اثنان في الليل
أسرع «أحمد» إلى عربة البوفيه … كان الشياطين يرقبون «أحمد» في دهشة بعد أن صاح: «انظروا»، فلم يروا شيئًا … قطع «أحمد» ممر العربة في لمح البصر، وعندما وقف عند باب عربة البوفيه، مرَّت عيناه بسرعة على وجوه الموجودين، لم يكن الدكتور «هام» هناك، ولا أحد غيره ممن يبحثون عنهم … تأكَّد «أحمد» في تلك اللحظة أنَّ ما رآه على رصيف المحطة كان صحيحًا … عاد بسرعة إلى الشياطين الذين كانوا لا يجدون إجابة لما فعله «أحمد»، وعندما جلس قال: لقد اختفَوْا!
صاح «باسم»: دكتور «هام» ومن معه؟!
أحمد: نعم! …
صمت الشياطين ولم يكن من صوت سوى إيقاع العجلات المنتظم، بعد لحظات قال «أحمد»: على أي حال … نحن في النهاية سنلتقي بهم، يكفينا الآن أننا عرفنا دكتور «هام».
تكرر وقوف القطار في محطاته، لكن ذلك لم يَعُد يعني الشياطين، إن المهم هو الوصول في النهاية إلى آخر محطة … أخذوا يقطعون الوقت في لعب الشِّطْرنج، أو أحاديث الذكريات القديمة، ومغامراتهم في «الهند» وأساطيرها، وتلك المغامرة الرائعة التي قاموا بها في «إيطاليا» عندما بدأت مغامراتهم … ومع حديثهم انقضت الساعات وانقضى الطريق أيضًا …
مرَّ مفتش القطار ليرى تذاكر السفر، فسأله «أحمد»: متى نصل إلى أقرب محطة من «كوزكو»؟ … فقال المفتش وهو ينظر في ساعته: أمامنا ساعة …
كان المساء قد بدأ يزحف على الأشياء، حتى إن التفاصيل لم تعد تظهر من زجاج النافذة كثيرًا، لم تكن هناك سوى مساحات من الألوان البنية الرمادية بفعل المساء، حتى إن ذلك فرض نفسه عليهم، فجلسوا صامتين بلا لعب ولا حديث …
فجأة … تعلَّقت أعينهم بالباب … لقد ظهر رجل له نفس ملامح دكتور «هام»! لكن ذلك لم يجعلهم يستمرُّون في النظر إليه … فقد تشاغلوا بالكلام. قال الرجل: هل تسمحون لي بمصاحبتكم؟ إن العربات امتلأت عن آخرها …
قال «خالد»: يُسعدنا أن تُشاركنا المكان …
الرجل: لي زميل، هل أستطيع أن أدعوه، إنني أرى مكانين بينكما …
خالد: بالتأكيد …
شكرهم الرجل، وانصرف … نظر الشياطين إلى بعضهم ثم ابتسموا، قالت «هدى»: إن الحظ يخدمنا … لكن ينبغي أن نكون أكثر حرصًا هذه المرة …
أحمد: هذا صحيح. لقد أخطأنا في المرة السابقة …
لم تمرَّ دقائق حتى ظهر الرجلان. ألقى الرجل الآخر تحية المساء، ثم أخذ كلٌّ منهم مكانه. كانت «هدى» تجلس بجوار «خالد» و«باسم»، بينما كان «أحمد» يجلس بجوار الرجلين. وفي هدوء كان الثلاثة؛ «خالد»، و«باسم»، و«هدى» يرقبون الرجلين …
مرَّت فترة صمت، قطعها الرجل الأول قائلًا: اسمحوا لي أن أُقدِّم لكم نفسي حتى نقطع الصمت الثقيل هنا … إنني «جاكو»، وزميلي مستر «كيلاك». هل نتعرَّف عليكم؟
قدَّم «أحمد» الشياطين بأسماء مستعارة … قال «جاكو»: هل تذهبون إلى نهاية الخط؟
أحمد: نعم …
جاكو: هل أنتم في رحلة؟
أحمد: إننا نبحث عن عمل …
جاكو: عمل؟! هذه مناطق جبلية، والعمل فيها قليل …
أحمد: لقد قرأنا أن هذا موسم جمع «الكاكاو» وقصب السكر …
جاكو: هذا صحيح، وإن كان العمل شاقًّا …
ابتسم «أحمد»، وقال: أعتقد أننا في السن التي تسمح بأن نتحمَّل العمل الشاق …
ابتسم «كيلاك» وقال: هل تقصدون أحدًا معيَّنًا؟
أحمد: لا، ولكننا سنبحث عن مكاتب العمل.
هزَّ «كيلاك» رأسه، ولم يُجب. فاستمرَّ «أحمد»: الحقيقة أنها مناطق جديدة بالنسبة لنا …
تحدَّث «جاكو»: هذا يعني أنكم عملتم في مناطق أخرى …
أحمد: نعم. كنَّا نعمل في مزارع العنب في فرنسا …
ابتسم «جاكو»، وقال: هذا شيء رائع أن يبدأ الشباب العمل مبكرًا …
صمت الجميع مرة أخرى، غير أن «كيلاك» قطع هذا الصمت قائلًا: وأين ستنزلون؟
أحمد: الدليل يقول لنا إن هناك فنادقَ كثيرةً متناثرةً في هذه المناطق، ولن تكون هناك أية مشكلة …
صمت «كيلاك». كان بقية الشياطين يراقبون الحوار الدائر بين الرجلين وبين «أحمد»، وعندما صمتوا، قال «خالد»: هل يسمح السيد «كيلاك» بأن يدلَّنا عندما ننزل المحطة …
اغتصب «كيلاك» ابتسامة، وقال: لا بأس. لكني لا أعرف إن كنتم ستنزلون في نفس المحطة …
خالد: سوف ننزل بالقرب من «كوزكو» …
تردَّد تعبير الدهشة على وجه «جاكو»، وسرق نظرةً إلى وجه زميله «كيلاك» الذي قال: إذن، سننزل معًا!
قال «أحمد» بسرعة: منذ أيام تعرَّفنا في «ليما» بدكتور، اسمه الدكتور «هام»، وأخبرنا أننا يمكن أن نسأل عنه في «كوزكو»، فهو معروفٌ هناك …
راقب «أحمد» وجه الرجلين وهو يذكر اسم «هام»، إلا أن أحدًا منهما لم يظهر على وجهه شيء، وإن كان «جاكو» قد تردَّد قليلًا، ثم نظر إلى «أحمد» قائلًا: دكتور «هام» في «كوزكو»، لا أظن أن هناك طبيبًا بهذا الاسم …
سأل «أحمد»: هل السيد «جاكو» من «كوزكو»؟
لم يرد «جاكو» مباشرةً، وإنما قال بعد لحظة: إنني من هناك حقًّا، لكنني كنت أعيش بعيدًا عن «كوزكو» سنوات طويلة، وربما لهذا السبب لا أعرف الدكتور «هام».
صمتوا مرةً أخرى، وبعد دقائق نظر «كيلاك» في ساعة يده، ثم نظر إلى «جاكو» قائلًا: إننا نقترب. فنظر «جاكو» في ساعته، ثم قال: لا يزال أمامنا وقت يعطينا الفرصة لاحتساء فنجان قهوة …
نظر «كيلاك» إلى الشياطين ثم قال: هل يمكن أن أدعوَكم إلى فنجان قهوة؟
شكره الشياطين. فقال: إذن، نحن في البوفيه، وعندما نتوقف في المحطة، أرجو أن أراكم …
قام «جاكو» و«كيلاك» وخرجا من المقصورة … قالت «هدى»: لماذا ذكرت اسم «هام»؟
أحمد: كنت أُريد أن أعرف إن كانوا يعرفون بعضهم أم لا …
هدى: وهل عرفت؟
قال «أحمد» بعد فترة: المسألة لها وجهان. قد يكون يعرفه، ويُخفي الحقيقة، وقد يكون لا يعرفه فعلًا؛ فقد كانوا متفرقين، في أماكن كثيرة من العالم …
باسم: أخشى أن يكون ذكرك لاسم «هام» إشارة لأن يشكُّوا فينا …
أحمد: ولماذا يشكُّون؟ إن أحدًا لا يعرف ماذا يفعلون. ولا ماذا نعرف …
خالد: ألا نراقبهما؟
أحمد: إننا في النهاية سننزل في محطة واحدة …
سكت الشياطين، واستغرق كل منهم في تفكيره … ألقى «خالد» نظرة من زجاج النافذة، لم يكن يظهر شيء، كان الليل قد غطَّى كل الأشياء، ارتفعت صَفَّارة القطار، وظهر الكمساري على الباب، قال لهم: إننا نقترب من «كوزكو»، يمكن أن تستعدوا …
شكره «أحمد»، وبدءوا يُنزلون حقائبهم من فوق رفوف المقصورة، ثم خرج الواحد بعد الآخر إلى الممر أمام المقصورة. كان هناك ركاب كثيرون يقفون مثلهم. ألقى «خالد» نظرةً على الركاب، كانوا جميعًا أصحابَ ملامح متشابهة، لكن كان ينقصهم طول قامة هؤلاء الرجال.
كان الركاب في حالة صمت، ولم يكن أحد منهم يتحدَّث مع الآخر، وكأنهم جميعًا لا يعرفون بعضهم … أو … كأنهم غرباء عن المكان.
بدأت صَفَّارة القطار تزداد، حتى أصبحت صَفَّارة طويلة متقطِّعة. ثم بدأت سرعة القطار تهدأ شيئًا فشيئًا، فأخذ الشياطين طريقهم إلى عربة البوفيه … كانوا يمرون بصعوبة لازدحام الممر … وعندما وقف «أحمد» على باب العربة، شاهد «جاكو» و«كيلاك» يجلسان، وقد انهمكا في الحديث. لم يكن أيٌّ منهما يرى «أحمد»، فظلَّ واقفًا في مكانه، يراقبهما …
توقَّف القطار أخيرًا، وبدأت جَلَبة الركاب وزحامهم في النزول من القطار. وبين الزحام، حاول «أحمد» أن يرى «جاكو» أو «كيلاك»، إلا أنه لم يستطع. دفَعَه الزحام إلى الباب، فنزل. رأى بقية الشياطين يقفون مع الرجلين … أسرع تجاههم، وعلى وجهه ابتسامة عريضة …
قال «جاكو»: هل ستنزلون في فندق معين؟
باسم: لا يهم، أي فندق …
خالد: هناك فندق اسمه فندق «بونو» …
رفعت «هدى» يدها وأشارت إلى اتجاه معين. نظروا في اتجاه يدها، فقرءوا لافتة بالنيون مكتوبًا عليها: فندق بونو.
قال «كيلاك»: أتمنى لكم حظًّا سعيدًا إذن …
حيَّاهم، ثم انصرف هو و«جاكو». قال «أحمد»: لا بد أن يتبعهما أحد … ردَّ «باسم»: هيا بنا نتبعهما معًا. و«خالد» و«هدى» يذهبان إلى الفندق … أخذ «خالد» حقيبة «أحمد»، وأخذت «هدى» حقيبة «باسم» ثم انصرفا …
ومن بعيد، تابع «أحمد» و«باسم» الرجلين، كانا يسيران في هدوء، وفي مكان بعيد على رصيف المحطة الخارجي، وقفا … كان يبدو أنهما ينتظران شيئًا. ظل «أحمد» و«باسم» يراقبانهما، ولم تمرَّ دقائق، حتى وصلت سيارة جيب وكأنها سيارة جيش، وقفت أمامهما، ونزل منها السائق، ثم تقدَّم منهما، وحيَّاهما تحيةً حارةً وفتح لهما الباب، فركبا. نظر «أحمد» حوله، كانت هناك سيارة تاكسي قريبة، أشار إليها فأسرعت إليه. ركب «أحمد» و«باسم» التاكسي، وقال «أحمد» للسائق: هل يمكن أن نتبع السيارة الجيب التي تحركت الآن …
لم يُجِب السائق … وإنما انطلق بالتاكسي خلف الجيب … كانت إضاءة الشوارع خافتة، حتى إن السيارة الجيب لم تكن تظهر جيدًا، ومضى وقت طويل في متابعة الجيب، ثم فجأة، بدأت سيارة التاكسي ترتج. توقَّف السائق وقال: إن هذه منطقة جبلية، ومن الصعب أن نستمر في التقدم …
قال «أحمد»: إن السيارة الأخرى تسير أمامنا!
السائق: إنها سيارة خاصة بتلك الطرق. ثم … إلى أين تريدان الذهاب بالضبط؟
أحمد: إلى حيث تذهب هذه السيارة! …
السائق: لا أظن. فالمناطق هنا غير مأهولة … ولا أدري إلى أين بالضبط يمكن أن نذهب!
أخرج «أحمد» مسدسه … ووضعه في ظهر الرجل، وقال بلهجة حادة: تقدَّم. إننا في مهمة!
ارتجف الرجل وقال: إلى أين يا سيدي؟ إن هذه مهمة صعبة!
أحمد: ولذلك سمَّوها مهمة … انطلق قبل أن نفقد أثر الجيب …
انطلق السائق، غير أن السيارة بعد أن قطعت عدة مترات توقَّفت، وكان من الصعب أن تتحرك من مكانها مرة أخرى، قال السائق: هناك استحالة أن تتحرك السيارة؛ إن الطرق هنا جبلية، وتحتاج إلى سيارات خاصة …
صمت «أحمد» قليلًا، وقال «باسم»: هيا ننزل، من المؤكد أننا سنجد وسيلة ما …
أحمد: كيف؟
باسم: أي شيء … إن اجتماع …
لم يُكمل «باسم» كلامه، خوفًا من أن يعرف السائق شيئًا، وفي نفس الوقت فهم «أحمد» ماذا يقصد «باسم»، أخرج عدة جنيهات ثم قدَّمها للسائق قائلًا في ودٍّ: أرجو أن تعذِرني، كان يجب أن نلحق بالجيب …
شكره الرجل، دون أن يزيد كلمةً واحدة، ثم حاول أن يستدير بالتاكسي، إلا أنه وجد صعوبةً، فساعده «أحمد» و«باسم» حتى أخذ طريق العودة ثم انطلق … وقف الاثنان ينظران حولهما، كانت المنطقة مظلمةً تمامًا، قال «أحمد»: ماذا نفعل الآن؟
باسم: من المؤكد أن كثيرين منهم سوف يمرون الآن. ومن المؤكد أيضًا أننا سنجد وسيلة …
أخذا جانب الطريق، ثم جلسا على صخرة. كان الصمت يلف كل شيء … الليل هادئ. أخرج جهاز الإرسال الصغير، ثم تحدث فيه: إلى «ش. ك. س» هل وصلتما؟
جاءه الرد سريعًا: نعم. حجزنا. ما الأخبار؟
ردَّ: ليس بعد. تحياتي …
أنصت «باسم» قليلًا، ثم قال ﻟ «أحمد»: استمع! أليس هذا صوت سيارة؟ …
وقف «أحمد» فوق الصخرة، فرأى ضوء سيارة يقترب، وإن كان يختفي في بعض المنحنيات، قال: نعم هناك سيارةٌ تقترب …
أسرعا إلى منتصف الطريق، ووقفا فيه دقائق، وبدأ ضوء السيارة يظهر أكثر فأكثر … حتى أصبحا يقفان في ضوء السيارة … وتوقف السائق. اقترب «أحمد» و«باسم» من السيارة، ثم … كانت المفاجأة …