استسلام القائد التركي الفريق غالب باشا
إلى الشريف عبد الله بك نجل الشريف حسين باشا: لكي نثبت للغرب مزايا الشرق، أقترح عليك أن تسمح للقوى المحصورة بالسفر إلى المدينة المنورة بجميع أسلحتها وبمن معها من عائلات الضباط ومن يرغب السفر معهم من الجالية التركية، فإذا وافقتم على ذلك وهو المعلوم ننتظر الجواب كي نشعركم بوسائط النقل اللازمة وعدد الجمال.
إن هذا ليس بيدي، وإن الحالة الراهنة لا تكفل سلامة وصول هذه القوى المتراجعة إلى المدينة، وإن من خيركم أن تستسلموا جميعًا ثم ترحل إلى المكان المناسب.
إلى قائد الجيوش العربية الشرقية الشريف عبد الله بن الحسين، إنه بالرغم من كثرة العتاد والذخيرة رأيت لزوم حقن الدماء، ولذلك أرجو قبول هيئة منا لتتذاكر معكم في معاملة التسليم والتسلم وفق حقوق الحرب الدولية، أو تتكرمون بإرسال هيئة منكم إلينا.
- (١)
يخرج الوالي والقائد والأمراء العسكريون حتى رتبة بكباشي في هذه الليلة إلى قصر شبرا.
- (٢)
الطوابير تُترك تحت قيادة الرؤساء اليوزباشية والملازمين الأولين والملازمين الثانين.
- (٣)
تتراجع هذه الطوابير في منتصف الليل إلى الثكنة الكبرى وتترك على الأبواب بعض الغفراء، وفي تلك الساعة تتقدم القوات الراكبة العربية، بقيادة الشرفاء فهد بن شاكر وسلطان بن راجح والشريف حسين الجودي، لتحتل الأبواب وتؤمن السلام والأمن العام.
- (٤)
مع الفجر يتقدم القائد سعيد بك ومعه مَن كان معه، ممن ذكرت أسماؤهم في مذاكرة التسليم، ليضعوا أيديهم على الأسلحة والمدافع الموجودة فتوضع في مخازنها وتمهر بالشمع الأحمر.
- (٥)
تتكفل القيادة العربية بالإعاشة والتموين.
- (٦)
تصرف للهيئة المستسلمة معاشات ثلاثة أشهر.
- (٧)
تنتظر الأوامر بالتوجه حالًا إلى الجهة المقتضية.
وقد تم كل هذا بهدوء وسلام، بعد أن أرخصنا للكثير من العشائر ليعودوا بعد مدة.
وفي اليوم الثاني جرى رسميًّا إنزال العلم العثماني عن القلعة، ورُفع العلم العربي، بالتحية الرسمية لكلا العلمين. وكان منظرًا مؤثرًا، فإن العلم السابق كان العلم بالأمس، والعلم اللاحق هو العلم اليوم؛ والأمس أمسنا واليوم يومنا، ولكن الذنب على من سعى لترك الصبغة الإسلامية الشرقية والهروع إلى الحظيرة الغربية الإفرنجية. ومع الأسف فإن هذه الحركة الانفصالية لم تحل بيننا وبين الواقع فيما كنا نخشاه، فقد وقع ما هو أضر؛ أما الترك فعملوا ما شاءوا، ولكنهم أتراك في كل شيء، وأما نحن فقد أصبحنا أشكالًا متعددة ونزعات متفاوتة لنا من كل قوم متبوع، وفي كل بيت ألف لسان.
ونعود إلى ذكر سقوط الطائف، فإنا بعد إتمام معاهدة التسليم والتسلم وفق الشروط الدولية، رحَّلنا القائد والوالي والجنود إلى مكة المكرمة، مرفهين غير منقوص لهم أي شيء، وقد صرفت لهم مرتبات ثلاثة أشهر.
أما أول ملاقاتي للوالي غالب باشا فإنها كانت غريبة، حيث إنني ما أحببت لقاءه أول ليلة لصداع شديد ألمَّ بي، فبقيت بالمليساء وبعثت سماحة الشيخ عبد الله سراج مفتي مكة المكرمة والشريف شرف بن راجح إليه. فلما أنه لم يجدني ارتبك وظهرت عليه علامات القلق، فأرسل إليَّ الشيخ عبد الله يرجوني القدوم، فأتيت ولما رآني استبشر وضحك، فجلسنا في البهو الكبير بقصر شبرا ومعه خمسة وسبعون ضابطًا، من رتبة قائد إلى رتبة زعيم، إلا هو فرتبته كانت رتبة فريق.
وبعد صمت استمر ثلاث دقائق أو أكثر، قال لي: هذه فاجعة، بعد أن كنا إخوانا أصبحنا أعداء! وقد شعرت أنه قد زال عني بعض شعور الاستحياء منه والتكريم له، فقلت: نعم لكي يعود السيد لسيادته ويتحرر من رق مَن أخرجهم من الظلمات إلى النور، والشر بالشر والبادي أظلم. فاصفرَّ لونه ثم قال: إنني كنت واثقًا من أن الأمة العربية ستنفصل يومًا ما عنَّا، ولكن ما كنت أؤمل أن يكون الانفصال على هذا الشكل وبهذه السرعة. فقلت له: صدقت، لقد أسرعنا، ومن منفعتنا الإسراع، أما الشكل فلا دخل له ولو أنكم أبقيتم سلطة الخلافة المطلقة لما تغيرنا عليكم، ولكن إرادتكم المشروطة هذه التي أحببتم بها السيطرة على السلطان وعلى الأمة معًا هي السبب الأول في الإسراع. ولِمَ هذا البحث الآن تفضلوا تناولوا شيئًا من الفاكهة فقد طال عليكم الحصر وحُرِمتُم الكثير منها. وأخذتهم إلى غرفة الطعام حيث كانت أُعِدَّت لهم تعتيمة فاخرة، فيها أنواع أطعمة الليل الشهية: العنب والدراق والكمثرى والرمان، وتركتهم معتذرًا بصداعي إلى غرفتي.
وتوجه هو صباح الغد إلى مكة، ولما وصل جدة بعث إليّ بسيفه لئلا يأخذه أي ضابط أجنبي، وكانت هذه منهم معاملة جد نبيلة.
ثم توجهتُ إلى مكة، بعد أن نظمت الأحوال في الطائف وبقي به الشريف حسين الجودي وكيلًا عن الشريف شرف. ثم أمر سيدنا المرحوم أن يتوكل إمارة الطائف الشريف حمود بن زيد بن فواز. ووجدت بمكة السادة أهل الشام ولبنان: الشيخ كامل القصاب، والشيخ فؤاد الخطيب صاحب القصيدة المعروفة «حيِّ الشريف وحيِّ البيت والعلما»، والسيد محب الدين الخطيب، والسيد نسيب البكري وإخوانه. أما نوري باشا السعيد وسائر الضباط فقد التحقوا بمعسكر رابغ الذي كان يقوده الأخ علي (جلالة الملك علي)، والبعض الآخر التحق بمعسكر ينبع البحر الذي كان يقوده الأخ الأمير فيصل (جلالة الملك فيصل) ومعه الأخ زيد حفظه الله.
وكانت وضعية الجيش للثورة في غاية الحروجة والخطورة، حيث إن فخر الدين باشا قائد القوى السفرية التركية قد دفع بالأميرين فيصل وزيد إلى ينبع البحر، بعد أن هزم الصغير وهو زيد ببئر سعيد، وهزم الآخر وهو المرحوم الملك فيصل في وادي ينبع النخل ودفع بالأمير علي إلى رابغ، وأرسل الشيخ حسين بن مبيريك شيخ رابغ الذي خان الثورة إلى بلدة حجر، فأصبحت الطريق من بئر قيظي أسفل سطح الغاير إلى خليص فعسفان فمكة المكرمة مفتوحة له.
وكان الأمير فيصل يشكو جدًّا من تأثيرات الطيارات الألمانية في العربان، وفي ذلك الوقت كان الشريف علي حيدر باشا بن جابر بن سيدنا الشريف عبد المطلب بن غالب بالمدينة المنورة منصوبًا أميرًا على مكة من طرف السلطان محمد رشاد، وقد ركب إليه واستأمن الكثير من شيوخ حرب وجهينة المجاورين للمدينة المنورة. وكان يقول الملك فيصل: إن لم نمد بطائرات تقابل ما مع الأتراك وإلا فلا يبقى من العربان أحد في ناحيتنا وتحت أيدينا. وكان القلق ظاهرًا في برقياته وتقاريره. أما الأمير علي فكان برابغ وكان معه الضباط العرب والجنود العرب الذين تمرنوا على الأصول العسكرية الجديدة وحاربوا وأسروا ثم نقلوا إلى المعسكرات الإنكليزية وطلبوا الالتحاق بالثورة العربية. وجاء الكثير منهم فتكونت في رابغ قوة نظامية لا بأس بها، وبها الصنوف الثلاثة المهمة العسكرية: مشاة ومدفعية ورشاشات، كما كان فيها مهندسون وقسم استحكامات، لا ينقص ذلك إلا الخيالة النظامية. وما لدى البلاد من القوات الراكبة العربية كانت كافية لهذه المهمة. أما عدد هذه المجموعة فبين الثلاثة آلاف والخمسمائة والأربعة ألاف، غير القسم الذي بينبع فكانت القوتان كالشوكتين إلى يمين أي قوة تريد النزول إلى مكة المكرمة، وإنه إذا صمم فخر الدين باشا على الإقدام على مكة المكرمة كان من واجبه إفراز قسم مهم من قواته لحصر هاتين المدينتين والنزول بالأقسام الباقية إلى مكة، وفي هذا من الصعاب ما لا يجهله أحد.