من الشريف الحسين بن علي إلى السلطان محمد رشاد
تعلمون جلالتكم أن الحرب البلقانية قد انتهت على ما انتهت عليه، وأن الدولة الآن في حاجة إلى تجهيزات واستكمالات حربية لم تتم إلى الآن، وإنه في الدخول إلى جانب ألمانيا الخطر العظيم، حيث أسلحة الدولة كلها من ألمانيا وكذلك عتاد هذه الأسلحة، وإن المعامل بالطوبخانة العثمانية لا تكفي إمداد الجيوش بالعتاد اللازم، ولا تستطيع إمداد الجيوش بما يمكن أن تخسره من مدافع وأنواع الأسلحة الأخرى. عدا هذا فالأقطار المترامية إلى الجنوب من جسم الدولة، كالبصرة واليمن والحجاز، هذه البلاد المحاطة من كل ناحية بقوات مستعدة من الدول المعادية البحرية ستصبح في أحرج المواقف؛ وربما اتكلت الدولة في الدفاع على حمية أهلها، وهم ليسوا منظمين ولا مسلحين بالشكل الذي يستطيعون معه مقابلة جيوش أوربا المنظمة. وإنني أستحلف جلالتكم بالله ألَّا تدخلوا الحرب، وأن تعلموا بأنني أعتقد في كل من يرى الحرب إلى جانب الألمان عدم التمييز أو الخيانة الكبرى.
وقد وصل هذا الكتاب قبل إعلان الحرب. وفي شهر رمضان زار الوالي وهيب بك الأمير بالطائف، وقال له: أُمِرتُ ببرقيات، وردت إليَّ من وزارة الداخلية ووزارة الحربية، بأن أستطلع رأيكم السامي في إشهار الحرب على روسيا وإنكلترا. فقال: أنا لا أرى أن أجيب على هذا السؤال الشفوي بشيء، وإنني أنتظر هذا السؤال أن يرد إليَّ برقيًّا فيسجل ويسجل جوابه؛ ولكني أقول لك كجندي شريف إني لست بالخائن حتى أشير على الدولة بأن تدخل هذه الحرب التي لا ناقة لها فيها ولا جمل. ونحن محاطون هنا بالدول العظمى البحرية، وأنتم ستشغلكم جيوش روسيا وجيوش الإنكليز بمصر، مع أنكم غير متصلين بحليفتكم ألمانيا من البر، وصربيا معادية ورومانيا معادية. فقال بعد أن مس لحيته بيده — وكان ملتحيًا — هي ورقة زرقاء نريد أن نقذف بها على ميز الميسر فقال: عجيب أبالأمة تقامرون؟! ثم خرج.
وبعد أربع وعشرين ساعة وردت برقية من الصدر الأعظم وبرقية من وزير الحربية أنور، بالسؤال عينه. فأجابهم رحمه الله بأنه قد قدم رأيه ونصيحته إلى جلالة السلطان بعريضة خاصة مفصلة، وهو الآن ينصحهم بعدم دخول الحرب ضد روسيا وفرنسا وإنكلترا؛ ويقول إن هذا العمل هو خرق عظيم وخيانة للأمانة، وإن البلاد بأجمعها لا ترضى عن حرب ضد هذه الدول؛ وإنهم إن كانوا عزموا على هذا، فقبل نشوب الحرب يجب عليهم أن يزودوا الجيش الخامس باليمن بما يكفيه لثلاث سنوات وباحتياطي لما يطلب من مجاهدين، وكذلك العمل للفرقة العسكرية بعسير وكذلك بالحجاز. وإنه يجب الإسراع في هذه المدة بخزن المؤن في هذه الولايات لمدة لا تقل عن الخمس سنوات، وإن لم يفعلوا هذا فهم سيضعون هذه البلاد في أحرج مركز قد يفضي بهم إلى ما لا تحمد عقباه.
فجاءت برقيات جوابية بأن الدولة قد فكرت في كل شيء، وأنها تشكر سيادته السامية على نصائحه.
ثم توجه في أواخر ذي القعدة إلى مكة، وفي أول أيام التشريق وردت البرقيات بأن روسيا قد اعتدت على الحدود العثمانية في الأناضول، وأن الأسطول العثماني قد ضرب السواحل الروسية، وأن الحرب قد أشهرت ضد روسيا وحلفائها. وفي الحقيقة أن الاعتداء وقع من الجانب التركي بحرًا، وكان يقود الأسطول العثماني الأميرال سوخون الألماني في البارجتين (كوبان) و(بريسلاو) اللتين التحقتا بتركيا هدية لها من ألمانيا كي تدخل الحرب. وكان لا علم للسلطان ولا للصدر الأعظم ولا لأي شخص من الوزارة بذلك، سوى طلعت وأنور، وحتى جمال السفاح كان يميل إلى جانب فرنسا. وقد استقال يومئذ أربعة من الوزارة، منهم الفريق محمود باشا جوروك صولي وزير النافعة وثلاثة آخرون، كما استقال الصدر الأعظم سعيد حليم، ولكن استقالته لم تقبل.
هذه حقائق ما حدث حين ذاك. فدخلت الدولة في الحرب التي خرجت منها وهي محطمة. وتبع ذلك برقية من الشريف يلح فيها على إرسال النقود الكافية لليمن وعسير وللحجاز، فلم ينل أي رد.
ولم يحصل بعد ذلك من حكومة الاتحاد والترقي أي اهتمام بالولايات العربية، بل كان جل همهم حبس قسم من الجيوش الإنكليزية بمصر، والقسم الآخر بالعراق، لئلا تتفرغ هذه الجيوش إلى الحرب في الميدان الغربي، الذي هو أساس تدور فيه رحى الحرب، والمنتصر فيه هو الغالب.
ومضى الشتاء والأتراك في استعداد لحملة مصر، وقد ساقوا جيوشًا جمة إلى جبهة القوقاز، وأخلوا العراق من الجيوش النظامية، واعتمدوا هناك على عساكر الرديف. ولما نزلت الحملة الإنكليزية إلى البصرة لم تجد من يناوئها فسقطت البصرة. وأخذ الجيش الإنكليزي يتقدم نحو القرنة، والعرب في حيرة وقد شعروا بأن الجيش النظامي من أبناء العراق قد أخذ للدفاع عن الولايات التركية، وكانوا يرون أن لو بقوا في وطنهم للدفاع عنه. وجاء الصيف وطلع الأمير إلى الطائف كعادته، ونزلت الجيوش الإنكليزية تتلو الجيوش بالعراق. وكانت الحملة المصرية بقيادة أحمد جمال باشا، فخُذِلَ وقُهِرَ الجيش العثماني كما هو معلوم.