إعلان استقلال البلاد العربية ومبايعة الحسين بن علي ملكًا على العرب
ثم تذكرت أنه لا بد من إعلان استقلال البلاد العربية بأجمعها والبيعة لجلالته ملكًا على العرب، لأن الترك في ذلك الحين كانوا ينظرون إلينا كعصاة خارجين، وأعداؤهم ينظرون إلينا كثوار لا أقل ولا أكثر؛ وفي هذا ما فيه من الخطر على مستقبل الأمة. فذاكرت زملائي الوزراء — ما عدا الأميرين علي وفيصل فإنهما كانا في الجبهة — ذاكرت الشيخ عبدالله سراج قاضي القضاة ونائب رئيس الوزراء، والشيخ يوسف قطان وزير الأمور النافعة، وحافظ محمد أمين أفندي ناظر الأوقاف، وعزيز بك علي المصري رئيس أركان الجيش العربي، وعلماء مكة مفتيها ومَن حضر من رجالات الشام والعراق الذين منهم الشيخ كامل القصاب والسيد محب الدين الخطيب وآل البكري والشيخ فؤاد الخطيب — وكان معاونًا للخارجية — وآل الداعوق وحضرات الضباط العراقيين … فعرضت عليهم الأمر فوافقوني على ذلك وألحوا في سرعة التنفيذ.
فدخلت وعرضت الأمر على جلالته فرفض بشدة وقال: أنا لا أعمل للملك ولا أقبل هذا الأمر الذي تعرضونه عليَّ. فتقدمت ولثمت ركبته وقلت: هذه العريضة مقدمة من عظماء الحجاز ومن حضر من سائر بلاد العرب وهم يرجون قبول عرضهم. فقال ليس عندي سوى ما قلته لك. فقلت: لسنا جميعًا على استعداد لخدمة الثورة إلا على شرط قبول ما عرضناه، فاعمل ما تشاء مع سوانا. فقال: هل بلغت بكم الحال إلى هذه الدرجة؟ فقلت نعم. ففال: قف، فوقفت، ثم أمر بحضورهم جميعًا. فلما جاءوا قال: أصحيح ما يقول هذا؟ قالوا لا يجرؤ أحد على أن يعرض على سيدنا ما لا صحة له. قال: هل عزمتم على ترك الدوام على الثورة إن لم أقبل أنا ما عرضتموه؟ قالوا: نعم، سننسحب كلنا. فقال: افعلوا ما شئتم والتبعة عليكم، أنا أقبل ما عرضتموه منفذًا لرغبتكم لا موافقًا عليها. قالوا: إذن وفقك الله، وستكون البيعة يوم الاثنين أول محرم سنة ١٣٣٥ في المسجد الحرام، فقال: على بركة الله.
فكانت البيعة كما ذكرت وهي بيعة عامة، وقف الناس يبايعونه من ضحوة النهار إلى أن أذن المؤذن الظهر، أربع ساعات تامة. وبعد أن عاد إلى القصر الملكي ودخل الحجرة الخاصة، تقدمت مهنئًا فقلت: هذه البيعة العلنية، أما البيعة السرية فكانت والأتراك في البلاد، وأخذتها من أحد عشر ألف رجل بمكة، كلهم بايعني على أن أختار لهم ملكًا هاشميًّا يسير بهم على ما أمر الله ورسوله، وكانت بإذن جلالتك. فقال: تذكرت تذكرت، فقلت: وأنا الآن ذكرت أبا مسلم الخراساني، ولكن أرجو الله ألَّا تكون عاقبتك عاقبته. فقال: خسئ الأعجمي. ثم أبرقت بصفتي وزيرًا للخارجية لكل وزراء الخارجية من دول الحلفاء والدول المحايدة، واستمر العمل ذلك اليوم من بعد الظهر إلى ما بعد نصف الليل. وكان يعمل معي الشيخ فؤاد الخطيب عمل المخلص المتفاني ولا نكران لذلك.
وفي اليوم الثاني طلب إليَّ المعتمد البريطاني الكولونيل ولسن والمعتمد الفرنسي الكولونيل بريمون المكالمة، فظننت أنهما سيهنئانني على ما وقع؛ وإذا بهما على عكس ذلك يقولان: لِم فعلتم هذا الأمر قبل الرجوع إلى رأي حلفائكم؟ فقلت: عجيب ما تقولانه، إننا نقاتل بسيوفنا في سبيل الله وإعلاء كلمته وإرجاع حقنا القومي إلى نصابه؛ فمن ساعدنا وأيدنا فهو صديقنا، ومن نكص عنَّا وأحب أن يفت في عزائمنا فهو لا يريد بنا الخير؛ ونحن لا نسفك الدماء إلا في حقها وحلها، فإذا رأيتم أننا على خطأ فأنتم تضمرون لنا غير ما تعلنون. وإنني لأنتظر رد حكوماتكم، لا ردودكم الشخصية، وأنا أعتقد أن الترك وحلفاءهم اليوم سيقرون ما فعلناه ويقبلون الصلح وهذا أمر نحبه. فقالوا: تشك سموك في إخلاصنا؟ قلت: لا، ولكن نحن أعلم بما ينبغي لنا أن نفعله من أجل أنفسنا.
وفي اليوم الثاني جاءني الرد من المستر ستورمر وزير خارجية روسيا القيصرية، وقد اعترف باستقلال البلاد العربية وبملكية صاحب الجلالة الهاشمية الحسين بن علي ملكًا على الأمة العربية، مقدمًا تحيات جلالة القيصر نيقولا الثاني إلى جلالته وتحياته هو إليَّ وإلى الحكومة. فبلغت هذه البرقية إلى دول الحلفاء قراءة. فقال لي الكولونيل ولسن: أتعد هذا اعترافًا منه يا سمو الأمير؟ فقلت: وكيف يكون الاعتراف إذن؟ فقالا: تكرم إذن بقبول تهانيَّ الشخصية على أن أقدم التهاني الرسمية بعد تلقي الاعتراف من حكومتي.
وبعد هذا أخذت في ترتيب السفر، وقُلدت قيادة الجيش الشرقي العربي مرة أخرى، وعماد هذا الجيش فئتان من الهجانة المدربين والشوكة الهاشمية، وفئة الخيالة معها بطارية جبلية ثم عشائر عتيبة وعشائر مطير وعشائر حرب وعشائر هتيم. ثم عند الوصول إلى بلاد جهينة وبعد إتمام التجهيزات توجهنا في عشرين من شهر صفر الخير، ونزلنا وادي الليمون، وكانت قوات الأميرين في رابغ وينبع تحت ضغط شديد من فخر الدين باشا. وكاد الشيخ حسين بن مبيريك شيخ رابغ قد التحق بالقوى التركية وقام ببعض عشائره في حجر — موضع بأرض وعرة شرقي رابغ وعلى طريق خلص فعسفان — وبهذا كانت الطريق مفتوحة لقوات فخر الدين باشا بدون أي معارض.
فأسرعنا المسير، ولما وصلنا إلى البركة — منزل للحاج في الطريق الشرقي — تلقيت أمرًا من القائد العام الأمير علي بن الحسين (جلالة الملك علي) يخبرني به أن الأمير فيصل في مضايقة شديدة بينبع، وأنه هو بذاته ينتظر كل آن هجوم فخري باشا عليه أو مروره على طريق خلص إلى مكة؛ ولهذا يشير آمرًا إياي بالرجوع إلى مكة ومنها يأمرني أن أغذ السير إلى عسفان لتشكيل جبهة جديدة تدافع عن مكة؛ ويقول إن لم أفعل هذا فربما قطعت عليَّ خط الرجعة، فيضمحل الجيش بدون أي خدمة.
ولما كنت أعلم جيدًا أن في تنفيذ هذا الأمر انفراط أمر العشائر، عزمت على الآتي: فبعثت الشريف فوزان الحارث بألف وخمسمئة هجان مردوفة، وأمرته بألَّا يصبح إلا وهو قد احتل حجر واستأصل حسين بن مبيريك. وبعث بجوابي لجلالة الملك علي الذي يحمله إلى رابغ ويخبره بأن لا حجر ولا ابن مبيريك بيد الترك وينتظره هناك. وبعثت الشريف عبد الله بن ثواب الحارثي بمثل تلك القوة إلى المدينة المنورة وأمرته بأن يشن الغارة على مخافر الترك بجبل وعيرة وجبل أُحد، وأن يوقد نيرانًا كثيرة بالجبال والمرتفعات ويكثر الصياح، وأن يأسر كل محتطب أو ذا حاجة أو تاجر من تجار نجد ممن يخرج من المدينة أو يدخل إليها، وأن يطلق سراح الراجعين إلى المدينة بعد أن يتحقق من هوياتهم، وأن يزودهم بكتب إلى العشائر بغربي المدينة ممن التحق بالأتراك والشريف حيدر ويهددهم بالصياح إذا هم لم يتراجعوا إلى الأميرين بينبع ورابغ ويقول إنه في مقدمة الجيش الشرقي وقد نفَّذ ما عليه، كأن حجر قد احتلت في الوقت المعين.
وتوجهت أنا بالقوة الأصلية إلى ناحية الحناكية — موقع معروف شمال المدينة المنورة بشرق — فأقمت بها ثلاثة أيام والتحقت بي هنالك كل عشائر هتيم وحرب. وكانت القوى عشرين ألف راكب، فتوجهت بها نحو الغرب لأعبر السكة الحجازية ما بين محطتي أبا النعم وهدية. وفي طريقنا بالحرة كدت أقع أسيرًا بيد الأتراك لولا عناية الله؟ وهو أنني تقدمت ومعي هجانان لشدة الحر يومئذ وللتخلص من وعورة الحرة، وإذا بقاع صحصح فيه دوحة عظيمة إلى جنبه غدير أفيح، فأنخت وأمرت بشيء من القهوة في انتظار قدوم العيون — عيون القوة — فكان كل من رآني هناك ينيخ، وأخيرًا ولتأخر القوة وحملتها قررتُ أن تكون هذه الدوحة منزلة الظهيرة. وكان عندي حينذاك الشريف شاكر بن زيد وخالد بن لؤي والشيخ ناهس الذويبي شيخ مشائخ حرب.
وبينما أنا جالس معهم دخل رئيس عشيرة ولد، محمد رجا بن خلوي، وأشار إليَّ بأنه يريد محادثتي فقمت إليه، فأشار إلى تل لا يبعد عنا بأكثر من خمسمئة متر وقال: هل ترى هذا التل؟ قلت: أراه. قال: إن به قوة تركية. قلت: كيف؟ قال: اسمع من هذا الغلام. وإذا بغلام يفع تتَّقد عيناه يقول لي: يا سيدي عان الترك عانهم انظر إلى الترك انظر إليهم! قلت: كيف؟ قال: «إنني وأخي زمالان للشيخ رجا بن خلوي، ذهبنا في مقدمة القوم نحتش حشيشًا فألقى الترك القبض عليَّ أنا وأخي، وقال كبيرهم لنا من أنتما ومن هؤلاء القوم؟ فقلت أنا مبادرًا: هؤلاء هتيم وشيخهم سمران بن سمرة ونحن منهم قد بلغه أن الشريف عبد الله نزل الحناكية فرحل عن طريقه لاجئًا إلى خيبر. فقال: لا تكذب، فقلت: ولِمَ الكذب أطلقني إن أردت واحتبس أخي وأنا آتيك بسمران بن سمرة؛ فاحتبس أخي وأطلقني. ولكن عان يا سيدي الترك عانهم»! فقلت: هل رأيت كثرتهم؟ قال: هم كثير ولكن نحن أكثر، ابعث بي أدل القوم.
فانتحيت ناحية وقسمت الخيل إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوسط مع قائدهم الشيخ هوصان بن عفار، والأيمنين على أخيه الشيخ راقي بن عفار، والأيسرين على الشيخ عبد الله بن مسفر، وأمرتهم أن يحيطوا بهذه القوة وأن يوغلوا إلى ما وراءها حتى يقفوا على حقيقة الحال: هل لهؤلاء من مدد أو قوة كاملة؟!
فتوجهت الخيل، ثم بعثتُ بمشاة العشائر من اليمين بقيادة الشريف خالد بن منصور، وبعشائر هذيل بقيادة الشريف فائز الحارث، وبعثت بعشائر ثقيف وابن الحارث وهذيل الشام بقيادة الشريف شاكر بن زيد من الميسرة فتبعوا الخيل؛ ولم تمض إلا دقائق حتى كان الاشتباك الشديد، وإذا برشاشاتهم تلعلع ومتفجراتهم ترعد فينعكس صوتها بين حلي الحرة وهضابها، فلم يقف إنسان بمحله بل حملوا حملة صادقة فأبادوا القوة التركية بأجمعها، وأتوا بقائدها الأميرالآي أشرف بك وأتوا بالمدافع وبالرشاشات وبغنائم لا تحصى وبهدايا إلى الأمير ابن رشيد وإلى الأمير ابن سعود وإلى إمام اليمن، ومن جملة الغنائم ثمانية وثلاثون ألف جنيه ذهبًا عثمانيًّا ومن الأطعمة المجففة وسائر البسكوتات فأغنانا أيامًا عن الزاد ولقد كنا في حاجة شديدة حتى إلى الملح.
فسرنا، ولم نُقِم، لنعبر السكة قبل أن تأتي قوة تركية تمنع العبور ونحن في مفازة قتالة. ثم احتلت قواتنا ما بين هدية وأبا النعم، الخط إلى آبار أبا الحلو غربي السكة، واستمر العبور أربع ساعات ونصف على ثمانية خطوط. ثم اقتلعت أعمدة البرق وانتزعت قضبان السكة. وقد كتب أشرف بك مصيره في تقرير غُلِّفَ ووضع على قضبان البرق. وكتبت أنا كتابًا إلى فخر الدين باشا أقول له بأنا أسفنا على ما وقع على أشرف بك وحملته وعجبنا من بعثكم هذه القوة بهذه الأموال في بلاد ثائرة، وقلت إن الثورة قد انتقلت إلى ما بين الشام والمدينة.
وعليه فقد تراجع حالًا هو من ينبع النخل ومن وادي الصفراء ومن بئر سعيد إلى بير درويش؛ وهذا جناحه الأيمن الذي كان يعمل ضد الأمير فيصل رجع من بير قاظي وسطح الغاير ومن برام وعبود إلى غدير مجز ومجزان إلى آبار علي، وهذا جناحه الأيسر الذي كان يعمل ضد الأمير علي تراجع أيضًا، وتقدمت فنزلت بوادي العيص بربيعان، وكَرَرتُ على الخط الحديدي أهاجمه ليل نهار، فتحررت قوة الملك فيصل واتجهت عن طريق الساحل إلى الوجه، وقد كان بيد الأتراك. وكان قائمقام القضاء في الوجه صديقنا العزيز عبد السلام بك كمال أحد أفراد دار كمال المعروفين بالقدس، وكان عثماني المذهب شديد التمسك بالترك، وهي مزية يشكر عليها لاعتقاده بأنها واجبة عليه. وكان معه — كقائد للمقاطعة — الأميرالآي أحمد بك على القوة النظامية العثمانية، وكانت مركبة من مدفعية ساحلية وبطارية جبل وطابور أفراده ألف ومئتا جندي غير الجندرمة. وقد كان بالوجه هجانة من عقيل أهل نجد مركبة من ثمانمئة هجان.
ولدى نزولي بوادي العيص كتبت إلى هؤلاء العرب أنصحهم بالانضمام إلى الثورة العربية قبل أن ينالهم التنكيل، فوردت أجوبتهم بالموافقة. وبعد أن استلموا معاشاتهم تركوا الأسلحة حيث هي وخرجوا ثم التحقوا بالثورة كأفراد وإن هذه المزية أيضًا يشكرون عليها.
ولقد تقدم الملك فيصل من الساحل فاستولى على (أملج). ثم ضرب الأسطول البريطاني الوجه. وعند وصول أوائل قوى الملك فيصل، تراجع القائم مقام والأميرالآي بقواتهما إلى العلا، ودخل جيش الملك فيصل الوجه بدون مقاومة تذكر. ثم كتبت إلى عشائر عنزة وعلى رأسها الشيخ فرحان الأيدي والشيخ شهاب الفقير. أما ابن رفادة، شيخ الوجه وأحد رؤساء بلي، فقد فر والتحق بأحمد جمال باشا في الشمال.
من عبد الله بن الحسين بن علي إلى الشيخ فرحان الأيدي والي الشيخ شهاب الفقير
أما بعد فقد بلغكم عبورنا خط السكة الحجازية بعد أن ظفرنا بأشرف بك في الجنبلة بالحرة ونزلنا بالمربع بوادي العيص. وكتابنا هذا كتاب دعوة لكم للالتحاق بالثورة العربية الحقة في مهلة لا تزداد على العشرة الأيام، تقدموا البت قبل مضيها مقدمين الطاعة مع البرهان بأن تهاجموا خط السكة وتأتوا بأسرى وغنائم. فإن لم تفعلوا ومضت المدة فلا لوم علينا إن نحن استعنَّا بالله عليكم وصبحناكم. وقد أفلح من اتقى.
فجاء خلال المدة الشيخ فرحان الأيدي سامعًا مطيعًا، بعد أن هجم على محطة من محطات سكة الحديد تسمى (البغلة) وظفر بمن فيها، وجاء معه مدفعان جبليان اغتنمهما منهم، فوُظف قائدًا في أراضي عنزة من الجهينة إلى حدود الفقير. وأما شهاب الفقير فكان غائبًا عند وصول كتابنا، ولكن حضر أخوه الشيخ متعب الفقير بالنيابة عنه سامعًا مطيعًا، وقد وعد بأن الحركات ستبتدئ في جبهة الفقرة أيضًا عند وصول الشيخ شهاب من الشام. فلم أقبل منه ذلك وقلت: الوعد المدة ولا على شهاب بأس ما دام أنه لدى الأتراك، وأنتم لا لوم عليكم بعد التهديد. وبينما هو يتجهز للرجوع وإذا بخبر ورود شهاب إلى عشيرته يأتي وأنه قد سمع وأطاع وباشر في الحركات. وهكذا ابتدأ الجيش الشرقي يعمل وقد لفت إليه الأنظار، وكان لأَسر أشرف بك خبر ابتهاج عظيم في مكة، وفي المعسكرات العربية برابغ وينبع ولدى المحافل البريطانية، لشهرة أشرف هذا وعصابته ولكونه هو الذي صبح فرقة البرنس موريس البلغاري أثناء حرب البلقان وأوقع فيها وشتتها.
ثم إننا قطعنا الخط الحديدي بين محطة أبا النعم وهدية، وهيأنا القوة الكافية للكُمون بطرف بئر عروة بالمدينة المنورة في أيام الجمعة، لاختطاف الأمير الشريف حيدر الذي يتنزه هناك بعد ظهر كل جمعة. وقد وصلت تلك القوة بالفعل إلى مكمنها، ولكن الشريف كان قد أُخرج من المدينة إلى لبنان خوفًا من وقوعه في الأسر إذا حوصرت المدينة. وكان رحمه الله يخدم القضية العربية بأن يقول لكل شيخ جاءه: اذهبوا وسأقابلكم بمكة متى وصلتم. وقد أسَرَّ لمن يثق به منهم بأن أعينوا أمراءكم فإن حصل أي فشل فإنني سأجتهد للتخفيف عنكم. رحمه الله.
وهكذا فإن الحركة العربية قد صادفت نجاحًا عند اختياري سلوك الطريق الشرقية، وقد تتامت أسباب حصار المدينة بعد ذلك رويدًا رويدًا. وقد تحركت القوى الأصلية الهاشمية من رابغ يقودها جلالة الملك علي وأمراؤها من النظاميين: نوري باشا السعيد وعلي جودت بك الأيوبي وحامد باشا الوادي وإبراهيم بك الراوي؛ وأما العشائر فحرب وبنو سعد وسليم وهذيل والأشراف، وقد قصدوا قوى الترك الأصلية ببئر درويش وبمجز ومجزان. وكان سمو الأمير زيد يقود الجناح الأيمن. واستمر القتال بين القوتين ثلاثة أيام ظفر فيها الجيش العربي الهاشمي ببئر درويش وبمجز ومجزان، وتراجع فخري باشا إلى الجفر وإلى آبار علي. وقد قال في تقريره لجنوده «إنكم تقاتلون الآن قوة منظمة هي كفء لكم وليست المجادلة الآن بحرب عصابات أو شقاوة».
وظل الحال على هذا المنوال، فقد قصر فخري باشا خط الدفاع وخندق واستحكم. وكانت بالمدينة القوى السفرية تدافع إلى حد تبوك بفرقة ونصف، وكان الجيش الشرقي الذي أقوده بالعيص يدأب على قطع مواصلات القوى السفرية قطعًا مستمرًّا بتدمير خط سكة الحديد الحجازية. ثم تقدم الملك فيصل من الوجه إلى جيدة — موقع يقابل العلا بأرض بلي — وجعل المركز العام له مدينة الوجه الساحلية. وكانت هجمات الجيش الشمالي الذي يقوده الملك فيصل تستمر إلى ذات حاج.