المناهج وطرق التعليم
(١) المنهج صورة لأحوال المجتمع
إذا شئنا أن نعرف العلة التي من أجلها وضع القابسي منهج التعليم للصبيان في الكتاتيب أو أقرَّه على النحو المذكور في رسالته، فينبغي أن ننظر إلى حالة المجتمع في ذلك العصر، لنرى مبلغ حاجاته ومطالبه. وعندئذٍ يتبين لنا السرُّ الذي دفع المُربين في الإسلام إلى تعليم الصبيان علومًا مُعيَّنة، منها يتألف ما نُسميه المنهج الدراسي على الاصطلاح الحديث المعروف الآن.
وقد يكون المنهج واقعيًّا، وقد يكون مثاليًّا، في الحالين يستمدُّ وجوده من المجتمع. فالمنهج الواقعي، وهو ما يُدرَّس بالفعل، يستقي كيانه من المجتمع القائم، بينما المنهج المثالي، وهو ما يُطالِب به المفكرون والمصلحون يلائم صورة المجتمع المثالية التي يتخيَّلها هؤلاء المُفكرون في مدنهم الفاضلة. ومنهج القابسي في التعليم واقعي كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فهو يصف ما كان مُتبعًا فعلًا في الكتاتيب الإسلامية في شمال أفريقيا. وهذا المنهج المتبع في عصره هو أثر البيئة الاجتماعية.
والرأي عندنا أن التعليم إعداد للحياة الاجتماعية، ولا نُنكر أنه يأخُذ بيد الفرد في طريق التقدم، وبذلك يُهيئه في نهاية الأمر للحياة الاجتماعية.
ولا نستطيع أن نفهم الخلاف في مناهج التعليم خلال العصور المُتعاقبة، وفي الأمم المختلفة التي تعيش في عصرٍ واحد، إلا نتيجة اختلاف البيئات جميعًا.
فإذا قلَّبنا صفحات التاريخ وجدنا أن اليونان كانوا يُعنَون بتعليم الصبيان الرياضة البدنية بألوانها والموسيقى والأدب والقراءة والكتابة. وكانت عناية الإسبرطيين بالرياضة البدنية الشاقة شديدة، بينما اتجهت أنظار الأثينيين إلى الموسيقى والأدب. ومناهج التعليم في الدولة الرومانية كانت تُشبه إلى حدٍّ كبير ما عند اليونان؛ لأن الدولة الرومانية ورثت حضارة اليونان وثقافتها. هذه المناهج كانت تلائم البيئة الاجتماعية في ذلك العصر. وهي مناهج تلائم الطبقة الأرستقراطية، وتتفق مع انقسام الدولتين إلى طبقات فيها الأشراف والعامة. أما العامة فكانوا بعيدين عن التعليم لا يلحقهم نُوره، أما أبناء الأشراف فكانوا يُهيَّئون لهذه الحياة الخاصة بما فيها من لهو وترف وزينة ومتاع. ولم تكن هناك مدارس بالمعنى الصحيح، بل كان الغالب اتصال الطفل بمُعلم خاص.
- (١)
إبراز القيم الاجتماعية في شعور الفرد.
- (٢)
حفز المواهب الفردية إلى النمو.
- (٣) إعداد الفرد للحياة الاجتماعية.٦
وهذه الوظائف كلها ترمي إلى نتيجة واحدة هي إعداد الفرد للحياة الاجتماعية.
فإذا ألقينا نظرةً سريعة على المنهج الذي وضعه القابسي لتعليم الصبيان، نجد أنه مُتأثر بالبيئة الاجتماعية للمسلمين في ذلك العصر، وأنه يُهيئ الصبيان للحياة الاجتماعية المُستقبلة، وذلك ببيان قيمة العلوم والواجب معرفتها إلى نظر الصبيان، وإبراز وجه أهميتها وضرورتها في عقولهم، ثم تنمية المواهب الفردية التي تلائم المطالب الاجتماعية.
والبيئة الاجتماعية في عصر القابسي كانت بيئة دينية خالصة. لذلك نجد المنهج الدراسي يدور حول مِحور الدين، ويُهَيِّئُ الصبيان لهذه الحياة الدينية.
وينقسم المنهج الذي ذكره القابسي إلى قِسمَين: إجباري واختياري. فالعلوم الإجبارية هي: القرآن، والصلاة، والدعاء، وبعض النحو والعربية والقراءة والكتابة. والعلوم الاختيارية هي: الحساب، وجميع النحو والعربية، والشِّعر، وأيام العرب وأخبارها.
هذا المنهج المُتَّبع في القرن الرابع الهجري هو الذي كان مُتبعًا في القرن الثالث أيضًا كما جاء في كتاب محمد بن سحنون. ولا حاجة بنا إلى بيان أن المنهج على هذا النحو هو الذي كان مُتبعًا في الكتاتيب الإسلامية منذ نشأتها. وأنه ظلَّ مُتبعًا إلى عهدٍ قريب جدًّا في الكتاتيب في شتَّى الأقطار الإسلامية. بل تستطيع أن تجزم إذا وجدتَ كُتَّابًا في أي قُطر إسلامي أن ما يدرسه الصبيان في هذا الكُتَّاب لا يختلف اليوم عمَّا كان يُدرَّس منذ ألف عام.
أما الخلاف الذي ذكره ابن خلدون في طريقة التعليم فهو خلاف في المظهر لا الجوهر. فبعض الأقطار كان يُقدِّم تعليم الخط على تعليم القرآن، والبعض الآخر كان يبدأ بتحفيظ القرآن، يصحبه تعليم الخط أو يتأخَّر عنه قليلًا. أما الجوهر الثابت الذي لم يلحقه التغيير منذ ظهور الكتاتيب حتى عصورٍ متأخرة، بل حتى العصر الحاضر، فهو تعليم القرآن والصلاة، وما يصحب ذلك من معرفة القراءة والكتابة وبعض النحو والعربية.
ولا نزال في العصر الحاضر، في مصر وفي الأقطار العربية الأخرى، نشهد هذا اللون من التعليم في الكتاتيب. وقد سجَّل الدكتور طه حسين في كتابه (الأيام) صورةً واضحة لحياة الكُتَّاب في العصر الحاضر لا نعتقد أنها تختلف عن تلك التي كانت جاريةً في عصر القابسي.
وسينتهي الأمر بالكتاتيب القديمة إلى الزوال عندما يُطبَّق التعليم الإلزامي عن طريق الدولة، فيزول آخر مظهرٍ من مظاهر القديم.
هذا التحوُّل الجديد دليل على تغيُّر الحياة الاجتماعية، ودليل على مُسايرة الشرق للحضارة الحديثة، والتقدُّم العالمي السريع.
والقرآن نصُّ المسلمين الثابت، وكتاب الله لا مُبدِّل لكلماته.
وستبقى برامج تعليم الصبيان عند المسلمين ثابتة، ما دام المُسلمون مُتمسِّكين بدينهم وكتابهم، إلا إذا اكتفى الناس بقدرٍ يسير من الدين، حتى يفسح المجال لدرس العلوم الحديثة كما هو واقع الآن.
أما القابسي فإنه لا يقبَل التهاون في تعليم القرآن، ويستعيذ بالله: «أن يتَّفق المُسلمون على ترك القيام به، ولو كان كذلك لكانت الهلكة المُبيرة، فأعوذ بالله من غضبه، ومن أن يُنتزَع كتابه من صدور المؤمنين.» ٣١-ب.
هذه البيئة الدينية المُستغرقة في الشعور الديني قد تغيَّرت الآن حتى بلغت حدَّ التقابل في بعض الممالك الغربية، التي خلعت رداء الدين، وعادت بالمدارس إلى اللا دينية المُطلقة. وهذا الاتجاه الحديث يحمِل روح الثورة على التقاليد، فلا ندري أتُفلِح هذه الثورة فيُلغى الدين، أم تنتصِر المبادئ الروحية على الموجة المادية الطاغية فيعود الدين إلى مكانته.
وإننا نسوق هذه المشاهدات والوقائع من الماضي البعيد إلى الحاضر القريب، لنُبيِّن أن مناهج التعليم تستمدُّ وجودها من التيارات الفكرية التي تسود المجتمع.
وقد كانت البيئة الاجتماعية في عصر القابسي بيئةً دينية بعيدةً عن الروح المادي والنزعة الإلحادية، ولهذا ليس من الغريب أن يكون القرآن والصلاة وما يتَّصِل بالقرآن من علوم ضرورية لفَهمه، أول ما يتَّجه الناس إلى تعليمه لأبنائهم. والقابسي يؤيد هذه الطريقة ويُقرُّها ويُطالِب بدوام الاستمرار عليها.
(٢) العلوم الإجبارية في المنهج
القرآن هو أول العلوم التي ينبغي أن يدرسها الصبيان، بل هو المحور الذي يدور عليه التعليم في الكتاتيب.
ووجه الضرورة في تعليم القرآن عند القابسي، وعند غيره من الفقهاء، ترجع إلى أسباب كثيرة: القرآن كلام الله، وقد حثَّ الله العباد على تلاوته على غير آية، ذكر بعضها القابسي، مثل: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (فاطر: ٢٩). وهنا نرى الجمع بين تلاوة القرآن وإقامة الصلاة، والإحسان، وهي أهم واجبات المسلم.
والقرآن مرجع المُسلمين في معرفة العبادات والمعاملات، ولا سبيل إلى معرفة الحدود الشرعية الصحيحة للديانة إلا بمعرفة الأصل الأول من أصول الدين، وهو القرآن.
إلى جانب ذلك، فإن الصلاة، وهي رُكن مُهم من أركان الدين، لا تتمُّ إلا بقراءة شيء من القرآن فيها، فمعرفة القرآن ضرورية لأداء الصلاة المفروضة. وأقل جزءٍ من القرآن تصحُّ به الصلاة عند المالكية هو الفاتحة.
وللقرآن فضائل كثيرة، وللنبي أحاديث تفيض بهذا الفضل، مثل: «خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه.» وفي ذلك حثَّ على تعلُّمه وتعليمه. وقد أطال فقهاء المسلمين الذين كتبوا في التربية في ذكر فضائل القرآن، وألَّف بعضُهم كتبًا مُنفصلة ورسائل خاصة في هذا الموضوع.
وقد جرت العادة أن يتعلَّم الصبيان جميع القرآن، ويُعرَف هذا بالختمة. على أنَّ ختْم القرآن لم يكن واجبًا، فقد يُكتفى بثلاثة أرباع أو ثلثي أو نصف أو ثلث أو ربع القرآن، حسب طاقة الصبي والظروف الخارجية الأخرى.
ويشترط القابسي في تعليم القرآن: حُسن الترتيل، وجَودة القراءة، وحُسن الوقف، والأخذ عن مُقرئ حسَن؛ وهو ينصح بقراءة نافع.
أما تعليم الصلاة فهو فرْض عَين على جميع المسلمين، كما ذكر الفقهاء الذين قسَّموا الفرْض قِسمَين: فرض عين وفرض كفاية. ولذلك قال القابسي: ينبغي للمُعلم أن يعلمهم الصلاة إذا كانوا بني سبع، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر. ويلزَمُه أن يُعلِّمهم الوضوء للصلاة، وعدد ركوعها وسجودها، والقراءة فيها، والتكبير والإحرام، والسلام. والقابسي لا يكتفي بتعليم الصلاة المفروضة، وإنما يذكُر أنه: «ينبغي أن يُعلمهم سُنَن الصلاة حتى يُعلمهم دينهم، الذي هو تعبُّدهم الله عز وجل وسنة نبيهم.»
ولا عُذر في التخلف عن الصلاة. وفي ذلك يقول الإنبابي: «وأن لا يُسامح (أي الصبي) في ترك الطهارة والصلاة ونحوهما.»
ومن الأمور التي يرى القابسي وجوب تعليمها الدعاء: «ليرغبوا إلى الله عز وجل، ويُعرفهم عظمته وجلاله، ليَكبُروا على ذلك.»
والصلاة مع أنها عبادة فيها ركوع وسجود لا تخلو من الدعاء، وقد جمع الله بين العبادة والدعاء في فاتحة الكتاب قائلًا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (الفاتحة: ٥). فالجمع بين وجوب تعليم الصلاة والدعاء والقرآن ليس غريبًا؛ لأن هذه الأمور الثلاثة تجمع بين الفكر والوجدان والعمل، وترمي إلى غرضٍ واحدٍ هو معرفة الله معرفة صحيحة كاملة، والإيمان به إيمانًا صادقًا، ولا يتمُّ ذلك إلا بالعبادة والحمد والشكر والتسبيح، والالتجاء إليه بطلَب الهدى والحرمة، وكشف المُصيبة والغمَّة.
وحفظ القرآن يزيد في معرفة الإنسان لله، لِما جاء فيه من آياتٍ دالة على الوحدانية، دافعة إلى الإيمان الصحيح، وما فيه من وعدٍ ووعيد، وترغيب وترهيب، ووصفٍ للجنة والنار، وما فيهما من نعيمٍ وعذاب.
وفي الأثر أن الرسول كان يقرأ في الصلاة سورًا طويلة بأكملها، كالبقرة وآل عمران والنساء؛ وعلى ذلك جرى الصحابة والتابعون. وقد كان القابسي أمينًا على هذه السنة فقرَّر أن القرآن في الصلاة خير من القرآن في غير صلاة. لهذا لم يكن من الغريب أن يسعى الناس إلى تحفيظ أبنائهم القرآن بأكملِه، تبرُّكًا به كما يقول ابن خلدون، وزيادة في القُرب من الله على رأي القابسي.
على أن المعرفة الصحيحة للقرآن تستلزِم العِلم بالنحو لإعراب الكلمات إعرابًا صحيحًا، والعلم باللغة العربية لفهم معاني القرآن، والعلم بالهجاء والخط لكتابته والنطق به صحيحًا.
وذكر القابسي عن ابن وهب: «أرأيتَ الرجل يتعلَّم العربية ليُقيم بها لسانه ويُصلح بها منطقه؟ قال: نعم فليتعلَّمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيى بوجهها فيهلك.» ٤٦-أ.
فالنحو والعربية والخط من «معاني التقوية على القرآن.» ٤٣-أ. وتعليمها واجب على المُعلم كما نقل القابسي عن ابن سحنون: «فإنه ينبغي أن يُعلمهم إعراب القرآن، ذلك لازم له، والشكل والهجاء والخط الحسن.»
والاهتمام بحسن الخط كان عادة جارية في بلاد المغرب، وهو يدل على تذوق الجمال، والعناية بالكمال والإتقان. ولا ننسى أن المسلمين كرهوا بل حرَّموا تصوير ذي الروح لما فيه من تشبيهٍ بالوثنية، ولهذا السبب اتجه الروح الفني عندهم إلى الزخرفة الهندسية، والبراعة في رسم الخط على أشكالٍ مختلفة جميلة. والآيات القرآنية المسطورة على جدران المساجد شاهد على الإبداع في الفن. لهذا حلت العناية بحسن الخط في برامج الدراسة الإسلامية محل الرسم والتصوير عند غير المسلمين.
من الطبيعي إذَنْ أن ينصَّ المنهج الإجباري على تعليم القرآن والصلاة والدعاء والكتابة والنحو وبعض العربية، فكلُّها ترمي إلى غايةٍ واحدة هي معرفة الدين والعبادات مما هو مفروض على المسلمين كافة.
(٣) العلوم الاختيارية في المنهج
العلوم الاختيارية هي الحساب، والشِّعر، وأيام العرب وأخبارها، وجميع النحو والعربية.
ومن الواضح أن هذه العلوم تختلف عن سابقتها في بُعدها عن الصفة الدينية؛ وإذا كان بعض النحو والعربية مما يجب درسُه، فإن هذا البعض ضروري لفَهم الدين. أما جميع النحو وجميع العربية، فممَّا يُعتبَر خروجًا على الغاية الدينية إلى غاية أخرى.
ومن الطبيعي الاقتصار في المنهج على قدْرٍ من العلوم دون القدْر الآخر، واختيار علوم مُعينة وإهمال باقي العلوم، إذ لا يخفى أن الأمم التي تضرب في الحضارة وترتفع في المدنية، تتعدَّد عندها المعارف والصنائع، ولا يستطيع الفرد الواحد الإحاطة بها جميعًا. واختيار المنهج المُناسِب للطفل من بين هذا الحشد من المعرفة النظرية والعملية يتوقَّف على الغاية من التعليم، وعلى حاجة المجتمع، وعلى طبيعة الطفل.
ولكن المبدأ المُسلَّم به عند جميع علماء التربية، هو الاقتصار في المنهج على بعض العلوم دون البعض الآخر.
وأهمية العلوم مسألة اعتبارية، تتوقَّف على الغرَض المنشود والمَطالب الاجتماعية، ونوع الإعداد المطلوب.
ولكن القابسي لا يريد أن يُعلِّم ملوكًا أو تجارًا، أو قادة حرب وساسة دول، إنما يريد أن يُعلم أبناء المسلمين لينشئوا على الإسلام، ولا يَعنيه ماذا يصيرون فيما بعد.
فالمنهج الذي يذكره يخص جميع الصبيان في السن التي تسبق التخصص، سواء استكمل الصبي التعليم، أو انقطع عنه وتوجَّه إلى احتراف صناعة يكسب منها معاشه.
وقد يتطرق إلى الذهن أن تعليم الحساب لا صِلة له بالدين. فعلماء التربية في العصر الحاضر ينصُّون على تعليم الحساب، إما لفائدته العملية في الحياة، وإما لقيمته في التدريب على التفكير الصحيح؛ لأن الرياضة علم العلاقات الضرورية المضبوطة.
ولا ندري أأراد القابسي من تعليم الحساب المصلحة الدينية أم الاجتماعية أم كليهما معًا. وأكبر الظن أنه يرمي إلى نفع الحساب في كمال المعرفة الدينية الصحيحة على مذهب الفقهاء وهو في ذلك يقول: «ينبغي أن يُعلمهم (أي المُعلم) الحساب، وليس ذلك بلازِم له، إلا أنه يُشترط عليه.» ٤٤-أ.
وهذا يؤيد وجهة نظرنا القائلة بأن الغرَض من تعليم الحساب عند القابسي هو المصلحة الدينية لا الاجتماعية. ولو كان الأمر غير ذلك لألزم تعليمه على الإطلاق، دون التعليق بشرط رضا الآباء.
وتعليم الشِّعر موضع جدلٍ بين الفقهاء. وقد عَرَضَ القابسي هذا الجدال بين الأنصار والمُعارِضين، ثم رجَّح تعليمه على وجه الاختيار. فمالك وسحنون يأبَيان تعليم الشِّعر بالأجر إذا لم يكن القصد تعليم القرآن والكتابة. وابن حبيب لا يرى بتعليم الشِّعر بأسًا إلا أنه يكره من الشِّعر: «ما فيه ذكر الحميَّة والخنا أو قُبح الهجاء.»
وقد اعتمد القابسي في تعليم الشِّعر على أحاديث للرسول: منها: «إنما الشِّعر كلام فحسَنُه حسِن وقبحه قبيح.» ومنها: «إن من الشِّعر لحكمة.» وقد شك القابسي في رواية الحديث الأول، ثم أثبت حديثًا ثالثًا لم يشك في نِسبته إلى النبي، وهو: «لَأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شِعرًا.» وقد فسَّر القابسي هذا الحديث بأن يكون الشِّعر غالبًا على الإنسان حتى يَصُدَّه عن ذكر الله والعلم والقرآن.
ومن الفوائد التي يَجنيها مَنْ يحفظ شيئًا من الشِّعر أنه: «يُقيم لسانه ويفصحه ويأنس إليه في بعض الأوقات، ويستشهد به فيما يريد بيانه.» ٤٥-ب.
وقد عابوا على العرب إهمال الفنون في مناهج التعليم، وها نحن نرى القابسي يطلُب تعليم الشِّعر، وهو لون من ألوان الفن. ولم يغِب عن نظر القابسي قيمة الشِّعر الفنية وأثرها في النفس الإنسانية. ذلك أن الإحساس بالجمال، وتذوُّق الفن، من عوامل الراحة النفسية، أو الأُنس على حدِّ قول القابسي. وقد رأينا هذه النزعة المتجهة نحو الفنون الجميلة بادية في العناية بحُسن الخط، ونحن نراها الآن في تعليم الشِّعر، وهو نوع من الأدب، وفرع من الفن.
وقد دار مثل هذا الجدل في العصر الحاضر حول قيمة الفن في التعليم، وفي الحياة، وهل الأهم العلوم الطبيعية أو الأدبية أو الفنية، وأثر كل ذلك في تربية الأطفال.
ولكن ميدان الفن هو الخيال لا الحقيقة. وجمال الآثار الفنية مُستمَد من إحساس الفنان لا من حقائق الأشياء. ولذَّة الفن ناشئة عن تأثيره في الخيال لا في الحواس والعقل. ويحرك الفن الخيال إلى العمل، والخيال أكثر العمليات النفسية مرونة وأقلُّها جمودًا. لهذا كان ميدان الفن بعيدًا عن عالم الحقيقة بينما عالم الأخلاق هو الحقيقة نفسها. وهنا ينتهي دوركهيم إلى هذه النتيجة وهي أن الفن والأدب لا يصلحان أساسًا للسلوك والعمل.
وقد أشار القرآن إلى ابتعاد الشعر عن عالَم الحقيقة قائلًا: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (الشعراء: ٢٢٤–٢٢٦).
وقديمًا وحَّد أفلاطون بين الحق والخير والجمال في المثال الأول.
وقد كان الغرَض الأول الذي يرمي إليه القابسي هو تهيئة الأطفال إلى معرفة الخير أولًا وقبل كل شيء، وذلك عن طريق الفن. ولا بأس عنده بقدْرٍ من الفن الجميل إذا كان هذا القدر لا يتعارَض مع معرفة الخير والعمل به.
ولهذا لم يقف القابسي في سبيل تعليم الشِّعر، بل نصح منه بمقدار.
ومن العلوم الاختيارية التي لا يرى القابسي ما يمنع تعليمها: «أيام العرب وما أشبه ذلك من عِلم الرجال وذوي المروءات.» ٤٤-ب.
هذه المادة تُعرف في المناهج الحديثة بعِلم التاريخ السياسي.
وبعض علماء التربية يُقدِّمون علم التاريخ في الأهمية بالنسبة للطفل على العلوم الطبيعية؛ لأنه أكثر مساسًا بمشاعر الأطفال، وألصَقُ بخيالهم، وأنفع في المعرفة بالماضي وما له من صِلة وثيقة بالحاضر.
والطفل جزء من الحياة يتحرك في العالم الخارجي المحيط به، وسلوكه في هذا العالم استجابة للمؤثرات الخارجية؛ وهذه الاستجابة نتيجة فهم العالم وإدراك الأشياء. والعالم الخارجي بالنسبة إلى الطفل هو عالم الأشياء وعالم الإنسان. ولا بدَّ لمن يعيش في هذه الحياة من إدراك الأشياء وحقائقها، ومعرفة الإنسان وطبائعه.
روسو وسبنسر وغيرهما ممن يبدءون بتعليم الأطفال العلوم الطبيعية يجعلون تاريخ الإنسان في المحل الثاني.
فدراسة التاريخ على أي الحالات من العلوم اللازمة لتثقيف الطفل.
والقابسي يريد من تعليم التاريخ أن يكون مُحركًا لهِمَم الأطفال نحو أعمال البطولة، وباعثًا لهم على أفعال الخير. والغرَض من علم الرجال التشبُّه بالأبطال، والتشبُّه بالرجال من الكمال. والغاية من سِيَر ذوي المروءات القدوة في السبق إلى الخيرات.
والمُحاكاة فطرة نفسية تدفع الأطفال إلى تقليد الأعمال من غير قصد أو شعور.
وذكر الإنبابي «أن تعلم الطفل القرآن وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وأحوالهم، لينغرِس في نفسه حُب الصالحين.» وهذا المؤلف يقصر فائدة التاريخ على ناحية واحدةٍ هي ناحية الصلاح والخير.
وتعليم السِّيَر وحكايات الأبرار وأيام العرب وأخبارها، زيادة فضل على ما جاء في القرآن من قصص الأمم السالفة وأخبار الأولين، ففيه من تاريخ الغابرين الشيء الكثير. وقَصَص القرآن يرمي إلى غايةٍ دينية وخلقية، فالظلم والفساد مما يؤدي إلى الهلاك، والله هو الذي يصبُّ على المفسدين أسواط العذاب، إن ربك لبالمرصاد.
(٤) نقد منهج القابسي
إذا نظرنا إلى المنهج الذي وضعه القابسي في ضوء التربية الحديثة، أخذنا عليه أمرَين: الأول أنه يُغفل نفسية الطفل ومراعاة مراحل نموه، والثاني إهمال العلوم الطبيعية والرياضة البدنية.
ولا يُعاب القابسي إذا كان قد أغفل اعتبار الحياة النفسية للأطفال، فهو عيب العصر كله في الشرق والغرب. ذلك أن عِلم النفس الحديث لم يتحرر من الفلسفة إلا في عصر متأخِّر جدًّا، فقد انصرف العلماء إلى البحث عن النفس لا عن مظاهرها، ولم يُعنَوا بتقييد الأحوال النفسية تقييدًا كاملًا صحيحًا يكون أساسًا لتفسير سلوك الإنسان. وإلى جانب ذلك أخطأ جميع الأقدمين في نظرهم إلى الأطفال نظرَهم إلى الكبار. ويرجع الفضل في تصحيح الموقف من الطفل، وبيان أن حياته النفسية تختلف عن حياة البالغين، إلى روسو في القرن الثامن عشر؛ ويُعتبر كتابه (إميل) نقطة التحول في التربية الحديثة.
ومع ذلك فاحترام ميول الطفل ونزعاته عند وضع المنهج الدراسي، مما يصعُب تنفيذه. فالطفل إلى سن السادسة بل السابعة يميل إلى اللعب والحركة، فهل نترُكه في لهوِه الحر لا نعلمه القراءة والكتابة؟ ومَنْ مِنَ الأطفال يُحب التقيُّد أمام الألواح والأوراق ليخط الحروف ويُركب الكلمات؟ فالمجتمع يُريد من الطفل حين يكبُر أن يكون قد تعلَّم الكتابة حتى يفرغ إلى معرفة باقي العلوم التي اتسعت دائرتها إلى حدٍّ كبير مع تقدم الحضارة السريع.
أما القول بتعليم الأطفال الكتابة والقراءة عن طريق اللعب والتشويق كما هو الحال في رياض الأطفال، فهو قول ينصبُّ على الطريقة لا على المنهج الدراسي.
ومهما يكن من شيءٍ فالطفل لا يدرك، ولا يستطيع أن يعرف قيمة هذه العلوم المختلفة التي يُلقَّنها، حتى نقول إن قيمة الشيء هي التي تجتذبه إلى الإقبال عليه بالرغم من تعارضها مع ميوله. فهو إذَنْ يدرس العلوم المختلفة رغم أنفه.
إننا نُقدِّم العلوم إلى الطفل كما نقدِّم إليه الدواء، فهو لا يُحب الدواء ولا يدرك نفعه في الشفاء، وقيمته في جلب الصحة والعافية، وإنما يُدرك شيئًا واحدًا هو أنه لا يميل إلى الدواء ولا يريد تناوله. ويصطنع الآباء الحيلة في تقديم الدواء، بدسِّه مع الحلوى، أو الوعد بعمل شيءٍ مما يميل إليه الطفل، أو إرغامه في آخر الأمر على شرب الدواء بالعنف.
ورياض الأطفال كالحلوى من الدواء.
فالطفل يريد شيئًا، والمجتمع يريد له شيئًا آخر. والمجتمع هو الذي ينتصِر آخِر الأمر، فيُهيئ للطفل ما ينبغي أن يتعلَّمه، والدليل على ذلك اختلاف المناهج باختلاف الأمم.
وكانت إرادة المجتمع في عصر القابسي أن يتعلَّم الطفل القرآن وما يمتُّ إلى القرآن بصلة. وكم يفرح الأب عندما يختم ابنه القرآن، فيُقدِّم إلى مُعلم الكُتَّاب الهدايا جزاء الختمة، حتى لقد أصبح أجر الختمة واجبًا على الآباء. فالآباء أنفسهم (أو الشعب على الاصطلاح الحديث) كان يُطالب بتعليم القرآن، ولا يغتفِر التهاون في ذلك.
وليس لنا أن نعجب من رأي ابن سينا فهو القائل في سيرة حياته: إنه ختم القرآن، وأتى على كثيرٍ من الأدب، وهو ابن عشر سنين.
ولم تبدأ دراسة العلوم الطبيعية إلا من عصر النهضة. وقد درج الأقدمون على احتقار الصناعة لأنها مخصوصة بالعبيد، أما الأشراف فلا يليق بهم إلا الاشتغال بالأعمال العقلية. كانت الحال كذلك عند اليونان كما كانت عند العرب. ثم إن تجارب المعامل وهي الأساس في كشف العلوم الطبيعية كانت تحوطها الأسرار ويغمرها السحر والشعوذة، ويهاجمها الجمهور باعتبار أن أصحابها يشتغلون بالكيمياء مما يُرادف السحر في ذلك الزمان. لهذا انصرف العلماء عن البحوث التجريبية خشية التعرُّض لغضب الجمهور، واحتقار المجتمع، وامتهان الكرامة الشخصية.
وظهر «بيكون» في القرن السابع عشر فشقَّ طريق التجريب أمام العلماء، ووصف طريقة الاستقراء، ونصح بالنظر في كتاب الطبيعة. ونادى روسو بنفس المبدأ وهو القراءة في كتاب الطبيعة المفتوح، لا في بطون الكتب المُحبَّرة على الأوراق.
وهذه دعوى جديدة تُطالب أولًا بمعرفة الأشياء الخارجية المُحيطة بالإنسان أو عالم الطبيعة، وتُطالب ثانيًا أن تكون الطريقة لهذه المعرفة المشاهدة والاستقراء والتجريب.
ثم استقرَّت المناهج الحديثة وعلى رأسها دراسة العلوم الطبيعية.
هذا التحول في المناهج ناشئ عن التطور الذي لحق المجتمع، وأهم ما يمتاز به هذا التحوُّل الانصراف إلى عالم المادة، والنظر في سِفر الطبيعة، لتسخير القوى الكامنة في أرجاء الأرض لمصلحة الإنسان.
ولم ينهَ القرآن عن النظر إلى الطبيعة، بل حث الإنسان على التأمُّل في المخلوقات في أكثر من آية، حتى يصِل الإنسان من معرفة أمور الطبيعة إلى عظمة الخالق ووجوده. ولكن المسلمين لشدة غيرتهم على الدين، وخوفهم من التحول عنه، وجدوا من السلامة الابتعاد عن البحث في الطبيعة حتى لا يصرفهم ذلك عن الإيمان والعبادة.
فإذا كان القابسي لم يُوجِّه الاهتمام إلى العلوم الطبيعية بل أهملها الإهمال التام؛ فذلك لأن حِفظ القرآن وتعلُّم الكتابة والنحو والعربية يستغرق كل وقت الصبيان فلا يتَّسِع بعد ذلك لأي نوعٍ من الدراسة. يُضاف إلى ذلك أن الفقهاء كانوا ينظُرون بعين الرِّيبة إلى العلوم الطبيعية، والجمهور على هذا الرأي أيضًا.
فإذا التمَسْنا العُذر في نقص المنهج من درس الطبيعة، فلا عُذر عن التخلُّف بالاهتمام بالرياضة البدنية. وإننا لنجد السلَف في صدر الإسلام يُعنَون بألوان الرياضة التي تطبَع الأطفال على الحركة وتَبعَث فيهم القوة والحياة والصحة؛ والنصائح كثيرة تدعو إلى الاهتمام بالرماية والسباحة وركوب الخيل.
وإهمال مثل هذا التدريب في الكتاتيب يرجِع إلى أسباب: منها أن مُعلِّم الكُتَّاب فقيه تخصَّص في العلوم الدينية، ويعمل على تحفيظ الصبيان القرآن والكتابة وليست صناعته الرماية والسباحة.
ولا يخفى أن الكُتَّاب كان مكانًا مُتواضعًا لا يزيد على حجرةٍ أو حانوت في داره، يجلس للتعليم فيه مُعلم واحد في الغالب. فلم تكن هناك مدرسة خاصة، ذات بناءٍ مما تمتاز به المدارس، وفيها فناء يلعب فيه الصبيان ويتَّسِع لهذه الحركات الرياضية المطلوب تعلُّمها.
وكانت الغاية القصوى من طلَب العِلم معرفة الله، والتطبع على الدين القويم والأخلاق الفاضلة، فصرفت الغاية الدينية أنظار الفقهاء عن الغايات الدنيوية.
وصحة الأبدان لازِمة على كل حال، ولكن الرياضة البدنية لا ترمي إلى صحة البدَن فحسْب، بل إلى قوته وجماله ورشاقته، وهذه الغايات ممَّا لا يدخل عند الفقهاء في حساب.
(٥) اليوم المدرسي والأسبوع الدراسي
أحوال الدراسة في الكتاتيب، واختيار الصبيان، وتوزيع المنهج على اليوم المدرسي وبطالة الصبيان، كل ذلك مُستمَد من الغاية من التعليم، وطبيعة المنهج، والحالة الاجتماعية.
فالأسبوع الدراسي يبدأ في صباح السبت، وينتهي في عصر الخميس. وبذلك يكون يوم الجمعة بطولِه من أيام العطلة. «فدراسة الصبيان أحزابهم وعرضهم إيَّاها على مُعلميهم في عشي الأربعاء وغدو الخميس إلى وقت الكتابة. والتخايُر إلى قبل انقلابهم نصف النهار، ثم يعودون بعد صلاة الظهر إلى الكُتَّاب، والخيار إلى العصر، ثم ينصرفون إلى يوم السبت يُبكِّرون فيه إلى مُعلميهم.» ٦٠-ب.
من هنا يتَّضِح أن القابسي كان يَعتبر الأسبوع وحدة تعليم، يُراقب فيها المُعلم أعمال الصبيان، ويقف عند آخر الأسبوع وقفةً قصيرة ليرى مَبلغ ما حصَّلوا.
ويدرس الصبي خلال هذا الأسبوع القرآن والكتابة وسائر العلوم الأخرى المذكورة في المنهج.
- (١)
يدرس الصبيان القرآن من أول النهار في وقتٍ مُبكر حتى الضحى.
- (٢)
يتعلَّمون الكتابة من الضُّحى إلى الظهر.
- (٣)
ينصرف الصبيان إلى بيوتهم لتناوُل الغذاء ويعودون بعد صلاة الظهر.
- (٤)
تُدرَّس بقية العلوم كالنحو والعربية والشِّعر وأيام العرب والحساب، من بعد الظهر إلى آخر النهار.
فأول شيءٍ يبدأ الصبي بدراسته القرآن؛ لأنه أهم العلوم، وأكثرها قيمةً في المنهج، وهو المقصود من التعليم.
وكانت العادة أن ينصرِف الصبيان إلى بيوتهم لتناول الغذاء. ذلك أن الكُتَّاب مكان مُتواضع لا يُشبه مدارس الدول الحديثة التي تقوم بالإنفاق على التعليم، وتنشئ أبنية مخصوصة للمدارس مجهزة بالمطاعم، وتُعنى بإطعام التلاميذ.
والغالب أن الكتَّاب كان يقع قريبًا من بيوت الصبيان، حيث كانت المدن صغيرة الحجم لا تبلُغ من الاتساع ما هي عليه الآن.
وقد أوصى القابسي المُعلمين بعدم حرمان الصبي الانصراف إلى بيته لتناول الطعام، مع التنبيه عليه بسرعة العودة. ونستطيع اعتبار فترة الظهر راحة من التعليم.
وبطالة يوم الجمعة الغرَض منها راحة الصبيان؛ ويوم الجمعة مُعَظَّم عند المسلمين كما جرَتِ به العادة.
وبطالة الأعياد تجري حسب العُرف أيضًا، فقد تكون يومًا واحدًا في عيد الفطر، وقد تبلُغ ثلاثة أيام في عيد الأضحى، وقد تصِل إلى خمسة. وكذلك الشأن في باقي الأعياد التي اصطلح الناس على البطالة فيها.
ويُؤذن في بطالة الصبيان من أجل الختم يومًا أو بعض يوم، إجلالًا لهذا الحادث المبارك في تاريخ الصبي، حيث يُصبح بعده من حملة كتاب الله.
والتربية الحديثة تهتمُّ بأوقات الراحة. ولكن هذه الأوقات ومُدتها وموضعها من اليوم المدرسي تستند إلى التجارب العلمية التي أُجرِيَت على التعب في علم النفس.
(٦) الفصل بين الذكور والإناث في التعليم
وقد اقتصرت الكتاتيب على الذكور دون الإناث، وفي ذلك يقول سحنون: «أكرَهُ للمعلم أن يُعلم الجواري ويخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهنَّ.» ٥٧-أ.
وهذه القضية قديمة وحديثة. وقد استقرَّ الرأي الآن في دول الغرب بعد البحث الطويل والمشاهدات الاجتماعية المُستندة إلى الواقع على الجمع بين الجنسين في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، ثم الفصل بينهما في مرحلة التعليم الثانوي. ويعود الاختلاط في الجامعة.
ومرحلة التعليم الابتدائي تصِل إلى سِن الحادية عشرة أو الثانية عشرة أي قبل البلوغ، خصوصًا في دول الغرب التي تتأخَّر فيها سِن البلوغ لبرودة الجو والفصل بين الجنسين بعد هذه المرحلة، في العصر الحديث الذي بلغت فيه حُرية المرأة حدًّا لم تصِل إليه من قبل، يدل على ما يتمُّ بينهما من فسادٍ إذا تُركت الصِّلة بينهما مُطلقة من غير رقابة.
وفي عصر القابسي كان بعض الصبيان يستمرُّون في الكُتَّاب إلى سِنِّ الاحتلام، ولهذا خُشي على الإناث الفساد.
ولم يكن الخوف مقصورًا على إفساد الإناث مما دعا إلى إبعادهنَّ من الكُتَّاب، بل شمل الخوف الغلمان أيضًا، ولهذا نصَّ على الحذَر من إفساد الغلمان بعضهم بعضًا: «إذا كان فيهم من يُناهز الاحتلام.» ٥٧-أ، مما يُخشى معه الفساد.
وقد أشار القابسي إلى الرذائل الجنسية إشارة خاطفة دون التعمُّق في وصف العلاج الواجب في مثل هذه الأحوال، تاركًا للمُعلم حرية التصرُّف بحكمته وطريقته الخاصة في مُعالجتها.
على أنَّ النهي عن تعليم البنت في الكُتَّاب لا يعني أنها لا تتعلم. فقد ألزم القابسي من قبل تعليمها لضرورة معرفتها الدين والعبادات. وقد جرَت العادة على تعليم البنات داخل الدُّور، والنساء الكاتبات والشاعرات اللاتي نجد ذكرهنَّ في كتب الأدب أكبر دليل على انتشار التعليم بين النساء. فالعِلة في منع البنات عن الذهاب إلى الكتاتيب ترجع إلى الغيرة على الأخلاق وحفظ الدين.
(٧) النهي عن تعليم غير المسلمين في الكتاتيب الإسلامية
ومما يلفت النظر النص على عدم تعليم أبناء النصارى في الكتاتيب، وكذلك تعليم أبناء المسلمين في المدارس النصرانية. فقد كرِهَ مالك أن يطرح المسلم ولدَه في كُتَّاب النصارى، ووافقه في ذلك ابن وهب وسحنون وابن حبيب. سُئل مالك: «هل يُعلِّم المسلم النصراني؟ فقال: لا. وقال: لا أرى أن يُترك أحد من اليهود أو النصارى يُعلِّم المسلمين القرآن.» ٤٧-ب.
وتعليل القابسي لذلك يرجع إلى الآية الكريمة: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (الواقعة: ٧٧–٧٩). فالكافر نجس، ولذلك ينهون أن يُعلموا الخط العربي والهجاء حتى لا يمسوا المصحف.» ٤٨-أ.
هذه هي القاعدة الفقهية التي حكم بها مالك وأعلام مذهبه من بعده، وتبِعهم القابسي على هذا الرأي وهو تحريم تعليم النصارى في كتاتيب المسلمين، وتحريم تعليم أبناء المسلمين في كتاتيب النصارى.
وليس لنا أن نَعجَب لهذَين الحُكمَين، إذا أنزلنا الروح الديني الذي كان مُسيطرًا على المجتمع في ذلك العصر منزلة الاعتبار. فقد كان الدين شديد السلطان على النفوس، والقرآن محترمًا احترامًا شديدًا.
ونحن إذا رجعنا إلى المسلمين الأوائل نجد أن النبي هو الذي افتدى أسرى بدر بتعليم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة، وهؤلاء الذين افتدوا أنفسهم بالتعليم من المشركين. وإذَنْ فالنبي نفسه لم يرَ بتعليم المشركين أبناء المسلمين بأسًا لحاجته إلى نشر الكتابة. ولمَّا استقرَّ الإسلام، ودخل الفُرس والروم تحت راية المُسلمين، لم يتحوَّلوا إلى الإسلام دفعةً واحدة. والمعروف أن كثيرًا من المُفكرين في صدر الإسلام أسلموا في الظاهر، وكانوا يحملون في باطن أنفسهم عقائدهم السالفة. وبعضهم ظلَّ على النصرانية أو اليهودية أو المجوسية؛ وهؤلاء عرفوا القرآن ومنهم من كان يحفظه، والمؤكد أنهم عرفوا الخط العربي واللغة العربية، خصوصًا عندما تمَّ تعريب الأعاجم في آخر الدولة الأموية.
فممَّا لا شكَّ فيه أن المسلمين في القرن الأول والثاني كانوا يقومون بتعليم هؤلاء القوم القرآن والكتابة في سبيل الدعوة الإسلامية، التي لا يمكن أن تتمَّ إلا بالتعليم والتعلُّم.
والظاهر أن الدعوة لنشر الإسلام ركدَت بعد القرن الثاني، واكتفى المسلمون بما وصلوا إليه من فتوحات، وما صحِبَها من انتشار الدين، ثم انعكفوا على تثبيت العقائد من الزيغ والزندقة، التي حاول اليهود على الخصوص أن يدسُّوها على المسلمين.
لهذا وجد الفقهاء من السلامة أن يقفوا في وجه النصارى واليهود، وأن يُقيموا بينهم وبين الإسلام سدًّا منيعًا يحُول دون النَّيل منه بشرٍّ أو سوء، أو تغيير وتبديل، أو تحريف وتحويل.
هذا الموقف الجديد يختلف عن موقف المسلمين في صدر الإسلام؛ فهو موقف دفاع لا موقف هجوم. ذلك أنه بعد أن اقتحم المسلمون الأوائل قلوب النصارى وغزوا عقائدهم، واجتذبوا عقولهم ونفوسهم إلى الإسلام، إذا بالمسلمين في القرن الثالث والرابع يقفون موقف الدفاع عن أنفسهم وأبنائهم من هجمات النصارى واليهود وطعناتهم المُسدَّدة إلى العقائد الإسلامية.
واستمرَّت حالة المُسلمين في هذا الموقف الدفاعي العاجز حتى العصر الحاضر، إذ بدأ الأزهر في مصر — وهو قلب الإسلام النابض — يَنْفضُ عن نفسه غبار الضعف، ويزيل آثار الضعة والخوف، وأخذ يشق الطريق من جديد لينشر الإسلام في دول بعيدة أشدَّ البُعد عن مصر كاليابان، وأرسل البعوث الأزهرية إلى شتَّى الدول التي تحتاج إلى أنوار الدين مُنافسًا في ذلك المسيحية.
ودار البحث في ترجمة معاني القرآن. وتُرجِم القرآن فعلًا إلى كثيرٍ من اللغات الأجنبية، وهي ترجمات موجودة بين أيدينا على الرغم من عدم اعتراف بعض المسلمين بها.
ثم كان من أهم آثار النهضة الأوروبية الحديثة أن اهتمَّ الغربيون بدرس العلوم الإسلامية فظهر المُستشرقون، وألَّفوا الكُتب الحديثة في شتَّى المعارف الإسلامية؛ ومنهم مَنْ يختصُّ في علومٍ قرآنية صميمة كالقراءات والتفسير. وهؤلاء المستشرقون على الديانة النصرانية أو اليهودية؛ ومع ذلك فهم يمسُّون المصاحف، ويدرسونها ويتعمَّقون في بحثها، وينشرون خُلاصة أبحاثهم على العالم، ويستقي الشرقيون من هذه البحوث ويأخذون منها في علمهم.
ولكننا لا نقول اليوم إن الكافر نجس لا ينبغي أن يُعلم الخط العربي والهجاء حتى لا يمسَّ المصحف كما يقول القابسي.
وتفسير هذا التحول الذي يذهب إلى النقيض يرجع إلى اختلاف الروح الاجتماعي؛ فالمجتمع الإسلامي الحاضر لا ينظُر إلى غير المسلمين كما كان ينظر إليهم القُدماء.
(٨) الاستظهار
الطريقة في تعليم المنهج السابق لا بدَّ أن تعتمِد على الحفظ والاستظهار، وتُعرف هذه الطريقة في علم التربية الحديثة بالتعليم اللفظي. وهذه الطريقة تختلف عن التعليم التجريبي المعتمِد على التجارب والمشاهدات كما هي الحال في دروس العلوم الطبيعية، أو التعليم المهني الذي يُوجِّه التلاميذ إلى تعلُّم الصناعات المختلفة.
ولم يكن مُعلم الكتَّاب مخصوصًا بتعليم المهن أو درس الطبيعة.
وإنما كانت وظيفة المُعلم القيام بتعليم القرآن والكتابة والنحو والعربية والشِّعر والحساب وأيام العرب. وهذه كلها علوم لفظية، يقرأ التلاميذ ألفاظها ويسمعونها من المعلم، وعليهم استيعابها وحفظها.
فالمنهج بطبيعته يتَّجِه إلى التعليم اللفظي، ويعتمد على الذاكرة، على الأخص إذا عرفنا أن القرآن وهو أهمُّ العلوم يجب حفظه بألفاظه دون تحريفٍ أو تبديل. لهذا السبب كانت الطرق التعليمية التي أوصى بها القابسي لا تخرج عن الطرق المُوصِّلة إلى جودة الحفظ، وعدم النسيان فيما يختص بالقرآن.
وعنده أن طرق الحفظ ثلاث: التكرار والميل والفهم.
وقد جاء ذكر التكرار في حديث عن الرسول يختص بحفظ القرآن. قال: «مثل القرآن كمثل الإبل المعقلة، إذا عاهد صاحبها على عقلها أمسكها، وإذا أطلقها ذهبت. إذا قام صاحب القرآن بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقرأه نُسِّيه.» ويعلق القابسي على هذا الحديث قائلًا: «وقد بين في هذا الحديث كيف المعاهدة التي يثبت بها حفظ القرآن ويقوى على الحفظ حتى لا يتلعثم فيه.» ٢١-ب.
والقابسي يذكر هنا مراحل الذاكرة الثلاث الأساسية وهي: الحفظ والوعي والاسترجاع. وما نصطلح على تسميته الآن الوعي يُطلَق عليه التثبيت، وسهولة الاسترجاع هي عدم التلعثُم.
والميل هو محبة القرآن، فيؤدي إلى الإقبال على تلاوته، وعدم الانصراف عنه إلى شيءٍ آخر، بل يكون القرآن شاغلًا للذهن على الدوام. «قال معاذ بن جبل لأبي موسى الأشعري: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائمًا وقاعدًا، وعلى راحلتي، وأتفوَّقه تفوُّقًا.» ٢٢-ب.
أما الفهم فناشئ عن الترتيل. وقد فسَّر القابسي معنى قوله تعالى: أَشَدُّ وَطْئًا (المزمل: ٦) … أي مُوطأة للقرآن بسمعك وبصرك أي فهمك. وقال في فائدة الترتيل: «إن الترتيل في القراءة يحيي الفهم للعالم فيستعين به على التدبر الذي له أُنزِل القرآن.»
فالإجماع على قراءة القرآن بالترتيل حسب أمر الله وسنة الرسول، مما يدعو دون شك إلى الفهم. وقد أيَّدت التجارب الحديثة في علم النفس أن الحفظ مع الفهم أسرع وأثبت، وأدعى إلى عدم النسيان، وأقوى على الاسترجاع.
وكانوا ينصحون المُتعلمين بهذه الطريقة.
ونحن لا ندري هل يستطيع الصبي الصغير أن يفهم معاني القرآن وأوامره ونواهيه، وما جاء فيه من وعدٍ ووعيد، ودعاء وتضرُّع، وطلب وتعوُّذ واستغفار؛ إذ لا شك أن هذه المعاني أعلى من مستوى عقول الصبيان، مما دعا أبا بكر بن العربي إلى النصيحة بتأخير حفظ القرآن إلى سِنٍّ متأخرة، ووافقه ابن خلدون على هذه الطريقة، ولكنه آثر اتباع التقاليد فأوصى مع العرف بالبدء بتعليم القرآن.
ولا يفوتنا أن نذكر أن الإعراب من دواعي فهم المعنى، وكذلك الهجاء والكتابة. وكانت الطريقة هي حفظ السورة بإعرابها وحُسن قراءتها، مع الترتيل المؤدي إلى التدبُّر والتفكُّر. وهذا كله ينتهي دون شك إلى كمال الفهم.
ثم أضاف القابسي أنه: «من الاجتهاد للصبي أن لا ينقله من سورة حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها.» ٥٩-أ.
ولا يفوتنا أن نذكُر أن وسائل الحفظ مع الاستفادة من جميع الحواس أفضل من استعمال حاسة واحدة، على الأخص إذا عرفنا أن بعض الناس بصريون وبعضهم سمعيون وبعضهم حركيون. فهناك مَنْ يحفظ عن طريق البصر بالقراءة الظاهرة الصامتة؛ وهناك مَنْ يستفيد عن طريق السمع بالقراءة جهرًا بصوت عالٍ؛ وهناك مَنْ يستفيد بالحركة عن طريق الكتابة. وهذه الوسائل كلها كانت مُتبعة في تعليم الصبيان؛ فالعين تستفيد من القراءة، واليد من الكتابة، والأذن من الاستماع.
وكانت العادة أن يقرأ الصبيان أحزابهم وهم جماعة، ويستمع المُعلم إليهم، وعليه أن يأخذ باله من كل واحدٍ منهم؛ لأن: «اجتماعهم في القراءة يُخفي عنه قويَّ الحفظ من الضعيف.» ٦٩-أ. وإذا اتخذ الصبيان من هذه القراءة أداة للهو والخفة، فعليه أن يُعالجهم باختبار كل واحدٍ منهم على حدة، فينصرفوا إلى الجد.
فإذا تعاونت هذه الوسائل كلها من التكرار والإقبال والفهم فلا شك أن يصِل الصبي إلى حفظ القرآن. ولا عِلة له إذا نسي، ولا علة لأحد في نسيان القرآن بعد حفظه؛ لأن هذا دليل على التشاغُل عنه، أو لأن صاحب القرآن: «تَغلِب عليه غيَّة تصرِفه عنه، وإما لأنه يتعمد التشاغُل عنه بعملٍ من أعمال الدنيا أو من أعمال السفهاء.» وعندئذٍ يُنسيه الله القرآن: «عقوبة لاشتغاله بسُوء الاكتساب، ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث: «ما لأحدِكم يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نُسِّيَ.» معناه أن الله أنساه ما نسي.» ١٩-ب.
والاختبار هو الوسيلة التي يَعرِف بها المُعلم أأجاد الصبي الحفظ أم لا.
وأول درجات الإجادة والامتياز أن: «يستظهر الصبي القرآن حفظًا من أوله إلى آخره، مع ضبط الشكل والإعراب والفهم وحُسن الخط.» ٧٠-ب.
ويَقلُّ عن هذا درجة مَنْ «يقرأ القرآن نظرًا في المصحف مع ضبط الشكل والهجاء.» ٧١-أ.
وآخر درجات الإجادة: «أن يُملى على الصبي فلا يتهجَّى، ويرى الحروف فلا يضبطها، ولا يستمر في قراءتها.» ٧١-ب.
ومِن الصبيان مَنْ يبلُغ درجة البلاهة. ومقياس ذلك عند القابسي أن يُختَبَر: «فَوُجِد لذلك لا يحفظ ما عُلِّم، ولا يضبِط ما فَهِم.» ٧٢-أ.
ونحن نرى أن موازين الاختبار لا تعتمد على الذاكرة وحدها، بل على الفهم أيضًا. فهي اختبار للذاكرة والذكاء معًا.
ولا يجب أن نأخذ الفهم الذي ذكره القابسي على أنه مرادف للذكاء، بل هو يستنِد إلى الذاكرة؛ لأن إعراب الكلمات، ومعرفة المعاني القرآنية مما يتلقَّاه الصبيان من أفواه المُعلمين ويحفظونه عنهم، ولا يصِلون إليه من تلقاء أنفسهم.
ومن هنا يتضح لنا أن التربية العقلية عند القابسي تنتهي إلى كسب معلوماتٍ مُعينة، وتلعب الذاكرة الدور الأول في هذا الكسب، وتخصُّ بالذات الذاكرة اللفظية؛ ومهمة الصبيان أن يحفظوا عن الكُتُب أو عن المُعلم، وأن يُعيدوا ما حفظوا دون تلعثُم. والصبي الممتاز هو ذلك الذي يُجيد حفظ كل ما لُقِّنَ كلمةً بكلمة، وحرفًا بحرف.
ولكن ازدراء الذاكرة والنظر إليها هذه النظرة القليلة الأهمية، فيه بُعْدٌ عن الحقائق النفسية. وتدل نتائج البحث في الأمراض النفسية على أن فقدان الذاكرة يؤدي إلى اضطراب الحياة العقلية وفساد السلوك.
ومما لا شك فيه أن الذاكرة الجيدة تخدم علماء الطبيعة والكيمياء والنبات والحيوان؛ لأنهم في حاجةٍ إلى استظهار كثيرٍ من القوانين الرياضية والمعادلات الكيميائية التي تتألف منها مبادئ المعرفة الصحيحة الضرورية.
ولا يستطيع الإنسان إجادة اللغة دون معرفة كثيرٍ من الألفاظ وقواعد النحو والصرف.
والخلاصة أننا لا ينبغي أن ننظُر إلى الذاكرة كما كان ينظُر علم النفس القديم باعتبار أنها ملَكة مُستقلة من ملكات العقل؛ إذ الواقع أن الحياة العقلية كلها وحدة مُتماسكة، تتعاون فيها جميع المواهب النفسية على العمل.
فالحياة العقلية للفرد لا تنفصِل عن الحياة الاجتماعية بل هي جزء منها. والطريق الذي تسلكه الحياة العقلية يستضيء بهَدْي المجتمع، ويتأثر به، وفي الوقت نفسه تتشكل الحياة العقلية بحيث تُلائِم المجتمع.
وقد كان المجتمع في عصر القابسي يريد معرفة القرآن وما يتصِل به من علوم تُعين على فَهمِه والتمكن منه، ولا يرغب في غير ذلك من علومٍ طبيعية أو خلافها.
ومن الطبيعي أن تكون الطريقة المُلائِمة لتحصيل القرآن هي الحفظ والتذكر.
(٩) تكوين الشَّخصية
ونحن لا نتفق مع هذه المُربية في الحُكم على الماضي، فقد يكون هذا الرأي صحيحًا بالنسبة إلى التعليم في أوروبا، ولكنه غير صحيح على إطلاقه عن التعليم في الكتاتيب؛ ذلك أن شخصية الطفل كانت مُحترَمة إلى حدٍّ كبير في الكتاتيب الإسلامية كما يتَّضِح في رسالة القابسي.
ونُحِب أن نوضح معنى الشخصية قبل الاستطراد في الكلام عن أثر التربية الإسلامية في تكوينها، نظرًا إلى ما يُلابس هذا الاصطلاح من غموض.
فالشخصية على المعنى النفساني نسبة إلى شخص، ولهذا كان كل فردٍ صاحب شخصية. ولكنهم يقصدون عادةً من الشخصية ما كانت قوية لا ضعيفة، وما كانت صالحة للحياة مؤثِّرة في المجتمع، لا تلك التي تعجز عن العمل، وتنساق في تيار المجتمع وإلى دوافع الفطرة دون إرادةٍ وتمييز أو قصد وشعور.
والغرض من التربية هو تكوين الشخصية القوية الصالحة. ولا يتنافى هذا الغرَض مع ما سبق ذكره من أهداف للتربية، مثل تنمية مواهب الطفل، أو إعداده للحياة الاجتماعية، أو دفعه في سبيل التقدُّم والرُّقي؛ لأن صاحب الشخصية هو ذلك الذي شُحِذَت مواهبه، وامتلأت جُعبته بأسلحة الكفاح في الحياة الاجتماعية، وتهيَّأ للتقدُّم المُطرد والرقي المستمر. والتقدُّم هو سنة الوجود، ودليل الحياة الصحيحة.
وكمال الشخصية في العِلم والعمل، والفكر والإرادة. والسلوك هو الغاية الأخيرة التي نقصدها من التربية، بل من الحياة كلها. أما تثقيف العقل، وحُسن التفكير ومعرفة العلم فكُلها وسائل إلى السلوك المطلوب، حتى يستند إلى أساس من المعرفة الصحيحة.
وكان المطلوب في عصر القابسي تكوين الشخصية الدينية، يُؤمِن صاحبها بالله، ويعتقِد بوجوده، ويَعبُده آناء الليل وأطراف النهار، ويذكُره في كل عملٍ من الأعمال ليُميز بين الحلال والحرام.
وتختلف شخصية الأفراد في البلاد المختلفة تبعًا لاختلاف الحياة الاجتماعية وما تطلُبه هذه المجتمعات من أبنائها.
ومهما يكن من شيء، فالشخص الذي يريد أن يَشق طريقه في المجتمع، فلا بدَّ له من إعداد نفسه للنزول إلى مُعترك الحياة. وفي هذه الحال يشعُر بنفسه مُستقلًّا عن غيره، فيعمل على الاستجابة للتأثيرات الاجتماعية، ثم ينصرِف بما يُلائِم مصلحته الخاصة ومصلحة المجتمع.
وشعور الإنسان نفسه هو المحور الذي تدور عليه الشخصية، والذي به يتمُّ التأثير المقصود الصادر عن الشعور. وعندما يشعُر بشخصه، ويُحسُّ بكيانه كفردٍ مُستقل، يُدرك ألا سبيل له إلى السلوك الصحيح إلا بكسب المعرفة والتزيُّد من العِلم.
والغرض من التربية والتعليم هو تزويد الأفراد خلاصة الحضارة السائدة في المجتمع في وقت وجيز، حتى إذا كبر الطفل كان على استعدادٍ لمواجهة مطالب الحياة الاجتماعية.
وفي زمن الطفولة يكون الصبي عبئًا على أهله في كل شيء. وليس هذا من مصلحته أو مصلحة المجتمع. ومصلحة الطفل أن يعتمِد على نفسه، أو أن يتعلم الاعتماد على النفس حتى يستمدَّ أسباب القوة المُعِينة على التقدُّم والنجاح. ومصلحة المجتمع في وجود أفرادٍ من أصحاب الشخصيات القوية حتى يرتقي المجتمع. أما العاجزون فهُم عبء ثقيل يسوق المجتمع إلى التأخُّر والضعف والانحلال.
ولم ينْسَ القابسي وهو يقوم على تربية الأطفال أن يُمهِّد لهم سبيل تكوين الشخصية القوية التي يعتمِد صاحبها على نفسه، ويستطيع أن ينهض بما تتطلَّبه حاجة البيئة ومَطالب المجتمع. وعنده أنه لا بأس أن يقوم الصبيان بأعمالٍ لها فائدة في تخريجهم.
منها أن يكتب الصبي للناس. سُئل القابسي: «هل يؤذَن للصبي أن يكتُب لأحدٍ كتابًا؟ فقال: لا بأس، وهذا مما يخرج الصبي إذا كتب الرسائل.» ٦٣-أ.
ومنها أن يُعلِّم بعضهم بعضًا: «ولا يحل له (أي المُعلم) أن يأمُر أحدًا أن يُعلِّم أحدًا منهم إلا أن يكون فيما فيه منفعة للصبي في تخريجه.» ٦٣-ب.
ومنها أن يُملي بعضهم على بعض، وذلك في الأوقات التي يستغني فيها الصبيان عن المُعلم: «مثل أن يَصيروا إلى الكتابة، وأملى بعضهم على بعض، إذا كان في ذلك منفعة لهم؛ فإن هذا قد سهَّل فيه بعض أصحابنا.» ٦٤-أ. فمِن المنفعة لهم أن يُملي بعضهم على بعض، وعلى المُعلم «أن يتفقَّد إملاءهم.» ٦٣-أ.
ومنها أن يجعل على الصبيان عريفًا. والعريف هو الصبي البارز في العِلم يقوم بتعليم الصبيان إذا كان في ذلك مَنفعة في تكوينه. وقد أجاز الفقهاء هذه الطريقة في التعليم. سُئل مالك عن المُعلم يجعل للصبيان عريفًا فقال: «إن كان مثله في نفاذه.» ٦٣-ب. وعن سحنون: «وأُحِب للمُعلم أن يجعل لهم عريفًا منهم، إلا أن يكون الصبي الذي قدمهم وعرف القرآن، وهو مُستغنٍ عن التعليم، فلا بأس أن يُعينه، فإن ذلك منفعة للصبي.» ٦٣-ب.
وهذا كله يتعارَض مع قول مدام منتسوري من أن التربية القديمة لم تكن تحترم شخصية الطفل. ذلك أن تكليف الصبيان بهذه الأعمال كلها، مثل كتابة الرسائل للجمهور، وإملاء بعضهم على بعض، واصطناع العريف يُعلِّم غيره من الصبيان ممن هم أصغر منه سنًّا وأقل علمًا، دليل على احترام شخصية الصبي ورفع قدره والسمو بمنزلته، إذ إنه يتَّخِذ مركز المعلم نفسه.
ولم تكن شخصية الصبي مُحترمة في العلم فقط، بل في شئون الدين أيضًا، فقد أجاز القابسي أن يَؤم الصبي، إذا بلغ سِن الاحتلام وصلُح للإمامة، غيرَه من الصبيان في صلاة الجماعة: «لكي يتدرَّجوا على معرفة صلاة الجماعة.» ٧٠-أ.
هذه حياة كلها جد، وكلها تَشَبُّه بالرجولة؛ لأن الطفل الصغير يُنظَر إليه كأنه رجل كبير، فيُكلف أعمال الرجال.
وكانت التربية القديمة تُضحي بمرحلة الطفولة في سبيل الإعداد للرجولة. وكانوا يرغمون الطفل على سلوك مَسلك الرجال وتعلُّم أعمالهم، وإلا وقع عليه العقاب.
ومن الخطأ الاعتقاد أن سعادة الرجولة تُشترى على حساب الطفولة.
حقًّا إن الحياة الاجتماعية فيها كثيرٌ من القسوة وتحتاج إلى كثيرٍ من الجدِّ، ولهذا ينبغي أن يُهيَّأ الطفل لحياة الجد حتى لا يُصدَم بما فيها من صعاب وعقبات في المُستقبل. ولكن الجد لا يستلزم العبوس الدائم، والشدَّة المُستمرة. وقد نهى القابسي عن العبوس في غير حاجةٍ إليه. كما أن اللهو لا يعني المرح المُتلاحِق، أو اللعب الذي لا انقطاع فيه.
على أن حياة الطفولة ينبغي أن تنصرِف إلى اللعب أكثر منها إلى الجد، وأن يكون قسط المرح والسرور فيها كبيرًا. ذلك أن شقاء الطفولة يترك في النفس آثارًا لا تُمحى وذكريات أليمة تُلقي على الرجل ظلًّا كثيفًا من الكآبة والتشاؤم من الحياة.
لهذا كان من الخطأ أن نُحمِّل الطفل في وقتٍ مبكر متاعب الحياة وآلام العيش. إننا نُخاطر بإضعاف القوى الكامنة في الفرد، بتحميلها فوق ما تطيق، فتنوء في المستقبل بأعباء الحياة الجسام. وقد أوضح روسو في كتابه (إميل) أن واجب المُربين إسعاد الطفل على قدرة الاستطاعة حتى يُحسَّ الإحساس الصادق بالحياة، ويتذوَّق لذة الوجود.
من هذه الناحية نستطيع أن نلوم القابسي، مع التربية القديمة كلها؛ لأنه كان يأخذ الصبيان بحياة الجد، وينهى عن اللهو واللعب.
ثم إن نمو شخصية الطفل لا يتطلَّب المحافظة على مواهبه من الضمور والانحلال فقط، وإنما يتطلَّب شقَّ الطريق أمام هذه المواهب لتتفتح وتقوى. ولا ينبغي الوقوف في سبيل الطفل، بل لا بدَّ له من حرية العمل ليكون المجال أمامه فسيحًا للظهور.
وقد رأينا كيف ترك القابسي الحُرية للصبيان لأن يقوموا بكثيرٍ من الأعمال التي تصلح لتخريجهم، وبذلك تنمو فيهم المواهب المُلائمة لمطالب المجتمع.
ولكن القابسي كان مُقيدًا بعصره، ولم يعمل على سبق الزمان وتهيئة الأجيال القادمة للتقدُّم والرُّقي، فاكتفى بإعداد الصبيان لحياة الحاضر، بل لحياةٍ شبيهة بالماضي، فهو يدعو إلى معرفة ثقافة السلَف، ويطلب التمسك بها، والنَّسج على منوالها، وعدم التحوُّل عنها.
لهذا عجزت شخصية المُتعلمين عن مُسايرَة التقدُّم في الحياة، إلى أن تغيرت البيئة الاجتماعية في العصور الأخيرة، لأن تكوين الشخصية على الطريقة التي يريدها القابسي مُقيدٌ بالمجتمع الذي كان يعيش فيه. وكان همُّه الأكبر أن يصنع شخصيةً دينية وخلقية.
أما الشخصية الدينية فإن تعلُّم القرآن والقيام على الصلاة في أوقاتها ممَّا يكفُل طبعها على ذكر الله.
والشخصية الخلقية مطلوبة على كل حال، ولو اضطرَّنا ذلك إلى إرغام الأطفال؛ إذ ممَّا لا شك فيه أن الإنسان ينبغي أن يلتزِم حدود نفسه، فلا يتعدَّى على غيره باغتصابٍ أو إيذاء أو ضرب أو سرقة أو أي شيءٍ من ضروب الرذائل التي ترجع في النهاية إلى الاعتداء على شخص الغير أو مِلكه، ولا يتسنَّى هذا كله إلا إذا ميَّز الإنسان نفسه، وشعر بوجود شخصه واعتقد في حريته، ومسئوليته عن أعماله.
ولا بدَّ للإنسان إلى جانب ذلك من تكوين عادات صالحة يُصبح معها من ذوي الخلق المستقيم، كالصدق والأمانة والشجاعة وحُب النظام والنظافة إلى آخر هذه العادات المختلفة، مما ذكرناه عند الكلام في التربية الخلقية.
ولا يتم تكوين الشخصية الخلقية، بتشييد العادات الفاضلة، وتهذيب الضمير، إلا بالتعليم والتربية.
ومما لا شك فيه أن الكُتَّاب الإسلامي كان له أثر كبير في خلق الشخصية القوية المُلائِمة للمجتمع في القرن الرابع الهجري. فالصبي بعد ذهابه إلى الكُتَّاب يصلح لإمامة الناس في الصلاة، فضلًا عن معرفة أسرار الفروض والنوافل، مما يرفع قدره ويسمو بمنزلته. وكما يتقدَّم إليه العامة فيكتب إليهم الكتب والرسائل. وبعض الصبيان قد يختم القرآن وهو أهم أنواع المعرفة وأوجبها، فضلًا عن معرفة العربية وأيام العرب والشِّعر، وبذلك يتهيأ له السبيل إلى بلوغ مراتب العلماء.