مدينة ألعاب الفيزياء التجريبية
انقشع الظلام ببطء من حول أليس. بعد غياب الظلال عن عينَيها، وفي الحال انبهرت بفوضى الأضواء البراقة والألوان، وفي اللحظة نفسها هاجم أذنَيها مزيجٌ من الأصوات العالية والمتنافرة. نظرت حولها ووجدت نفسها في منتصف حشد من أناس شتى يمرحون. بدا أن جميع أصناف الناس حاضرون، ويرتدُون جميع أنواع الملابس. استطاعت أن ترى أن بعضهم كان يرتدي معاطف بيضاء، مثل تلك التي قد يُخيَّل للمرء أن العلماء يرتدونها في مُختبَراتهم، بينما كان ثمة آخرون في هذا الحشد يرتدون ملابس عادية جدًّا غير رسمية، وآخرون يرتدون بذلات رسمية. استطاعت أن ترى أزياءً من كل أنحاء العالم ومن حقب عديدة في الماضي أيضًا.
كان ثمة رجال يرتدون سترات مشقوقة الذيل من العصر الفيكتوري، لهم سوالف كثيفة الشعر، وآخرون يرتدون الرداء التقليدي لدول المغرب العربي، أو الزي الصيني التقليدي ذا الأكمام الفضفاضة وضفائر الشعر الطويلة. رأت أحد الأفراد له شعر كثيف على نحوٍ استثنائي، سار أمامها متمايلًا وهو يرتدي زيًّا من جلود الحيوانات غير المعالجة، ويحمل ما بدا إلى حدٍّ ما كعجلة مصنوعة دون إتقان، بدت وكأنها منحوتة من الحجر، وعلى أحد جوانب العجلة نُقش في إتقان بالإزميل: «براءة الاختراع قيد المعالجة.» لفتَ رجلٌ واحد اهتمامها على وجه خاص لسبب معيَّن؛ فقد استشعرت وجود شيء مميِّز فيه دون أن تستطيع بالضبط تحديد ماهيته. كان له وجه شاحب وحادٌّ، وكان يرتدي بنطالًا قصيرًا وضيقًا وصدرة ومعطفًا طويلًا مشقوق الذيل يعود إلى القرن السابع عشر. كان يمشي شارد الذهن، يقضم قضمةً كبيرة من تفاحة حمراء زاهية اللون.
تساءَلت في صوتٍ عالٍ، لكنها لم تكن تتوقَّع أن يلاحظها أحد في خضم هذا الصخب الشديد من حولها: «أين أنا؟»
مدينة ألعاب الفيزياء التجريبية.
علَّقت أليس عليها قائلة: «يبدو اسمًا مثيرًا إلى حدٍّ ما.» فقد كان هذا أول شيء لفت انتباهها في اللافتة.
«حسنًا، ماذا تتوقَّعين؟ فجميعهم هنا علماء كما تعرفين، وهذا هو أكبر مهرجان للرصد التجريبي. ستجدين هنا الكثير من العروض التجريبية للظواهر الفيزيائية وعروض جانبية للنتائج التجريبية.»
استمتع بالعرض المُثير لتصادمات الجسيمات.
اصطدِ النيوترينو.
اهزم كواركًا وفُز بجائزة نوبل.
أشعُر بالأرض تتحرَّك!
انظروا إليَّ وأنا أحرِّك العالم!
سألت أليس: «من هذا الشخص؟ وما الذي يُخطِّط لفعله؟»
«آه، إنه فيلسوف يوناني معروف للغاية، ومن الواضح أنه ينوي الشروع في نشاطه الروتيني العتيق لتحريك العالم.»
صاحت أليس: «حقًّا؟ هل يحرِّك العالم في المعتاد إذن؟»
«آه، كلا، هو لم يفعل أبدًا؛ فهو لم يستطع أن يجد مكانًا ثابتًا ليقف عليه وهو يستخدم رافعتَه، كما ترين.»
لم يبدُ أن هذا قد وفَّر لأليس الكثير من التسلية في هذا الوقت؛ ولهذا نظرت حولها بحثًا عن شيء أكثر تبشيرًا. جذب انتباهَها كشكٌ في الجوار، حمل اسم «قاعدة كهروضوئية». كان ثمة مسدَّس نمَطيٌّ عن طريقه يستطيع اللاعب توجيه شعاع الضوء على سطح معدني. يسبِّب الضوء انبعاث الإلكترونات من المكان الذي يُصيبه. والفكرة كما شرحها الموجود داخل الكشك تكمن في تحريك الإلكترونات لمسافة قصيرة نحو دلو من نوعٍ ما لتجميعها فيه. بدا هذا بسيطًا بالنسبة إلى أليس، حتى عندما شُرح لها أنه لإضفاء المزيد من الإثارة يوجد مجال كهربي ضعيف يعوق مرور الإلكترونات، ويُجبرها على الاستدارة إلى الخلف قبل وصولها إلى الدلو مباشرةً. وأخيرًا قال لها عامل الكشك إن ثمة أداة تحكُّم تسمح لأليس بزيادة شدة شعاع الضوء أكثر من شدته الحالية بعدة مرات. مهما بذلت من جهد في المحاولة، إلا أنها وجدت أنها لم تستطع دفع أي إلكترون على التحرك لهذه المسافة القصيرة. ثم زادت من شدة الضوء أكثر وأكثر، فانبعث المزيد والمزيد من الإلكترونات، لكن كل واحد منها كان يستدير عائدًا في اللحظة الأخيرة بسبب المجال الكهربي.
صاحت أليس في إحباط: «هذا سيئ للغاية فعلًا!»
رد عليها مُرافقها في أسفٍ: «أخشى أن هذا ما كان عليكِ توقعه؛ فكما ترَين أنتِ لم تُحصِّلي إلا القدرة على التحكم في شدة الضوء وليس في لونه. لو كان الضوء موجة كلاسيكية، لكان لكِ أن تتوقَّعي أنه مع زيادة شدة الإضاءة، يزداد الاضطراب المصاحِب لها، وعندها سوف يمنح هذا الإلكترونات المنبعثة من سطح الهدف المعدني المزيدَ من الطاقة. في الواقع، إن لون الضوء أو تردَّده هو ما يحدِّد طاقة الفوتونات المنفردة المكوِّنة له، وبما أنكِ لم تُزوَّدي بأيِّ وسيلة لتغيير هذا، فلن يتسنى لكِ تغيير طاقة الفوتونات أو في حالتنا هذه، طاقة الإلكترونات التي ستعمل هذه الفوتونات على إخراجها من السطح المعدني. بالتأكيد إن هذا الكشك قد أُعدَّ بعناية بحيث لا تكون هذه الطاقة كافية أبدًا للعبور من المجال الكهربي المعيق. وعندما زدتِ من شدة الضوء، فقد وجَّهتِ المزيد من الفوتونات نحو السطح، وأدَّى هذا إلى إنتاج المزيد من الإلكترونات، لكنها جميعها كانت لها الطاقة نفسها، وفي كل مرة لم تكن تلك الطاقة كافية أبدًا لوصول الإلكترون إلى دلو التجميع. أخشى أنك لا يمكنك إحراز الفوز.»
الوصف الكَمِّي للعالم نادرًا ما يكون كما نتوقع. والسببُ في تصديقنا له أن تنبؤاته تتوافق مع النتائج التجريبية. إنها النظرية الوحيدة التي يمكنها أن تعطي أيَّ نوع من التفسيرات لسلوك المادة على مستوى الذرة، وهي تفعل هذا على نحو جيد جدير بالملاحظة.
هلموا لرؤية أكبر مجموعة من الكواركات في الأسر.
تتمثَّل السمتان الأساسيتان للسلوك الكَمِّي في الكشف عن جسيماتٍ منفصلة ورصد ما يحدث من تداخل. يظهر رصد «الكوانتا»، أو الكَمَّات، عن طريق التأثير الكهروضوئي، وهو إنتاج الإلكترونات باستخدام الضوء الساقط على سطح معدني، وتتمثل النتيجة الوحيدة لزيادة شدة الضوء في زيادة عدد الفوتونات الموجودة؛ ومن ثَمَّ زيادة عدد الإلكترونات المُنتَجة. ما زال كل فوتون يتفاعل من تلقاء نفسه؛ لذلك إذا لم يتغير تردُّد الضوء عند تغيُّر شدته فإن كل فوتون ستظل له الطاقة نفسها، وكذلك ستظل طاقات جميع الإلكترونات المُنتَجة هي نفسها أيًّا كانت شدة الضوء. وهذا يختلف تمامًا عن السلوك المتوقَّع من الموجة الكلاسيكية، حيث تعني زيادة شدة الضوء زيادة الطاقة المتوفِّرة.
انسلَّت أليس ومرافقها إلى داخل الخيمة، حيث كان مقدِّم العرض يُخبر حشدًا صغيرًا كم أنهم محظوظون بمشاهَدة الكواركات الستة جميعها التي أُسرت وعُرضت من أجل تسليتهم. نظرت أليس إلى المعروضات، ولم يكن أيٌّ من الكواركات موجودًا بمفرده بالتأكيد؛ فكانت جميعها متجمِّعة في أزواج، كل واحد منها مرتبط على نحوٍ غير قابل للكسر مع كواركه المضاد. أدركت أليس أن هذا كان أقرب قدر مُمكِن للاقتراب من مجموعة من الكواركات المعزولة. فكَّرت أليس: «في النهاية لقد قال إنها كانت في الأسر.»
نظرت أليس إلى الكواركات المحتشِدة في أزواج. كانت محتشدة على منصة لها عدة مستويات، حيث كانت أثقل مجموعة من الكوارك في مستوى طاقة أعلى. رأت كواركًا علويًّا يهز حاجبَيه الثقيلَين لها كالسابق، كما رأت كواركًا سفليًّا، وأعلى منه بقليل كواركًا غريبًا له شعر مجعَّد أحمر متوهِّج.
بالإضافة إلى هذه الأنواع الثلاثة التي قابلتها بالفعل في الحفل التنكري، كان ثمة نوعان أعلى منها. أظهر أحدهما شخصية آسرة خلابة، ورأت أليس وميضًا سريعًا للضوء مثل الذي يظهر من الأسنان البيضاء على نحوٍ لا يصدق. غمغم ميكانيكي الكَم في أذنها: «هذا كوارك ساحر.» كان الكوارك الآخر الجديد أثقل منه. هذا الكوارك كان مكانه أعلى بكثير لدرجة أن أليس رأته بوضوح أقل عن بقية الجسيمات التي قابلتها، لكن انتابها شعورٌ غريب بأن هذا الكوارك كانت له رأس حمار. أخبرها مرافقها: «هذا هو الكوارك القعري.»
نظرت أليس الآن إلى أعلى كي ترى الكوارك السادس. كان ثمة موضِع له على المنصة لكنه كان شاغرًا. لم يكن ثمة أي أثر للكوارك السادس، الذي قيل لها إنه الكوارك القمي.
لاحظ أفراد آخرون من الجمهور أيضًا غياب الكوارك السادس، وكانوا يحتجون على هذا في صخب. قال مقدِّم العرض محاولًا التلطيف والتهدئة: «حسنًا، حسنًا! أعرف أنه هنا في مكانٍ ما؛ فالكوارك القمي هو الأثقل من بينهم جميعًا؛ ولذلك علينا أن نبحث عنه في الطاقات العالية، لكن لا بد له أنه هناك.» التقط شبكة كبيرة لصيد الفراشات كانت مستنِدة على أحد الأعمدة، وتسلَّق سُلَّمًا نقَّالًا، وبدأ يلوح بها على نطاق واسع في مكان قريب من أسفل سطح الخيمة.
في أثناء هذا، زاد ما يشعر به المتفرِّجون من ضجر، وتزايدت تعليقات التململ الصادرة من كل مكان، وبالتدريج زاد مزاج الحشد سوءًا وبدءوا في الخروج خلسة من المكان ليكتبوا خطابات انتقاد لمجلاتهم التقنية المفضَّلة. قال ميكانيكي الكَم لأليس: «فلنبتعِد من هنا، لا مكان لنا هنا الآن.»
تحرَّكا إلى الخارج وقد شدَّ انتباهَها كشك آخر، كان الناس محتشدين عنده، يرمون بكُرات نحو جوائز متنوعة، سوف يفوزون بها فقط إن استطاعوا إزاحتها عن حواملها. بدا مشابهًا كثيرًا لكشك مدينة الألعاب الذي رأته بالقرب من بيتها، فيما عدا أن هذا الكشك كان به سور من أسلاك رفيعة بينها مسافاتٌ غير منتظمة، يفصل بين المتنافسين وأهدافهم.
راقبت أليس لبعض الوقت، ولاحظت أنه بمجرد رمي إحدى الكرات فإنها تصبح مشوشة تمامًا، ويكون من المستحيل تحديد إلى وجهتها بالضبط حتى تصطدم بنقطةٍ ما على طول الحائط الخلفي للكشك. رأت أن أغلب الكرات تفعل هذا بالضبط؛ فهي تصطدم بالجدار دون لمس أيٍّ من الجوائز. وبالتدريج تكدَّست أكوام من الكرات في مكان اصطدامها بالجدار، ولاحظت أليس أن هذه الأكوام قد استقرَّت على نحوٍ مرتَّب في المسافات الموجودة بين الجوائز.
ثبتَ مؤخرًا أن الكوارك القمي موجود في الكتل العالية للغاية. وينضمُّ الكوارك القمي إلى نوعَي الكواركات المعروفة سابقًا، وهما الكوارك الساحر والكوارك القعري، في إكمال الصورة. في الوقت الحالي، يُعتقَد أن ثمة ستة أنواع فقط من الكواركات مع مجموعة مكافئة من ستة لبتونات. فهل الكواركات بدورها مصنوعة من شيءٍ ما أوَّلي أكثر من ذلك؟ لا توجد حاليًّا أي وسيلة لتأكيد هذا.
قال صوتٌ بجوار أذنها، مردِّدًا أفكارها كصدًى لها: «صحيحٌ تمامًا، تعمل الأسلاك المتباعِدة بعضها عن بعض بمسافاتٍ منتظمة على إنتاج نمط تداخل، مع زيادة احتمال رصد الكرات في بعض الأماكن أكثر من غيرها. وبطبيعة الحال تكون الحدود الأدنى، وهي الأماكن التي تكون احتمالية العثور فيها على كرات أدنى ما تكون، مرتَّبة بحيث تقع في أماكن وجود الجوائز.»
علَّقت أليس قائلة: «هذا لا يبدو عادلًا إلى حدٍّ كبير.»
«حسنًا، ربما لا، لكن في مدينة الألعاب لا تتوقعي أن تكون الأمور عادلة؛ ففي النهاية، لا بد للرجل الذي يدير الكشك أن يكسب قوته؛ ولذلك فهو لا يريد أن يمنح الجوائز طوال الوقت. وبالطبع ما زال ثمة احتمال لرصد الكرة حتى في مناطق الحدود الأدنى، ولهذا تُمنح بعض الجوائز بالفعل، لكن ليس كثيرًا.»
سلوك مخيف عن بُعد!
مُذهلٌ على نحوٍ لا يُصدَّق!
غير مفهوم على نحوٍ متناقض!
مباغِتٌ إجمالًا إلى حدٍّ ما!
شقَّت أليس ومرافقها طريقهما نحو هذا العرض، وانضما إلى الحشد الذي كان يتدفَّق عبر المدخل، وفي الداخل كان ثمة مساحة مسيَّجة مرتفعة السقف ومنصة منصوبة في المركز، وعلى الجانيَين كان ثمة منحدران قصيران يتجهان إلى الأعلى ويصلان إلى بابَين في نهايتَي المبنى. على كلِّ منحدر كان ثمة أسطوانة معدنية قصيرة لها مقدِّمة مدبَّبة وزعانف قصيرة وسميكة على الظهر.
وقف على المنصة المركزية المتناقِض العظيم، وقد كان كيانًا طويلًا له شعر أسود لامع وشارب مشمَّع شعيراته منتصبة وعباءة فضفاضة سوداء. حيَّاهم قائلًا: «مساء الخير، أيها السيدات والسادة. أخطِّط الليلة لإجراء تجربة صغيرة بشأن اختزال السعات، قد تجدونها مثيرة بعض الشيء.» ثم واصل حديثه: «هنا على المنصة الموجودة بجواري ترون مصدر الانتقالات؛ الانتقالات التي سوف تؤدِّي إلى إطلاق فوتونَين في اتجاهَين معاكسَين تمامًا. كما تعلمون، إن كان عليكم قياس اللف المغزلي للفوتونات على طول اتجاه معيَّن من اختياركم، فسوف تجدون أن لها لفًّا مغزليًّا إما علويًّا أو سفليًّا، ولا يوجد أي خيار وسط محتمل.» لم تكن أليس تعرف هذا، مع أنها سمعت حديثًا عن الإلكترونات ذات اللف المغزلي العلوي وذات اللف المغزلي السفلي، لكن كان جميع الحاضرين الآخرين يُومِئون برءوسهم بطريقة تنم عن أنهم على بيِّنة معرفية بذلك؛ ومن ثمَّ فقد افترضت أن هذا بالتأكيد صحيح كل الصحة.
إنَّ أهم ما يُميز السلوك الكَمِّي هو الكشف عن جسيمات متمايزة ورصد ما يحدث من تداخل. يحدث رصد الجسيمات، أو الكَمَّات، في مكان واحد بدلًا من أن تنتشر عبر منطقة واسعة مثل موجة كلاسيكية. ومع ذلك، تبدو الجسيمات وكأنها تتصرَّف مثل الموجات، من حيث إنها تُظهِر تأثيرات التداخل بين السعات المختلفة التي تصف كل الأشياء التي من المحتمَل أن يفعلها الجسيم. أما التداخل، فيمكن إثباته من خلال انبعاث الإلكترونات على نحو مبعثَر من شبكة منتظمة، كما يحدث في حالة ترتيب الذرات في بلورة، ويُمكن إجراؤه بشدة ضئيلة لدرجة أن إلكترونًا واحدًا فقط يكون موجودًا في المرة الواحدة.
«كما قلت، إذا كان عليكم قياس اللف المغزلي، فإنكم ستجدون أنه إما لف علوي أو لف سفلي، لكن إن لم تقوموا بالقياس فسوف يكون هناك مزيج، أو تراكب كَمِّي للحالات حيث يتخذ اللف المغزلي اتجاهاتٍ مختلفة، وفقط عندما تقيسون اللف المغزلي يحدث اختزال السعات؛ فتُنتخَب سعة واحدة في حين تختفي سعةٌ أخرى من الوجود.» ثم قال فجأة: «والآن، المصدر الذي ترونه هنا يقوم بانتقالاته من حالات ليس لها لفٌّ مغزلي على الإطلاق؛ ولهذا لا بد أن يكون اللف المغزلي الكلي للجسيمَين الناتجَين صفرًا أيضًا.» ثم فسَّر أكثر قائلًا: «هذا يعني أن اللف المغزلي للفوتونَين يجب أن يكون معاكسًا؛ فإن كان لأحدهما لف مغزلي علوي فإن الآخر يجب أن يكون له لف مغزلي سفلي، لكن، لا بد أن تنتبهوا إلى أن انتخاب اتجاه اللف المغزلي للفوتونات لا يحدث إلا من التراكب الكَمِّي للحالات عند إجراء قياس فقط، وهذا هو المفهوم المعتاد؛ وعليه فكما ترون أنه عندما نجري قياسًا على فوتون واحد ونكتشف مثلًا أن له لفًّا مغزليًّا علويًّا، فإن التراكب الكَمِّي لسعة هذا الفوتون سوف تُختزل إلى الحالة المناسبة.»
صدرت غمغمة جدال ونقاش من الحشد المجتمِع. وفي النهاية دُفع فردان من الجمهور إلى الأمام. كان كلاهما يرتدي سترة طويلة مشقوقة الذيل وبنطالًا ضيقًا، وكان لكليهما سالفان كثيفان. كان كلاهما يرتدي أيضًا صدرة، ومع كليهما سلسلة ذهبية متصلة بساعة، تخلَّى مالكها عنها مؤخرًا في مقابل الحصول على ساعة عادية موثوق فيها. لم يكن هذان الاثنان متماثلين فعليًّا، حيث إن الجسيمات فقط هي التي تكون متماثلة بالكامل، لكنهما كانا بالتأكيد متشابهين كثيرًا. كان من الواضح أن كليهما سيدان مبجَّلان ونزيهان وموثوق فيهما، بالإضافة إلى كونهما من الراصدين الأكفاء وضميرهما يقظ؛ فإن قالا إنهما رأيا شيئًا فلا أحد تراوده فكرة مخالفتهما ولو حُلمًا.
سلَّم المتناقِض إلى كلٍّ منهما مقياس استقطاب، وهو جهاز يمكنهما استخدامه في قياس اتجاهات اللف المغزلي للجسيمات. بدقة متناهية، فكَّك كلٌّ منهما أداة القياس التي حصل عليها، وتفحصها ليتأكد من خلوها من أي سماتٍ غير مألوفة، وسريعًا ما أعادا تركيبها. بعدها استدعى مقدِّم العرض مساعِدتَين جذَّابتَين، اصطحبتا المتطوعَين إلى الأسطوانتَين المعدنيتَين وفتحتا بابًا في جانب كلٍّ منهما. لسببٍ ما وضع كلا الراصِدَين قبعة طويلة على رأسهما قبل أن يحصرا نفسيهما في داخل المساحة الصغيرة داخل الأسطوانة. أغلقت المساعدتان البابَين، وأضاءتا فتيلًا خلف الأسطوانتَين، وسارتا إلى الخلف في عجالة. اندفع الصاروخان القصيران وسط دوي صاخب منطلقَين إلى الأعلى من على المنحدرَين، وعبر البابَين في نهايتَي السرادق، واندفعا في شكل مقوَّس فوق الأفق متَّجهَين إلى طرفي بلاد الكَم المتقابلين.
علَّق مُتعهِّد العرض: «والآن ننتظر وصولهما؛ فبمجرد وصول كلٍّ منهما إلى موضعه سوف يُرسِل لنا رسالة عبر خط التلغراف الخاص به.» أشار إلى جرسَين يرتكزان على منضدتَين صغيرتَين عند كلتا طرفَي المنصة. نظر الجميع إليهما، في انتظار انطلاق رنينهما كإشارة على أن العرض من الممكن أن يُستكمَل. كان انتظارًا طويلًا.
علَّقت أليس التي بدأت هي نفسها تشعر ببعض الضجر: «يبدو الجميع صبورًا للغاية.»
رد ميكانيكي الكَم: «لا بد لهم جميعًا أن يكونوا هكذا؛ فالعلماء التجريبيون جميعهم تعلَّموا التحلِّي بالصبر.»
أخيرًا دق الجرسان؛ أحدهما أولًا، ثم بعد فترة قصيرة دق الآخر. أشار هذا إلى أن كلا الراصِدَين باتا في موقعيهما، وبإيماءة مسرحية فتح المتناقِض نافذتَين في كلا طرفَي مصدر فوتوناته. اندفعت الفوتونات اثنين بعد اثنين في اتجاهَين معاكسين.
بعد فترةٍ أغلق النافذتَين مرةً أخرى، وساد الصمت مجددًا لفترة طويلة. فكَّرت أليس التي شعرت بأن العرض يُمكن أن يتحرك أسرع من هذا بقليل: «أتساءل ما الذي ننتظره الآن.» صدر صوت رفرفة أجنحة، ودخلت عبر الباب في إحدى طرفَي المبنى حمامة زاجلة، أمسكَت بها بمهارة واحدة من المساعدتَين. لم يمضِ وقتٌ طويل حتى وصلت حمامة عبر الباب الآخر، وبات من الممكن مقارنة الرسالتَين اللتَين كانت كلٌّ منهما تحملها. عرض المتناقِض الرسالتَين اللتين كان من الواضح ارتباطهما ارتباطًا وثيقًا، حيث ذهب فوتون ذو لف مغزلي علوي إلى أحد الطرفين، مصحوبًا طوال الوقت بنسخة ذات لف مغزلي سفلي رُصدت عند الطرف الآخر، على الرغم من أن كلا الراصدَين كانا بعيدَين كل البعد بعضهما عن بعض، بحيث لا يتسع لهما الوقت لتبادل أي معلومات.
صاح شخصٌ ما على الطرف الآخر من الغرفة الكبيرة: «لا يوجد أي غموض في هذا.» صدر هذا الصوت من كيان طويل القامة، لم تستطع أليس أن تراه بوضوح، لكنه بدا قريب الشَّبه إلى حدٍّ ما من الميكانيكي الكلاسيكي. واصل حديثه فقال: «من الواضح أن الفوتونَين لم يكونا غير متأكدَين بالكامل مما إذا كان لفهما المغزلي علويًّا أو سفليًّا وقت مغادرتهما للمصدر. بطريقةٍ ما كانا يعرفان نوع اللف المغزلي لكلٍّ منهما، كما كانا يعرفان أيضًا أنه لا بد عليهما أن يكونا متضادَّين. لا يهم إذن طول الفترة التي ينتظرانها قبل أن يُرصَدا؛ فسيتَّضح اتجاه لفهما المغزلي الذي كان محدَّدًا بالفعل عند انطلاقهما.»
ابتسم مُتعهِّد العرض في ابتهاج، ولم يكن يبدو عليه الارتباك على الإطلاق: «تبدو هذه حجة منطقية للغاية، أليس كذلك؟ علينا أن نوسِّع من نطاق عرضنا التوضيحي بعض الشيء. أنت تقول إنه قد تقرَّر في وقت الإطلاق ما إذا كان اللف المغزلي للفوتون إلى الأعلى أو إلى الأسفل، وإنهما يحملان هذه المعلومة معهما في أثناء انتقالهما. ما الذي يحدث إذن لو أن راصِدَينا كان عليهما قياس اللف المغزلي في اتجاهات أخرى، فلنقل إلى اليمين أو إلى اليسار أو في زاوية أخرى بينهما؟ وما الذي يحدث لو أن راصِدَينا كان عليهما أن يُديرا مقياسيهما للاستقطاب كما يحلو لهما وعندما يشعران برغبة في فعل هذا، دون الرجوع إلينا أو التعاون معًا؟ وهل سيكون من الممكن للمصدر أن يعرف مقدَّمًا المعلومات التي عليه إرسالها مع الجسيمات بحيث يتوافق لفها المغزلي تمامًا مع الزوايا التي يختارها صديقانا لقياساتهما؟ لا أعتقد هذا!»
دوَّن سريعًا تعليماتٍ جديدة للراصِدَين، وربط الملاحظات في أرجل الحمامتين، وأرسلهما من حيث أتيا. بعد فترة دق جرسا التلغراف مرةً أخرى بما يوضِّح أن الرسالتين قد وصلتا وجرى استيعاب محتواهما. مرةً أخرى فتح النافذتين في تفاخُر في المصدر المركزي وترك تيار الفوتونات يخرج عبرهما. وبعد فترة مناسبة أغلق النافذتين مجدَّدًا، ثم عاد لينتظر. كانت أليس قد بدأت تشعر بضجر واضح من انتظار حدوث شيء ما عندما صدر أخيرًا صوت شيء ما يندفع في ضوضاء عارمة من كلا الطرفين. ازداد صوت هذه الضوضاء صخبًا، ثم جاء الصاروخان يتحركان في شكل قوس عائدَين إلى الأسفل عبر البابين في طرفَي المبنى، وهبطا مرةً أخرى على المنحدرين اللذين كانا قد غادرا منهما.
حين استقرَّت الأسطوانتان القصيرتان السميكتان وصدر منهما دخان خفيف، فُتح البابان ومن كل مركبة نزل واحد من الراصِدَين، وقد كانا ما زالا يرتديان قبعتَيهما الطويلتين الرسميتين. مشى الاثنان نحو مُتعهِّد العرض، ونزعا قبعتَيهما، ثم انحنَيا له وقدَّما له ملاحظاتهما. بحسب ما رأته أليس، احتشد جميع الحضور باستثنائها في الحال حولهم في محاولة لأن يكون كل واحد فيهم أول من يُلقي نظرة خاطفة على النتائج. كان ثمة صخب هائل من مناقشات وجدال وبدءوا جميعًا في إجراء حساباتهم الخاصة. رأت أليس أفرادًا يحملون أجهزة كمبيوتر محمولة صغيرة للغاية، وآلات حاسبة إلكترونية متناهية الصغر، ومساطر حاسبة. رأت أيضًا فردًا يحمل آلة حاسبة ميكانيكية غريبة، بها أعداد من تروس متناهية الصغر. أما الأفراد الصينيون الذين كانت قد لاحظت وجودهم في وقتٍ سابق فقد أخرج كلٌّ منهم مِعدادًا، وشرعوا في تحريك حباته بأصابعهم الرشيقة إلى الأمام والخلف على طول أسلاكه بسرعة أكبر من قدرة عينَيها على المتابعة، حتى السيد كثيف الشعر الذي كان يرتدي جلود الحيوانات كان مشاركًا، كان قد تخلى عن عجلته، وكان يُمارس بعض الإجراءات المعقَّدة مستخدمًا العديد من المجموعات الصغيرة من عظام المفاصل المبيضة.
في النهاية، هدأت المجموعات المتجادِلة ووصلوا معًا إلى استنتاج مشترك. قالوا جميعًا إنه كان بالفعل ثمة توافق كامل لا يُمكن تفسيره بين اتجاهات اللف المغزلي للفوتونَين، فحتى عند حدوث تغييرات اعتباطية في اتجاهات قياس اللف المغزلي لكلٍّ منهما، فإن العلاقات المتبادلة المرصودة كانت أكبر بكثير مما يُمكن تفسيره بأي معلومة يمكن إرسالها مع الجسيمات. اتفقوا جميعًا على أن الأمر كله واضح تمامًا، في الحقيقة واضح تمامًا مثل صوت قرع الجرس. لم يبدُ الأمر بهذا الوضوح لأليس، لكن بما أنهم جميعًا متَّفقون على هذا، فلا بد أنه صحيح.
ربما يكون مُثيرًا للاهتمام، لكن أليس شعرت بوجود الكثير من فترات الجلوس والانتظار، وأنها ترغب في وجود المزيد من الحركة؛ ولذلك غادرا السرادق وذهبا إلى الخارج لفحص الألعاب.
أبدى ميكانيكي الكَم ملاحظته: «عليكِ أن تتصرفي كجسيم مشحون إذا أردتِ ركوب أيٍّ من الألعاب؛ فالألعاب جميعها تعمل بالتسارع الكهربي؛ ولهذا فهي لن تعمل إلا مع الجسيمات المشحونة. وبما أنكِ مجرد جسيم شرفي نوعًا ما، فأنا أرى سببًا يمنعكِ من أن تكوني جسيمًا مشحونًا تمامًا بالسهولة نفسها التي تكونين بها جسيمًا غير مشحون.»
اركب الموجة الكهرومغناطيسية ميلًا بعد ميل.
(هذا يساوي ميلين؛ عُدَّهم: ٢.)
كان ثمة صفٌّ من الإلكترونات المستثارة في الخارج، تنتظر دورها كي تركب، لكن أليس لم تعتقد أن هذه هي اللعبة التي تريد أن تركبها في الوقت الحالي؛ فهي تُفضِّل أن تركب شيئًا ما يُشبِه دراجة العجلة الكبيرة الدوَّارة، التي كانت قد ركبتها في أحد المهرجانات بالقرب من بيتها.
ذكرت هذا لمُرافقها الذي قال إنه سيصحبها إلى الماكينات الدائرية. وبينما هما يسيران قدمًا في هذا الاتجاه مرَّ بهما موكب. رأيا تعاقبًا لعدة عربات صغيرة تجرُّها الخيول، على كلٍّ منها كان ثمة جهاز ضخم متوازن مبني حول مغناطيس حديدي ضخم به لفائف من أسلاك نحاسية من حوله، والعديد من الأجهزة المثيرة للاهتمام في مركزه. كانت تتدلى من كل هذا مجموعات كبيرة من أسلاك وكابلات ملتوية.
سألت أليس: «كيف يمكن لهذه العربات الصغيرة تحمُّل كل هذا الوزن؟ كان لا بد لها حتمًّا أن تسحق لتتساوى بالأرض تحت ثقل مثل هذه الكتل المعدنية الضخمة؟»
«حسنًا، كان من الممكن لهذا أن يحدث لو أن هذه القطع من المُعدَّات كانت حقيقية، لكن هذا هو موكب تمويل التجارب؛ لذلك فكل واحدة منها هي مجرد مقترَح. إنها تُشبِه إلى حدٍّ كبير التجارب التي أجريناها في غرفة الأفكار. إنها مجرد أفكار وليدة اللحظة، وليست واقعية على الإطلاق؛ ولذلك فهي ليست ثقيلة للغاية. في الحقيقة، أغلبها يحمل وزنًا خفيفًا جدًّا.»
نظرت أليس إلى الموكب ولاحظت أن العربة الثانية تحمل جهازًا مماثلًا تمامًا للجهاز الأول. أما العربة الثالثة فتحمل واحدًا آخر يشبهما تمامًا، وكذلك الحال بالنسبة إلى العربة الرابعة والخامسة والسادسة، وهكذا على طول ما يُمكن رؤيته من الموكب. علَّقت أليس فقالت: «لا يبدو أن ثمة قدرًا كبيرًا من التنوع.»
رد مُرافقها: «هذا بسبب ضرورة إدراج نُسَخ عديدة من كل مقترَح. سوف يظهر واحد مختلِف في الوقت المناسب.»
بينما كانا ينظران امتلأت الطوافات المدفوعة بالهواء بعاصفة ثلجية من قصاصات ورق غير منتظمة. قال ميكانيكي الكَم لأليس قبل أن تسأل: «هذه طلبات منحٍ غير ناجحة ممزَّقة، تعالَي معي، من الأفضل أن نجد لعبتك.»
عبَرا سلسلة من العجلات الدوارة الكبيرة. كانت جميعها مستلقية على جوانبها بدلًا من أن تكون معتدلة كحالها في أي مدينة ألعاب طبيعية. أخبرها مرافقها أنهم في مدينة الألعاب هذه يُطلِقون عليها حلقات بدلًا من عجلات. كانت توجد الحلقة الكبيرة والحلقة الكبرى بكثير، و«سِيرن» الحلقة الهائلة الضخمة. قررت أليس أنها تحبِّذ ركوب هذه العربة الأخيرة.
اصطفَّت مع حشدٍ متزاحِم من البروتونات، وسرعان ما كانت تدخل إلى الماكينة وتجلس أو «تُحقن» كما يصطلحون على تسمية ذلك، في وعاءِ أشعة. كانت هذه حاوية كهربية من نوع ما تشاركتها أليس مع حشدٍ كبير من البروتونات تتحرَّك في انفعال في جميع الاتجاهات. انطلقت مندفعة، تتسارع حركتها إلى الأمام بفِعل مجالات قوية تتجاذب شحناتها الكهربية. عندما حشد هذا الجمع سرعته هدأت البروتونات واندفعت جميعها معًا إلى الأمام.
ازدادت سرعة تحرُّكها، تُوجِّهها في هذا المجالات المغناطيسية. وبعد فترة من الوقت، بدأت أليس تلاحظ أن سرعتها لم تعُد تزيد كثيرًا، بالرغم من أنها ما زالت تستطيع الشعور بالتسارع. سألت أحد البروتونات عن هذا، وقد أخبرها أنهم الآن يتحرَّكون بسرعة مساوية لسرعة الفوتونات، ولا شيء يمكنه أن يتحرَّك أسرع من هذا، ولكن طاقتهم الحركية ما زالت في تزايد. بدا هذا غريبًا على أليس، وكانت على وشك أن تناقشه في الأمر، عندما حدث جذب قوي مفاجئ وشعرت بنفسها تطير إلى خارج الحلقة مع البروتونات.
اندفعت في الهواء في سرعة بدت هائلة. وحين نظرت أمامها، أصابها الفزع عند رؤيتها لحائط أمامها مباشرةً وإدراكها أنها والبروتونات كانا متَّجهَين نحوه مباشرةً! تأهَّبت للاصطدام مع اقتراب الحائط منهم أكثر فأكثر، لكن لدهشتِها الشديدة ارتطمت بالجدار كأنها ترتطم بضباب أو حلم.
أحد المفارقات في فيزياء الكم أن القياسات التي تجري على الأجسام الصغيرة للغاية لا بد أن تحدث باستخدام مسرعات جسيمات ضخمة. بسبب علاقة هايزنبرج يقترن الحجم الصغير بزخم حركة هائل ويتطلب ماكينة كبيرة لتسريع الجسيمات لتصل إلى الطاقات الهائلة اللازمة. معظم مسرعات الجسيمات ذات الطاقة العالية للغاية دائرية وتتحرَّك الجسيمات حولها عدة مرات مع تسارع حركتها. ثمة عدد قليل من المسرعات الخطية الكبيرة، التي يتعرَّض فيها الإلكترونات للتسارُع على طول مسار واحد مستقيم، مثل «ليناك» المسرع الخطي في ستانفورد في كاليفورنيا والذي يبلغ طوله ٢ ميل.
نظرت حولها ورأت أنه بالرغم من أن الحائط كان تأثيره طفيفًا عليها، فإن العكس لم يكن صحيحًا؛ فقد مزَّقت ذرة بطريقةٍ ما، وقد انفجرت وتمزقت إربًا، فبدأت الإلكترونات تنهمر إلى الخارج، وتحرَّرت النواة وانجرفت بمُفرَدِها. سحبت من حولها من كل جهة قطارًا مميتًا من فوتوناتٍ افتراضية. هاجمت هذه الفوتونات الذرات التي تمر بها، والتي بدت كخيط رقيق تمزَّق بالكامل بفِعل التأثير البعيد لمرورها. اقتربت من نواة فتهشَّمت هي الأخرى، وتبعثرت البروتونات والنيوترونات في كل اتجاه. تذكرت في فزع الأشعة الكونية التي رأتها في قلعة رذرفورد، تلك الأشعة التي دمرت ببساطة شديدة ودون عناء قلعةً نووية. والآن باتت مرعوبة من إدراكها أنها قد أصبحت مثلها، تخلِّف وراءها رقعة عريضة من الدمار بين الذرات والأنوية التي تمر بها!
رأت نيوترونًا أمامها مباشرةً لمجرَّد لحظة قبل أن تصطدم به. لمحت كواركاته الثلاثة لفترة وجيزة وهي تندفع في هلع مع مرورها. لم تخرج منفردة من النيوترون؛ وذلك لأنها كانت مرتبطة بعضها ببعض بإحكام، لكن سلاسلها ظلَّت تتمدَّد وتَنقطِع، مع إنتاج عدد هائل من أزواج الكواركات والكواركات المضادَّة؛ فالمكان الذي كان النيوترون يقف فيه من قبل أصبح الآن تدفقًا هائلًا من الميزونات المحمولة نحو الأمام بفِعل زخم الحركة الهائل لدى أليس.
أخفَت أليس عينَيها حتى تمحو صورة الفوضى التي تراها أمامها، خشية أن ترى بعضًا من الكوارث الأخرى الأكثر عنفًا. وانتابها شعورٌ وجيز بالسقوط وشعرت بارتطام طفيف.
تستطيع الجسيمات العالية الطاقة التي تُنتجها المُسرِّعات اختراقَ المادة العادية لمسافات طويلة؛ فهي تتمتع بطاقة مرتفعة مقارنةً بتلك الموجودة في الروابط الإلكترونية بين الذرات، والتي يكون لها تأثير طفيف في التخفيف من سرعتها. تترك مثل هذه الجسيمات رقعة من التأيُّن والروابط المكسورة على طول مسارها. وفي حال ما إذا مرَّت بالقرب من نواة ذرة، فإنها تؤدي إلى انقسامها أيضًا. وفي النهاية، تفقد هذه الجسيمات السريعة كلَّ طاقتها في مثل هذه العمليات، لكنها تستطيع أن تقطع شوطًا طويلًا.
فتحت أليس عينَيها سريعًا، لتجد نفسها قد سقطت من على الأريكة في حجرة معيشتها، وكانت ترقد على الأرض. نهضت سريعًا ونظرت حولها. كانت الشمس ساطعة في جوٍّ يبعث على البهجة عبر النافذة، وقد انقشع المطر. التفتت لتنظر إلى التليفزيون الذي كان ما زال يعمل. ظهر على شاشته مجموعة من الأفراد الجادِّين يجلسون في أستوديو، وقد تراصُّوا بعناية على كلا جانبَي معلِّق تليفزيوني، عرفت أليس منه أنهم على وشك أن يخوضوا في نقاش حول مستقبل التخطيط العلمي في البلاد.
قالت أليس: «مملٌّ.» وأطفأت التليفزيون في حزم، وخرجت للاستمتاع بأشعة الشمس المشرقة.
هوامش
أحد الأمثلة على هذا تجربةُ «أسبيكت» لفحص مفارقة آينشتاين — بودولسكي — روزن (إي بي آر)؛ فتوجد عدة أشكال من هذه المفارقة، والتي تشتمل على قياسات للف المغزلي للجسيم، وهو الدوران التكميمي الغريب الموجود لدى الجسيمات الأولية، مثل الإلكترونات والفوتونات أيضًا. تتناول هذه المفارقة حالة النظام الذي ليس له أي لف مغزلي، ولكنه يُطلِق جسيمَين لهما لف مغزلي وينتقلان مباشرةً بعيدًا أحدهما عن الآخر. تُخبِرنا قيود نظرية الكَم أن قياس اللف المغزلي لأيٍّ من الجسيمَين لا يمكن أن يُظهِر إلا إحدى قيمتَين: لف مغزلي علوي أو لف مغزلي سفلي. وإن لم يكن للنظام الأصلي أي لف مغزلي، فلا بد أن يتعادل اللف المغزلي للجسيمَين؛ وهكذا، فإذا كان أحدهما له لف مغزلي علوي فإن الآخر يجب أن يكون له لف مغزلي سفلي؛ وبهذا يكون مجموع الاثنين لفًّا مغزليًّا كليًّا قيمته صفر. وإن لم يُجرَ أي قياس للف المغزلي للجسيم، فإن ميكانيكا الكَم تنص على أن كلا الجسيمين سيكونان في تراكب كَمِّي لحالتَي اللف المغزلي العلوي واللف المغزلي السفلي. وعند إجراء قياسٍ للَّفِّ المغزلي لأحدهما، فعندها يصبح لفه المغزلي محدَّدًا، إما علوي أو سفلي، لكن في الوقت نفسه يصبح اللف المغزلي للجسيم الآخر محددًا أيضًا، حيث إن الاثنين يجب أن يكونا متضادَّين. وينطبق هذا بصرف النظر عن المسافة التي تَحرَّكها الجسيمان بعضهما بعيدًا عن بعض منذ انفصالهما. هذا هو جوهر مفارقة آينشتاين — بودولسكي — روزن.
لا يوجد تعارض مباشر بين نتيجة أسبيكت والفهم العادي لنظرية النسبية الخاصة لآينشتاين. تنص نظرية آينشتاين على أنه لا يمكن لمعلوماتٍ أو رسائل أن تنتقل بسرعة أكبر من سرعة الضوء. ولا يُمكن أن يُستخدَم التأثير المقصود في مفارقة آينشتاين — بودولسكي — روزن في إرسال الرسائل؛ فإذا كنت تستطيع تقرير قياس اللف المغزلي لجسيم بوصفه علويًّا أو سفليًّا، فإن اللف المغزلي العكسي للجسيم الآخر سوف يُرسِل معلوماتٍ في صورة شفرة مورس، لكنك لا تستطيع فعل هذا؛ فأنت ليس لديك أي تحكُّم في نتيجة قياس على تراكب الحالات الكَميَّة؛ فالنتيجة تكون عشوائية بالكامل، ولا يمكن فرض أيَّ إشارة عليها.