فخري باشا
هذا ما كان هناك ذلك الحين. ولكن فخر الدين باشا بقي في المدينة يدافع بإصرار، فلم يبق لزوم لأن يكون الجيش الشرقي بوادي العيص وبلاد جهينة. وبعد المخابرة مع جلالة الملك علي تحركت بالجيش الشرقي إلى الجفر — وهو موقع شمال المدينة المنورة بغرب يبعد قدر عشرين كيلومترًا عنها — وبعد التضييق عليه ابتدأت الحركات الدالة على عدم الطاقة في المحصورين.
أن الأتراك قد هزموا، وأن الشام قد احتلت، وأن مسؤولية الدماء من بعد الآن ستقع عليك شخصيًّا إن لم تسلم.
إلى جناب الجنرال ريجلاند وينجت بمصر: أنا عثماني، أنا محمدي، وأنا ابن بالي بك، وأنا جندي، وأرخ.
ثم فر بعض الضباط، منهم الكولونيل محيي الدين بك رئيس أركان حرب. ثم بعث فخري باشا بعد ذلك بكتاب إلى سمو الأمير علي (جلالة الملك علي) يقول له فيه إنه بعد هذا الجدال الطويل لم يبق أي سبب للدفاع وإنه قد أرسل الميرالآي علي نجيب بك والميرالآي صبري بك والأركان حرب اليوزباشي كمال بك لأجل التذاكر في كيفية تخليه عن المدينة وكيفية إجلاء الجنود الذين يمتد خطهم من تبوك إلى المدينة على سكة الحجاز. فبعث جلالة الملك علي إليَّ إشارة تلفونية يطلبني من الجفر، فحضرت حالًا. وكان علي نجيب بك هذا قائد الآي من فرقة الحجاز بمكة المكرمة، وخرج بالآي هذا مع الوالي والكومندان وهيب بك المعروف، للقتال من أجل فتح مصر مع جمال باشا.
ولما ترجلت عن فرسي عند باب خيمة القيادة، خيمة جلالة الملك علي، تلقاني وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقلت: أعلم أنك من أهل الإسلام. ثم دخلنا إلى حضرة المرحوم وطلب نجيب بك سرعة المذاكرة، فعينني جلالته رئيسًا للجانب الغربي وعين نوري بك الكويري قائد الفرقة الجنوبية للجيش الجنوبي والأمير الآي السيد حلمي بك قائد الفرقة النظامية للجيش الشرقي، ومعهما القائد الشوربجي بك.
- أولًا: تسليم فخري باشا نفسه.
- ثانيًا: تسليم كل الآي في الجبهات حيث هو وأخذهم من محلاتهم إلى الساحل بقوافل محروسة من الجيش العربي.
- ثالثًا: كذلك القوات التي بالمدينة المنورة تسلم كل قوة في مركزها وتخرج.
- رابعًا: أما القوات التي في العلا وتبوك فتستسلم هناك وتؤخذ بقوافل إلى الوجه إلى ظبا، وأن الأمتعة الخاصة بالضباط تكون تحت تصرفهم إذا أرادوا بيعها أو أخذها معهم.
- خامسًا: أن يجري تسليم الأسلحة العسكرية الخفيفة والثقيلة بموجب الدفاتر والسجلات المحفوظة.
- سادسًا: أن يجري التسليم فورًا.
وبعد تنظيم هذه المواد، جرى التوقيع منَّا ومنهم، وعادوا إلى المدينة المنورة.
وفي الغد من يوم المذاكرة، أمر جلالة الملك علي — سمو الأمير علي يومئذ — نوري بك الكويري، والشريف أحمد بن منصور أمير حرب، بأن يذهبا لاستلام فخري باشا حسب الشروط فذهبا وكنا في انتظاره معهما إلى المساء، فلم يأتيا. وبعد غروب الشمس بنحو نصف ساعة، دعاني جلالة الملك علي إلى خيمته قائلًا لقد عاد أحمد بن منصور ونوري الكويري وحدهما، أما فخري فعلى قولهما — رواية عن علي نجيب بك — إنه لما علم بالشرط الأول دخل الحجرة النبوية وهدد قائلًا: إن أردتم إخراجي عنوة فسأشعل النار في كل العتاد الذي في المسجد — وكان الأتراك قد وضعوا المفرقعات النارية في المسجد خشية الطيارات — وأنه في الحالة هذه لا يمكن أخذه عنوة، وأنهم على استعداد لتنفيذ سائر الشروط.
وكان جلالته في ارتباك، فقلت: لنتركه في محله، فقال: إنه لا يؤمَن وإنه ما زال هناك فإنَّا لا نأمنه. وفي الحقيقة كانت الحالة مربكة، وتجلى علينا الصمت إلى وقت العشاء؛ فلما دعينا إلى العشاء وانتصف الأكل وإذا بنا نسمع دمدمة، كأن شيئًا قد ثار أو انهدم، فقام رحمه الله واقفًا وقال: لقد أشعل الخبيث النار في المسجد! اركب الآن إلى جليجلة وافهم الحقيقة، واعمل على أخذه مهما كان الأمر. فقلت: أفعل. وطلبت إحضار الخيل.
فلما أتممنا العشاء، ركبت إلى جليجلة، وبها مركز الألآي الأول التركي، فسرنا ثلاث ساعات؛ وكان معي الشريف شرف بن راجح عبد الله المضايفي والمرحوم الشيخ هوصان بن عفار أمير الخيالة بالجيش الشرقي، وأمير اللواء السيد حلمي قائد الفرقة النظامية للجيش الشرقي، في سبعة عشر خيالًا. وتقع جليجلة في أرض جبلية.
ولم يرعني إلا الضوء على باب محل المستحكم، وإذا الغفير يقول: من هذا؟ (كيمدرو)؟ فدفعت فرسي واندفع من معي نحوه، فارتبك فأخذناه، وقلنا: أين مركز الألآي؟ فقال: هو هذا وبه الأميرالآي (قائد الألآي) إسماعيل شكري بك. فخرج وإذا هو، فقلت: أنا الأمير عبد الله. فاندهش … فقلت: لا عليك إن لزمت السكينة. أين محل الهاتف؟ أرنيه وأحضر علي نجيب بك. فقال: تفضل. فدخلت فأحضر علي نجيب بك على التلفون، فقال: من المتكلم؟ قلت: الأمير عبد الله بن الحسين، قال: كيف ومن أين تكلمني؟ قلت من جليجلة طبعًا. قال: والألآي؟ قلت الألآي وقع بيدي. فقال: سبحان الله! فقلت: هذا بفضل الله، ولكن أين فخري باشا؟ وكان اليوم موعد تسليمه حسب الشروط؟ قال: إنه كما أخبركم الشريف أحمد بن منصور ونوري الكويري بك، دخل الحجرة وهدد بأن ينسفها إن نحن حاولنا أخذه عنوة. قلت: لا أعتقد ذلك. فقال: أتريد أن تقع جناية في الحجرة؟ قلت: لا بالطبع ولكن أريد تنفيذ الشروط، أليست لديكم حرمة لتواقيعكم؟ فقال: أتريد أن يقتل من يدخل عليه في ذلك المحل؟ قلت: الذنب عليه وقد قتل عمر بن الخطاب بين المنبر والقبر. فقال: أتريد أن ينسف المسجد؟ فقلت: قد احترق المسجد النبوي في التاريخ مرتين، والنبي ﷺ في الرفيق الأعلى، وإن وقع شيء من هذا فسيكون لنا حجة عليكم أنتم الأتراك. والآن أنت تكلم خصمك، فإن لم تنفذ الشروط فسيكون الموقف جد حرج، حيث تقرر استئصال كل من بالمدينة منكم. فقال: أمهلني نصف ساعة.
وبعد انقضائها عاد يقول لي في الهاتف: بعد المذاكرة تقرر إخراج فخري باشا بأية صورة كانت، صباحًا في الساعة الحادية عشرة على حساب الساعة الغروبية. فانتظرنا إلى الصباح. وفي الساعة المحددة خاطبني بالهاتف أيضًا وهو يقول: بعون الله ومدد روحانية رسول الله وبعزم رفاقي الكرام، أُخرج فخري باشا من الحجرة بدون حادث، وسيق إليكم مع الأميرالآي صبري بك في سيارة محروسة، وسيصل إليكم بعد ساعة وربع.
وبعد ساعة وربع، وصل إلى جليجلة وكنت في مركز القيادة، فقابله حلمي باشا ومعه الشريف شرف من حيث السيارة وأخذاه إليَّ. فقال له صبري بك — بعد أن قدمه لي — هذا الأمير عبد الله. فحياني رافعًا يده إلى صدره تحية الدراويش، فحييته بمثلها، وأخذته إلى الغرفة فجلس جلسة المقيت الغضيب، فبادرته قائلًا: إننا قد علمناك شجاعًا في الحرب وأثناء الحصر، وإنه ليسرنا أن نراك صبورًا في هذه المصيبة مصيبة الأسر. ففرك يده بيده وقال: لا أعارض وإن تشكلت حكومة عربية. قلت: لقد عارضت وانتهت المعارضة، والآن فإن سمو ولي العهد المعظم الأمير علي في انتظارنا، فإذا سمحت نركب إليه بعد أن تتناول الشاي وترتاح قليلًا. ثم خرجت من عنده وتركت القائد إبراهيم الراوي معه، فقال له: هل كنت معنا؟ أجابه بأن كنت معكم إلى أن أعلن صاحب الجلالة استقلال البلاد العربية فالتحقت بأمتي. ثم رجعت وإذا به قد أتم تناول الشاي، وهو كالنمر الهائج ينظر ما حوله فلا يرى مخرجًا. فقلت: لنركب. فقام معي، فنزلنا وإذا بسيارته هناك، فقلت: اركب — وعمدت إلى فرسي — فقال: بل تركب معي.
فركبت معه، ثم اكتنفت الخيل السيارة، وتحركت بنا نحو المدينة المنورة. فلما اجتزنا جليجلة وإذا باستحكامات، فقلت له: هل هذه الخطوط الأمامية لكم؟ فقال: مضى عليَّ زمن ولقد نسيت. فاستحمقت نفسي واستثقلت سؤالي وهو صامت، فقلت له مازحًا: لقد أتحفتم أخوي عليًّا وفيصلًا بناظورين عندما قدمتم المدينة المنورة، فأين حصتي؟ فضرب يدًا بيد ثم مد يده إلى معطفه وراءه وتناول ناظوره فقدمه إليَّ، فخجلت جدًّا وقبلت الناظور على شرط أن يأخذ هو ساعتي التي معي كتذكار؛ فشكر ذلك مني، فدفعت إليه الساعة وكانت ثمينة ظريفة. أما كونها ثمينة فلأنها من جلالة الملك علي أنعم عليَّ بها، وأما ظرافتها فلكونها رقيقة مذهبة وغطاؤها مغلف بالميناء الأزرق، وفي طرفها الأعلى لون وردي كأشعة الشمس عند الغروب، مكتوب على أحد وجهيها بخط النسخ الجميل وبذهب مطعم «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، وعلى الطرف الآخر «لي خمسة أطفي بها حر الجحيم الحاطمة: المصطفى والمرتضى وابناهما وفاطمة» فسر غاية السرور. وهو على ما علمت أخيرًا بكتاشي الطريقة، والبكتاشيون شيعيون.
ثم تبسط معي وسرى عنه ما كان عليه من غم. ثم انفجرت إحدى إطارات السيارة فوقفنا لتعميرها، وإذ ببدويين يمران ومعهما بعض ما اشترياه من السوق ببئر درويش؛ فقال أحدهما للآخر: من هؤلاء؟ فقال الثاني: هذا عبد الله بن سيدنا، والآخر لعله فخري باشا. ثم تقدما مسرعين نحونا، وبعد أن حيياني قالا عن فم واحد: هذا فخري باشا؟ فقلت: إنه هو. فالتفت إليه أحدهما وقال: أأنت فخري باشا؟ قال: نعم. قال: امدد يدك أصافحك، فأنت الشجاع الباسل الذي صدنا عن المدينة المنورة شهورًا عديدة. فمد يده إليهما وصافحهما، ثم قال لي: إن هذه لأكبر مكافأة لي من رجلين لا يؤملان مني أي صلة أو جاه، فإذا هي الحقيقة وبها الشرف لي — وامتلأت عيناه بالدمع — فقلت: إنهما من العرب، والعرب أمة شريفة تقدر الناس حق القدر.
وتم إصلاح السيارة، فتابعنا المسير، وإذا بقوة عربية نظامية من راكبي البغال عددها مئتان وخمسون بغَّالًا، يقودها القائد شكري بك الشوربجي، مصطفَّة للتحية؛ وقد جاءت للاستقبال من بئر درويش بأمر من سمو الأمير علي الذي أخذ خبر قدومنا من الشيخ عبد الله بن مسفر المضايفي، وقد بعثته حين وصول فخري باشا يخبر سموه بأن المشار إليه قد أصبح في يدي. فالتفت وقال: هذه القوة عربية؟ قلت: نعم. فوازن نفسه وزرر معطفه ثم قابل التحية بتحية عسكرية وقال «هرشي اولمش بتمش» أي «كل شيء حصل وانتهى». وبدا عليه السرور مما رأى، وفي هذه نكاية، فإنه كان يظن أن العرب لا يحسنون تنظيم أنفسهم.
واستمرت بنا الطريق، ووصلنا إلى المضرب الهاشمي في بئر درويش في الساعة الخامسة، قبل الظهر بساعة — وكانت الساعات حين ذاك عربية — فترجلنا وأممنا القبة الكريمة، وكانت جموع الناس مجتمعة لترى فخري باشا، فدخل بعد أن صافحني قائلًا: إنني سعيد لقبولي في ضيافتكم. واتجه نحو جلالة الملك علي وكان قد عرفه قبلًا، أما لقاؤهما فكان مزيجًا من العتب والعداء والشيء الظاهر من البرود. فانسحبتُ من الباب إلى خيمتي المعدة لي ببئر درويش، وقبل أن يتم لي غسل وجهي وإذا بي أُطلب للمثول بين يدي سمو الأمير (جلالة الملك علي) فلما حضرت قال: سعادة الباشا لا يسره فراقك. فقلت: إنكم قد اجتمعتما ولقد خرجت وأنا هنا قريب.
وجاءت القهوة، وكان في المضرب كبار الأمراء العسكريين والشرفاء ورؤساء البعث العسكرية المحالفة، ثم جاء المضايفي وقال: إن خيام الضيف معدة. فنهض فخري باشا وهو يقول: لعلها بجوار الأمير عبد الله؟ فقيل له: نعم. فخرج وخرجت معه، وقلت: هل يأمر الباشا بأن نحضر إليه من يحب من الضباط الذين كان يألفهم؟ فقال: اترك هؤلاء الخائنين، لا أريد منهم أحدًا. فافترقنا، هو إلى خيمته وأنا إلى محلي، ثم طلبني جلالة الأخ فجئت فقبل رأسي وقال: إن هذه خدمة لا تنسى لك. فقبلت يده.
وبعد الاستراحة جاء وقت الغداء، ودعي فخري باشا فأكل هنيئًا مريئًا كأن لم يحدث عليه شيء، وخصص له مرافق من الضباط العرب الذين يتقنون اللغة التركية. ورغب في السفر عاجلًا، فسافر في اليوم الثاني إلى ينبع بسيارته وأُخذ بطرادة خاصة إلى المعتقل بمصر.
أما أنا فعدت إلى معسكري بالجفر، وشرعت معاملات التسليم تتم وفق الشروط. ثم استدعاني سمو الأمير علي (جلالة الملك علي) وأمرني بالشخوص إلى المدينة المنورة لأتولى مسائل التسليم وحفظ الأمن الذي اختل هناك. فجئت إلى بئر درويش، وبعد مبيت ليلة سافرت منها إلى المدينة ومعي العدد الكافي من الجيش الشرقي لاحتلال الأماكن المقتضية وحفظ الأمن. فدخلت المدينة المنورة صباحًا وأممت المسجد النبوي، فكان الشعور الروحي في درجة أعجز عن وصفها. ثم نزلت في مركز القيادة العثمانية، وكان الحرس من الأتراك، وكنت أجلس معهم على السفرة في الفطور والغداء والعشاء. وأصبحت قائدًا مسؤولًا عن الجهتين المسلمة والمستسلمة، وكأنه لم يحدث بيننا وبينهم أي شيء. فجرى التسليم وفق الترتيب في يومه وساعته ودقيقته، وكان ترحيل أفواج القوى السفرية العثمانية من الداخل إلى الساحل يجري في الأوقات المعينة بالدقة التامة، ولقد سافرت براحة وشكران.
وإنني لأذكر أنني حاولت استبقاء العساكر العرب في الخدمة العسكرية بالحجاز، ولكن الشوق في العودة إلى أوطانهم تغلب عليهم، ولما قلت لهم: لا سبيل لكم إلى الذهاب لأوطانكم فورًا إلا بالانضمام إلى الجيش العربي الهاشمي، وإن أنتم لم تفعلوا هذا فستنقلون إلى المعتقلات، ومتى تتيسر لكم العودة منها عدتم، وهذا مجهول التاريخ. فنكص كل عربي عن السفر، وطلبوا الرجوع إلى أوطانهم فأعيدوا مكرمين عن طريق السكة إلى معان فالشام.
ولم يقع من الحوادث المخلة بالأمن أي شيء مهم، غير أن بعض اللصوص تمادوا في كسر الأبواب من بيوت نقل أهلها بواسطة الإدارة العثمانية وأخذ منها بعض أمتعتها، فألقي القبض عليهم وهم متلبسون بجريمتهم، فحوكموا عاجلًا وكان قصاصهم الموت، فانتهت كل مفسدة. ثم نظم أمر الإدارة وعادت المياه إلى مجاريها، وعين سمو الأمير علي بن الحسين (جلالة الملك علي) أميرًا للمدينة المنورة وشيخًا للحرم الشريف النبوي وقائدًا عامًّا لها.