شكل الإدارة العثمانية
قبل منشور الكلخانة، كانت الدولة العثمانية، من عهد عثمان الأول وأورخان، لا تشبه دول ملوك الطوائف؛ وكانت نشيطة فنية إدارية، حيث قدر لها الله ذلك وأن تسود الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ضامة الخلافة النبوية العربية إليها، فكانت في طراز إدارتها، بالنسبة لعصرها حين ذاك، خيرًا من غيرها.
وكان أول مقام عرف، مقام قاضي العسكر، فهو القاضي الأكبر للبلد، والقاضي الذي يسير مع الجند في الحروب والغزوات. وإذا سار ترك من يخلفه باسم وكيل قاضي العسكر. وكانت للقضاة الكرامة التي للقواد. ثم أسست الإدارة الملكية، وعين لها أشخاص، يسمون بيلربه أو ميرمران. ففي بلاد الأناضول بيلربه، وفي الروم ايلي بكلربكي. وفي معينات كل واحد من هؤلاء، أمراء ديوان على المتصرفيات بعد الولايات، منوط بهم أمر الجند الباش بوزق. وأما القضاة فهم بيدهم الإدارة أيضًا؛ فإذا احتاجت الدولة إلى حرب وطلبت جندًا، قام بكلربكي، أو الميرمران، مع أمراء الديوان، فجمعوا الجموع وتوجهوا إلى حيث يطلب إليهم.
كانت تمشي الحال على تلك الوتيرة أو ما قاربها، تحت رئاسة الصدر الأعظم في الديوان الملكي (ديوان هومايون). أما بعد منشور الكلخانة، فتأسست الولايات على الطراز الجديد، وتأسس الجند أيضًا على ما ذكرنا تأسيسًا جديدًا. ثم بعد إعلان القانون الأساسي سنة ١٢٩٣، جاء الحكم الدستوري، الذي سارت عليه الدولة إلى أن انفصل عنها العرب.
إن أهم ما حدث إبان إمارة المرحوم من انقلاب فكري جعله يترك التمسك بمحض عثمانيته التركية، هو مغزى عسير، عندما أمره السلطان بأن يتوجه إلى تلك المتصرفية، فينقذ حاميتها من حصار السيد الإدريسي. وكان حصار أبهى — مركز متصرفية عسير — وقت حركة الإمام يحيى وحصاره صنعاء اليمن قبل أن يتفاهم مع الدولة العثمانية بواسطة عزت باشا الصدر الأعظم أخيرًا. فتوجه بالقوة العثمانية الموجودة بالحجاز، فاستصحب معه الجندرمة الراكبة وقوة هجانة المدينة، وألَّف قوة أسماها (القوة المعاونة) على أن يأتيه المدد العسكري بالقنفذة.
وكنت يومئذ في المجلس النيابي، فطلبني، وأجازني المجلس، فالتحقت بالحجاز. وقال لي الصدر الأعظم إبراهيم حقي باشا: الأمير يطلبك ولا بد أنه سيكلفك بمأمورية معه. وقال لي رئيس مجلس النواب أحمد رضا بك: لِمَ تستعين الدولة بنفوذ والدك؟ ألم يأتِ الوقت الذي ينبغي أن تتخلص فيه الدولة من النفوذ الشخصي؟ فقلت له: إنك نائب، ويمكنك أن تترك الرئاسة لوكيلك وتنزل إلى كرسي النيابة كعضو فتوجه سؤالًا إلى الحكومة أو استيضاحًا، فإن ذلك يكون أليق للصنعة التي أنت فيها، والدولة ستكون في حاجة ملحة إلى نفوذ المخلصين من بلاد العرب أجيالًا أخرى، إن بقيت وبقوا.
ولما وصلت إلى مكة، مررت بسمو المرحوم الخديوي، وكان يميل رحمه الله إلى السيد محمد بن إدريس، ولعله كان يعضده. ولقد بلغني أن الدولة العثمانية طلبت إليه أن ينصح السيد فنصحه، وبقيت هذه النصيحة عند ذلك الحد. فلما رآني قال: السفر لتأديب الإدريسي؟ قلت: نعم. فقال: الوقت صيف وتهامة حارة، فلو أخرت الحركات إلى أن يعتدل الموسم؟ قلت: لا أدري، ولكن ربما توجه الجيش من طريق الشرق، والتأخير فيه إمكان سقوط أبهى، لذلك فالحركة واجبة. فقال: بلغني أن الأفكار العربية ممتعضة من هذا العزم. فأجبته بأن الأفكار هذه لا تصل إلى بعض الأخطار الممكنة، إن حصل تفكك في القسم الجنوبي من البلاد العربية يجعلها تحت أيد جاهلة، تمكن الأجانب من وضع أيديهم عليها. فقال: وفقكم الله، ولكن مهما أمكن، التمسوا الأسباب الواقية للصحة من الأوبئة والشمس. وفي الحقيقة لما وقعت الكوليرا في العساكر ذكرت تنبيهه هذا.