الحج
كانت مكة تغوص بحجاج العالم الإسلامي: القرم، وبخارى، والداغستان، والروم إيلي، والشركس، والقازان، والكرج، والأتراك، والمغرب الأقصى، والجزائر، وتونس، ومصر، وجاوه، والهند، وجنوب أفريقيا، والسودان، وحجاج بلاد العرب من الشام واليمن والعراق، وحجاج إيران. الكل في زيه ومعه الكثير من تحف بلاده وبضائعه، وكما قال الله تعالى: لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، والكل مهلٌّ بلبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والملك لا شريك لك … فخسئ ابن عبد الوهاب ومن على مذهبه! أين الشرك من هذا التوحيد والإخلاص؟ ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله.
والحج هو موسم الإسلام، فريضة تؤدى، وتعارف يحصل، وأخوة تؤكد. وكان في ذلك العام الوارد من البحر مائة وسبعة وثلاثين ألف حاج. وكان أمير الحج الشامي عامئذ عبد الرحمن باشا اليوسف المعروف، وكان بعد عبوديته — وجده سعيد باشا — لسلاطين آل عثمان، انتقل إلى أنه علم من أعلام حزب الاتحاد والترقي التركي، وقلب إلى سادته ظهر المجن، فأبى الرجوع بالحج الشامي من طريق البر، مدَّعيًا عدم الأمان، يريد بهذا إثبات عدم كفاءة الأمير الجديد.
وأصر الشريف بلزوم رجوع الحج الشامي ومحمله، على عادته من طريق البر، فترك هو — أي عبد الرحمن باشا — الحج، وسافر من البحر إلى مصر فالشام.
وتوجه ركب الحجاج، وعليه العم الشريف ناصر بن علي، ليوصله إلى الشام، وكنت معه، وكان السفير يعتبر كل يوم من أيامه عيدًا، بمراحله ورحيله ونزوله. فزرنا المصطفى ﷺ.
ما أعظم ذلك الموقف، والمرء مستقبل المواجهة الشريفة يقول: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خير خلق الله، جزاك الله عنَّا خير الجزاء، لقد بلَّغت عن ربك الحق وأدَّيت الرسالة، وجاهدت في الله حق جهاده، وكنت بالمؤمنين رحيمًا» … وليخسأ ابن عبد الوهاب ومَن تابعه، فأين الشرك في مَن يقر برسالته ﷺ، ويشهد بأنه عبد الله ورسوله، ويقول بأنه بلغ عن الله ما أمر به ﷺ؟!
وبعد إقامة ثلاثة أيام سافر المحمل، وأميره ناصر بن علي، بالسكة الحديدية إلى الشام. ولقد كنت معه أيضًا. وفي صباح الغد من سفرنا، بلغنا تبوك، ونزلنا جميعًا إلى الحجر الصحي الاحتياطي لمدة سبعين ساعة. أما تبوك فهي في حماد من الأرض، أي مكسوة بقطع الصوان وأحجار متكسرة، بها عين ونخيل، والجبال غربيها، فاقمنا مدة الحجر في الأرض المخصصة للحجر، وهي مربعة محددة بقضبان من حديد، مجهزة بأسلاك شائكة، ولها أبواب، وبها قساطل للماء الجاري لها حنفيات يجري منها الماء، يخصص كل مربع لعدد معين من الخيام، ويمنع الاختلاط حتى تتم المدة. وهنالك ثلاثة أجهزة للتعقيم في مبان مخصوصة، تعقم بها أمتعة الحجاج وملابسهم. وكانت ليالي تبوك باردة، والموسم أواخر كانون الأول، والنهار بارد أيضًا.
وبينما كنا به وردت برقية من ناظم باشا والي الشام إلى المرحوم العم، يقول فيها إنه متغيب وإنه سيبعث بمدير أوراق الولاية أو سكرتيرها — على لغة اليوم — لاستلام المحمل والركب. فأجابه بأنه هو بذاته الذي سيوصل الحاج إلى الشام. ووردت برقية من المرحوم عطا باشا البكري يدعونا بها إلى النزول في داره. ولم يبقَ عين من أعيان الشام إلا ودعانا إلى النزول عنده. وكان البكري هو السابق فأجيب بالقبول.
ولما وصل القطار إلى محطة القدم كان الشام كله هناك، فخرجنا من القطار واستلم الوالي المحمل، وهيئت لنا من الخيل آصلها وأفرهها، فسرنا ثم وصلنا إلى مكان به جماعة عظيمة من المستقبلين، وقد هيأوا خيمة كبيرة، فترجلنا، فخطب الخطباء مرحبين، وكانت قصائد ترحيبية يتقدم بها شعراء بلغاء، فشكرهم العم المرحوم بما يقتضي. ثم امتطينا ركائبنا فزرنا الوالي بدار الحكومة، ومن هنالك إلى دار البكري، وأكرم به من مضيف كريم قام بالواجب وزيادة. وكانت إقامتنا بالشام سبعة أيام، ندعى فيها من بيت كريم إلى بيت كريم، إما لغداء أو لعشاء.
ومن الغريب تلك النشرات التي وزعها عبد الرحمن باشا اليوسف، وأثبت بذلك نفسيته وما في قرارة ذاته. ففي نشرة موجهة للوالد المرحوم، يقول فيها في أبيات يقول في أحدها:
وفي أخرى موجهة إلى العم المرحوم، يقول فيها:
وفي نشرة موجهة إليَّ، قال فيها: «إلى سعادة الشريف عبد الله بك — إنك لا تستحق الهجو ولا المدح».
بهذا لامه الناس؛ ونشرت قصائد عديدة في هجوه، ونصح له بألَّا يخرج لئلا يضرَّ به الناس، لأنه أساء إلى ضيوف الشام. ولكنه قتل أخيرًا بدرعا مع الوزراء، بعد خروج المرحوم الملك فيصل من سوريا.
ولقد ابتعت بواسطة المرحوم البسَّام (رمكة) من آصل الخيل، وهي الكحيلة الجعيثنية، وهي حمراء سمراء لها غرة، عريضة الحوافر قصيرة مربط اليدين. وأهدى هولو باشا إلى المرحوم الوالد (رمكة) سوداء جليلة تنسب كحيلة عجوز. وهناك خيول أخرى أهديت.
ثم توجهنا إلى المدينة المنورة، بالسكة الحديدية، وكان الوصول بعد الحركة بثلاثة أيام، فأقمنا بها عشرة أيام، أصلحنا فيها بعض ما يجب إصلاحه من أمور تتعلق بعشيرة حرب. وعند رجوعنا إلى مكة وجدت الأخوين عليًّا وفيصلًا ومن بقي من الأهل بإسطنبول وجدتهم بالحجاز، ووجدت سيادة الخال قد سافر إلى مصر عن طريق البحر، ومعه ابن أخيه محسن بن محمد. وكان الحجاج ينصرفون كل إلى بلاده. أما والي الحجاز يوم ذاك، فهو المشير كاظم باشا، وقد بنى خط السكة من معان إلى المدينة، يوم بناها السلطان عبد الحميد، وترأس أعمالها في إسطنبول المرحوم أحمد عزت باشا العابد. وقد استقال هذا الوالي وسافر. وكان الأمير يرى أمور الولاية أيضًا. وفي تلك الأثناء فوجئنا بحركات محمود شوكت باشا، وبخلع السلطان عبد الحميد، وجلوس ولي العهد رشاد بن عبد المجيد خان، باسم السلطان محمد خان الخامس. وكانت تلك الأحداث من ملاعب الصبية من الاتحاديين، فاغتصبوا الملك وتحكموا في السلطان وفي الرعية.
ولقد علمت وأنا بالشام، نفور الناس وخصوصًا الشباب، فإنهم كانوا على وثبة لفصم العرى. ولم يقتصر الأمر على هذه الفئة من الناس، بل عم التشويش الأكثر ممن كان يحب السلطنة العثمانية، لعبث شباب الاتحاد وتحكمهم وسقوط هيبة الحكومة. هذا ما شاهدته في غير الحجاز من بلاد العرب.
وإن أعمال المنتدى العربي بإسطنبول، وشُعبَه في سائر بلاد العرب، وما كتبته جريدة (إقدام) التركية عن هذا المنتدى وعن العرب، وهجوم شباب العرب على مطبعة الجريدة المذكورة وتحطيمها، كل ذلك من الإشارات البارزة على ما وقع أخيرًا، من انقطاع الصلة بين العرب والترك، لضعف آرائهم في قلب الإدارة السلطانية الخليفية إلى حاكمية ملّية دستورية في زعمهم، وإبدال الهيمنة العربية الإسلامية بالسيطرة الروحية القانونية الغربية. ولله في خلقه شؤون.
وبعد أن تركز الأمر في إسطنبول، جاء الوالي فؤاد باشا — وسيدنا الوالد بالطائف — وهو عسكري برتبة فريق كان مستشارًا للسرعسكر بإسطنبول، وهو غبي لا يدري من أين تؤكل الكتف. وكان قبل الطلوع إلى المصيف بالطائف، صدر أمر الأمير بغزو بني الحارث — بطن من بقايا الحارث الأول — وهي عشائر بين بلاد البقوم بوادي تربة وبين بلاد النفعة من عتيبة شرقي وديان الطائف، لقطعهم الطريق وعدوانهم على مَن جاورهم. وكانت هذه العشيرة تنزل شرقي بئر وهضبة سامورة بركبة.
فغزونا على ترتيب الغزو المعروف: قوة درك راكبة هجانة، وفرسان من خاصة الأمير، مع قوات من العشائر الطيعة. فجوزوا بما كانوا يفعلون، وخضعوا بعد ذلك وأطاعوا. ثم تبع هذا الغزو غزوة هذَّان (جبل بالحرة) على الطريق الشرقية من مكة إلى المدينة المنورة، وكانوا يخيفون الحجاج ولا يؤدون الزكاة، فغزوناهم بأمر الأمير وهو لا يزال بمكة المكرمة أيضًا، على الترتيب السالف؛ وكانوا بمحل صعب، وكان ذلك اليوم يومًا عجزت فيه القوة عن تأديب تلك العشيرة التأديب الكافي. ولقد أصابتنا إصابات بليغة، ولكن تراجعنا بعد أن قتل عدد من الشرفاء وصوب عدد، وقتل من القوة البدوية مشائخ وفرسان. وقد أصبت أنا برمية اخترقت فخذي، ولكنَّ الله سلم. وعادت القوة إلى الطائف، وقد برئت بعناية الله في خمسة وعشرين يومًا على يد طبيب عربي من ثقيف.
ولما وصل الوالد إلى مصيف الطائف، ولم تستأمن عشيرة مطير وتخضع، أمر بغزوهم مرة أخرى، فغزوناهم وكانوا قد تسهلوا وتركوا الوعر، فصبحناهم على بئر تسمى الروبلية، شرقي مران مسيرة يوم ونصف يوم؛ وكان التأديب وفق ما طلب، حيث خضعت العشيرة بعد ذلك وأصبح طريق الحاج، في ديار عتيبة ومطير، في غاية الأمان حتى بلاد حرب.
وبعد رجوعنا من هذا الغزو، وبعد وصول الوالي الجديد بأسبوع، وأنا بحضرة الأمير رحمه الله، بعد الظهر، وإذا بمذكرة ترد من الوالي، ففض ختامها وقرأها، وقال: هذا مجنون. ثم رمى بالمذكرة إليَّ، فلمَّا تأملتها، وجدته يقول إنه تلقى برقية من مدير الجندرمة بمكة ووكيل الوالي، يقول فيها إنه تأكد من عزم فئة في مكة، يرأسها الشريف زيد بن فواز قائمقام الإمارة بالطائف، على حركة ثوروية يوم الجمعة، بهجوم يقومون به ضد سلطات الحكومة، ولذلك فإنه يطلب إلقاء القبض على الشريف زيد وَمَن معه، وسوقهم إلى التحقيق والمحاكمة. فأجابه على الفور، بأنه — أي الأمير — متوجه إلى مكة المكرمة للتحقيق في هذا الأمر، الذي هو عبارة عن فرية شائنة، دليلها نسبتها إلى الشريف زيد بن فواز، وهو المخلص الأمين، وأنه أقامه بالطائف وكيلًا للإمارة علاوة على وظيفته.
وتحرك ركابه السامي — رحمه الله — بعد الظهر، وأصبح بمكة بعيد الشروق مع الطريق الطويلة، وأَمَّ الحميدية دار الحكومة، ونزل واستدعى وكيل الوالي مدير الجندرمة، وقال له: حضرت لتحقيق ما قلت إنه ثابت لديك، من حركة مدبرة في مكة يوم الجمعة، وإني آمر بإيجاد لجنة تحقيق، ترأسها أنت وقومندان العسكرية وقاضي مكة المكرمة، ويكون بها، باسم الأمارة، نجلي عبد الله. فامتثل وجمع اللجنة المذكورة.
وبالطبع، وحيث إن الخبر نشأ منه، سألته عن المصدر، فعجز عن إسناد ذلك إلى شخص مسؤول، وقال: أنا لا أستطيع بيان أسماء رجالي الذين يعملون ساهرين على الأمن العام. فقلت: أليست هذه لجنة تحقيق رسمية؟ وإن اتهاماتك موجهة لشخصية كبيرة في البلاد، ولسكان حرم الله، وإن لم تفعل فلا يسع اللجنة إلا أن تعتبر هذه الإخبارية كاذبة تسلب عنك الاعتماد. عند ذلك قال: إن زوجتي سمعت هذا الخبر، من امرأة كانت تصلي معها في المسجد الحرام، في قفص النساء. فقلنا: حسن، هذا طرف حبل، ولكن من هي المرأة؟ قال: لا تعرفها ولا يمكن العثور عليها.
فهُيِّئ المحضر للجلسة على هذا النمط، ووقعه أعضاء اللجنة، وهو منهم، وقال: هذه وظيفتي، سمعت وكتبت. ورفعت اللجنة التقرير للأمير، وبرقية بمضمون ذلك للوالي بالطائف، واعتبرت المسألة مسألة افتراء ونذالة. وكتب الأمير برقية بالواقع إلى الصدر الأعظم بالأستانة، وكان يومئذ الصدر سعيد باشا، ووزير الداخلية رؤوف باشا.
ولما وصلنا الطائف بعد ثلاث، كان أمر عزل الوالي ومدير الجندرمة قد وصل، وكانوا على أهبة السفر.
هذه نبذة من نبذ الإدارة العثمانية، التي جرت إلى نفور العرب، تلك النفرة الهادمة لهذا الشرق الإسلامي، وكانوا هم السبب.