اللنبي … كاترو …
وبعد أن أتممت هذا البناء، كانت زيارة اللورد اللنبي لجلالته بجدة، فطُلبت بهذه المناسبة ووصلت إلى مكة المكرمة، وعلامات عدم الرضا تلوح على محيا جلالته نحوي. فسافرنا إلى جدة، وكانت زيارة اللورد، وكانت المباحثات غير المنتجة سوى ازدياد عدم التفاهم، وكان الموضوع الشام وفلسطين والعراق. ثم كان أن طلب الملك فيصل بعض البطاريات احتياطًا لديه للاستعداد ضد فرنسا، فأرسلت أربع بطاريات صحراء مدافع ميدان وأربعة مدافع من تلك التي يسميها الأتراك «ذات القدرة» وهي مدافع نمسوية سريعة الطلقات تجمع بين عمل مدفعية الجبل ومدفعية الصحراء.
وزارني ذات ليلة في ساعة متأخرة من الليل الكومندان (كاترو) — الجنرال كاترو اليوم — وكان يمثل جمهورية فرنسا بجدة، فسألني عن سبب إرسال هذه البطاريات إلى الشام — ولم يكن لدي أي خبر عنها — فقلت لا علم لي بذلك. فقال: قد وقع الأمر فعلًا، فقلت: وماذا عليكم؟ إن الجيش الإنكليزي على وشك الانسحاب، وإنا سنواجه تركيا على انفراد، وربما كانت هذه لهذه الناحية. فاقتنع بأن لا علم لي أنا بذلك وقال: يجب عليكم أن تستندوا بالشام على فرنسا وألَّا تظنوا أن هنالك غير فرنسا. فقلت: نحن لا نحب أن نكلف فرنسا فيما يتعلق بوطننا، وإنا لم ندع للاستقلال لنقع من يد دولة بيد دولة. ورأيت في وجهه علامات العداء فقال: إن لفرنسا من الحقوق القديمة ما لا ينبغي تناسيه. فقلت: ربما كانت هذه الدعوة رائجة أيام تركيا، أما اليوم فالبلاد للعرب وهم أهلها، ومن الممكن إقامة الوداد على التساوي بيننا وبينكم. والآن نحن بليل وسأقابلك غدًا في الساعة العاشرة، بعد أن أسأل عما ذكرت من أمر المدافع المطلوبة من الشام.
ولما أصبحت قابلت جلالة الملك علي، وهو الأمير بالمدينة المنورة والقائد العام بها، فعرضت عليه الأمر، فقال وقع ذلك، فقلت: ولمَ لا تخبروني عنه؟ فقال: هذه مسائل داخلية صرفة، والجيش الشمالي يحتاج إلى مواد مكننة، وما المقصود من هذا إلا الاستعداد للطوارئ، ويمكنك أن تؤمنه عند المقابلة، بأن الحكومة الهاشمية لا تؤمل في أي جزء من أجزائها إلا الوفاء من الدول الصديقة، وإذا جد منه شيء فلا تجب إجابة صريحة ولكن أرجئ الأمر لرأي مجلس الوزراء. ثم عرضت الأمر بعد ساعة على جلالة المرحوم فقال: وكيف علم؟ فقلت: بعثات عسكرية وضباط ارتباط في كل يوم يتلصصون إلى الدوائر، ولهم عيون أيضًا في محطة السكة الحديدية بالمدينة المنورة. فقال جلالته: هذا صحيح، فافعل كما أشار إليك أخوك.
فرآني كاترو في اليوم الثاني، وكان كلامي معه في دائرة التعليمات التي أخذتها من جلالة الملك علي، فأظهر اقتناعه وخرج. وكاترو هذا رجل ذكي، على شيء كثير من الأدب والثقافة، وهو ذو مكر شديد. وبعد رحيل اللنبي — بدون ما فائدة — إلى مصر، أُمرت بأن أعيد له الزيارة فزرته بمصر، وكانت حين ذاك أُعلِنت الملكية بسوريا، بالرغم من النصائح التي أسداها الوالد المرحوم في تأخير هذا الأمر الخطير إلى ما بعد عقد الصلح وتنازل تركيا عن حقها في هذه الأقطار لأهلها العرب.
وكنت أحمل أمرًا بتعييني رئيس الوفد العربي في مجلس الصلح. فقال لي اللورد اللنبي: إن رئيس الوفد هو الأمير فيصل. فقلت له: هو الآن ملك سوريا. فأجابني: إن الحلفاء لم يعترفوا بهذا. فقلت له: إن الذي ولاه على هذه الرئاسة في مجلس الصلح قد اعتبر الأمر الواقع وعيَّن رئيسًا آخر هو أنا. فقال: هذا الأمر لا يقبله الحلفاء. فقلت: وما للحلفاء وتعيين موظف في وظيفته. فقال: هو ما سمعت.
وكان الموقف من أسوأ ما رأيت. فعرضت الأمر إلى مكة برقيًّا، ثم بعدها رجعت إلى الحجاز. وقد حدث هناك ما أوجب استقالتي من وزارة الخارجية.