توطئة
هذا دفتر حياتي، أودعته وقائع أيامي والليالي، وكفى بالله حسيبًا.
أنا عبد الله بن الحسين صاحب النهضة العربية الأخيرة وموقظ قومه من رقدتهم ومؤسس ملكهم، ابن علي بن محمد أمير مكة بن عبد المعين بن عون، وأمي عابدية بنت عبد الله بن محمد بن عبد المعين بن عون بن محسن بن الحسن بن عبد الله، وهو الذي تنتمي إليه العبادلة من شرفاء مكة.
ولدت بمكة المكرمة، وشعرت بالوجود أول ما شعرت بالطائف وأنا أحبو. أذكر ذلك جيدًا حينما أتت إحدى النساء، فرأتني وخشيت عليَّ السقوط من الدرج، فقالت: من أنت؟ فقلت: أنا عبد الله. فحملتني وأدخلتني إلى مكان به ظئري. هذا أول ما أذكر من الدنيا.
توفيت والدتي وأنا في الرابعة، وقد أقبلت على الخامسة من سني عمري، فكفلتني جدة والدي لأبيه، وهي الشيخة صالحة بنت غرم الشهرية العسبلية أم علي بن محمد بن عبد المعين بن عون، فنشأتني تنشئة عربية محضة؛ وكانت معها بنتها هيا بنت محمد بن عون عمة والدي، فروعيت بينهما خير رعاية. وكانت تألف النساء العربيات من قومها بني شهر، ومن نساء العشائر من الحجاز، فكنت بينهن أصغي دائمًا إلى ما يلقينه على مسامعي من وقائع وحوادث بين العشائر، ويذكرن ما جرى من أحوال في عهد الوهابية الأولى، وما وقع من حرب حينما دخل والي مصر محمد علي باشا الحجاز لإخراج الوهابية، ويذكرن الأيام بين ذوي عون — وهو بيتنا — وذوي زيد — وهو الفرع الثاني من أمراء مكة — ذاكرات أشعارًا حماسية لا أزال أذكرها.
ثم لما جاء سن طلب العلم، قرأنا على المرحوم الشيخ علي منصوري — نسبة إلى المنصورة بلدة بمصر — وهو شيخ والدي الذي علمه القرآن. وكان التدريس على الطريقة القديمة، طريقة إرهاب الطفل وإخافته، فكانت «الفلكة» وهي آلة التهديد، حيث تجمع إليها رجلا الطفل فيضرب، ولذلك فررت منه ومن القراءة والدرس، فتُركت رعاية لسني أو لحماية نلتها من الجدة الكبرى الشيخة صالحة بنت غرم المشار إليها. فاستأنفت القراءة بعد ذلك بسنة، في الطائف، وكان فراري من المعلم بمكة. أما شيخي في الطائف، فهو العالم الجليل الشيخ ياسين البسيوني، إمام والدي ذلك الحين، الذي يصلي به وبمعيته، وإمامه وهو شريف مكة وأميرها، ثم إمامه وهو ملك البلاد العربية، وقد تلطف بي وحملني على أن أقرأ، بأن اشترط أن يملكني جملًا لفرط حبي للإبل؛ وبالفعل قد أتي لي بجمل ارتبط في ناحية من الحيز المخصص للقراءة. وكان يعلف وكنت أقوم عند رأسه إلى أن ينتهي علفه. ولهذا فللشيخ ياسين المرحوم ولذلك الجمل، الفضل في زوال نفوري من المعلمين ومن القراءة الابتدائية.
وكان أخي، المرحوم الملك علي بن الحسين، قد سبقني في الطلب للعلم والدراسة، وكنت حينما قرأت (ألف باء) كان هو قد اجتاز جزء (تبارك)، وهكذا ابتدأت. ولما وصلت إلى سورة (المرسلات) الشريفة، وبها الآية الكريمة كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ، أذكرتني كلمة «جمالة» بالجمل، فحفظتها عن ظهر غيب، فأكرمت بذلك السبب بما يكرم به أمثالي، فزاد شوقي إلى التعلم. ولما شرعوا يحفظوننا القرآن الكريم، كان الأخ المرحوم الملك علي وصل في حفظه سورة (الإسراء)، وكنت قد وصلت في حفظي سورة (الرعد)، وكان أخي فيصل يتحفظ سورة (الأعراف). أما الشيخ علي منصوري فله الفضل في تمييز الأصولين في القراءة القديمة والجديدة، وأما الشيخ ياسين فهو الذي فتح الله عليَّ بسبب دماثته وحسن احتياله، رحمهما الله وأسكنهما فسيح جنانه.