معًا في قطار واحد
لقد كان خلف الرجل رجلٌ آخر. كانا يبتسمان. ولم يدر «أحمد» ماذا يفعل، إلا أنه ابتسم أيضًا، وأفسح الطريق لهما ليمرَّا. مرَّ الرجلان، وتوقَّف «أحمد» قليلًا وخلفه «باسم»، وما إن اختفى الرجلان حتى قال «أحمد»: يبدو أنهم كثيرون هنا، فنحن نقترب من «ماهشوبيكشو»، انتظر قليلًا. ثم أخذا طريقهما إلى البوفيه، فوجدا الرجلين جالسين على منضدة قريبة من إحدى نوافذ القطار، وفي نفس الوقت قريبة من باب العربة. جلس «أحمد» و«باسم» على منضدة بعيدة قليلًا عنهما، كان «أحمد» يجلس في اتجاههما، بينما «باسم» يعطيهما ظهره.
اقترب جرسون البوفيه من الشياطين، فطلبا عصيرًا، وعندما انصرف الرجل قال «باسم»: لا بد أن نعرف إن كانت هناك محطة قريبة أم لا. عاد الجرسون بالعصير، فسأله «أحمد»: متى نصل إلى المحطة القادمة؟
الجرسون: ما زال هناك وقت.
فنظر «أحمد» في ساعته ثم قال: هل أمامنا نصف ساعة مثلًا؟
الجرسون: أين تريدان النزول؟
ابتسم «أحمد» وقال: في نهاية الخط.
رد الجرسون بابتسامة طيبة، وقال: لا يزال أمامكما وقت طويل.
كان «أحمد» — خلال حديثه مع الجرسون — يراقب الرجلين اللذين كانا يحتسيان القهوة. شكر الجرسون الذي انصرف بعد أن وضع كوبي العصير أمامهما.
كانت أصوات العجلات الرتيبة هي النغمة السائدة في جو عربة البوفيه، وإن كانت بعض أصوات الركاب تعلو في بعض الأحيان، وشرد «أحمد» قليلًا وهو ينظر إلى الرجلين، كان يُفكِّر … لماذا يترك الموقف يتحول إلى صدام وهما لا يعرفان شيئًا سوى الشكِّ فقط؟
قام أحد الرجلين، وأخذ طريقه إلى باب العربة، ثم اختفى في الممر، كان هو الرجل الثاني. فكَّر «أحمد»: لا بد أنه ذهب إلى مقصورته. بعد لحظات قام الرجل الأول، وأخذ طريقه إلى المقصورة التي فيها الشياطين، وعندما مرَّ بجوار «أحمد» كان يبدو أنه لا يُلقي بالًا إليه، واستمر حتى تجاوز الباب، وأصبح «باسم» هو الذي يراه … قال «أحمد»: هل دخل عربتنا؟ أجابه «باسم»: نعم، لقد اختفى تمامًا الآن.
نادى «أحمد» الجرسون، ودفع ثمن العصير، ثم قام ومعه «باسم» إلى عربتهما، وعندما تجاوزا الممر الضيق الذي يفصل بين العربة والبوفيه، شاهدا الرجل الأسمر يقف أمام نافذة القطار … استمرا في طريقهما، حتى دخلا المقصورة … فوجئ «خالد» و«هدى» بهما، فنظر لهما «أحمد» نظرات فهماها، ولم ينطق أحدهما بكلمة.
ظهر الرجل في باب المقصورة، وقال: هل تسمحون لي بالصحيفة؟
كانت الصحيفة في يدي «هدى»، فابتسمت له وهي تُقدِّمها إليه قائلةً: معذرةً، كُنت أتصفَّحها.
ابتسم الرجل وقال: لا بأس … ينبغي أن يعرف الإنسان ماذا يدور حوله … ثم نظر إلى «أحمد» الذي ابتسم له، قائلًا: بالتأكيد، وإلا فإنه يكون غريبًا في هذا الكون! …
هزَّ الرجل رأسه، وكأنه فهم بالضبط المعنى الذي يقصده «أحمد»، وقال: بالضبط، بالضبط!
خرج الرجل فتبعه الشياطين بأعينهم، فوقف أمام النافذة، وقد شرد قليلًا، نظر «أحمد» في ساعة يده، ثم نظر إلى «باسم»، كان يعني أن المحطة قد اقتربت، وأن أمامهم عشر دقائق فقط، حتى يدخل القطار محطته القادمة …
كان الرجل لا يزال يقف نفس وقفته الهادئة المتأملة، ومن يده تتدلى الصحيفة، وكأنها لا تعنيه. ثم فجأة رفع الصحيفة أمام عينيه، وكأنه قد تذكَّر شيئًا.
كان «أحمد» يرى وجه الرجل كاملًا، وقد وقف بجانبه يقرأ الصحيفة … نظر الرجل في ساعة يده ثم ابتسم … كان القطار قد بدأ يرسل صَفَّارته الحادة، وكأنه يُعلن للمنتظرين في المحطة القادمة أنه قد اقترب منهم. أو ربما كان السائق يُسلِّي طريقه الطويل الموحش، ويُسلِّي الركاب أيضًا.
ألقى «أحمد» نظرةً سريعةً من النافذة … كانت الجبال ترتفع بلا نهاية، بألوانها البنية والصفراء والبيضاء، وبرغم تدرج الألوان، إلا أن ارتفاع الجبل كان يوحي بالوحشة، فلم يكن هناك إنسان واحد يظهر … بدأت عجلات القطار تئز … بفعل الفرملة، ثم أخذت سرعة القطار تهدأ مع صَفَّارته التي يتردد صداها في الفضاء البعيد العريض … وقفت «هدى» أمام زجاج النافذة، كان رصيف المحطة قد بدأ، ومعه بدأ ظهور المنتظرين … كان الرجل لا يزال في نفس وقفته داخل المقصورة وهو يبتسم، ثم وقف بجوار «هدى» قائلًا: معذرة، هل أستطيع أن أقف بجوارك؟
ابتسمت له «هدى» قائلةً: بالتأكيد!
توقَّف القطار، كان الشياطين يرقبون وجه الرجل وهو يتأمل الناس على المحطة. ثم — وبعد قليل — أخذت ابتسامةٌ هادئةٌ تعلو وجهه، فقال «أحمد» في نفسه: لا بد أن هناك شيئًا!
ظلَّ الرجل في مكانه لا يبرحه، مع ثبات ابتسامته على وجهه، وكأنه قد نسيَها … التفت إليهما وقال في هدوء: إنها بلاد رائعة!
قال «أحمد»: لعلك في رحلة؟
ابتسم الرجل قائلًا: ليس بالضبط … غير أنني أحب الطبيعة، إنها تأسرني تمامًا، أليست كذلك؟!
أحمد: بالتأكيد. ومن لا يحبها؟
الرجل: إنني أحب الجبال بالذات … إنها تثير الخيال، وتدعو إلى المغامرة.
هزَّ «أحمد» رأسه، وقال: بلا شك.
جلس الرجل بينهم، بعد أن ترك الصحيفة بجواره، وابتسم يقول: لقد عشت سنوات طويلة متنقِّلًا بين الأماكن الجبلية والصحراوية، إنني لا أحب المدن المزدحمة؛ فهي تُثير الأعصاب.
كان الشياطين يُنصتون للرجل، فأفزعتهم تلك الصَّفَّارة الحادة التي أطلقها القطار، ونظروا إلى بعضهم، ثم ابتسموا. بدأت حركة القطار تعني أنه يُغادر المحطة، وبدأ صوت العجلات ينتظم، واضطُرَّ الرجل أن يرفع صوته قليلًا، حتى يسمعوه، قال: لقد عشت في بلاد كثيرة … «الهند» … «باكستان»، «اليابان»، «كوريا»، وزرت «إيران»، إنها بلادٌ جميلةٌ، فيها سحر الشرق.
سألته «هدى»: هل زرت الشرق الأوسط؟
هزَّ الرجل رأسه، وقال: إنني أعرف أنكم منه، فيبدو أنكم من بلاد الفراعنة … للأسف، إنني لم أزرها، لقد مررْتُ فوقها، فقط … إنها بلاد جميلة كما قرأت.
سألته «هدى» مبتسمة: ولماذا تقول إننا من بلاد الفراعنة؟
قال الرجل: لكم ملامحهم … ثم نظر إلى «أحمد»، وقال: خُصوصًا هذا الصديق.
ثم ابتسم وسأل: هل أتعرَّف بكم؟
قالت «هدى»: اسمي أمينة!
قدَّم كلُّ واحد من الشياطين اسمه، ولم يكن هو اسمه الحقيقي، قال الرجل في النهاية: إنني سعيدٌ بلقائكم. ثم قدَّم نفسه: اسمي الدكتور «هام».
نظر في ساعته ثم ابتسم لهم قائلًا: أعتذر، فلا بد أن أشرب قهوتي الآن. إن كنتم مسافرين حتى نهاية الرحلة، فسوف نتحدَّث طويلًا. إن السفر يخلق صداقات طيبة، وأرجو أن نكون أصدقاء.
شكره الشياطين، فخرج، لكنه عاد بعد لحظة وقال لهم: هل أدعوكم إلى فنجان شاي؟ …
قال «أحمد» بسرعة: نحن نشكر هذه الدعوة، لكننا سوف نظل في انتظارك، والمؤكد أننا سوف نسمع حكايات بديعة عن تجربة حياة الدكتور في تلك المناطق!
هزَّ الرجل رأسه وقال: لا بأس … ثم خرج.
ما إن اختفى حتى قال «خالد» فيما يشبه الهمس: ينبغي أن نكون أكثر حذرًا في مراقبته، وإلا فإننا نكون غير أذكياء بالمرة …
ابتسم «أحمد» ثم قال: إنها خطة طيبة منه، غير أنني أتوقَّع أن يتصرف بعكس ذلك تمامًا!
هدى: ماذا تعني؟
أحمد: أعني أننا سوف نضحك كثيرًا.
لم يفهم الشياطين ماذا يعني «أحمد» الذي اختفت ابتسامته فجأة، وهو يُخرج جهاز الاستقبال الصغير. أسرع باسم إلى الباب لمراقبته، وبدأ «أحمد» في تلقِّي الرسالة: «من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س»، إن اجتماع هؤلاء الرجال سوف يكون في منتصف ليلة الغد، داخل مدينة «ماهشوبيكشو»، وهم يتجمعون الآن، والمؤكد أنكم قد قابلتم بعضهم. إن المعلومات التي وصلت إلينا تقول إنهم لا يزيدون على العشرات، وإن كانوا منتشرين في العالم، غير أن الذين سيجتمعون هم الذين سوف يضعون خطتهم لتجميع الباقين. أتمنى لكم التوفيق.»
أطفأ «أحمد» الجهاز، فأسرع «باسم» بالانضمام إليهم … قال «خالد»: إذن … فإن مغامرتنا سوف تبدأ من الغد!
باسم: بل إنها بدأت الآن … إننا نستطيع أن نختصر كل شيء، إذا ظللنا في حالة اتصال بهم.
ابتسم «أحمد» وقال: إنهم لن يُعطونا هذه الفرصة!
صمت الشياطين، ولم يعد هناك صوتٌ غير صوت عجلات القطار، فأخرج «أحمد» أحد ألعاب الشياطين، وقال: هيَّا نقطع الوقت، ما دُمنا نعرف طريقنا … فجلست «هدى» أمام «أحمد»، ثم بدأ كل منهما يرصُّ قطع الشِّطْرنج على الطاولة، واستغرقوا جميعًا في مراقبة اللعبة.
كان القطار يطوي المسافات الشاسعة بسرعة، ولم يعد يُطلق صَفَّارته، لم يكن هناك سوى هذه الاهتزازات التي يسببها القطار.
قالت «هدى»: كش ملك!
ابتسم «أحمد» ثم مدَّ يده، ونقل الملك من مكانه، وهو يقول: إلا الملك!
ابتسم الشياطين، غير أن «باسم» وقف فجأةً، وقال: سوف أذهب إلى البوفيه، لقد غاب الدكتور «هام»!
قال «خالد»: لا بأس … هل آتي معك؟
باسم: الأحسن أن أكون وحدي، حتى لا نلفت النظر.
كان «أحمد» مستغرقًا هو و«هدى» في اللعب، ولذلك لم يُعلِّق على شيء.
وخرج «باسم» وأخذ طريقه إلى البوفيه … كان اهتزاز القطار يجعله يمشي مترنِّحًا في الممر الطويل؛ فقد كانت سرعة القطار كبيرة، وعندما اقترب من باب البوفيه … وقعت عيناه على الدكتور «هام»، غير أن الدهشة ملأت وجهه. لقد كان هناك عدد من الرجال لهم نفس ملامح الدكتور، وكانوا يجلسون في هدوء، يُدخِّنون ويشربون القهوة … لم يتراجع «باسم»، فقد أخذ طريقه إلى البنك، حيث يجلس البعض أمام البوفيه، وما إن جلسَ حتى سمِع صوتًا يناديه باسمه المستعار، وعرف بسرعة أنه الدكتور «هام»، والتفت خلفه، فأشار له الدكتور مبتسمًا: انضم إلينا أيها الصديق!
فكَّر «باسم» بسرعة، ثم نزل عن كرسيِّه، متجهًا إليهم.
كان الرجال ينظرون إليه، وعلى وجوههم ابتسامة هادئة فحيَّاهم «باسم» برقَّة، ثم قال للدكتور: شكرًا سيدي الدكتور. فقط اسمح لي أن آخذ الشاي هناك!
الدكتور «هام»: ولماذا هناك؟ أليس معنا أفضل؟
باسم: قد أسبب لكم بعض الإزعاج.
هام: إطلاقًا … سوف يُسعدنا ذلك كثيرًا.
فكَّر «باسم» بسرعة … هل يجلس معهم؟ ثم، ألا يسبب غيابه قلق الشياطين، فيأتون مسرعين؟ قال مبتسمًا: إنني سوف آخذ الشاي لبقية الأصدقاء، وهم ينتظرونني فشكرًا يا سيدي الدكتور.
حيَّاهم مرة أخرى، ثم انصرف، وطلب الشاي للشياطين، ثم حمله في أكواب من البلاستيك وانصرف، فتقابل مع الجرسون في الطريق، فسأله «باسم»: هل نحن نقترب من محطة ما؟
نظر الجرسون في ساعة يده وقال: نعم، بعد ربع ساعة.
شكره «باسم» ثم استمرَّ في طريقه إلى مقصورة الشياطين … كانت أكواب الشاي تهتزُّ في يديه حتى إنه خشيَ أن يقع الشاي عليه، فمشى بسرعة، حتى يمكن أن يحفظ توازنه. وعندما وقف على باب المقصورة، حيَّاه «خالد»: رائع … إنني كنت أفكِّر في كوب شاي.
ابتسم «باسم» وقدَّم لهم الشاي، ثم جلس هامسًا: إنهم يتجمَّعون الآن!
سأل «أحمد»: من هم؟
باسم: ستة رجال، مع الدكتور «هام» ومن بينهم الرجل الآخر، الذي رأيناه!
هدى: هذا شيء طيب … إنهم سوف يأخذوننا معهم.
ابتسم «أحمد»، وقال: يكون شيئًا رائعًا لو حدث هذا!
أخذ الشياطين يشربون الشاي، بينما انطلقت صَفَّارة القطار مدوِّية. قال «أحمد»: إننا نقترب من محطة ما.
خالد: ألا يجب أن نُراقبهم؟
أحمد: لا أظن. إننا في النهاية سوف نلتقي بهم، وهم لا بد أن يصلوا إلى هناك.
توقَّف القطار، ونظر «أحمد» من النافذة، كان أفراد قلائل يقفون على الرصيف، ولم يقف القطار طويلًا، فقد أطلق صَفَّارته معلنًا قيامَه، ثم بدأت حركة العجلات. أسرع القطار قليلًا، ثم أخذت سرعته تزداد، وفجأةً علت وجهَ «أحمد» الدهشة، وصاح: انظروا!
لكن الشياطين لم يروا شيئًا، فقد كانت سرعة القطار قد ازدادت …