مع ستورس ولورنس في جدة
ولقد أمرني جلالة الوالد بأن أسافر حالًا بما بقي من القوات التي كنت أحصر بها الطائف — وكان قد حضر إلى جدة المستر ستورس الكاتب الشرقي في دار الحماية بمصر والكابتن لورنس — لمقابلة جلالته والتشرف بتلقي أوامره. وحيث إنه لم يكن هناك ما يقتضي تشريف جلالته إلى جدة، أمرني بأن أذهب قبل السفر للاجتماع بهؤلاء الذوات وبتقديم الطلبات العسكرية التي هيأها رئيس أركان الحرب عزيز بك علي المصري. فاسترحمت من جلالته أن يقبل بنظرياتي في السفر أولًا إلى مصر، لتنظيم المخابرات والكتب الواردة من السير هنري ماكمهون إلى شكل عهد قائم، ثم بعد عودتي — إذا وافق على سفري — يكون توجهي من الناحية الشرقية إلى الحناكية، وهو موقع مهم شرقي المدينة المنورة بشمال، ثم العبور مما وراء الخط الحجازي إلى وادي العيص، ونقل الثورة مما بين الحرمين إلى ما بين المدينة والشام؛ فوافق رحمه الله.
ثم كتبت للمرحومين علي وفيصل بأنه لا خوف من تقدم فخر الدين باشا إلى مكة ما دام أن قواتهما سليمة، فإنه يخشى أن تقطع هاتان القوتان الطريق بينه وبين المدينة، وقلت: إنني متوجه عن الطريق الشرقي وإن هذه الخطة أنكى للعدو وأوفق للثورة حيث تضم إليها عناصر العشائر الشرقية كلها.
ثم توجهت إلى جدة لمقابلة الذوات الإنكليز المومى إليهم، وخيمت بين الكندرة والسبيل، فزاروني ومعهم قائم مقام جدة الشيخ عبد الله شيبي ورئيس البلدية الشيخ سليمان قابل، فأجري لهم الإكرام اللازم. ثم زارني في اليوم نفسه الكولونيل بريمون رئيس البعثة العسكرية الفرنسية ومعه الكولونيل قاضي وهو من مسلمي الجزائر، وقد وصل إلى هذه الرتبة وهذا شيء عظيم لكونه من المسلمين وليس لهم أن يجتازوا هذه الرتبة. وفي الصباح التالي زرت البريطانيين بدار المعتمد البريطاني بجدة وكان الكولونيل ولسن (اللواء ولسن باشا) وكان معي عزيز علي بك المصري وكان الذي يترجم لهم ترجمان دار الاعتماد حسين روحي أفندي.
فلما جلسنا واسقر بنا المكان قال ستورس: لقد حضرت أنا ورفيقي الكابتن لورنس لنقوم لأقصى ما يمكن من الخدمات فرحين فخورين، ولكن لسوء الحظ تلقينا هذه البرقية البارحة وكانت لنا منها صدمة شديدة، وقد ترجمت إلى العربية وستقرأ على سموك الآن؛ فإذا تكرمت وأصغيت إليها علمت مقدار جزعنا لسببها. فقلت: تفضلوا اتلوها. وكانت برقية مطولة خلاصتها أن أخبار النهضة العربية لم تقابل في الهند إلا بالسخط، وأن وكلاء الألمان والأتراك اتخذوها وسيلة وزعموا أن الحلفاء احتلوا البلاد الإسلامية المقدسة. ولذلك ولأن الحكومة لا تستطيع إيجاد متاعب لها في الهند فهي قررت أن تسحب كل البعثات المرسلة من لدنها من المسلمين، وكذلك سترجع البعثات العسكرية الفرنسية، وستداوم الحكومة على تقديم المساعدات الأخرى من أسلحة وعتاد ونقود، وترى هي أيضًا أن نهوض العرب بأنفسهم وبدون مساعدة قوات أجنبية هو خير لمستقبلهم.
كانت هذه البرقية صدمة شديدة لي ولعزيز علي بك، فقد كنا في حاجة إلى قوات من طيارات ومدفعية ورشاشات ومهندسين لا يحسن القيام بها إلا مَن سبق له أن تمرن عليها، وهذا ليس بالموجود عندنا. فقلت: أرجوكم أن تتلوها مرة أخرى لأنني أحب أن أتفهمها بزيادة. وكانت فرصة للتفكير، وقررت قراري. ولما انتهى قلت: فهمت ما تقولون تمامًا. وقمت مودعًا فبهتوا وودعوني بكل احترام والارتباك ظاهر عليهم.
فيممت دار الكولونيل بريمون، فاستقبلني من الباب. وهو رجل إلى الطول أقرب، عريض الصدر طويل اللحية أشيبها. وبعد أن جلست قال لي: ما هذا؟! إن الأتراك قد وصلوا إلى بير قاظي! فقلت أنا: بل ما هذا؟! فإن دار الاعتماد البريطاني والموفدين البريطانيين أخبروني الآن بقرارهم على أن يسحبوا بعثاتهم العسكرية بما فيهم أنتم، وأنهم سيساعدون النهضة فقط بالأسلحة والعتاد والنقد؛ وأنا في حاجة إلى طائرات ومدفعية وغير هذا مما لا يتقنه الجنود العرب اليوم. فقال لم يبلغني ذلك وإن الأمر لخطير، فماذا أنتم فاعلون؟ قلت لا شيء غير الصلح، فإن الأتراك عرضوا علينا قبولهم ما نطلبه بكفالة إمبراطور ألمانيا، وإنني سأعود الآن وستستقيل الحكومة التي أنا وزير خارجيتها وتأتي حكومة أخرى من الحزب الجانح للصلح فننتهي على خير وقد نلنا ما أردناه، وليس علينا من حلفائنا في هذا أي لوم لأنهم يعرفون ما طلبناه وما قبلوه. فتغير لونه. وبعد أن شربنا القهوة خرجت إلى المخيم.
وبعد وصولي المخيم بنصف ساعة تقريبًا جاءني قائد الجندرمة ومعه مذكرة من المعتمد البريطاني يقول فيها إنه هو والسير رونالد ستورس والكابتن لورنس يحبون أن يتناولوا الشاي في المخيم في الساعة الرابعة، فأجبته بالقبول. وقد حضروا في الوقت المناسب وقالوا لي: ماذا قلت سموك للكولونيل بريمون؟ فقلت: الذي سمعتموه منه، فإني بعد تبليغكم قرار حكومتكم لي، صممت على العودة لعرض الأمر على ولي الأمر وشرحه بتمامه، ثم الاستعفاء أنا والحكومة، لتأتي الحكومة من الحزب المائل للصلح مع تركيا فتقبل ما عرضه الأتراك علينا من قبول ما نريد للعرب بكفالة الإمبراطور الألماني ونتخلص من مشاق الحرب، ولا لوم علينا في هذا. فقالوا: ولِمَ؟ قلت: للوصول للغاية بعد اعتذاركم. فقالوا: إنك لم تبقَ عندنا حتى نعرض عليك ما كتبناه للحكومة، وإننا ننتظر إيقافنا على ما تريدونه من مطالب، فقلت: بعد تصميمكم على سحب بعثاتكم تقولون إنكم كتبتم؟ وماذا تعني كتابتكم؟ فألحوا عليَّ إلحاحًا شديدًا في تغيير رأيي، فقلت: لا أحيد عن رأيي قيد شعرة ولكن سأتأخر في الطريق اثنتي عشرة ساعة، فإن سبقتني الموافقة على ما تتطلبه الحالة الراهنة من إبقاء البعثات وإرسال الطيارات التي يطلبها الأمير فيصل فسأستمر على ما نحن عليه الآن، فرضوا وخرجوا بعد أن تناولوا الشاي.
وسافرت إلى مكة عن طريق بريمان والفج، تاركًا على يميني جبلي ظاف ومكسر، وقضيت الليلة بقرب منازل لحيان؛ وكانت ليلة جميلة ضيفتنا فيها العشيرة خير ضيافة. ثم استأنفنا السير صباحًا، وسلكنا طريقًا تنخرط بنا على الحميمة وبها أقلنا، ثم روحنا بعد الظهر فأصبحنا أمام مكة المكرمة ودخلناها من طريق الحجون لا من طريق أجياد. وعند دخولنا البلد الأمين، واذا بجاد يقول «يا شاري العبد المليك، عبد يجمل من شراه» وإذا به الشيخ فاجر بن شليويح، وجاء على وعد مني للسفر إلى الجبهة.
فدخلت مكة وتشرفت بالمثول بين يدي المنقذ، فبادرني بقوله: لقد نجحت يا عبد الله في عملك، فقد وردتني برقية من المعتمد البريطاني يقول فيها «إن جميع مطالب الجبهات سوف تأتي بدون أي تأخير». فعلمت أن السهم قد أصاب وأن القوم قد فضلوا دوام الثورة العربية على الصلح الذي زعمتُ أنه ممكن؛ ولم أعرض لجلالته أي شيء عن الموضوع، غير أني علمت بعد ذلك أن عزيز علي قد عرض عليه الأمر.