في السفر إلى الأستانة
في اليوم السابع عشر من شباط سنة ١٣٠٩ مالية، سافرنا من جدة في الباخرة «عز الدين»، وهي باخرة جميلة منسقة، ذات دواليب من الجنبين وليست من البواخر ذات الرفاس. وكنا نحن الإخوة علي (الملك علي) وعبد الله صاحب الخاطرات وفيصل (الملك فيصل) في رعاية الجدة بزمجهان والدة الوالد، وحرم الشريف عبد الإله بن محمد أمير مكة المكرمة المشهور والمعروف، وكانت العائلة مركبة من اثنتين وثلاثين سيدة وأتباعها، فوصلت الباخرة إلى السويس يوم عشرين من الشهر، وهو أول سفر لي في البحر وكانت حالة البحر ليست بالهادئة ولا بالهائجة، ولقد أصاب الدوار جميع الهيئة المسافرة في أول يوم، ثم أخذ يتناقص. وأما الرحلة في ترعة السويس فكانت ممتعة مريحة، ولقد كرهت نفوسنا الزاد والخبز الأبيض، ولولا الضرورة لما تناوله أحد.
وقد أمضت السفينة ليلة في البحيرة قرب الإسماعيلية، ثم استأنفت السفر إلى بور سعيد، وبها تجلت لنا الحالة الجديدة، فكان من المستغرب أن نرى النساء المسيحيات سافرات. فرست السفينة في الميناء فتزودت بالفحم اللازم، وتزودنا نحن أهل الحجاز بملابس شتوية ثقيلة، ثم سافرت نصف الليل قاصدة أزمير، وكان البحر في غاية الهياج والجو ماطرًا، فكانت تجري في موج كالجبال، لا يستطيع الإنسان معه أن يسير أو يقف على قدميه، فاضطرت السفينة إلى التعريج على ميناء ليماسول في قبرص، ووصلت إلى هذه الميناء بعد اثنتين وسبعين ساعة، فأقامت هناك خمس عشرة ساعة، وانتهى العاصف فسافرت من ليماسول والقصد أزمير، ولكن عندما مرت بجزيرة رودس عصف البحر وهاج، فعرجت على ميناء مرمريس، وكان أبهج محل رأيته في تلك السياحة جمالًا وروعةً، تحف بتلك الفرضة جبال شاهقة وقرى لطيفة. وبعد أن رست السفينة حف بها زوارق صغيرة من البلدة، يبيع أهلها العسل الطيب ولبن الزبادي والتفاح وأبا فروة والفندق، ثم سافرت السفينة في اليوم التالي، فلم تقف بأزمير بل استمرت في سيرها ووقفت بميناء الدردنيل، فأنزلت منها بعض المنفيين من الحجاز إلى أزمير، ثم سافرت، وكان وصولنا إلى الأستانة في الليلة السابعة من ذلك الشهر، فرست جوار كوم كبوباب الرمل.
ثم سافرت السفينة مع الفجر وربطت في مرساها أمام القصر السلطاني، وإذا برفاس صغير هيئ لينقلنا إلى الدار الساحلية بقرية أمير كان بالبوسفور، وبها عبد العزيز أفندي مدير دائرة المرحوم الشريف عبد الإله بن محمد عم الوالد الأصغر، فانتقلنا إليها ثم إلى المنزل، فبلغناه بعد ساعة، والتقينا بالوالد المرحوم فكان لقاء مؤثرًا، ثم أمر بأن نسرع إلى زيارة عمه المشار إليه، وصحبنا إليه السيد حسن عرنوس رئيس دائرة الوالد المرحوم، ولما وصلنا رأيناه وقد خرج من دائرة الحرم يسير إلى دائرة الرجال، وهو ربعة من القوم متواضع مائل الرقبة إلى الأمام عريض الجبين كث اللحية أشيبها أشم الأنف، له منظرة مثبتة إلى أنفه بقراص أنفي؛ فأخذ يقبلنا واحدًا واحدًا، ثم انهملت عيناه بالدمع يبكي ذاكرًا الوطن، ثم أضحكته بسؤال عجيب، وهو قولي: يا سيدنا، ما هذا الخشب المهذب المقطع الموضوع في هذا الصندوق؟ إشارة إلى حطب (الصوبة) فقال: هذا الحطب. فقلت: الحطب في الحجاز ليس كهذا، بل هم ملتو معوج دقيق العيدان، إما من السلم أو من السيال. فاحتضنني وضحك وهو يبكي.
ومن أغرب ما استرعى أنظارنا نحن الصغار، البوسفور ومبانيه الساحلية وتلاله المكسوة بالأشجار، والسفن البحرية للشركة الخيرية التي تنقل الناس من البوسفور وقراه إلى الأستانة والبحر ومنها إلى آخر البوسفور، مارة بكل قرية من قرى الساحل معرجة عليها أو مجتازتها. أما مفاتن الأستانة وجمالها، فهو يجوز الحصر والتحديد، في المواسم كلها: من ربيع وصيف وخريف وشتاء.
أما إقامتنا بإسطنبول، فكانت إقامة جبر وإكراه وإقامة تعلم وعبر، وبالرغم عن أن السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، لما قابل والدي في حضرته يوم وصوله الأستانة قال له إنه إنما استدعاه لينشئه ويرجو منه أن يخدم الدولة ويخدمه، وبالرغم من أنه عينه عضوًا في شورى الدولة وأمر بأن تهيأ له دار ساحلية في البوسفور وتفرش، فقد كان في الحقيقة ورغم هذه الاعتبارات، أخذ إلى الأستانة نفيًا وتغريبًا بناء على معارضته سياسة الظلم والاعتساف بالحجاز، وأخذ الأموال الطائلة من الحجاج بشتى الأساليب، تلك السياسة التي اختطها ولاة الحجاز والأمير عون الرفيق، فقد نفي أثر أخذ الوالد إلى الأستانة كل من العلماء الأعلام: الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة المكرمة الأكبر، والشيخ عابد مفتي المالكية بمكة المكرمة، والسيد عبد الله الزواوي مفتي الشافعية بمكة المكرمة، بأن أخرجوا من الحجاز، وطلب إلى صاحب مفتاح بيت الله الحرام الشيخ عبد الرحمن الشيبي أن يسكن بالهدى.
وبعد ذلك تفاقم الظلم بالبلاد المقدسة الإسلامية، ووقع من الاستيلاء بشتى الصور المخزية على أموال الحجاج مع عدم الأمان، مما أكسب الظالمين الوزر وعدم التمتع، فتشتتوا هم وذراريهم أيدي سبأ، وحاق بالسلطان وبدولته الدمار.
ولقد قال الله سبحانه وتعالى عن البيت الحرام وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. فليعتبر كل سلطان أو ملك يمتحن بالخدمة هناك بهذا، فإن الحسنة هناك تضاعف، والسيئة تضاعف.
أما الإخوة الثلاثة (علي وفيصل وأنا) فقد تعلمنا على أيدي معلمين خواص، علم العربية والتركية والعلوم العسكرية.
وإن من جملة الانقلابات الكونية والمحاربات الطويلة، التي مضت وقيدها التاريخ ونحن هناك، حرب الصين واليابان حيث انتصرت الأخيرة، وحرب الحبشة والطليان وكانت الغلبة للنجاشي منلك، وحرب الإسبان والأمريكان وقد غلبت الأخيرة فأخذت جزر هوانة والفلبين، وحرب الترك واليونان وكانت الغلبة للسلطان، وكانت الاضطهادات في اليمن ودفاع الإمام وقد تغلب مرة واستولى على صنعاء، ثم حركة حزب الاتحاد والترقي والانقلاب الدستوري وعزل الشريف علي بن عبد الله أمير مكة مع مَنْ عزل من خواص السلطان ووزرائه وولاته وتعيين الشريف عبد الإله بن محمد أميرًا على مكة وارتحاله إلى الجنان قبل سفره، ثم سعي حزب الاتحاد والترقي لتنصيب الشريف علي حيدر بن جابر بن عبد المطلب بن غالب، وسعيي أنا لدى والدي للمطالبة بحقه من الإمارة من حيث إنه الأحق الأكبر وإقناعي له بعد جهد وقبوله تسطير مذكرة بهذا الطلب إلى جلالة السلطان بواسطة الصدر الأعظم كامل باشا.
بناء على وفاة عمي الشريف عبد الإله بن محمد أمير مكة بعد عزل ابن عمي الشريف علي بن عبد الله بن محمد وخلو مقام الإمارة، ولكوني أسن العائلة الهاشمية وأحقها بمقام الآباء فأسترحم جلالة السلطان أن يتكرم بإيصالي إلى حقي الذي لا يخفى على جلالته مع صداقتي وإخلاصي.
نظرًا لشغور مقام الإمارة الجليلة بمكة المكرمة ولكوني صاحب الحق فإنني أنتظر من الأعطاف السنية السلطانية عدم حرماني حقي وتعييني في مقام آبائي.
وعنونتها بثلاثة عناوين للعرض على السلطان: «بواسطة الصدارة العظمى إلى الأعتاب السنية» و«بواسطة مشيخة الإسلام العليا إلى الأعتاب السنية» و«بواسطة رئيس كتاب القصر السلطاني إلى الأعتاب السنية».
وحضرت إلى الدار وأنا أحمل ما كتبت، فقلت لوالدي: إن الصدر الأعظم يقبل أناملك ويقول إن شاء الله لا يضيع لك حق، وإنه لمن المناسب إبراق برقية إلى جلالة السلطان بهذه العناوين. وفي تلك الليلة وبعد أن أبرقت البرقية، وردت برقية من رئيس كتاب القصر السلطاني يقول فيها: إن حضور والدي يوم غد في الساعة الثالثة صباحًا مرغوب فيه لدى جلالة السلطان (الساعة غروبية).
ولقد توجه الوالد المرحوم إلى القصر السلطاني حسب الوقت، فعُين أميرًا على مكة، وعاد بعد الظهر وهو صاحب مقام آبائه. وكان من هذا التعيين أن أغضب حزب الاتحاد والترقي عليه — أي على والدي — فكان مبدأ الخلاف بينه وبين كل حكومة اتحادية، حتى وصلت الحالة من ذلك الاختلاف إلى حين ترؤسه رحمه الله حركة النهضة العربية في الحرب العامة السابقة، على ما سيجيء.