العبرة من التاريخ
وكذلك ملوك الطوائف والدول الإسلامية، كدولة بني سلجوق ودولة آل عثمان، أعداؤهم حسد الأمراء والخروج على السلطان وفساد الجند. ولقد جاء في ذكر السلطان عبد العزيز بن محمود خان الثاني، أنه خلع لأنه بذر أموال الخزينة، وقد أفتى بخلعه شيخ الإسلام خير الله أفندي بجوابه (يجوز) على السؤال الذي قدم إليه من مجلس الوزراء ونصه: «إذا كان زيد أمير المؤمنين بذر ما في بيت المال من حقوق المسلمين وعمل فيها بالهوى فهل يجوز خلعه؟» فأجاب: يجوز كما قلنا. ولكن كان السبب الأصلي، لخلعه والقضاء على البيت العثماني بأجمعه، إعلان الحكم الجمهوري. ففي المدة التي كان فيها السلطان مراد الخامس في حالة الجنون، دعت الحكومة أمراء البيت العثماني المذكور لضيافة أقامتها، الغرض منها الفتك بآل عثمان. وقد نمى الخبر على حقيقته إلى السلطان عبد الحميد الثاني قبل جلوسه فاعتذر، ولهذا لم يظفروا بمرادهم. وكان رأس هذه الفئة الصدر الأعظم أحمد مدحت باشا، وكانوا على عزم أن يبايعوا الشريف عبد المطلب بن غالب أمير مكة الأسبق خليفة للمسلمين، لو تم القضاء على آل عثمان. وقد شهدنا جميعًا تنفيذ هذه الخطة وإقصاء آل عثمان بعد إعلان الجمهورية في تركيا على يد مصطفى كمال باشا.
وما العرب إلا بالإسلام، وكان من الحق عليهم أن يسعوا إلى استعادة مجدهم وحقهم وخلافتهم. فالثورة العربية الأخيرة التي قام بها المنقذ الأعظم رضي الله عنه ومَنْ معه من عظماء الحجاز، وبإفتاء علمائهم وانضمام عظماء الشام والعراق إليهم، ثورة حق للدفاع عن الإسلام، ثم لتبوُّؤ العرب المقام الذي خصهم الله به، حيث قال في كتابه العزيز: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ فعسى الله أن يقيض لهذه الأمة مَن يعرف موضع الداء فيها فيحسمه، وكيفية الدواء فيستعمله، قبل أن يقال: وا حرباه ووا عرباه!
لقد كان الانقلاب الجمهوري مطمع أنظار الشباب الترك من عهد مدحت باشا، وخفي عليه أن السلطنة العثمانية لم تصل في حدودها، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، إلا بعد أن انتحلت صفة الخلافة، وأنه بانسلاخ هذه الصفة عنهم ينسلخ العرب بطبيعة الحال. ألست ترى أنهم اليوم أقوى منهم بالأمس وأكثر منهم نظامًا وتجديدًا؟ ولكن أين شهرتهم بالأمس وتأثيرهم يوم كان سلطانهم أمير المؤمنين، وخليفة رسول رب العالمين؟ لقد تضاءلوا اليوم وصغروا وقد تضخموا بالأمس وكبروا، لذلك أقول إن الشيء اذا خرج عن أساسه فسد.
ونحن اليوم، أي الأمة العربية، كجسم بلا رأس، أو كجسم له رؤوس كثيرة؛ فالجسم الذي لا رأس له فهو حيران لا يهتدي سبيلًا، والجسم الذي له رؤوس كثيرة كذلك هو ضال متحير لا يدري يتبع أي رأس من هذه الرؤوس. وقد قال الله سبحانه وتعالى في رده على مزاعم أهل الشرك وفي معنى السماء والأرض: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا ولَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ فالعرب هذ صفتهم اليوم، ذاهب كل رأس من رؤوسهم إلى حيث يريد، وفي شتات الناس ضياع.