بعد تربة والخرما
ولقد عدت بعد الهزيمة التي وقعت، وبعد القتل المريع الذي أردى الألوف وأنا أرى ما سينجم من استفحال أمر هؤلاء على بلادنا، كما وقع. ولقد نصحت لوالدي في أن يترك أمر شرقي الحجاز إلى فرصة مناسبة، ريثما يستعد بجند نظامي قادر على كسر شوكة أهل البدع وإيقافهم عند حدهم، فلم أُفلح في نصائحي، وكان مما أراده الله.
كانت الفترة بين واقعة تربة وبين قدومي إلى شرق الأردن، فترة اضطراب وقلق على الوطن ومصيره، وعلى النهضة وأتعابنا فيها، وعلى الوالد نفسه. فلقد وجدته بعد رجوعي إلى المركز — أي بعد واقعة تربة وفتح المدينة — على غير علمي بجلالته، وكان مرضه الذي توفاه الله به ابتدأه من ذلك الحين، فكان كثير الصلف، كثير النسيان، كثير التردد، قليل الاعتماد على من كان يعتمد عليه. وللمسألة خطورتها.
مثلًا كان يظن جلالته أن في توقيف بيع مواد الإعاشة على القبائل أو تحديدها الزاجرَ لهم عن دخولهم في مذهب الوهابيين، فكان يمنعهم عن أخذ ما يريدون، مع أن للبدو مواسم يبيعون فيها أغنامهم وإبلهم ويبتاعون لوازمهم السنوية حال بيع ما عندهم، ويعودون بهذه اللوازم على إبلهم، فإذا لم يأخذ الرجل منهم ما يلزمه دفعة واحدة، اضطر إلى أن يأتي مرارًا، وفي هذا التعب العظيم عليه وعلى وسائط النقل التي هي الجمال، على بعد المسافات. وكان إذا جاءه أي خبر من أي ناحية وصادف هذا الخبر ظنونه، أخذ بها وعمل بموجبها، ولهذا حف به الكثير من أرباب الفساد، فصارت لهم كلمة، والغاية كان لله مراده.
فحججت كسير القلب، وقد أنعم عليَّ بقبضة من سيف مرصع كان لوالده المرحوم، وأحب أن يمنحني هذا السيف بعد الظفر في تربة، ولم تمنعه الهزيمة عن تنفيذ هذه الرغبة. ولقد طلبت إجراء التحقيقات اللازمة في الهزيمة وأسبابها فلم يوافق.
وبعد انتهاء الحج، أمرني بأن أتوجه بالقوات التي جاءت من المدينة المنورة بمعية الأخ الملك علي، إلى الخرما، وأنا لا أثق بهذه القوة بعد أن رأيت ما حل بالجيش الشرقي الذي نشأ على يدي، وبعد علمي بأن إنكلترا سوف لا تصد ابن سعود مرة أخرى لو قصد الحجاز. فاعتذرت فغضب، رحمة الله عليه، وأسمعني ما لم آلف منه من كلمات تقريعية شديدة — بحضرة الملك علي — فتحملت وسكت.
ثم عزم الملك علي على تبديل الهواء بالطائف، وخرج معه مجموع ما جاء به من المدينة المنورة من قوات، واستأذن لي بالخروج معه فأذن رحمه الله فتوجهت. ولما وصلنا إلى ذات عرق تشرفنا بأمر ملكي أنا والمرحوم الأخ علي، وإذا بمنطوق هذا الأمر لزوم توجه أحدنا وهو علي بخاصته إلى الطائف، ولزوم توجهي بالقوات إلى الخرما. فكتبت معتذرًا ومصرًّا بألَّا أفعل، وأنني أنصح بترك أي تقدم على نجد قبل الاستعداد الذي يضمن النتيجة، وبعد بناء قوات احتياطية لإمداد القوات المحاربة عند الاقتضاء. وأضفت على هذا قولي: إنني أذهب كجندي بقيادة أي شخص كان، إذ أصر ولي الأمر على ألَّا أعود حيًّا، ولكن لا أتحمل مسؤولية القيادة ثم أُغلب وأُهزم، فأجر على الحجاز وحوش نجد الكاسرة، وليس في الحجاز أي قوة احتياطية.
فغضب رحمه الله غضبًا شديدًا.
وبعد مدة طُلب الملك علي إلى مكة، وبقيت بالطائف، فأمرت بتشييد سور الطائف وتشييد بروجه وبناء القلعة المعروفة؛ وتم كل ذلك على نفقتي، وأصبح الطائف حصنًا حصينًا لا يمكن للقوات البدوية التغلب عليه، ولم ينقصه إلا الحامية والأرزاق الكافية لها ولأهل الطائف فيما إذا حوصر.