إلى القدس لمقابلة مستر تشرشل
ثم تلقيت مذكرة من السر هربرت صمويل، المندوب السامي البريطاني بالقدس، يدعوني فيها لزيارة القدس ومقابلة وزير المستعمرات، فأجبت الدعوة، وتعين اليوم.
ولما وصلت إلى السلط، وجدت هناك الكولونيل لورنس ومعه أحد قواد قوة الطيران البريطانية، لمقابلتي والذهاب معي إلى القدس. وتعشيا معي بحفل كبير في بيت الوجيه يوسف السكر، وبالليل أخبرني بملخص ما يريد قوله وزير المستعمرات لي من عدم إمكان رجوع الملك فيصل إلى سوريا، إلى غير ذلك مما سأثبته في المتن بعد هذا.
وتوجهنا في اليوم التالي إلى القدس، وتغدينا بالطريق عند المدفع التركي المقذوف في نهير شعيب. وكان معي في سيارتي لورنس، وكانت سيارة عسكرية بريطانية يقودها جاويش بريطاني. وكان معي في الركب كل رجالات سوريا وفلسطين. ورأيت بالنزل في أريحا جل أعيان فلسطين وعلى رأسهم موسى كاظم باشا الحسيني رحمه الله، من علماء وأعيان ومحامين ورؤساء روحيين. فكانت خطب حماسية وأجوبة مناسبة. ثم استأنفنا السير في قطار طويل من السيارات.
ولما أقبلنا على العيزرية، صادفتنا دراجة آلية، فدارت وقال سائقها لقائد السيارة — وقد حيا لورنس — يجب ألَّا تقف عن المستقبلين بالعيزرية، وأعلمني بذلك لورنس، فقلت له: ليس من اللباقة ألَّا نقف. فقال: لا أستطيع الأمر على سيرجنت، فمرت بنا السيارة مسرعة وكنت واقفًا فيها أحيي الجموع، فامتعض الناس وحق لهم أن يمتعضوا، ولكن ما كان في الإمكان إلا ما حصل أو أن يقذف الإنسان بنفسه؛ واعتقدت أن القوم حينما يعرفون حقيقة الحال سيعذرونني.
فوصلنا إلى دار الحكومة — وكانت بالعمارة الألمانية التي في جبل الطور — وهناك ثلة عسكرية معها علمها وموسيقاها فحيتني وفتشتها. وكان بالباب السر هربرت صمويل المندوب السامي فقابلني هاشًّا وبمعيتي غالب بك الشعلان، فدخلنا إلى البهو ووجدنا أن الشاي قد أحضرت موائده وعائلة المندوب هنالك. وبعد التعارف وتناول المرطبات دللت على حجرتي في الجناح الخاص، فوجدت هناك حقائبي وهناك أيضًا محمد بك العسبلي المرافق الخاص.
أما السر هربرت صمويل فلا بد لي هنا من ذكر دماثة أخلاقه وجم أدبه وكماله، فهو سياسي محترم كامل. ولقد كان له ذلك الموقف الذي لا أنساه له، وهو موقفه عندما بلغني أن المطلوب من الوالد المرحوم ترك العقبة والسفر إلى قبرص يوم كارثة الوهابيين، بذلك اللسان الرقيق والتأثر باد عليه — وكان معه الكولونيل كوكس المعتمد السابق — وكانت الدموع ملء عينيه فقال: أرجوك أن تخبرني بكل ما يجيش به صدرك فإنني مقدر الموقف. فقلت: لا بأس عليك وإنني شاكر لك عواطفك، وهذه الدنيا كثيرة المحن وسنصبر ونحتسب. ثم إنه عند انقضاء مدته ورجوعه إلى إنكلترا قصد السفر إلى قبرص لزيارة الوالد المرحوم الذي عرفه بعمان يوم أن زار شرقي الأردن. وهذه أمور يجب علي أن أذكرها له بكل امتنان، والمنة لله.
ثم انتهى العشاء وأديرت السجاير والسيجار على مَن يدخن. وكنت حين ذاك أتنشق، فأخرجت علبة سعوطي، وهي علبة ذهبية منمقة بالميناء الأخضر وعلى سطحها أشعة شمس غاربة في شفق أحمر غاية في الظرف، فطلب إليَّ العلبة فقدمتها له وبها نشوق إفرنجي يسمى بالتركية (رنده)، فتناول منه ضمة فعطس وضحك. ثم قمنا عن المائدة على وعد الاجتماع به صباح الغد في الساعة التاسعة والنصف.
وأما فيما يخص فلسطين، فنوه بالوعد المنصوب المنسوب إلى بلفور، وقال إنه لا يستطيع البحث في هذا الشأن لأن الأمر سيترك للمندوب السامي. فقلت: إن كنتم ترغبون ترشيح الأمير فيصل لعرش العراق لأنكم تعتمدونه، فأنا يسرني تكييف ملك العراق وأن أخي كفء لذلك، وسأحض والدي على أن يسير على هذا المنهج. وأما أهل العراق فلا أستطيع أن أكتب إليهم ما يؤيد مرغوبهم لأنني لم أكاتب أحدًا منهم إلى الآن. فأصر، وثبتُّ أنا على رأيي.
ثم قال: إنكم إن لم تفعلوا هذا ستضيعون كل شيء، وإنه في إمكان ابن سعود أن يصل إلى مكة في ثلاثة أيام، وإن إنكلترا عملت ما تستطيع، فقلت له: أما فيما يخص بابن سعود وفيما ذكرتموه من إمكان دخوله مكة في ثلاثة أيام فذلك ممكن ومن الممكن ألَّا يتمكن … واذا أرادت العرب استبدال بيت ببيت فذلك من حق العرب. ولكن ما هو مركز ابن سعود اليوم في نظر بريطانيا؟ هل هو ملك أو سلطان أو شيخ عشيرة أو ماذا؟! فنهض عن كرسيه إلى الشباك، ووضع يده اليسرى على خاصرته، ثم التفت إلى لورنس وقال له: قل للأمير إن هذا السؤال لا أستطيع الرد عليه إلى أن أسأل الوزارة.
ثم قلت له: أما فيما ينبغي أن أعمله هنا فإنني أوافق على وجاهة الرأي، ولكن لا أستطيع قبوله حتى أعرضه على زعماء البلاد وأحزابهم، وهم هنا معي ومن غاب فله من يمثله، وأجيبكم غدًا في مثل هذه الساعة. وأما أهل فلسطين فهم يرفضون وعد بلفور ويصرون على عروبة فلسطين، وكذلك هي، ولا نستطيع أن نرضى بفناء أهل فلسطين من أجل يهود العالم، وإنهم ليسوا كالنبات أو الشجر كلما قلم نبت، ولهذا شأن يطول. فقال: لقد أتعبناك، وإننا لننتظر جوابك في الغد.
وقد اجتمعت بالذوات الذين معي والذين ذكرت أسماءهم في مقدمة هذا البحث فوافقوا إجماعًا. وفي الوقت المعين من اليوم الثاني، أبلغت الخبر وتقرر أن يزور المندوب السامي عمان لوضع الأساس للاتفاق على تشكيل الإدارة في جميع نواحيها: الجيش والمال والمعارف والعدلية وسائر الفروع.