أكاديمية فيرمي-بَوز
سارت أليس مع ميكانيكي الكَم على طول الطريق مُبتعدَين عن المدرسة. ومع استمرارهما في السير ازداد الطريق اتساعًا وتغيَّر تدريجيًّا ليُصبحَ ممهدًا أكثر.
قالت أليس: «أعتقد أن أغرب شيء أريتَني إياه حتى الآن كان طريقة حصولك على تأثيرات التداخل تلك، حتى مع وجود إلكترون واحد فقط. هل صحيح إذن أنه لا فارق من وجود إلكترونات كثيرة أو إلكترون واحد فقط؟»
«بالتأكيد، صحيح أنه يُمكنك رصد التداخُل سواء كان لديك إلكترونات عديدة أو إلكترون واحد في وقتٍ ما. ومع ذلك، لا يُمكنك القول إن هذا لا يُحدث فرقًا. فثمة بعض التأثيرات التي في إمكانك رؤيتُها فقط عند وجود الكثير من الإلكترونات، على سبيل المثال، مبدأ باولي …»
قاطعته أليس: «حسنًا، لقد سمعتُ عنه. فقد سمعت الإلكترونات تتحدَّث عنه، عندما جئت إلى هنا في البداية، هلا أخبرتني ماذا يكون، من فضلك؟»
«إنه قاعدة تُطبق عند وجود عدد كبير من الجسيمات جميعها متشابهة، ومتماثلة تمامًا في كل شيء. وإذا كنتِ تودِّين معرفة المزيد عن هذا، فسيكون من الأفضل أن نَستشير القائمين على هذا المكان، بما أنه قد تصادَفَ مرورنا من هنا، فهم على دراية كبيرة بسلوك الجسيمات الكثيرة.»
للإلكترونات والفوتونات.
وفي منتصَف البوابة وقف رجل مهيب، وضخم، وعظيم البنيان، وقد بدا مظهره أكثر ضخامة بعباءته الأكاديمية الفضفاضة وقبعة التخرُّج المربعة التي يرتديها. ويُزين جزءًا كبيرًا من وجهه المستدير المتورد شاربٌ كثيف وسوالف جانبية. كان يرتدي عدسةً مثبتةً على شريط أسود عريض في عين واحدة فقط متضررة من عينيه.
همس الميكانيكي في أذن أليس الأقرب إليه قائلًا: «هذا هو الرئيس هنا.»
أجابته أليس بنوع من الحدة، فقد أُخذَت على حين غرة بظهورِه المفاجئ: «هل تقصد مبدأ باولي الرئيس.»
غمغم الميكانيكي: «لا، لا، إنه عميد الأكاديمية، فمع أن مبدأ باولي بالطبع هو عماد الأكاديمية، فإن هذا هو عميدها.» تمنَّت أليس لو أنها لم تسأل.
عبرا الطريق وذهَبا باتجاه هذه الشخصية المهيبة. بدأ الميكانيكي كلامه: «عذرًا يا سيدي، هلا تفضَّلت وأخبرت صديقتي الصغيرة هنا شيئًا عن النُّظُم المتعدِّدة الجسيمات؟»
قال الرئيس بصوتٍ رخيم: «بكل تأكيد، بكل تأكيد. فنحن ليس لدينا أي عجز في الجسيمات هنا حقًّا، وسيُسعدني كثيرًا اصطحابكما في جولة عبر الأكاديمية.»
ماجت عباءته الفضفاضة حين استدار، ثم قادَهما في الطريق إلى الأكاديمية. وفي أثناء سيرهم في ممرِّ السيارات رأت أليس أجسامًا صغيرةً تَقفِز هنا وهناك بين الشجيرات. وفي إحدى المرات ظهر أحد هذه الأجسام فوق شجيرة وصنعَ تعبيراتٍ مضحكةً بوجهه، على الأقل هذا ما ظنَّته أليس. وكالمعتاد، كان من الصعب للغاية تحديد أي تفاصيل. قال العميد متذمرًا: «تجاهليه، فهذا مجرَّد إلكترون ثانوي.»
وصلوا إلى باب الأكاديمية التي كان مقرُّها نُزُلًا جليلًا قديمَ الطراز على غرار الطراز التيودوري إلى حدٍّ ما. قادهما العميد دون توقُّف عبر الباب الرئيسي إلى بهو المدخل المقبَّب وإلى الأعلى عبر سلالم منحوتة من الخشب. وفي أثناء سيرهم في المبنى، استطاعت أليس رؤية أجسام صغيرة تَختبِئ خلف الدرابزين، وتقفز إلى داخل الحجرات وخارجها، وتركض في الممرات الجانبية مع اقترابهم منها. كرَّر العميد مقولته مرةً أخرى: «تجاهليه، إنه مجرَّد إلكترون ثانوي، أما الجسيمات فتتصرَّف كجُسيمات!»
احتجَّت أليس قائلة: «لكن، لا يُمكن أن يكون هذا إلكترونًا ثانويًّا إذا كنا قد رأيناه في ممرِّ السيارات. فبكلِّ تأكيد لا يُمكن أن يوجد جسيم واحد في كلا المكانَين.» ثم سألت ميكانيكي الكَم: «هل نحن بصدد الحديث عن شيء ما مُشابه لتلك الحالة عندما نجح الإلكترون في أن يمرَّ عبر كلا الثقبَين في تجربتك عن الشقِّ المزدوَج؟»
«لا، الأمر ليس كذلك، فهم لديهم بالفعل الكثير من الإلكترونات هنا، لكن ألا تُلاحظين أن جميع الإلكترونات يُشبه بعضها بعضًا، فهي متماثلة تمامًا، فلا توجد أي وسيلة لتمييز بعضها عن بعض، وعليه تكون جميعها بطبيعة الحال إلكترونًا ثانويًّا.»
أكَّد العميد على كلامه بأسلوب قاطع وهو يرشدهما إلى داخل مكتبه: «هذا صحيح، ودَعوني أقُل لكما إن هذه مشكلة. فربما تعرفان الصعوبة التي تُواجه المدرسين عند وجود توءم مُتماثل في مدرستهم، ولا يستطيعون التمييز بينهما. حسنًا أنا عندي المئات من الجسيمات المُتماثِلة تمامًا، وهذا يجعل من تسجيل الحضور والغياب كابوسًا، أنا أؤكِّد لكما.»
واصل حديثه قائلًا: «الإلكترونات ليست سيئة للغاية. فنحن فقط نعدُّها ثم نرى إن كان لدينا العدد الكُلي الصحيح أم لا. على الأقل عدد الإلكترونات يظلُّ كما هو، ولذلك نعرف العدد الذي يجب أن يكون لدينا، لكن بالنسبة إلى الفوتونات فحتى هذا لا ينطبق عليها. فكما تعلمين أن الفوتونات هي بوزونات، ولذلك فإن عددَها لا يظلُّ محفوظًا. فمن المُمكِن أن نبدأ فصلًا دراسيًّا — لنقل — بثلاثين ونحصل على خمسين أو أكثر في نهايته. أو من الممكن أن ينخفض العدد إلى أقل من عشرين، فمن الصعب التنبؤ بهذا. وهذا كله يجعل الأمر عسيرًا للغاية على هيئة التدريس.»
تنبَّهت أليس إلى كلمة جديدة في هذه العبارة، سألت في تفاؤل: «هل بإمكانكَ شرح هذا بعض الشيء؟ هلا تفضَّلت وأخبرتَني ما هو البوزون؟»
ازداد احمرارُ وجه العميد أكثر مما كان عليه من قبل وتكلم إلى الميكانيكي فقال: «أعتقد أن الأفضل أن تأخذَها إلى درس حقائق التناظر للمبتدئين، ألا تعتقد هذا؟ فهذا سيَشرح لها بالتأكيد كل شيء عن البوزونات والفرميونات.»
ردَّ الميكانيكي: «إنكَ مُحقٌّ، هيا يا أليس، أظن أن بإمكاني تذكُّر الطريق.»
سارا في ردهة إلى إحدى قاعات الدرس ودخلا إليها بالضبط عندما كان الدرس على وشك أن يبدأ.
«والآن يُمكن حساب احتمال تسجيل أي رصد من خلال تربيع دالَّتكم الموجية، بمعنى ضرب الدالة الموجية في نفسها. وبما أنكم جميعًا مُتماثلون تمامًا فمن الواضح أنه عندما يتبادل أي اثنين منكم مكانيهما فلن يُحدث هذا أيَّ اختلاف ملحوظ، ولهذا فإن مربَّع دالَّتكم الموجية لا يُمكن أن يتغيَّر. فمن المُحتمَل أن يبدو الأمر كما لو أنه لم يَحدُث أي تغيير على الإطلاق. هل يستطيع أي منكم أن يُخبرَني ما الذي يُحتمَل أن يكون قد تغير؟»
رفع أحد الإلكترونات يدَه، أو على الأقل هذا ما افترضت أليس أنه قد حدث، فلم تكن تستطيع الرؤية بوضوح، وقال: «من فضلك يا سيدي، من المحتمَل أن تتغيَّر الإشارة.»
«جيد جدًّا، هذه إجابة مُمتازة، سأكتب في سجلِّك الدراسي أنك قد أجبت إجابة صحيحة للغاية، رغم أنني مع الأسف لا أستطيع تمييزك عن الآخَرين. أجل، فكما تَعرِفون إن سعاتكم ليس بالضرورة أن تكون موجَبة. فمن المحتمَل أن تكون موجَبة أو سالبة على السواء، وعليه من الممكن لسعتَين أن تُلغيَ كلٌّ منهما الأخرى عندما يُوجَد تداخُل. وهذا يعني أن ثمة حالتَين لن يتغير مربع سعتكم فيهما. ربما لا تتغيَّر السعة على الإطلاق عندما يتبادل اثنان منكما مكانيهما، وفي مثل هذه الحالة تكون الجسيمات بوزونات، مثلكم أيها الفوتونات. ومع ذلك يوجد احتمال آخر؛ فحين يتبادل اثنان منكما مكانيهما فإن السعة قد تنعكس. فهي تتغير ما بين الموجب والسالب. وفي مثل هذه الحالة يظل مربع السعة موجبًا، ولا يتغير توزيع الاحتمالات، وذلك لأن ضرب السعة في نفسها سوف ينتج عنه عكسٌ للإشارة، ومن ثمَّ لا يَحدُث تغيُّر على الإطلاق. وهذا ما يحدث مع الفرميونات مثلكم أيها الإلكترونات. ولذا، تَندرج جميع الجسيمات تحت واحدة من هاتين الفئتين؛ فهي إما فرميونات أو بوزونات.»
فكما قلت: «لا تُوجد مشكلة على الإطلاق بالنسبة إلى البوزونات، فليس على سعاتهم أن تتغيَّر على الإطلاق عندما يتبادَل اثنان منها الأماكن، ولهذا من المحتمَل أن يكون الاثنان في الحالة نفسها. في الواقع بإمكاني أن أقول أيضًا إنهما لا يُحتمَل فقط أن يكونا في الحالة نفسها، بل إنهما يُحبِّذان دون جدل أن يكونا في الحالة نفسها. من الطبيعي عند وجود تراكب كَمي في الحالات المُختلِفة، ويحدث تربيع للسعة من أجل الحصول على احتمالية الرصد، أن تتعرَّض الحالات الفردية داخل الخليط إلى تربيع مُنفصِل، وتسهم بالقدر ذاته في الاحتمالية الكلية. فإذا كان لديك بوزونان في الحالة نفسها، فعند تربيع الاثنين تحصل على أربعة. فهكذا لم يسهم الاثنان بضِعف إسهام الواحد منها، بل بأربعة أمثاله. بل إنه إذا كان لديك ثلاثة جسيمات في الحالة نفسها، فإنها ستُسهم بمقدار أكبر من هذا. فتزيد الاحتمالية كثيرًا عند وجود عدد أكبر من البوزونات في حالة واحدة، ولهذا تَميل جميعها إلى اتخاذ الحالة نفسها طالَما كان ذلك ممكنًا، ويعرف هذا باسم «تكاثف البوزونات».
وهكذا أصبح من الواضح الفرق بين الفرميونات والبوزونات. فالفرميونات معتدة بفرديتها، فلا يفعل اثنان منها على الإطلاق الأمر نفسه، بينما البوزونات نزعتها عشائرية. فهي تحبُّ التجوُّل في مجموعات، حيث يفعل كلٌّ منها التصرُّف نفسه بالضبط مثل الآخرين. وكما سيتبيَّن لكم لاحقًا إن مثل هذا السلوك وهذا التفاعل بينكم كنوعَين من الجسيمات هو المسئول عن طبيعة العالم.
ففي الواقع، بطرق شتَّى أنتم المسيطرون على العالم». عند هذه النقطة قاد ميكانيكي الكَم أليس إلى خارج قاعة الدرس، وقال لها: «وهكذا قد تعلَّمتِ مبدأ باولي؛ فهو يَقضي باستحالة أن يصدر عن اثنين من نفس نوع الفرميونات الفعل نفسه، وعليه لا يُمكنك العثور إلا على واحد فقط في كل حالة. ينطبق هذا المبدأ على جميع الفرميونات أيًّا كان نوعها، لكنه لا يَنطبِق على البوزونات. وهذا يَعني — من بين أشياء أخرى — أن عدد الفرميونات يجب ألا يتغيَّر. فلا يُمكن للفرميونات أن تظهر وتَختفي دون انضباط.»
قالت أليس: «أعتقد أنها يجب ألا تفعل هذا، فالأمر سيكون سخيفًا.»
«لا أظن أنه يُمكنكِ قول هذا؛ فإنَّ عدد البوزونات غير ثابت على الإطلاق، وهذا لأنها تُواصِل الظهور والاختفاء. فيُمكنكِ القول إن عدد الفرميونات يجب أن يكون محدَّدًا في حال وجود واحد منها فقط في كل حالة، وهذا لأن وجود عدد معين من الحالات المشغولة يفترض وجود العدد المعين نفسه من الفرميونات كي تشغل هذه الحالات. وهذا الأمر لا ينطبق على البوزونات، حيث من الممكن وجود أي عدد من البوزونات في أي حالة. ومن الناحية العمَلَية فإن عدد البوزونات ليس ثابتًا على الإطلاق.»
ثم قال فجأة في أثناء مرورهما: «إذا نظرتِ فقط عبر النافذة هنا، فإنكِ سترين بوضوح الفارق بين الفرميونات والبوزونات.»
حدَّقت أليس عبر النافذة ورأت مجموعة من الإلكترونات والفوتونات تتدرَّب في فناء الأكاديمية. كانت الفوتونات تُبلي بلاءً حسنًا للغاية؛ إذ كانت تدور وتعكس اتجاهها في تناغُم تام، بلا أيِّ اختلافات بين أي منها. أما مجموعة الإلكترونات فقد كانت تتصرَّف بسلوك يدفع بوضوح مسئول التدريب نحو اليأس. فكان بعضها يسير نحو الأمام لكن بسرعات مُختلفة، والبعض كان يتحرَّك نحو اليمين ونحو اليسار، أو حتى يسير إلى الخلف. قليل منها كان يَقفز إلى أعلى وأسفل، أو يقف على يدَيه، وكان واحد منها مُستلقيًا على ظهره على الأرض محدقًا في السماء.
قال الميكانيكي وهو ينظر من فوق كتف أليس: «إنه في حالة أرضية وهي أدنى حالات الطاقة. أتوقَّع أن الإلكترونات الأخرى تتمنَّى لو تستطيع الانضمام إليه في هذه الحالة، لكنَّه لا يُسمح إلا لواحد منها فقط بالدخول في هذه الحالة. وبالطبع إن لم يكن اللفُّ المغزلي للإلكترون الآخر في اتجاه معاكس، فإن هذا كفيل بإحداث اختلاف كافٍ بينهما.
يُمكنكِ رؤية الفارق بين الفرميونات والبوزونات هنا بوضوح. إن الفوتونات من نوع البوزونات ولهذا من السهل عليها فعل الشيء ذاته. في الحقيقة إنها تحبِّذ بشدة أن تكون بعضها على شاكلة بعض، ولهذا فهي بارعة في المشي بخطًى مُنتظِمة. أما الإلكترونات، من ناحية أخرى، فهي فرميونات، وعليه يَمنع مبدأ باولي للاستبعاد أيَّ اثنين منها من أن يكونا في الحالة نفسها. ولهذا يتحتَّم عليها أن تتصرَّف كلٌّ منها على نحو مغاير للآخر.»
أبدَت أليس ملاحظتها: «إنك دائمًا تتحدَّث عن كون الإلكترونات في حالات. هلا شرحتَ لي ما هي الحالة؟»
أجابها الميكانيكي: «مرةً أخرى ستكون أفضل طريقة بالنِّسبة إليكِ أن تجلسي في أحد هذه الفصول هنا. فالأكاديمية تُدرس لقادة العالم؛ حيث إنها تُمثِّل التفاعُلات بين الإلكترونات والفوتونات التي تحكم العالم الفيزيائي بأكمله. وإذا كانوا سيَصيرون قادة العالم فمن الطبيعي أن يُضطرُّوا إلى حضور فصول فنِّ الحكم والإدارة. تعالَي معي ودَعينا نرَ واحدًا من هذه الفصول.»
قاد أليس إلى مبنًى ضخم مُنخفِض في الجزء الخلفي من الأكاديمية. وحين دخلا المبنى استطاعت أليس أن ترى أنه نوع من ورش العمل. كان يوجد عدد من الإلكترونات تعمل بعيدًا على مقاعدَ مختلفة. ذهبت أليس نحوها كي تنظر إلى مجموعة منها، كانت مشغولةً في نصبِ مجموعة من الأسوار حول حافة المقعد. استطاعَت أليس أن ترى أن ثمة تراكيب متنوعة على المقعَد، ومع تحريك الطلاب للأسوار حول المقعد تغيَّر شكل كل هذه التراكيب.
سألت أليس مرافقتَها: «ماذا يفعل هؤلاء؟»
«إنها تُشيد الشروط الحَديَّة للحالات. فإن الحالات تكون محكومة إلى حدٍّ كبير بالقيود التي تُحيط بها. فبوجهٍ عام، ما تستطيعين فعله يحكمه ما لا تستطيعين فعله وتعمل القيود على تحديد الحالات المُمكنة. إن الأمر أشبه إلى حدٍّ كبيرٍ بالنغمات التي يُمكن الحصول عليها من آلة الأرغن. فأي أنبوب طوله محدَّد لا يُمكنه إلا إصدار عدد محدود من النغمات. وإذا غيرنا طول أنبوب الأرغن فإن هذا من شأنه أن يُغيِّر النغمات الصادرة. تتحدَّد حالات الكَم من خلال السعة أو الدالة الموجية التي يُمكِن أن يحصل عليها النظام، وهذا يُشبه إلى حدٍّ كبير الموجة الصوتية لأنبوب الأرغن.»
«وكما اكتشفتِ بالفعل فعادةً لا يكون باستطاعة المرء تحديد ما يفعله الإلكترون فعليًّا؛ لأنه عند رصد هذا الإلكترون سيكون عليكِ من أجل التحقُّق اختيار سعة واحدة محدَّدة واختزال السعات الأخرى إلى تلك السعة فقط. والوقت الوحيد الذي في إمكانك التيقُّن فيه من الإلكترون بالفعل هو عندما لا تكون له إلا سعة واحدة بدلًا من التراكب الكَمي، وعندما لا يُمكن للرصد الذي تجرينَه أن يُعطيَ سوى نتيجة واحدة. وفي هذه الحالة يكون احتمال رؤية هذه القيمة عبر قياسكِ هو مائة في المائة، ويكون احتمال رؤية أي قيمة أخرى صفرًا؛ فهي لن تحدث أبدًا. وعندما تجرين عملية الرصد فإنك ترَين النتيجة المتوقَّعة. وفي مثل هذه الحالة فإن اختزال السعة إلى تلك الخاصة بنتيجتك المرصودة لم يُحدِث أي اختلاف على الإطلاق؛ إذ إنكِ تكونين بالفعل في هذه الحالة. فالحالة هنا لا تتغيَّر بفعل الرصد، ويُطلق عليها «حالة مستقرة». والإلكترونات في هذا الفصل بصدد إنشاء حالاتٍ مستقرة.»
دارت أليس حول المنضدة، وهي تنظر إلى الحالات التي كانت الإلكترونات تنشئُها في براعة. بدَت لها كسلاسل من الصناديق، ثمانية صناديق في كل سلسلة. كان يوجد واحد منها كبيرٌ للغاية، وواحد أصغر قليلًا من ذلك الكبير، وستة صناديق مُتناهية الصغر لها تقريبًا الحجم نفسه. وصلت إلى أحد أركان المنضدة وأدهشها أن رأت أن الحالات قد تغيرت تمامًا. الآن أصبح لها شكل حوامل العرض، أشبه بحوامل عرض الكعك، ترتكز على قوائم طويلة. كان يوجد اثنان أعرض من الآخرين، وأربعة لها العرض نفسه، لكنها تَرتكِز على قوائم تزداد في الطول تدريجيًّا، واثنان أصغر حجمًا. مشت سريعًا نحو ركنٍ آخرَ من المنضدة. والآن رأت أن مركز المنضدة به لوح كبير، مُثبَت إليه عدد من خطافات تعليق المعاطف. كان ثمة صفان من ثلاثة خطافات وخطافات فردية مُنعزِلة في أعلى اللوح وأسفله. سألت أليس مرافقها: «يا إلهي، ما الذي يحدث؟! فأنا أرى الحالات بأشكال مختلفة تمامًا طوال الوقت عندما أنظر إليها من اتجاهات مُختلِفة.»
ردَّ ميكانيكي الكَم: «حسنًا، بالتأكيد هذا يحدث. فأنتِ ترَين تمثيلاتٍ مختلفة للحالات. وتعتمد طبيعة الحالة على الطريقة التي ترصدينها بها. ويعتمد وجود الحالات المستقرَّة في حد ذاتها على رصد ما يؤدي دومًا إلى نتيجة محدَّدة، ولكن لا يُمكن أن تؤدِّي الحالة إلى نتائج محدَّدة بالنسبة إلى كل عملية رصد يُمكنك إجراؤها. على سبيل المثال، تَمنعكِ علاقات هايزنبرج من إدراك موضع أحد الإلكترونات وزخم حركته في الوقت نفسه، ولذلك فإن الحالة المستقرة لرصد ما، لن تكون كذلك بالنسبة إلى رصْدٍ آخَر. وتُدعى عمليات الرصد التي تستخدمينها لوصف الحالات بتمثيلات المادة.»
«وقد تختلف طبيعة الحالة كثيرًا حسب طريقة رصدك لها. وفي الحقيقة فإن هوية الحالات المختلفة نفسها يُمكن أن تتغيَّر. فالحالات التي ترينها في أحد التمثيلات من المُمكِن ألا تكون مُماثلة لتلك الموجودة في تمثيل آخر. ولعلكِ قد لاحظتِ الآن أن الشيء الوحيد الذي يجب أن يبقى ثابتًا هو عدد الحالات. فإن استطعتِ وضع إلكترون واحد في كل حالة، فمن المفترض أن تحصلي دائمًا على العدد نفسه من الحالات كي تحتويها جميعًا، حتى مع وجود احتمال لتغيُّر الحالات الفردية نفسها.»
هناك كميات معيَّنة لا يُمكن لها أن تتشارك في الحالة المستقرة نفسها، ومثال على هذا الموضع وزخم الحركة. فعند وجود حالة مستقرة يُمكنها أن تُعطيَ قيمة محدَّدة لموضع جُسيمٍ ما، فمن المُمكن أن يعطيَ قياس زخم الجسيم؛ أي كمية تحرُّكِه، أيَّ قيمة. وهذا يقودنا إلى علاقات عدم اليقين لهايزنبرج. ففي حال وجود مزيج من الحالات التي تتماشى مع قيم مُختلِفة للموضع، فإن قياس الموضع من الممكن أن يعطيَ أي قيمة من القيم المناسبة. لقد أصبح الموضع «غير مؤكَّد»، ومع ذلك فقيم انتشار زخم الحركة من الممكن أن تُختزل الآن.
لا ينتج هذا الانتشار بسبب تقنية قياس مَعيبة، ولكنه متأصِّل في الحالة الفيزيائية. إنَّ القيمة غير المحدَّدة لكمية فيزيائية ما، والتي من المُحتمَل أن تكون متأصِّلة في حالة معينة سوف تسمح بتأثيرات مثل اختراق الحاجز، وتبادل الجسيمات الثقيلة في النوى، والفوتونات في التفاعُلات الكهربائية، بل ووجود جسيمات افتراضية بوجه عام. سوف نتناول بالمناقشة الجسيمات الافتراضية وتبادُل الجسيمات في الفصلين السادس والثامن.
عارضته أليس فقالت: «لكن يبدو هذا غامضًا للغاية بالنسبة إليَّ. فيبدو كأن المرء لا يستطيع أن يكون متأكدًا على الإطلاق مما يكون موجودًا بالفعل.»
ردَّ الميكانيكي بأسلوب استعراضي: «صحيح! ألم تُلاحِظي هذا؟ يمكننا التحدُّث بكل ثقة عن عمليات الرصد، لكن الشيء الموجود فعليًّا الذي يُمكِن رصدُه، فهو مسألة أخرى تمامًا.»
«تعالَي معي الآن ودَعكِ من ذلك، إنه موعد الاجتماع المسائي للأكاديمية، وعلى الأرجح سوف تَجِدين حدثًا كهذا مُثيرًا للغاية.»
هتفَت أليس مأخوذةً بحجم المشهد أمامها: «لماذا الزحام شديد جدًّا هنا؟» ردَّ أحد الإلكترونات المحبة للمساعَدة: «هذا طابق التكافؤ؛ فكل المساحات في طابق التكافؤ مُمتلئة وهذا لأن طابق التكافؤ دائمًا ما يكون ممتلئًا بالإلكترونات. لا يُمكن لأي منا التحرُّك على الإطلاق، فكما ترَين لا توجد أي حالات خالية للتحرك فيها.»
هتفت أليس: «هذا مروِّع، فكيف يُمكن لأي منكم أن يحظى بفرصة للتحرك عبر الطابق للخروج إذا كان الزحام شديدًا هكذا؟» قال الإلكترون في استسلام مفرح: «نحن لا نستطيع التحرك، لكن أنتِ تستطيعين إذا ما أردتِ ذلك، ففي إمكانك الذهاب إلى أيِّ مكان في الطابق؛ وذلك لأنه لا توجد أي أليس أخرى هنا، ولذلك توجد وفرة من الحالات الخالية لأليس ويُمكنك التحرُّك بداخلها. وهكذا لن تُعانيَ من أي مشكلة تتعلَّق بمبدأ باولي للاستبعاد على الإطلاق.» بدا هذا غريبًا جدًّا بالنسبة إلى أليس، لكنها حاولت أن تشق لنفسها طريقًا وسط ذلك الزحام والتكدُّس الشديد ووجدت أنها بطريقةٍ ما قد استطاعت أن تتحرَّك خلال الزحام دون أي مشكلة، بالضبط كما حدث عندما حاولت الدخول إلى عربة القطار الممتلئة في وقت سابق.
شقت أليس طريقها وسط زحام الإلكترونات نحو رصيف مُرتفِع عند الطرف البعيد للقاعة. وقف عليه العميد مُثيرًا للإعجاب كالعادة في عباءته وقبعته الجامعية. ومع اقترابها منه استطاعت أليس سماع صوته الرخيم يتردَّد في جنبات القاعة المكدسة.
«أما بالنسبة إليكم أيها الفوتونات، فأنتم أصحاب النفوذ. فتبقى الإلكترونات في حالاتها الأصلية في رضًا إذا ما تُركت لهواها، وهكذا لن يُنجز أي شيء أبدًا. إنها مهمَّتكم أن تتفاعلوا مع الإلكترونات طوال الوقت كي يتحقَّق التحول بين الحالات، وهي التغيُّرات التي تؤدِّي إلى حدوث الأشياء.»
عند هذه النقطة من خطاب العميد بدأت أليس تلاحظ الأشكال البراقة للفوتونات وهي تندفع خلال حشد الإلكترونات وترى الومضات المنبعثة بين الحين والآخر من الأجزاء المختلفة للقاعة. التفتَت كي ترى ما الذي يحدث. كان من الصعب عليها أن ترى لمسافة بعيدة، وذلك لأنها كانت محاطة بإلكترونات كثيرة للغاية تحاصرها.
«إن هذا بالفعل سيئ للغاية!» لم تستطع أليس أن تقاوم الصراخ بهذه العبارة وهي تنظر إلى كل الكيانات الحبيسة والثابتة في أماكنها بسبب الزحام الشديد حولها، وواصلت قائلة: «ألا توجد أي طريقة على الإطلاق يمكن من خلالها لأي واحد منكم أن يتحرك؟»
أجابها صوت قائلًا: «فقط إذا تعرَّضنا للاستثارة إلى مستوًى أعلى.» لم يكن في إمكان أليس أن ترى من الذي تحدَّث. فكرت في نفسها فقالت: «لكن هذا لا يهمُّ بالفعل، فبما أنهم جميعًا مُتماثلون، أفترض أنه كان الإلكترون نفسه الذي يتكلَّم دومًا.» عندها صدر وميض بالقرب منها ورأت أليس أن فوتونًا جاء مندفعًا عبر الزحام واصطدم بإلكترون. ارتفع الإلكترون عاليًا وهبط في الشُّرفة، حيث بدأ الجري باندفاع نحو المخرج.
كانت أليس تحدق بإمعان شديد في الإلكترون المنسحِب، فلم تلحظ اندفاع فوتون آخر صوبها. رأت وميضًا ساطعًا، وشعرت بنفسها تَرتفِع في الهواء. عندما نظرت حولها رأت أنها باتَت الآن واقفة في الشُّرفة أيضًا، تنظر إلى الأسفل نحو حشد الإلكترونات تحتها. «لا بد أن هذا ما قصده الإلكترون بالاستثارة إلى الطابق الأعلى. لم يبدُ لي هذا مثيرًا إلى هذا الحد، لكن على الأقل المكان أكثر اتساعًا هنا.»
عندما أصبح كلٌّ من الإلكترون والفجوة خارج نطاق رؤية أليس، سارت هي نفسها على طول الشُّرفة نحو المخرج، فقد شعرت أنها اكتفت بما سمعته من حديث العميد. مرَّت عبر الباب الصغير ووجدت نفسها في ممرٍّ طويل. كان ميكانيكي الكَم في انتظارها بجوار الباب، فسألها: «هل استمتعتِ بذلك؟»
ردَّت أليس في أدب: «للغاية، أشكرك.» شعرت أن هذا الردَّ كان متوقعًا منها. «لقد كان الجزء الأكثر إثارةً الاستماع إلى العميد وهو يدير الاجتماع.»
بدأ الميكانيكي حديثه قائلًا: «هذا ما تراءى لكِ، لكن في الواقع كانت الإلكترونات هي التي تُديره وهذا بمجرد استثارتها إلى الأعلى نحو مُستوى التوصيل. جميع الإلكترونات لها شحنة كهربية كما تعرفين، ولذلك عندما تتحرَّك تتسبَّب في تدفُّق التيار الكهربي. قد قُدرَ للشحنة التي تحملها أن تكون سالبة؛ لذلك فالتيار يسري في الاتجاه المعاكس لحركة الإلكترونات، لكن هذه ملاحظة ثانوية وغير مهمَّة. فإذا كانت كل الحالات التي من المحتمَل أن يصلَ إليها أي إلكترون ممتلئة بالفعل بالإلكترونات، كما في مستوى التكافؤ، فيكون من المستحيل حدوث أي حركة وسوف نحصل على عازل كهربي. في هذه الحالة تكون الإلكترونات وشحناتها ثابتة في مواضعها، ومن ثم لا ينشأ تيار كهربائي. أما في حالتنا الراهنة فيُمكنك الحصول على تيار كهربي فقط عندما تكون الإلكترونات قد حملت إلى الأعلى، إلى مستوى التوصيل الفارغ حيث يكون لديها حيِّز وفير وفي مقدورها التحرُّك بسهولة. وفي هذه الحالة يُمكنك الحصول على تيار كهربي ينتج عن حركة الإلكترونات والفجوات التي تخلفها وراءها.»
اعترضت أليس قائلة: «لكن كيف يُمكِن لفجوة أن تُعطيَ تيارًا كهربيًّا؟ فالفجوة هي شيء ليس له وجود.»
سألها الميكانيكي: «مبدئيًّا أنتِ تتَّفقين معي على أنه ليس في مقدور الإلكترونات أن تتحرَّك؛ ومِن ثَمَّ لا يوجد تيار كهربي عندما تكون الإلكترونات كلها موجودة في مستوى التكافؤ الأدنى؟ فالتيار الكهربي لا يتغيَّر بل يظل على حاله كما لو لم تكن توجد إلكترونات سالبة الشحنة.»
أجابت أليس: «حسنًا، أجل أتفق معك.» فقد بدا هذا منطقيًّا ومقبولًا بما يَكفي.
«إذن يجب أن تعترفي بأنه عندما ينقص إلكترون واحد فقط، فإن التيار الكهربي سيبدو هكذا نتيجة لأن هناك إلكترونًا أقل. تتصرَّف الفجوة في مستوى التكافؤ كما لو كانت شحنة موجبة، فقد رأيتِ كيف أن حركة الفجوة نحو الباب كانت بالفعل نتيجة أن كثيرًا من الإلكترونات أخذت خطوة في الاتجاه المعاكس. ولهذا فإن التيار الكهربي الذي ينتج عن حركة الإلكترونات السالبة الشحنة بعيدًا عن الباب هو نفسه كالذي ينتج عن تحرُّك الشحنات الموجَبة نحو الباب. كما قلتُ فإن الفوتونات تُنتج تيارًا من كلٍّ من الإلكترونات التي تضعها في نطاق التوصيل، ومن الفجوات التي تُخلِّفُها وراءها.»
قالت أليس وقد قرَّرت تغيير الموضوع: «تبدو الفوتونات إلى حدٍّ ما مصدر إزعاج للإلكترونات.»
«حسنًا، في الواقع هي مُفرطة النشاط إلى حدٍّ ما، لكن الفوتونات أيضًا تكون لامعة جدًّا بالفطرة. وكما قال العميد فإن الجُسيمات ستتصرَّف كجُسَيمات. وأنا أتوقع أن بعضها في اللحظة الحالية يُقلِق سبات الإلكترونات ويُسلِّط عليها ضوءًا ساطعًا.»
قالت أليس في استفهام: «أنا آسِفة، لكن ألا تعني أنها تتنمَّر عليها؟ فأنا متأكِّدة من أن هذه هي الكلمة التي سمعتها تُستخدَم لوصف مضايقة التلاميذ بعضهم لبعض بالمزاح.»
«لا، إنهم بالتأكيد يُوجِّهون نحوهم أشعة الليزر، تعالَي معي لترَي بنفسِك.»
مشَيَا على طول الممرِّ حتى وصلا إلى باب في نهايته، فتح الميكانيكي هذا الباب ودخلا، وأَغلَق الباب خلفهما. باتا الآن في حجرة طويلة تصطفُّ على طول جانبيها أسرَّةٌ ذات دورين. استطاعت أليس أن ترى أن كثيرًا من الأدوار العليا في الأسرَّة كانت مُمتلئة بالإلكترونات، لكن الأدوار السُّفلى كانت في الأغلب الأعمِّ فارغة. أبدى الميكانيكي ملاحظته: «تجدينها أحيانًا في الأدوار العليا من الأسرَّة أكثر من الأدوار السُّفلى. إن ذلك يُسمَّى انقلاب الإشغال وفقط عندما يكون الأمر على تلك الصورة يُصبح تسليط أشعة الليزر قابلًا للتطبيق العملي.»
لم يمرَّ وقتٌ طويلٌ حتى جاء فوتون وحيد يَجري إلى داخل الحجرة، اندفع صوب أحد الأسرَّة وانحرف نحو الإلكترون الذي يشغل السرير العلوي. وبعد صوت ارتطامٍ عنيفٍ انهار الإلكترون إلى السرير السُّفلي. جفلت أليس لرؤية أنه قد أصبح هناك فوتونان الآن يَندفعان في أرجاء الحجرة، وتحرَّكا في انسجامٍ مثالي بحيث كانا كأنَّهما واحد. غمغم الميكانيكي في أُذن أليس: «ذلك مثال للانبعاث المستحَث. لقد تسبَّب الفوتون في انتقال الإلكترون إلى مستوًى أدنى، والطاقة المنبعثة تسبَّبت في خلق فوتون آخر. والآن انظري فقط لترَي كيف تتطوَّر عملية تسليط ضوء الليزر.»
سرعان ما أصبحت الحُجرة مزدحمة بحشد من الفوتونات المُتماثلة، كلها تندفع للأمام والخلف في توافُقٍ مذهل. أصبح يُوجد الآن تقريبًا نفس عدد الإلكترونات في الأسرَّة السُّفلية كما في الأسرَّة العلوية، وعلى ذلك باتت احتمالية أن تستثير تلك التصادمات إلكترونًا إلى موضع أعلى مع فقدان واحد من الفوتونات مكافئة لاحتمالية خلق فوتون جديد. تدفَّق سيل الفوتونات عبر الباب في نهاية المهجَع وعبر الممرِّ كشعاع ضوء ضيق متسق. اصطدمت هذه الفوتونات بالبِنية الضخمة للعميد الذي كان يَمشي باتجاهها، وذلك قبل أن تجتاز حتى نصفَ الطريق عبر الممر.
توقَّف في الحال، ووقف منتصبَ القامة ونشر عباءته السوداء السميكة على الجانبَين، وبذلك أظهر جسمًا أسودَ كثيفًا سدَّ الممر بفعالية. ارتطمت الفوتونات بالمادة السوداء الحالكة السواد واختفت تمامًا. وقف العميد لحظةً وقد بدا محمومًا ومنزعجًا، يَمسح العرق الذي يتصبَّب من وجهه شديد الحمرة بمنديل.
قال وهو ينفخ: «لن أتحمل مثل هذا السلوك. لقد حذرتهم من قبل بأن أي فوتون سيستمر في التصرف بهذه الطريقة سيتعرض للامتصاص على الفور. إنه، مع ذلك، عمل محموم، بما أن الطاقة المتحرِّرة يجب أن تذهب إلى مكان ما، وعادةً ما ينتهي بها الحال على صورة حرارة.»
قالت أليس: «اعذرني، هل يُمكنك أن تُخبرني أين ذهبت كل تلك الفوتونات؟»
«بكل تأكيد، إنها لم تذهب إلى أي مكان يا عزيزتي، بل تعرَّضَت للامتصاص، ولم تَعُد موجودة.»
هتفَت أليس التي شعرت بالأسف على الفوتونات الصغيرة المسكينة التي خبا وهَجُها واختفت فجأة وإلى الأبد: «يا إلهي، يا له من أمر مأساوي.»
«لا، على الإطلاق، على الإطلاق، فهذا كله جزء من كونها جسيمات غير محفوظة. هذه هي طبيعة الفوتونات؛ فهي تأتي بسهولة وتذهب بسهولة. فهي تُولَّد وتُدمَّر طوال الوقت، وهو ليس أمرًا خطيرًا.»
صاحت أليس: «أنا على يقين من أنه يكون هكذا بالنسبة إلى الفوتون.»
«حسنًا، أنا لست حتى متأكدًا من هذا. فأنا لا أعتقد أن المدة التي يبدو لنا فيها أن الفوتون موجود بالفعل تُمثِّل أي أهمية بالنسبة إلى الفوتون. فهذه الفوتونات تَنتقِل بسرعة الضوء، فكما ترَين هي في النهاية عبارة عن ضوء. وبالنسبة إلى أي شيء يَنتقِل بهذه السرعة يتوقَّف الزمن. ولهذا مهما طالت المدة التي تبدو لنا فيها أنها موجودة على قيد الحياة، فالوقت بالنسبة إليها لا يمرُّ على الإطلاق. فتاريخ الكون بأكمله قد يمر كومضة بالنسبة إلى الفوتون. وأعتقد أن هذا هو السبب في أنها لا تُصاب أبدًا بالملَل.
«كما قلت في الاجتماع، فإن الفوتونات لها أدوار كثيرة مهمة تلعبها لاستثارة الإلكترونات من حالة إلى أخرى، وبالتأكيد في إنشاء التفاعُلات التي تَخلُق الحالات في المقام الأول. وكي تفعل هذا فمن اللازم أن يَجريَ توليدها وتدميرها طوال الوقت؛ فهذا جزء من العمل، من الممكن أن تقولي ذلك. ومع ذلك فإن إنشاء التفاعلات هي مهمَّة الفوتونات الافتراضية بشكل أكبر. ونحن لا نتعامل معها كثيرًا هنا. وإذا كنتِ مهتمة بالحالات وكيف يتنقَّل المرء بين حالة وأخرى، فيجب أن تزوري وكيل الحالات. وسوف يرشدكِ صديقك هناك إلى الطريق.»
رافقهما العميد إلى خارج الأكاديمية ثم عبروا ممر السيارات حتى وصلوا إلى البوابة. وبينما كانا يسيران في الطريق، استدارت أليس لمرة كي تلوح للعميد، الذي كان واقفًا بشموخ في وسط المدخل، حيث رأته للمرة الأولى.
هوامش
إن كانت الجسيمات مُماثلة لبعضها، فإن الأمور ستُصبح أكثر تعقُّدًا. فالإلكترونات (أو الفوتونات) مُتماثلة تمامًا، ولا توجد أي وسيلة للتمييز بينها. فعندما ترى أحدها فقد رأيتها جميعًا. إذا ما قام إلكترونان بتبادُل حالتَيهما التي يشغلانها فيما بينهما، فلا توجد أي وسيلة تجعلك قادرًا أبدًا على إدراك هذا. وتكون السعة الكلية، كالمعتاد، مزيجًا من كل السعات غير القابلة للتمييز فيما بينها، والتي تشمل الآن كل الاستبدالات التي حدَثَ فيها تبادُل للجُسيمات بين حالتين.
لا يُؤدِّي تبادل جسيمين متماثلين إلى أي فارق فيما يمكنك رصده، وهو ما يعني أنه لا يُؤدِّي إلى أي فارق في توزيع الاحتمالات الذي نحصل عليه عند ضرب السَّعة في نفسها. هذا قد يعني أن السَّعة نفسها لا تتغيَّر أيضًا، أو قد يعني أن السعة تتغيَّر إشارتها، على سبيل المثال، تتحوَّل من الموجب إلى السالب. وهذا مُكافئ لضرب السعة في سالب ١. عندما تُضرب السعة في نفسها كي تحصل على سعة الاحتمال، فإنَّ هذا العامل سالب ١ يُضرب أيضًا في نفسه كي يصبح العامل +١، وهو ما سيَجعل الاحتمالية لا تتغيَّر. يبدو التغير في الإشارة بمَثابة سفسطة أكاديمية تافهة، لكن له نتائج مُذهِلة.
هل يهمُّ حقًّا إذا ما تغيَّرت إشارة سعة نظام من الجسيمات أو لم تتغيَّر عندما يقوم اثنان منها بتبادُل حالتَيهما؟ من المثير للدهشة أنَّ هذا الأمر مهم، وله أهمية كبرى.
لا يُمكن أن يجتمع اثنان من الفرميونات في نفس الحالة. فلو أن بوزونين كانا في نفس الحالة وقد جعلتهما يتبادلان فيما بينهما ففي الواقع أنت لم تُحدِث حقيقةً أي فارق على الإطلاق؛ فهذا لا يؤدِّي حتى إلى تغيُّر في الإشارة. فمثل هذه السعات غير مسموح بها للفرميونات. إنَّ هذا يعدُّ مثالًا على مبدأ باولي الذي ينص على أنه من غير المحتمل لأي اثنين من الفرميونات أن يكونا أبدًا في نفس الحالة. الفرميونات هي أكثر الأشياء فردانية؛ فمن غير المُمكن لاثنين منها أن يتطابقا أبدًا.
إنَّ مبدأ باولي على درجة قصوى من الضرورة والأهمية لوجود الذرات والمادة كما نعرفه. أما البوزونات فهي غير محكومة بمبدأ باولي، بل هي على العكس تمامًا في الحقيقة.
إذا كان كل جسيم في حالة مُختلِفة ثم قمتَ بتربيع السعة الكلية لتحسب توزيع الاحتمالات للجسيمات، فإن كل جسيم على حدة يسهم بنفس القدر في الاحتمالية الكلية. ولو كان لديك جسيمان في نفس الحالة ثم قمت بتربيع ذلك، فسوف تَحصُل على أربعة أمثال المساهمة من جسيمين اثنين فقط. كلٌّ منهما قد ساهم نسبيًّا بشكل أكبر، وعلى ذلك فأن يكون لديك جسيمان في نفس الحالة هو أكثر احتمالًا من أن يكون لديك اثنان كلٌّ منهما في حالة مُختلِفة. وأن يكون لديك ثلاثة أو أربعة جسيمات في نفس الحالة هو حتى أكثر احتمالًا وهكذا دواليك. ومن شأن هذه الزيادة في احتمالية أن يكون لديك بوزونات متعددة في نفس الحالة أن تُسبِّب ظاهرة تكاثف البوزونات؛ فتحبذ البوزونات أن تجتمع معًا في نفس الحالة. وعليه يكون من السهل قيادة البوزونات، سيرهم كقطيع هو أمر متأصل فيهم.
من الممكن ملاحظة تكاثُف البوزونات في عملية إنتاج الليزر على سبيل المثال.
بما أنَّ الذرات من نوع معيَّن تكون جميعها مُتماثلة، فإنها يكون لكلٍّ منها نفس مجموعة الحالات. أفلا يضع هذا الإلكترونات المتكافئة في كل ذرة في نفس الحالة، وهو أمر غير مسموح به؟ في الحقيقة ما دامت الإلكترونات في مواضع مختلفة، فإن الحالات تكون مُختلِفة قليلًا. فإذا كنت ستقوم بتراكب الذرات بعضها فوق بعض، عندئذٍ ستُصبح الحالات مُتماثلة، وهو ما يحظره مبدأ باولي. فالحفاظ على الذرات مُتباعِدة يكون باستخدام ما يُعرف بضغط فيرمي، لكن هو في الحقيقة ليس إلا الرفض البالغ لأن تكون الإلكترونات داخل الذرة الواحدة مُماثِلة لجيرانها. وتكون المادة غير قابلة للانضغاط بسبب الفردانية القصوى للإلكترونات.
لا يُمكن للإلكترونات التحرك في نطاق التكافؤ. فأي حركة للإلكترون يشترط ضرورة أن تتغيَّر الإلكترونات من حالة إلى أخرى، كما لا توجد أي حالات خالية للإلكترونات كي تذهب إليها. لو وضِع جهد كهربائي عبر المادة فإنه سوف يَبذُل قوة على الإلكترونات في نطاق التكافؤ لكنها لا تستطيع التحرُّك. ولو لم تكن توجد إلكترونات في نطاق التوصيل فإن هذه المادة ستعمل كعازل كهربي.
يصف ما ورَدَ سابقًا سلوك المواد من أشباه الموصِّلات؛ مواد مثل السيليكون الذي يستخدم على نطاق واسع في الإلكترونيات. ويحمل التيارَ الكهربي كلٌّ من الإلكترونات في مستوى التوصيل والفجوات في مستوى التكافؤ.
إنْ حدثَ وكان لدى المادة الكثير من الإلكترونات في مستوًى أعلى والمستوى الأدنى أغلبه خالٍ (حالة تعرف باسم انقلاب الإشغال) حينئذٍ يمكن لفوتون أن يتسبب في انتقال إلكترون من مستوًى أعلى إلى واحد أدنى. يطلق هذا التغير طاقة ويخلق فوتونًا جديدًا بالإضافة إلى ذلك الذي سبَّب الانتقال. ويُمكن لهذا الفوتون بدوره أن يدفع إلكترونات أكثر للهبوط إلى حالة أدنى.
في الليزر ينعكس الضوء جيئةً وذهابًا من المرايا في كلتا نهايتَي التجويف، مما يتسبَّب في انبعاث المزيد من الفوتونات في كل مرة يمرُّ فيها بشكل متكرِّر خلال المادة. يتسرَّب القليل من هذا الضوء من خلال المرايا التي ليست عاكسات مثالية، مما يُؤدِّي إلى صدور شعاع ضيق كثيف: ألا وهو ضوء الليزر. وبما أن الفوتونات قد انبعثَت استجابة مباشرة للفوتونات الموجودة بالفعل، فإن الضوء كله يكون في توافُق أو في المرحلة نفسها وله خصائص متفرِّدة تتعلق بإنتاج تأثيرات تداخل على نطاق كبير مثلما يمكننا أن نرى في الصور المجسمة (لا تحتاج كل الصور المجسمة إلى ضوء ليزر، لكنه يُساعد).