ذرات في الخواء
مشت أليس مع وكيل الحالات على طول حافة الخواء، وهي تنظر إلى السطح الذي يَغلي باستمرار ويتلألأ بشكل طفيف مع نشاط الجسيمات الافتراضية وهي تولد وتموت دون أن يلاحظها أحد.
رأت أليس اضطرابًا في السطح على بُعد بسيط من الشاطئ، نوعًا ما من انخفاض دائري في المستوى العام المنتظم. وعلى مسافة أبعد استطاعت أن ترى حُفرًا أخرى، كثير منها كان يتجمع معًا في مجموعات. بعض المجموعات كانت صغيرة جدًّا وتحتوي فقط على زوج من الأشياء الدائرية. في حين كانت مجموعات أخرى أكثر اتساعًا. استطاعت أن ترى واحدة من المجموعات تحتوي على حلقة من ستة من الأشياء مرتبة في دائرة، بينما كان ثمة أشياء أخرى مثبتة حولها من الخارج. وعلى مسافة بعيدة، استطاعت أن ترى تجمعات ضخمة تنتشر على السطح. كان أضخمها يحتوي على عدة مئات من الأشياء الدائرية، أيًّا كانت ماهيتها.
بينما كانت أليس تنظر، رأت فوتونات تقفز على فترات متقطعة من أحد هذه الأشكال المنتشرة أمامها إلى آخر. أما الفوتونات ذات الألوان الزاهية فقد بدت إلى حدٍّ ما أشبه بوهج ينطلق من سفن في وسط البحر.
اعترفت أليس بصراحة: «كنت أتساءل عن كل تلك الأشياء البعيدة هناك. لا أستطيع أن أراها بوضوحٍ من هنا. هل من الممكن أن نقترب أكثر؟»
«إذا أردت أن تنظري عن قرب إلى الذرات فيجب أن نذهب مباشرة إلى مراسي مندلييف. هناك سوف ترين كل أنواع الذرات المعروضة، مع كل العناصر المختلفة موضوعةً في ترتيب مُنتظِم.»
ملك ديميتري إيفانوفيتش مندلييف
تأسس عام ١٨٦٩.
أعلن الوكيل: «ها قد وصلنا. فهناك تصطفُّ الذرات على رصيف الميناء قبل أن تنطلق لتكوِّن مركباتها الكيميائية المختلفة. غالبًا ما نطلق على هذا اسم «مرسى مندلييف» أو «الرصيف البحري الذري»، مع ذلك يشير الناس إليه أحيانًا باسم «مرسى الكون». سوف تجدين كل نوع من أنواع الذرات المختلِفة ممثلًا هنا.»
مشيا معًا أسفل اللافتة وسارا على ألواح رصيف الميناء. سارا مُتمهلَين على طول المرفأ بينما كانت أليس تنظر إلى الخط الطويل من الذرات الراسية في ترتيب على أحد الأجناب. بدَت لها كلٌّ من الذرات كحفرة على شكل بوق في السطح المستوي للخواء المحيط. ذكرها الشكل بالدوامة الصغيرة التي تراها تتكون دائمًا فوق المصرف في كل وقت تُفرِّغ فيه حوض الاستحمام، إلا أن هذه كانت تبدو ساكنة تمامًا، بلا دوران مرئي. في كل حفرة منها ينزلق السطح المحيط الأملس إلى اللاشيء نحو الأسفل من المستوى المسطح الساكن الذي يمتدُّ من حولهما في كل ناحية. ينحدر بدرجة تدريجية تكاد تكون غير مدرَكة حسيًّا في البداية، لكن الانحدار يزداد على نحو أكبر مع اتخاذها شكل القمع في الأسفل نحو المركز. كانت ثمة علامات على نشاطٍ ما يحدث في مكانٍ ما في عمق الحفرة.
سألت أليس في فضول: «لماذا توجد مثل هذه الحفر العميقة؟ فبما أننا نَنظُر إلى لا شيء، كنتُ أتوقع أن يكون السطح كله مستويًا وعديم الشكل.»
ردَّ عليها: «هذا بئر جهد.»
واصلت أليس حديثها في فضول: «أي نوع من الآبار هذا؟ فأنا أعرف آبار الحدائق التي توفر الماء، وأعرف أيضًا آبار البترول، وأكاد أتذكَّر شيئًا عن رؤية بئر دبس السكر في كتاب كنت أقرؤه مؤخرًا، لكن ما الذي تحصل عليه من بئر الجهد؟»
«إنه مصدر الجهد بكل تأكيد، فلا بد من وجود مصدر لتوفير الماء في بئر الحديقة. هنا في هذا البئر توجد شحنة كهربية كمصدر للجهد الكهربي في بئر الجهد. يجب أن تكوني قد عرفتِ الآن ماذا يوجد في هذا البئر، إنه يحتوي على فوتونات افتراضية. إنها توفر التجاذب الكهربي الذي يجعل طاقة الجهد للشحنة السالبة تهبط أكثر وأكثر تحت مستوى الفراغ المحيط مع تحركها نحو مصدر الجهد في مركز الذرة. يخلق مصدر الجهد البئر فعليًّا، كما ترين.»
«سوف تفعل أغلبها بكل تأكيد هذا، لكن ثمة قليلًا منها لن يفعل، مثل هذه الموجودة هنا بالضبط على سبيل المثال.»
قرَّرت أليس أنه قد حان الوقت لفحص إحدى هذه الذرات عن قرب أكثر؛ لذلك مدت إحدى قدميها في تردُّد خارج حافة الرصيف. غمرتها الفرحة حين وجدت نفسها لم تغرق. وقفت قدمها على منخفض صغير في السطح، إلى حدٍّ ما مثل الحشرات التي تطفو على برك الماء والتي سبق أن رأتها. إلا أنها عندما حاولت أن تمشي نحو الذرة، اكتشفت أنه لا يوجد أي احتكاك في الخواء. فكان السطح زلقًا للغاية، ولم تتمكن أبدًا من المحافظة على خطواتها. انزلقت وهي تصرخ صرخة صغيرة على المنحدر الحاد وهوَتْ في الحفرة العميقة.
بينما كانت تسقط، وجدت أليس أن لديها وقتًا وفيرًا كي تنظر فيما يحيط بها. أصبحت جوانب البئر أكثر انحدارًا وهي تضيق عليها، وسرعان ما لاحظت أنها كانت تسقط عبر هياكل شبحية لسلسلة من الغرف، لها أسقف منخفضة متقاربة المسافات. كانت الحجرات القليلة الأولى منخفضة للغاية بالفعل، ارتفاعها كافٍ بالكاد كي يناسب بيتًا لعروسٍ لعبة، لكن مع استمرار سقوطها أصبحت الحجرات أكثر ارتفاعًا بصورة ثابتة. في البداية، كانت جميعها فارغة ومهجورة تمامًا، لكنها فيما بعد بلغت حجرة تحتوي على منضدة مُستديرة ضخمة محاطة بالكراسي. استطاعت أن ترى في الطابق أسفل هذه الحجرة مقاعد وخزانات لحفظ الأوراق والملفات، كما لو كانت تمرُّ بنوع ما من المكاتب.
الحالات التي من الممكن أن تشغلها الإلكترونات داخل الذرة تميل إلى التجمع في مجموعة من المستويات، تفصلها فجوات كبيرة من الطاقة. إذا كان المستوى الخارجي المأهول من الذرة مُمتلئًا تمامًا بجميع الإلكترونات التي يُمكنه حملها، فإن أي إلكترون زائد يُضاف عليه لا بدَّ أن يَنتقِل إلى حالة ذات طاقة أعلى. وعادةً تصبح طاقته أقل من هذا إذا بقي في حالته الذرية الأصلية. والذرات من هذا النوع، التي تكون أغلفتها الخارجية مُمتلئة تمامًا بالإلكترونات، تُكوِّن الغازات النبيلة ولا تتفاعَل كيميائيًّا مع أي شيء بالأسلوب الطبيعي.
بمرور الوقت ازدادت دهشة أليس لرؤيتها بأنها ما زالت تسقط، دون أي علامة على وصولها للقاع. أسفل، فأسفل، فأسفل؛ ألن يَنتهي هذا السقوط أبدًا؟
تقع الذرة داخل نطاق المجال الكهربي، الذي تُولِّده الشحنة الموجبة في نواتها. تنتج هذه الشحنة بئر جهد حول النواة. وهذا يحدد بدوره الحالات المتاحة للإلكترونات كي تشغلها. إن انتخاب الحالات المتاحة هو نوع من تأثير التداخُل مُماثل لكم النغمات التي يمكنك الحصول عليها من أنبوب الأرغن أو وتر الكمان. فيمكن لأنبوب واحد أن يُصدر مجموعة صغيرة فقط من النغمات، تتلاءم أطوالها الموجية مع هذا الأنبوب. بطريقة مُشابهة تتلاءم الحالات المتاحة للإلكترون مع بئر الجهد. تتجمَّع الحالات المتاحة معًا في مستويات طاقة محدَّدة. تُمحى أي دالة موجية أخرى لا تتوافَق مع واحدة من هذه الحالات بفِعل التداخُل الهدَّام.
بدأت أليس تدرك تدريجيًّا أن سقوطها لن ينتهي أبدًا. فهي لم تبلغ قاع الحفرة، ولكنها لم تكن تَنخفض أكثر. لقد كانت تطفو دون الاستناد على شيء على الإطلاق في منتصف القُمع، في مستوى واحدة من الغرف الضبابية. نظرت حولها ولاحظت أنها لم تكن بمفردها. فبالقرب منها وجدت إلكترونين كانا يشتركان في نشاط من هياج محموم. استطاعت أن ترى حولهما هيكلًا شاحبًا لغرفة مكتب ضئيلة للغاية وضيقة. نادت عليهما: «عذرًا، هل بإمكانكما التوقُّف للحظة وتخبراني أين أنا؟»
ردا عليها: «لا مساحة، لا مساحة.»
صاحت أليس في هذَين اللذين لم يبدُ لها ردهما هذا له الصلة بما تريده: «أستميحكما عذرًا، ماذا تعنيان؟»
أجاباها: «لا توجد مساحة كافية هنا لنا على الإطلاق كي نبطئ من سرعتنا، ناهيكِ عن التوقف. كما تعرفين، عندما يصبح موضع جسيم مقيدًا فإن علاقة هايزنبرج تجبر زخم حركته على أن تكون كبيرة، والمكان هنا ضيق جدًّا؛ لذلك لا نملك خيارًا سوى الاستمرار في التحرُّك. لو كانت لدينا مساحة أكبر كتلك التي لديهم في بعض المستويات الأعلى، لكنا قادرين على التحرك بطريقة أكثر تمهلًا ورويَّة، لكن هذا لا يحدث هنا. إن هذا هو أكثر المستويات انخفاضًا كما ترين؛ لذلك فمن المتوقع منا أن نبقى مشغولين طوال الوقت.»
تساءلت أليس: «حقًّا؟ ما الذي تفعلانه ويكون مهمًّا لهذه الدرجة؟»
«نحن لا نفعل أي شيء محدَّد. فلا يوجد أحد مهتم بما تقوم به الإلكترونات تحديدًا في الحالة الأرضية القاعدية، طالَما نواصل التحرُّك.»
سألت أليس: «في هذه الحالة، هل تعتقدان أن في مقدوركما أن تخبراني أين أنا دون أن تتوقَّفا؟ حيث إني لا أعرف إلى أين جئت. ما الذي يمنع أيًّا منا من الهبوط أكثر إلى أسفل البئر؟»
«إنك في أدنى مستوًى في ذرة الكلور، كما أخبرناك للتو. ونحن هنا على مقربة للغاية من مصدر الجهد؛ لذلك لا توجد إلا مساحة صغيرة جدًّا، ولذلك علينا أن نتحرك بسرعة كبيرة؛ ذلك أن زخم حركتنا لا بد أن يكون مرتفعًا. هذا يعني أن طاقتنا الحركية مرتفعة أيضًا. لا أحد منا في حالة افتراضية على وجه الخصوص، كما ترين. فيوجد للإلكترونات مواضع آمنة داخل الذرة وتستحوذ عليها لفترة طويلة. أغلب الذرات كانت موجودة لفترات طويلة، والتذبذبات الكَميَّة في الطاقة صغيرة؛ لذلك بالنسبة إلينا نحن الإلكترونات تكون الطاقة وزخم الحركة مرتبطتين بعضهما ببعض على نحو ملائم.»
واصَلا الحديث: «ربما تعرفين أنه عندما يهبط إلكترون أو أي شيء آخر أكثر في الجهد، فإنه يفقد طاقة الجهد، وهذه الطاقة تتحول إلى طاقة حركية.»
وافقت أليس وقالت: «نعم، لقد شُرح ذلك لي عند زيارتي لبنك هايزنبرج.»
«مع ذلك، هنا في بئر الجهد هذا، عندما نَقترب أكثر من المركز، تُصبح المساحة أصغر فأصغر؛ لذلك نحن نحتاج إلى امتلاك المزيد من الطاقة الحركية. وإذا كنا نريد أن نهبط ونقترب أكثر فسيتوجب علينا أن نمتلك طاقة حركية أكبر من التي يُمكننا الحصول عليها من مجرد تحويل طاقة الجهد، ولذلك نحن غير قادرين على الهبوط لأبعد من ذلك. في الحقيقة، للمفارقة، نحن ببساطة لا نكاد نملك طاقة كافية تمكِّننا من الهبوط لأكثر من ذلك، ولا يمكننا اقتراض الطاقة كتذبذبات كَميَّة؛ لأننا سوف نحتاج إليها لفترة زمنية طويلة.»
سألت أليس: «كيف يُمكنني أن أصعد إلى هذا المستوى من هنا؟»
«حسنًا، لو كنتِ إلكترونًا لكان سيتوجب عليكِ أن تنتظري هنا حتى تتعرَّضي إلى الاستثارة إلى مستوًى أعلى بفِعل فوتون، يستطيع أن يزودك بالطاقة الإضافية التي تحتاجين لها. رغم ذلك، في حالتك أتوقع أنه من الممكن أن يرفعك إلى الأعلى عامل السُّلَّم.»
تساءلت أليس: «ألا تقصد عامل المصعد؟ لقد ركبتُ مصعدًا في متجر كبير وقد كان به عامل يأخذ الناس من طابق إلى طابق، لكني لم أسمع أبدًا عن سُلَّم يحتاج إلى عامل.»
مع ذلك عندما نظرت حولها، استطاعت أن ترى نوعًا من السلالم له درجات متباعدة بشكل كبير بعضها عن بعض، وقف إلى جواره كيان غير واضح المعالم. قالت أليس في فضول: «هل لي أن أسألك من تكون؟»
«أنا عامل السُّلَّم، أنا لست مخلوقًا فيزيائيًّا، لكنني مجرد كيان رياضي. إن عمَلي هو تحويل نظام من إحدى الحالات إلى حالة أخرى أعلى أو أسفل.» أجرى بعض العمليات المعقدة، فشلَتْ أليس في فهمها تمامًا، لكنها أدَّت إلى حملها على طول درجات السُّلَّم إلى المستوى الأعلى.
في الوقت المناسب وصلت أليس إلى المستوى الذي كانت قد رأت فيه المنضدة المستديرة الكبيرة. كان هذا المستوى يَحتوي على إلكترونات أكثر من المستوى الأول. نجحت في أن تعدَّها جميعًا ثمانية، بالرغم من صعوبة الأمر بعض الشيء. وكحال جميع الإلكترونات التي رأتها حتى الآن، كانت تتحرك في جميع الأنحاء بحيوية. كان العديد منها يدور حول المنضدة، بعضها في اتجاه واحد والبعض الآخر في الاتجاه المعاكس. لم تكن البقية تدور بشكل واضح لكنها كانت على الرغم من ذلك تتحرَّك. لم يكن أي منها يجلس في سكون على أي من الكراسي الموجودة حول المنضدة، لكنها كانت تقفز إلى الأعلى وإلى الأسفل، وبعضها كان يصعد فوق المنضدة وينزل من عليها. لم تسكن حركة الإلكترونات على الإطلاق، على الرغم من أنَّها في هذا المستوى لم تكن تتحرَّك بأسلوبٍ محموم للغاية كما كان الوضع في المستوى الأدنى.
صاحت الإلكترونات بمجرَّد أن ظهرَت أليس: «أهلًا أليس، تعالي ودَعينا نُرِك كيف تعمل ذرَّة فعالة متوسِّطة الحجم. إن الطريقة التي تُجري بها شركة الكلور عملها نحن مَن نُقرِّرُها، الإلكترونات السبعة في مستوى التكافؤ.»
احتجَّت أليس قائلة: «لكن يُوجد ثمانية منكم.»
«هذا لأنَّنا دخلنا في شراكة مع ذرَّة أخرى، وهي مؤسسة الصوديوم، حتى نُكوِّن جزئ كلوريد الصوديوم. حين نعمل معًا بهذه الطريقة يَرُوق لنا أن نتذكَّر أننا نُمثِّل هنا ملح الأرض. إنَّ الذرة تعمل بتناغُم أكثر عندما تكون جميع مستوياتها التي تَحمل أي إلكترونات مُمتلئة بالكامل. نحن فقط لدينا سبعة إلكترونات في مستوى التكافؤ والصوديوم ليس لديه إلا إلكترون واحد، على الرغم من وجود مساحة تكفي ثمانية. ويكون في صالِحنا نحن الاثنين إن انتقل إلى هنا إلكترون تكافؤ الصوديوم كي يَجلس في مستوى التكافؤ عندنا ويكفل لنا مستوًى مُكتمِلًا. هذا يعني بالتأكيد أن لدينا الآن إلكترونًا إضافيًّا، ولذلك فإن لنا شحنة سالبة. أما ذرة الصوديوم فقد أصبحت تفتقر إلى إلكترون أقلَّ من المعتاد، وهو ما يمنحها شحنة موجَبة، والقوة الكهربية التي تنشأ بين هاتَين الشحنتَين المتضادتين تعمل على تماسك الذرتين معًا. يُعرف هذا باسم الرابطة الأيونية بين الذرات وهي أحد الأشكال المعتادة لبِنية الشراكة.»
وافقت أليس بلباقة على هذا الكلام: «يبدو هذا تعاونًا بالغًا من كلا الجانبين.» ثم سألت أليس: «أيٌّ منكم إذن هو الإلكترون الذي جاء من ذرة الصوديوم؟»
صاحوا جميعًا متحدِّثين في وقتٍ واحد: «أنا.» توقَّفُوا للحظة ونظروا إلى بعضهم، ثم قالوا جميعًا في وقت واحد وهم ما زالوا يتحدَّثون معًا في وحدة مثالية: «لا، إنه هو المقصود» … أدركت أليس أنه لا مغزى مطلقًا من طرح أي أسئلة تُحاول أن تميز بين الإلكترونات المتماثِلة.
سألت أليس عوضًا عن سؤالها السابق: «هل يُمكنكم أن تُفسِّرُوا لي، من فضلكم، لماذا تقولون إن ذرة الصوديوم لديها شحنة كهربية موجبة عندما فقدت واحدًا من إلكتروناتها. بالتأكيد، ما زال لديها القليل من الإلكترونات المتبقية ومن المفترض أن تكون لديها شحنات سالبة أيضًا.»
«هذا صحيح تمامًا، فنحن جميعًا معشر الإلكترونات لدينا نفس كمية الشحنة السالبة، ذلك أننا جميعًا مُتماثِلون. وبطبيعة الحال تكون هذه الشحنة مُتوازِنة ومُتعادلة داخل الذرة بفعل وجود كمية متساوية من الشحنات الموجبة التي تحملُها النواة. الذرات عادةً تكون شحنتها محايدة، فلا تكون لديها أي شحنة كهربية سواء موجبة أو سالبة. ولذلك كما ترين عندما يكون لدى الذرة إلكترون واحد أكثر من المعتاد، تكون شحنتها سالبة. وعندها تُعرَف باسم أيون سالب. أما إذا كان لديها إلكترون واحد أقل من الطبيعي؛ فإن الشحنة الموجبة للنواة سوف تسود وتُصبحُ الذرة أيونًا موجبًا.»
قالت أليس بتأمل: «فهمت، لكن ما هذه النواة التي تتكلَّم عنها؟»
جاءت الإجابة المراوغة: «توجد هذه النواة في كل ذرة» ثم أضاف الصوت في عصبية: «لكنكِ لا تريدين أن تعرفي الكثير عنها، بالتأكيد لا تريدين!»
عند هذه اللحظة، قطعت المحادثة صرخة ضعيفة صدرت من مكانٍ ما أسفلهم، ومرت عبر مستوى التكافؤ قريبًا منهم، وتوقفت في مكان ما أعلى منهم. نظرت أليس إلى الأعلى ورأت أنها كانت بسبب إلكترون، من الواضح أنه تعرَّض للاستثارة من فوتون ليترك موضعه في مستوًى منخفض وكان يبدو الآن أنه غير مرتاح بعيدًا في أحد المستويات الأعلى الخالية. تجوَّل الإلكترون ببطء نوعًا ما في المستوى المرتفع الواسع حتى أصدر صرخةً مقتضبةً في النهاية وهوى إلى مستوًى أسفل منه. عندما فعل هذا اندفع فوتون خارج الذرة، وحمل مبتعدًا الطاقة التي انبعثت نتيجة لهذا السقوط. شاهدت أليس هذا في اهتمام في حين سقط الإلكترون في تتابع من مستوًى إلى التالي عليه، وفي كل مرة يتسبب في انبعاث فوتون. كان كل سقوط أبعد من السابق عليه؛ لأن مستويات الطاقة الأدنى كانت أكثر تباعدًا من الموجودة في الأعلى، ولذلك فالفوتونات المخلَّقة كانت لها طاقات أعلى تنشأ مع كل سقوط متتابع. ومع ازدياد طاقة الفوتونات، تحرَّك لون الضوء بعيدًا نحو النهاية الزرقاء للطيف.
قال أحد الإلكترونات في فخر: «لا بد أنك قد لاحظتِ جميع الألوان المختلفة للفوتونات التي أطلقتها.» دلَّ هذا التعليق على أن هذا الذي تكلَّم للتوِّ هو نفسه الإلكترون الذي سقط، لكن أليس أصبحت الآن خبيرةً بحقيقة هوية الإلكترونات مما منعها من الوقوع في هذا الفخ. «أترين، هذه هي الطريقة التي تُشعُّ بها الذرات الضوء؛ عندما يتغير موضع إلكترون من مستوًى إلى الآخر. إن لكل الفوتونات طاقات مختلفة، ومن ثمَّ ألوان مختلفة، وهذا لأنَّ المستويات تقع على مسافاتٍ مختلفة في تباعدها. فتكون المسافات مُتقاربة جدًّا في قمة البئر، لكنها تُصبح متباعدةً أكثر وأكثر كلما نزلتِ إلى الأسفل. وهذا التباعد بين المستويات يختلف بين الذرات المختلفة الأنواع، ولذلك تكون طاقات مجموعة الفوتونات مميزة تمامًا في كل نوع من الذرات، تمامًا مثل تميُّز بصمات الأصابع عند البشر.»
ما كادت الإلكترونات الثمانية تَستقر، أو تحصل على أقصى قدر مُمكِن من الاستقرار بينما هي جميعها لا تزال في حركتها المحمومة المستمرَّة، عندما حدثت رجفة بدَت وكأنها تَسري عبر الذرة كلِّها. صاحت أليس في شيء من الذعر: «ماذا كان هذا!»
«كان هذا نوعًا من التفاعُل. لقد انفصَلْنا عن شريكنا الصوديوم ونحن الآن نَنجرِف عبر الخواء كأيون سالب حر. لكن لا تقلقي، فأنا لا أتوقع أننا سوف نَنجرِف بلا هدف لفترة طويلة. فسوف نعود قريبًا جدًّا إلى الأعمال في حين قُبل التبادُل.»
سألت أليس: «أيُّ تبادل هذا؟ هل تقصد تبادل الأوراق المالية؟ أفهم أن هذا يتحكَّم في الأعمال التجارية في عالَمي.»
«في حالتنا نحن نَعني تبادل الإلكترونات. فجميع أنشطتنا يتحكَّم فيها نوعٌ من تفاعلات الإلكترونات، ولذلك يكون تبادُل الإلكترونات مهمًّا لنا، ربما تَودِّين زيارة موقع التبادُل، أليس كذلك؟»
ردت أليس: «نعم، أعتقد هذا. كيف يُمكنُني أن أذهب إلى هناك من هنا؟ هل هي رحلة طويلة؟»
«لا، على الإطلاق. في الواقع هي ليست فعليًّا رحلة على الإطلاق. فبما أنكِ في غرفة تفاعل، فأنت بالفعل هناك بشكلٍ ما؛ إنكِ في حاجة فقط لتمثيل مختلف. إن الأمر كله يكمن في طريقة نظرك إلى الأشياء. فقط اتبعيني.»
مثلما أخبرها الإلكترون تمامًا، لم يبدُ لأليس أنهما يذهبان فعليًّا إلى أي مكان آخر، لكن مع ذلك وجدت أليس نفسها في صحبة إلكترون على حافة غرفة واسعة. كانت أرضية هذه الغرفة مزدحِمة بإلكترونات تجمَّعت حول منضدة كبيرة في منتصَف الغرفة. بدت لأليس نوعًا ما كواحدة من الطاولات التي رأتها في أفلام الحروب القديمة، حيث يتحرك القادة حول نماذج متنوعة، تمثِّل طائراتٍ أو سفنًا أو جيوشًا. على هذه المنضدة أيضًا رأت مجموعة كبيرة من النماذج كانت تتحرَّك في مجموعات مختلفة.
نظرت عن كثب أكثر إلى بعض هذه النماذج ورأت أنها تحمل الملصقات نفسها مثل الذرات الراسية على الرصيف البحري الدوري. في الحقيقة، عندما أمعنت النظر بحقٍّ لم تعد متأكِّدة من أنها مجرَّد نماذج. بدت كأنها نسخٌ مصغَّرة من الذرات التي رأتها على طول جانب هذا المرسى. فكَّرت أليس: «ربما تكون هي نفسها. ربما هذه هي نفس الذرات لكنِّي أراها على نحو مُختلِف. أفترض أنه بدلًا من الرصيف البحري الدوري، فإن هذا هو الجدول الدوري.»
امتلأت الجدران حول الغرفة بصفوف من شاشات العرض، استطاعَت أليس أن ترى عليها أعمدةً من أرقام تتغيَّر مع تحرُّك الذرات من مجموعة لأُخرى.
سألت أليس: «هل هذه هي أسعار الذرات المُختلِفة؟»
«نعم، إلى حدٍّ ما. فهذه الأرقام تُخبرنا بطاقات الإلكترونات المختلفة التي تُشارك في التفاعُلات الكيميائية. إنها تعرض طاقات الارتباط للإلكترونات؛ وهي القدر الذي تَنخفِض به طاقة الإلكترون تحت القيمة التي كان من المفترض أن يتمتَّع بها لو كان حرًّا. كلما زادت القيمة المعروضة، انخفضَت طاقة الوضع الموجودة لدى الإلكترون، وعليه يَزيد استقرار المركب الذي اندمج فيه ونجاحه. إنَّ وظيفة عملية التبادُل أن تجعل طاقات الارتباط هذه كبيرة قدرَ المُستطاع.»
تساءلت أليس التي تذكَّرت الشرح الذي تلقَّته عن الرابطة الأيونية في كلوريد الصوديوم: «وهل يحدث كل هذا عن طريق تحرك الإلكترونات من ذرةٍ إلى أخرى؟»
«لا، ليس دائمًا. أحيانًا تكون هذه هي الطريقة الأكثر فعالية، وعلى ذلك يَحدُث الارتباط بهذه الطريقة. يُمكن لتبادُل الإلكترونات أن يحصل على ميزة عن طريق تحريك الإلكترونات في كل مكان، وهذا لأن حالات الإلكترون المتاحة داخل الذرة تكون مُرتَّبة في مستويات أو أغلفة، بينها فجوات كبيرة جدًّا. إن طاقة ارتباط آخر إلكترون في مستوى طاقة منخفِض من الذرة تكون أكبر بكثير من طاقة ارتباط أول إلكترون في هذا المستوى، الذي يتحتَّم عليه الانتقال إلى غلاف أعلى. وهذا يعني أن ثمَّة وسيلة سهلة لتحسين الحصيلة الإجمالية للطاقة في الذرة لديها إلكترون واحد فقط في الغلاف الأعلى. إذا استطاع هذا الإلكترون أن يتحرَّك من مكانه الرائع — ولكن المعزول فيه تمامًا — إلى غلاف أدنى شبه مُمتلئ في ذرة أخرى، فسيكون ثمة كسبٌ كلي في طاقة الارتباط على نحو شبه مؤكَّد.»
«صحيح أيضًا أنه عندما لا يكون لدى ذرة سوى مكان واحد مُتبقٍّ في أعلى غلافٍ مشغولٍ فيها، فإنها في هذه الحالة ستكون لها طاقة منخفِضة على غير المعتاد، وأيُّ إلكترون يَنتقِل إليه سوف يُحسِّن على الأغلب من توازن الطاقة الكلي بها. ومن المتعارَف عليه بوجه عام أن الذرات التي لديها إلكترون واحد فقط سواء كانت كثيرة للغاية أو قليلة للغاية هي الأكثر نشاطًا — وهي الأكثر احتمالًا أن تُشارك في عمليات التبادُل وتكوين المركبات. والذرات التي لديها إلكترونان بمفردهما في حالةٍ عليا، وتلك التي لديها مكانان خاليان فقط في حالةٍ أدنى من المُمكن أن يُشاركا في انتقالات مشابِهة للإلكترونات، لكن الزيادة في طاقة الارتباط للإلكترون الثاني عادةً ما تكون أقلَّ كثيرًا من التي يَحصُل عليها الأول، وتكون أقل فعاليةً إلى حدٍّ كبير.»
تساءلت أليس كما بدا هذا متوقعًا منها: «إذن ماذا يُمكِن للذرة أن تفعل إذا كان لديها العديد من الإلكترونات في غلافها الخارجي؟»
إذا كانت الذرة تَمتلك إلكترونًا واحدًا فقط في مُستواها الخارجي، بينما تفتقر ذرة أخرى إلى إلكترون واحد ليكتمل مُستواها، يُمكن للاثنتَين أن يبلغا طاقةً أدنى بشكل عام عن طريق نقل الإلكترون المعزول من إحدى الذرتَين إلى مستوى التكافؤ الشبه المُمتلئ في الذرة الأخرى. هذه هي الكيمياء؛ فالإلكترونات في مُستويات الطاقة المختلفة تربط الذرات معًا. ويمكن لتفاصيل الكيمياء أن تصبح معقدةً إلى حد ما عند الممارسة، لكن هذا هو المبدأ.
تحتوي الذرة على العدد اللازم من الإلكترونات لمعادلة الشحنة الموجبة في النواة. تملأ هذه الإلكترونات الحالات ذات الطاقة الأدنى، بحيث يوجد إلكترون واحد في كل حالة. لو أنَّ ثمة ذرَّة لديها مكان واحد فارغ مُتبقٍّ في أعلى مستوًى مُمتلئ بها، وثمة ذرة أخرى لديها إلكترون واحد عليه أن يَنتقل إلى مستوى أعلى، إذن يُمكن تخفيض الطاقة الكلية عن طريق نقل هذا الإلكترون إلى المكان المتبقِّي في الذرة الأخرى. وهكذا تُصبح لدى كلتا الذرتَين الآن شحنة متعادِلة، ويربطهما التجاذب الكهربي الناتج معًا ليكوِّنا مركبًا كيميائيًّا.
«إن مثل هذه الذرة لا بد أن تتغيَّر إلى نوع آخر من الروابط؛ رابطة تُعرف باسم الرابطة التساهُمية. إنَّ ذرة مثل الكربون، على سبيل المثال، بها أربعة إلكترونات في غلافها الخارجي. هذا يعني أن بها أربعة إلكترونات، وهو عدد كبير للغاية على أن يُصبح غلافها خاليًا وكذلك قليل جدًّا على أن يصبح غلافها ممتلئًا. إنه متوازن على نحو جيد لكي يحصل على أي شيء عن طريق نقل الإلكترونات من وإلى ذرة أخرى؛ لذلك بدلًا من هذا فإنها تعمل على مشاركتها. لقد تبيَّن أنه لو كانت الإلكترونات من ذرتَين في وضع تراكب كَمِّي للحالات بحيث يُمكن لأيٍّ منها أن يوجد في أيٍّ من الذرَّتين، فإن طاقة كلتا الذرتَين قد تَنخفِض وهذا يعمل على ربطهما معًا.»
«إن الرابطة الأيونية، التي ينتقل فيها الإلكترون بالكامل من ذرةٍ إلى أخرى، لا يُمكن أن تُطبق إلا بين ذرات مختلفة تمامًا، لدى واحدة منها إلكترونات كثيرة للغاية، والأخرى لديها إلكترونات قليلة للغاية. الرابطة التساهمية، على الجانب الآخر، يُمكن تطبيقها عندما تكون الذرتان من النوع نفسه. وأبرز مثال على ذلك الترابط التساهمي الموجود بين ذرات الكربون، أساس التكتلات العضوية الضخمة.» استطاعت أليس أن تَستشعِر جوًّا عامًّا من الاحترام المهيب صادرًا من الإلكترونات المناورة حول المنضدة عند ذكر المواد العضوية.
«إن ذرة الكربون لديها أربعة إلكترونات في مستواها الخارجي أو مستوى التكافؤ. لو أن كلَّ إلكترون من هذه الإلكترونات ارتبط بإلكترونات من ذرات أخرى، فسوف تُسهمُ كلٌّ من حالات الإلكترونات الثمانية في التراكب الكَمِّي ويُصبح الغلاف ممتلئًا بفعالية. بهذه الطريقة، يمكن لذرة الكربون أن تربط نفسها بعدد كبير من الذرات يصل إلى أربع ذرات أخرى، والتي من الممكن أن تكون كذلك ذرات كربون. من الممكن أيضًا لذرة الكربون أن تُبادل اثنين من إلكتروناتها مع ذرة كربون أخرى كي تكوِّن رابطة مزدوجة، في مثل هذه الحالة فإنها لن تتَّصل بكثير من الذرات الأخرى، ولكن الرابطة ستكون أقوى.»
«إن الرابطة الأيونية في أقوى حالاتها لا تَربط أكثر من ذرة بذرَّة أخرى، ولهذا فهي لا تنتج جزيئاتٍ كبيرة. وحين يُوجَد إلكترونان يتحتَّم نقلهما، قد تُصبح الأمور أكثر تعقيدًا. وحتى حينها لا يمكن مقارنة الوضع بوضع الكربون، حيث يُمكن أن ترتبط ذرة واحدة بأربع ذراتٍ أخرى، وكل واحدة من هذه من الممكن أن ترتبط بذرات عديدة أخرى. ويُمكن للمركبات القائمة على الكربون أن تُكوِّن جزيئات عضوية على درجة هائلة من التعقيد، من الممكن أن تحتوي إجمالًا على مئات من الذرات.»
سألت أليس: «هل يُمكن لجميع أنواع الذرات المختلفة التي أراها هناك أن تكوِّن مركبات بالطريقة التي وصفتها؟»
«نعم باستثناء الغازات النبيلة؛ ففي حالة الغازات النبيلة، تملأ الذرات بالفعل أغلفة التكافؤ؛ لذلك لا تقف في انتظار الاستفادة من أي انتقال للإلكترونات. إن جميع الذرات الأخرى تُكوِّن مركبات بدرجةٍ ما، إلا أن البعض منها يكون أكثر نشاطًا من البعض الآخر، وبعضها نصادفه أكثر. على سبيل المثال، ذرة الكُلور التي زرتها هي نشيطة جدًّا. فهي تكوِّن مركبات مع أبسط الذرات، وهي ذرة الهيدروجين، التي تخصص إجمالًا إلكترونًا واحدًا فقط، وكذلك أيضًا مع أكبر العناصر في الطبيعة، اليورانيوم. إن هذا اليورانيوم مؤسسة كبيرة بالفعل؛ فهو يوظف نحو مائة إلكترون تقريبًا، لكن وحدها الإلكترونات الموجودة في مستوى التكافؤ الخارجي لديه هي التي تؤثر فعليًّا في سلوكه الكيميائي.» ثم أضاف هامسًا إليها: «إنها ذرة كبيرة جدًّا لدرجة أن ثمة شائعات تقول إن نواتها غير مستقرة.»
قالت أليس في حزم: «أردت أن أسأل عن هذا. فلقد ذكرت النواة مجددًا. من فضلك، هلا أخبرتني: ما هي النواة؟»
بدَت جميع الإلكترونات غير مرتاحة إلى حدٍّ ما، لكنها ردت على مضض: «إن النواة هي السيد الخفي للذرة. فنحن معشر الإلكترونات نُنجز جميع أعمال تكوين المركبات الكيميائية وإشعاع الضوء من الذرة وما إلى ذلك، لكن النواة فعليًّا هي التي تتحكَّم في نوع الذرة الذي نكون فيها. إنها تتخذ القرارات السياسية النهائية، وتحدد عدد الإلكترونات التي يمكننا الحصول عليها، والمستويات المتاحة لنضعها فيها. تحتوي النواة على العائلة النووية، وهي المنظمة السرية للشحنة المنتظمة.»
وخوفًا من هذه المصارحة الجارفة، حاولت الإلكترونات جميعها في جميع أنحاء الغرفة أن تَنكمِش دون لفتِ الأنظار في أحد الأركان، أو على الأقل بقدر ما تستطيع دون أن تُصبح مُنحصرةً للغاية في مكان محدَّد. ولكن فات الأوان؛ فقد وقَع الضرر! انتبهت أليس إلى وجودٍ جديدٍ بالقرب يحمل تهديدًا.
من بين الإلكترونات المهرولة كان ثمة شكل ضخم يَلُوح في الأفق فوق أليس ورفاقها. أدركت أنه كان فوتونًا، لكنه كان أكثر ضخامةً بشكلٍ واضحٍ ومميَّز من أي شيء رأته من قبل. لقد كان يتوهَّج مثل جميع الفوتونات التي رأتها لكن بطريقة خافتة ماكرة على نحوٍ غريب. لاحظَت أليس أيضًا، على نحوٍ غير متوقَّع من شيء هو نفسه أصل الضوء، أن هذا الفوتون كان يَرتدي نظارة داكنة للغاية.
قالت الإلكترونات وهي تلهَث: «إنه فوتون افتراضي ثقيل، ثقيل للغاية، لا تنطبق عليه إطلاقًا العلاقة بين الطاقة وزخَمِ الحركة. إنه واحد من المنفِّذين لصالح النواة. فالفوتونات مثله تَنقُل التحكم الكهربي للنواة إلى إلكتروناتها التابعة.»
قال الفوتون بلهجة وعيد: «أسمع أن أحدًا ما يَطرح سؤالًا؟ إن النيوترونات والبروتونات داخل النواة هي من نوع الجُسَيمات التي لا تحب أن تسمع الأسئلة تُطرح من أيِّ شخص مهما كان. سوف أصطحِب هذا الشخص نفسه في جولة صغيرة كي يُقابل مجموعاتٍ معينة أو بالأحرى جسيمات معينة. إنها ترغب في مقابلتها بإلحاح في الحقيقة.»
لم يبدُ هذا كبداية مبشِّرة للقاءٍ جديد، وكانت أليس تُفكِّر إن كان من الممكن لها أن ترفض في سلام. لم تستطع أبدًا أن تدرك، حين فكرت في الأمر مرارًا فيما بعد، كيف بدآ في التحرُّك؛ كل ما استطاعت تذكُّره أنهما كانا يَجريان جنبًا إلى جنب، وكان الفوتون يَصرُخ باستمرار: «أسرَع.» وشعرت أليس بأنها لن تستطيع أن تُسرع أكثر، مع أنها لم يكن لديها أيُّ نفس متبقٍّ كي تقول هذا. اندفعا عبر سطح المنضدة وغاصا في واحدة من الذرات الممثَّلة على سطحها. لقد كانت واحدة من ذرات اليورانيوم، تضخَّمت بشكلٍ مهول حين اندفعت كي تلقاهما.
كان أعجب جزء في هذه التجربة أنهما حالَما كانا داخل الذرَّة لم تتبدَّل مواضع الأشياء من حولهما على الإطلاق؛ فبصرف النظر عن السرعة التي كانا يتحرَّكان بها، لم يبدُ أنهما قد مرَّا بأي شيء. ما لم تُلاحِظه أليس أن ما يُحيط بهما — من إلكترونات مشغولة وحدود المستويات التي تحتوي عليها بدت وكأنها تزداد حجمًا بثبات كلما ركضت.
فكرت أليس المسكينة المتحيِّرة: «هل كل شيء يزداد حجمًا بالفعل أم أنني أنا من أتقلص؟»
صاح الفوتون: «أسرَع، أسرَع! لا تُحاولي أن تتكلَّمي.»
شعرت أليس أنها لن تكون أبدًا قادرة على الكلام مجدَّدًا؛ فقد كانت أنفاسها على وشك أن تنقطع؛ وما زال الفوتون يصيح: «أسرَع! أسرَع!» ويجرُّها على طول الطريق.
نجحت أليس في أن تُخرج كلماتٍ لاهثة في النهاية: «هل أوشكنا أن نصل؟»
كرَّر الفوتون: «أوشكنا!» ثم أضاف قائلًا: «بالتأكيد نحن في وجهتنا طوال الوقت ولا مكان آخر لكنَّنا لسنا مُنحصِرين كفاية، لسنا بالكاد. أسرَع!» واصلا الجري في صمت لفترة، مُسرعين أكثر فأكثر بينما تزايد حجم المشهد المحيط بهما، وامتدَّ إلى الأعلى وإلى الخارج حتى أصبح كل شيء رأته من قبل ضخمًا للغاية كي يُصبحَ مدركًا بالكامل بسهولة.
صاح الفوتون: «الآن! الآن! أسرَع! أسرَع! إن زخم حركتِك الآن كبيرٌ تقريبًا بما يَكفي لحصرك داخل النواة.» تحركا بسرعة كبيرة جدًّا حتى بدوَا وكأنهما يندفعان منزلقين عبر الهواء، حتى وجدت أليس نفسها فجأة، عندما أصبحت مرهقة تمامًا، تقف أمام برج طويل مُعتم، مرتفع في سلاسة أمامها، يتقوَّس وهو يرتفع عن الأرض ويضيق باستمرار كلما ارتفع. كان معتمًا وبلا معالم في المستويات السُّفلية، ومع ذلك، ففي مكان ما في قمته استطاعت أليس أن ترى أنه كان ينتهي بتداخل بين أبراج وأسوار زخرفية ذات فتحات. كان التأثير العام الذي وقعَ على أليس هو كونه منفرًّا.
قال الفوتون الافتراضي الثقيل: «ها أنتِ ذي تَنظُرين إلى قلعة رذرفورد، منزل العائلة النووية.»
هوامش
-
السبب الوحيد لعدم سقوط الكواكب مباشرةً داخل الشمس يرجع إلى أنها تدور حولها. وثمة أدلة مؤكَّدة على أن الكثير من الإلكترونات لا تدور إطلاقًا حول النواة.
-
وفقًا للفيزياء الكلاسيكية، فإن الإلكترونات التي تدور داخل الذرة يجب أن تشع طاقة ويجب أن تضعف حركتها بالتدريج. ويُمكن لشيء صغير في حجم الذرة أن يفعل هذا بسرعة إلى حدٍّ ما، في أقل من واحد على مليون من الثانية، وبهذه الطريقة لا تنهار الذرات. (في الواقع، إنَّ حركة النظام الشمسي تقلُّ بالتدريج، لكن ببطء إلى حدٍّ ما، على مدًى زمني يصل إلى ملايين السنين.)
لأيِّ نوعٍ محدَّد من الذرات مجموعةٌ متفرِّدة من مستويات الطاقة للإلكترونات. عندما تنتقل الإلكترونات من أحد المستويات إلى آخر، فإنها تشعُّ فوتونات تُساوي طاقتها الفارق في الطاقة بين المستويين. وبما أن طاقة الفوتونات تتناسَب مع تردُّد الضوء ولونه، فإن هذا يُعطي خط طيف بصري للذرات مميَّز مثل بصمة الإصبع.
كان تفسير وجود خطِّ الطيف النجاح الأول الكبير لنظرية الكَم الناشئة. اتَّفقَت النظرية مع تردُّدات الخط المرصود وتنبأت بخطوط طيف أخرى، لم تكن قد شُوهِدت من قبل. جرى اكتشاف كل هذا في الوقت المناسب وأوضح ذلك أن نظرية الكَم لا يُمكِن طرحها جانبًا بسهولة.