدون فيه المجال الواسع للحركة واللعب، وهو الكُتَّاب، لهذا السبب كان الصبيان يهربون من الكُتَّاب بل يديمون الهرَب منه، كما يُنبئنا القابسي في صراحة: «فإن اكتسب الصبي جُرمًا من أذًى، ولعب، وهروب من الكُتَّاب وإدمان البطالة …» مما يُفصح عن عادة تأصَّلت في نفوس بعض الصبيان. وكان المُعلمون في ذلك الزمان يُعانون مَشقَّة هذه الرذيلة، ويحاولون علاجها، ولكنهم لم يفطنوا إلى أصل العِلة وهو منع الطفل من اللعب.
إلى جانب هذه الرذائل وهي اللعب، والهروب من الكُتَّاب، وإدمان البطالة نجد رذائل أخرى تشيع في الواقع في كل جوٍّ مدرسي أو في كل بيئةٍ اجتماعية يشترك فيها عدد من الصبيان أو الشباب، وهم الذين لم تتأصَّل في نفوسهم بعد مشاعر احترام الغير، وضبط النفس، وكبح الأهواء الجامحة والنزوات الطائشة. فالصِّلة بين الصبيان تؤدي إلى التنافُس فيما بينهم، ومحاولة ظهور بعضهم على بعض، وسيطرة أحدهم على غيره.
والسيطرة والظهور من أقوى الطبائع المُحركة للهِمَمِ الباعثة على العمل، ولا تتهذَّب طريقة السيطرة، ولا يسمو الإنسان بالمَيل إلى الظهور، إلا بعد تعلُّمٍ طويل، وثقافة عريضة، بل العامة، وأهل الشعوب المُتأخِّرة، يظلُّ فيهم المَيل إلى الظهور والسيطرة على الصورة الأوَّلية من البطش والقوة والاعتداء البدَني، والغلَبة الجسمية لا العقلية. فليس غريبًا أن تبدو على الأطفال هذه النزعات الفطرية التي لم تُهذِّبها الحضارة وتُحوِّلها الثقافة نحو الخير والسمو. بل ينبغي أن تظهر لأنها عنوان الحيوية ودليل النشاط والقوة.
ومُهمة المُعلم أن يُنظم مثل هذه النزعات، وأن يُمهد لها الطريق السوي المؤدي إلى التقدُّم والرُّقي. لذلك كانت مُهمة المُعلم شاقة، تحتاج إلى كثيرٍ من الحِكمة والبصر النافذ في أخلاق الناس عمومًا، وطبائع الأطفال بوجهٍ خاص. وقد سجَّل القابسي فيما ذكر من طبائع الصبيان: إيذاء بعضهم بعضًا، وشكاية بعضهم أذى بعض، بل واستفاضة الأذى في بعض الأحيان. وعندنا أن هذه الرذيلة التي عَدَّها القابسي كذلك هي من فضائل الحياة، بل لا ينبغي اعتبارها رذيلة أو فضيلة؛ لأنها طبيعة الطفولة ومظهر الفتوَّة، ودليل التوثُّب. وكان الواجب أن نُعالج هذه الطبيعة نحو الخير والنفع بتوجيهِ قوى الطفل في أمورٍ تستغرق نشاطه، ويبدو فيها المَيل إلى التفوُّق العلمي والغلبة العقلية. وهذه هي الطريقة السليمة، وقد نصح بها القابسي وأجازها في بعض الحالات، كما نذكُر عند الكلام على طرُق التعليم.
وأشار القابسي أيضًا إلى نقيصةٍ خلقية كثيرًا ما كانت تقع بين الصبيان وهي التبايُع فيما بينهم، كأن يبيع بعضهم من بعض: «كسرة بزبيب، أو زبيبًا برُمان، أو تفاحًا بقثاء.» وهذه الظاهرة ملحوظة في تلاميذ المدارس من كلِّ جيلٍ وفي كل شعب، فهي طبيعة الناس إذا اجتمعوا. وقد نظر القابسي إلى هذه المسألة نظرًا دينيًّا فحرَّمَها لِما فيها من ربًا، وطلب إلى المُعلم أن ينهاهم عن هذا التبايُع. والحقيقة أنه إلى جانب الرِّبا المذكور في كتب الفقه، فإن التبايُع بين الصبيان صَرفٌ لهم عن طلَب العلم، وشغل لأذهانهم عن التحصيل، فضلًا عن إشاعة الفوضى وسُوء النظام، وظهور الحقد والغضب والحسد والبغضاء، ممَّا يؤدي إلى إيذاء بعضهم بعضًا رغبةً في الانتقام، وشفاءً للنفس مما أصابها من الغلِّ والحسد.
ومن الرذائل الفاشية في كل مجتمع، وخاصة بين الشباب، ما ذكره القابسي في هذه الجملة: «وإنه لينبغي للمُعلم أن يحترِس بعضهم من بعض إذا كان فيهم مَنْ يُخشى فساده، يناهز الاحتلام، أو يكون له جرأة.» وهو تعبير وجيز العبارة، لطيف الإشارة، يدلُّ على عفَّةٍ في نفس المؤلف، تحمِله على الابتعاد عن الإطالة في مواطن الفحشاء والمنكر. وهذا الإيجاز لا يحلُّ هذه المشكلة الخطيرة؛ فهي المشكلة الجنسية التي اجتهد الناس أجيالًا في إخفائها، ووضع الرقابة الاجتماعية والخُلقية والدينية في سبيلها، إلى أن تبيَّن لعالِم النفس «فرويد» أنها أساس السلوك عند الإنسان في كل ناحيةٍ من نواحي الحياة، بل إنها أصل الشذوذ والأمراض العصبية والنفسية.
وترجع هذه المشكلة إلى أن الرغبة الجنسية إذا ظهرت في أكمل صورِها عند الاحتلام، فلا بدَّ لهذه القوة الغريزية من الانسياب. ولكن الدين يقِف عقبةً في سبيل تحقيقها، وكذلك المجتمع. فإذا استمع الشابُّ لوازع الدين، وأوامر التقاليد، تراجعَتِ الغريزة في نفسه، وانحبست هذه القوة، مما قد يؤدي إلى انفجارها بعد زمن. والغالب أن دافع الغريزة يكون أقوى من رادع الدين ووازع الضمير، فيُحقِّق نداء الطبيعة، ويُلبي صوت الغريزة ويحمِله تيار الفطرة الجارف إلى هذه الألوان من الفساد الجنسي.
والحلُّ الطبيعي الذي يتَّفِق مع أوامر الدين ونواهيه، واصطلاح العُرف والتقاليد الحسنة هو الزواج؛ وهو الحلُّ الوحيد. وفي ذلك يقول القرآن: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (النور: ٣٣).
ولكن زواج طفلٍ حديث البلوغ لا يتيسَّر لأسباب صحية واقتصادية واجتماعية.
وعندئذٍ تظلُّ المشكلة قائمة، وكل عِلاج يوصَف لها ليس إلا من قبيل المُلطِّفات الوقتية، وما يُدرينا ما يجري في الخفاء بين هؤلاء الصبيان، أو بين الصبي ونفسه. ولم يكن للقابسي من حيلةٍ إلا أنه نصح المُعلم باتخاذ الحذَر والاحتراس، ليكون يقظًا لما عساه يحدث بينهم.
ولو أن القابسي أطال الكلام في هذا الموضوع، لحدَّثنا عن أثر الفضيلة التي اكتسبَها الصبي بالتلقين والعادة في صراع الرذيلة.
فالطفل الذي يحفظ القرآن إنما يحفظ آيات الخير؛ لأنه كتاب لا رَيب فيه هدًى للمُتقين.
والطفل الذي يؤدي الصلاة، إنما يذكُر الله ويعبده، ويتقرَّب إليه، ويقِف بين يدَيه ويستعين به على صراع الشر.