داخل قلعة «ماهشوبيكشو»
لقد كان دكتور «هام» داخل السيارة. ما إن رآهما حتى ابتسم قائلًا: إلى أين أيها الأصدقاء؟
كان يجلس بجواره رجلٌ آخر. نفس الرجل الذي رأَوْه في القطار … قال «أحمد»: يبدو أننا فقدنا الطريق.
هام: أي طريق هذا؟
أحمد: إننا نبحث عن فندق!
ضحك «هام» ضحكة عالية، ثم قال: فندق! هنا! إن الفنادق أمام المحطة مباشرة. وبيننا وبين المحطة نصف ساعة بسيارة مسرعة …
صمت قليلًا، وهو يرمقهما بعينين حادتين … ثم سأل: وأين بقية الزملاء؟
باسم: يبدو أننا فقدنا أثر بعضنا في الظلام …
ابتسم «هام»، وسأل: لا بد أنكم كنتم مغمضي الأعين، حتى تفقدوا أثر بعض!
أحمد: قد نكون نزلنا خطأً … فلم تكن هذه وجهتنا …
صمت «هام» قليلًا، ثم تحدَّث إلى من بجواره بلغة لم يفهمها الشياطين، ثم قال: لا بأس … تفضلا.
نظر «باسم» إلى «أحمد»، ثم تقدَّم الاثنان إلى السيارة حتى أصبحا بجوار الباب الذي فتح لهما … كانت السيارة مشابهةً تمامًا للسيارة الجيب التي اختفت … ركب «أحمد» و«باسم» في الكرسي الخلفي … غير أن «هام» قال: لا، لا. اركبا في الكرسي الأمامي بجوار السائق …
نزلا وجلسا بجوار السائق، وما إن أغلق «أحمد» باب السيارة حتى انطلقت بسرعة. ورغم وعورة الطريق، ورغم أنها كانت تقفز بين الحُفَر والمرتفعات الصغيرة، إلا أنها كانت مسرعة …
ظلَّ «هام» ومن معه يتحدثان بلغة غير مفهومة … وضع «أحمد» يده في جيبه الداخلي، ثم ضغط زرَّ المسجل الصغير، فبدأ يعمل … كان يفكِّر: قد تفيد هذه اللغة الغريبة، فربما استطعنا كشفها.
ظلت السيارة تقفز، والاثنان في حالة حديث لا يتوقَّف، بينما ظل «أحمد» و«باسم» صامتين …
مدَّ «باسم» يده في هدوء، وأمسك يد «أحمد»، ثم ضغط عليها ضغطات يفهمها الشياطين … أخفى «أحمد» ابتسامةً كادت تظهر على وجهه، ثم ضغط هو الآخر يد «باسم». وردَّ أحمد: إن أحسن طريقة أن تذهب إلى عرين الأسد، ولا تنتظره …
بدأت السيارة، تصعد طريقًا مرتفعًا. لم يكن يُسمع سوى صوت الموتور في الليل، وبين لحظة وأخرى يسمع صوت صخرة صغيرة تتهاوى بفعل اهتزاز السيارة، فقد كان الطريق يرتفع أكثر فأكثر. ثم تحدَّث السائق للرجل، بنفس اللغة غير المفهومة، فبدأ الرجلان يربطان أحزمة في السيارة حول وسطهما … ثم قال «هام» مخاطبًا «أحمد»: بجوار كل منكما حزام، اربطاه حتى لا تقعا علينا …
مدَّ «أحمد» يده يبحث عن الحزام حتى وجده، فربطه حول وسطه، وفعل «باسم» مثله. ظلَّ الطريق يرتفع. فجأةً … ظهرت سيارة في الطريق، كانت تقف في جانبه … أعطت إشارةً ضوئيةً لفتت نظر الشياطين … كانت تُضيء وتُطفئ فوانيسها ثلاث مرات متتالية، ثم تُطفئ تمامًا، ثم تعود لتكرار ذلك مرتين … تحدَّث «هام» بلغته إلى الرجل الذي يجلس بجواره … اقتربوا من السيارة المتوقفة فلمع ضوءٌ قويٌّ في وجهي «أحمد» و«باسم»، حتى إنهما اضطُرَّا إلى إغماض عيونهم، وقبل أن يتمكنا من رؤية من أمامهما، كانت السيارة قد انطلقت. بدأ حديث «هام» وزميله، وفي نفس الوقت كان «أحمد» و«باسم» يتحدثان بلغة الأيدي …
قال «باسم»: يبدو أنها نقطة حراسة …
أحمد: بالتأكيد … ويبدو أننا سنلاقي منها الكثير! …
ظلت السيارة في انطلاقها، مع تصاعد الطريق … وكانت الأضواء تكشف الصخور التي تقع على الجانبين، في حين أن الطريق كان مُعبَّدًا، أكثر مما كان في بدايته، حتى إن «أحمد» فكَّر: لا بد أن صعوبة الطريق في بدايته مقصودة …
بعد قليل، ظهرت سيارة أخرى على جانب الطريق، وفي مساحة الضوء التي تكشف الطريق، وقف اثنان أيضًا … تكررت الإشارة الضوئية، فوقفت السيارة، وهذه المرة أغمض الشياطين أعينهما، حتى لا تتأثر بالضوء …
وعندما فتحاها، كانت السيارة لم تنطلق بعد، وكان هناك حديث يدور بين حارسي الطريق، ودكتور «هام»، شاهد «أحمد» و«باسم» عددًا من الحراس، يحملون المدافع الرشاشة، وقد لبسوا ملابس لها لون الصخر، وعلى الكتف علقت شارة، استطاع «أحمد» القريب من الباب أن يراها جيدًا … كانت شارة تشبه الفأر الصغير … نظر «أحمد» إلى «باسم» الذي نظر بدوره إلى كتف أحد الحراس، ورأى الشارة … ضغط «أحمد» يد «باسم» يُحدثه بلغة الإشارة؛ قال له: «الآن تأكَّدنا من أنهم فعلًا هؤلاء الرجال الذين نبحث عنهم» … انطلقت السيارة في سرعة رتيبة هذه المرة، فقد أصبح الطريق أملس تمامًا، مما ساعد على انطلاقها. ولأول مرة سمع «أحمد» ضحكة «هام» المرتفعة. قال «هام» مخاطبًا «أحمد»: ما رأيك … أليست رحلةً طيبة؟
ابتسم «أحمد» والتفت إلى «هام» قائلًا: بلا شك خصوصًا أنها مع شخصية هامة!
هام: من تقصد؟
أحمد: حضرتك طبعًا.
هام: وكيف عرفت؟
أحمد: نقطة الحراسة، تُعطي إيحاء بذلك …
ضحك «هام» ضحكة عالية، ثم قال: إنك شاب ذكي!
صمت الجميع، ولم يعد هناك سوى صوت السيارة التي تنطلق كالصاروخ. تحدَّث السائق بعد لحظة إلى «هام» الذي قال بعد أن انتهى حديث السائق: يمكنكما فكُّ الحزام …
شيئًا فشيئًا … بدأت تظهر أصوات، كأنها الصلاة. حاول «أحمد» و«باسم» أن يتبيَّنا ما يُقال، إلا أنهما لم يستطيعا. كانت الأصوات تقترب أكثر، ثم بدأت بقعةٌ من الضوء الأبيض تظهر، أخذت تتسع وتتسع، وكلما اقتربت السيارة، ارتفعت الأصوات أكثر. شعر «أحمد» بالرهبة. كان الجو غريبًا تمامًا … ضغط «أحمد» يد «باسم» الذي ردَّ عليه بلغة الأيدي، كان «أحمد» يقول: مسألة غريبة، أليس كذلك؟
بدأت التفاصيل تظهر أكثر. رأى الشياطين مجموعةً كبيرةً من الرجال، وكأنهم يؤدُّون نشيدًا حماسيًّا، وكانت بقعة الضوء تغطيهم تمامًا. نظر «أحمد» إلى «هام» وقال: هل هذه صلاة؟
ابتسم «هام» ولم يرد، فقد بدأ يردد نفس الكلمات التي يسمعها «أحمد»، وإن كان لا يفهم معناها …
توقفت السيارة بعيدًا قليلًا عن الجمع الموجود … نظر «هام» إلى السائق ثم تحدَّث إليه بكلمات غير مفهومة، ثم ترك السيارة هو والرجل الآخر. ظلَّ «أحمد» و«باسم» يرقبان ما يحدث لحظة، ثم تحدَّث إليهما السائق: هيَّا انزلا …
نظر الشياطين إلى بعضهما، ثم نزلا من السيارة. قال السائق: اتبعاني … سارا وراءه في صمت … كانت الأصوات تهدأ، ثم ترتفع. ظلَّا يبتعدان عن المكان ويدخلان مع السائق في منطقة مظلمة تمامًا. أمسك «باسم» بيد «أحمد» وتحدث إليه: فرصةٌ أن نهرب في الظلام …
ردَّ «أحمد»: فرصتنا أن نظل معهم …
اقتربوا من كوخٍ صغيرٍ مبنيٍّ بالحجر الأبيض. فتح السائق الباب ثم قال: ادخلا وسوف آتيكم بعد قليل …
دخل الاثنان، ثم أغلق السائق الباب. لم يسمعا صرير مفتاح، فظنَّا أن الباب مفتوح. وصلت إليهما أصوات أقدام السائق، وهي تبتعد شيئًا فشيئًا حتى تلاشت تمامًا، قال «أحمد» في همس لا يسمعه سوى «باسم»: أظن أن الباب مفتوح …
باسم: إنني لم أسمع صوتًا لقفل …
صمت «أحمد» قليلًا ثم قال: إن هروبنا معناه أننا فقدنا كل شيء، ولهذا فقد ترك السائق الباب مفتوحًا …
تقدَّم «باسم» من الباب وحاول فتحه … كان الباب يكاد يكون بناء من الصخر …
عرَفَ الشياطين أنهما في سجنٍ حقيقيٍّ … ولم يكن أمامهما إلا الانتظار، رفع «أحمد» عينيه إلى السماء … وقال: من الغريب أن المبنى بلا سقف … هل ترى النجوم؟
نظر «باسم» إلى السماء هو الآخر، ثم صاح بصوت هادئ تملأه الدهشة: كم هي رائعة!
كان المبنى بلا سقف، لكن جدرانه كانت عاليةً جدًّا، حتى يصعب معها الهروب … ومن بعيد، وصل إليهما صوت تلك الصلاة الغريبة، لكنها بدت خافتة تمامًا، وشيئا فشيئًا بدأت تتلاشى، وزحف الصمت على المكان … حتى الحشرات لم يكن لها صوت … ولا كلب ينبح …
بدأ الصوت يزداد في المكان … فقد طلع القمر، وبدأ الاثنان يتبيَّنان المكان جيدًا … تقدم «أحمد» من الحائط، ومرَّ بيده عليه … كان الحائط خشن الملمس تمامًا. نظر إلى «باسم» وقال: «إنه يصلح للصعود.»
أجاب «باسم»: لا جدوى … فالمؤكد أن هناك من يُراقبنا …
صمَت الاثنان تمامًا، ولم يعد هناك ما يُقال، لم يكن لديهما سوى الانتظار. أخرج «أحمد» المسجل الصغير ثم بدأ يسمع الشريط … كانت الكلمات واضحةً لكن اللغة لم تكن مفهومةً. قال «باسم»: يجب أن نُرسل رسالةً إلى رقم «صفر»؛ فنحن نحتاج إلى معرفة هذه اللغة …
قال «أحمد»: هذه فكرة طيبة …
أخرج جهاز الإرسال، ثم بدأ يرسل الرسالة: «من «ش. ك. س» إلى رقم «صفر». إننا داخل «ماهشوبيكشو» … هناك لغة لا نفهمها … نريد حل رموزها. المسجل يمكن أن يرسل هذه اللغة.»
توقف «أحمد» قليلًا، يستمع إلى الرد …
«من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س». أرسل اللغة» … أدار «أحمد» جهاز المسجل أمام جهاز الإرسال، وبدأ رقم «صفر» يتلقى الرسالة. كان «باسم» يقف قرب الباب مركزًا سمعه على أي صوت، خوفًا من اقتراب أحد … كانت الدقائق تمرُّ، وقد أمسك الاثنان أنفاسهما فجأةً … التفت «باسم» إلى «أحمد» قائلًا: هناك صوت خطوات قادمة … إنها تقترب أكثر، ويبدو أنها لأكثر من واحد … نظر «أحمد» في شريط المسجل فوجده عند نهايته، أغلق الجهاز، ثم أخفى الجهازين … أسرع «باسم» إلى «أحمد» ثم جلس الاثنان على الأرض، وقد أراحا ظهريهما على الحائط … اقترب صوت الخطوات أكثر، حتى أصبح قريبًا من الباب … لحظة … ثم فتح الباب ليظهر «هام»، كانت بيده بطارية تُضيء المكان، غير أنها لم تكن تظهر تمامًا … قال «هام»: والآن … أنتما بين أيدينا … أريد أن أعرف بالضبط، ما الذي جاء بكما إلى هنا؟
قال «أحمد» وهو لا يزال جالسًا: هل يظن الدكتور أن هناك شيئًا؟
هام: إذن، ما الذي جاء بكما إلى هنا؟
أحمد: لقد نزلنا في محطة خطأ … نحن نبحث عن عمل، وقد فقدنا أثر زميلينا نتيجة هذا الخطأ!
نظر «هام» إلى الباب ثم نادى: مستر «جاكو»! مستر «كيلاك»!
فجأة ظهر الاثنان على الباب، وما إن رأيا «أحمد» و«باسم» حتى صاح «جاكو»: كيف وصلتما إلى هنا؟
كانت الدهشة تعلو وجه «كيلاك»، وقال «هام»: أهذان هما من سألا عنِّي؟
جاكو: نعم. غير أنهم كانوا أربعة! …
بدأ «هام» يُغيِّر لغته، ويتحدث إلى «جاكو» و«كيلاك»، ثم في النهاية قال: أنتما هنا، حتى تقولا الحقيقة … وأرجو أن تعرفا أن لدينا أجهزة يمكن أن تعرف ما تفكِّران فيه …
أخرج من جيبه كرةً صغيرةً صفراء … ألقاها أمامهما قائلًا: عندما تصلان إلى قرار، في الليل، أو في النهار، اقذفا هذه الكرة إلى أعلى، حتى تتعدى السور، وسوف آتيكما …
استدار وانصرف، فانصرف خلفه «جاكو» و«كيلاك»، ثم أغلق الباب خلفهم … أخذت أصوات أقدامهم تختفي شيئًا فشيئًا، حتى ضاعت في الليل … قال «أحمد»: ما رأيك!
باسم: لا شيء … أعد الاتصال برقم «صفر».
لم يكد «أحمد» يدير جهاز الإرسال حتى جاءه صوت رقم «صفر» يقول: «من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س»، سجل اللغة على الشريط» …
نظر الاثنان إلى بعضهما وابتسما … أخيرًا، سوف يعرفان ما يقال …