ثم جاءت الطائرات
في نفس اللحظة، كانت «هدى» قد ظهرت تجري، وخلفها كان دخانٌ كثيفٌ يُخفي كل ما بداخل القاعة. وبعد لحظة ظهر «خالد»، وكان يسعل بشدة، وقد دمعت عيناه. أسرعت «هدى» في اتجاه «باسم» الذي صفَّر لها، ولم يكن أحد من الحراس قريبًا منه، بعد أن دخلوا جميعًا المبنى، ثم صفَّر «باسم» ﻟ «خالد» فجرى ناحيته.
أسرع الثلاثة بالابتعاد عن المكان، في اتجاه «أحمد»، وعندما وصلوا إلى هناك كان «أحمد» يضع سماعتين في أذنيه، وعندما رآهما أشار لهم أن يصمتوا.
كان «أحمد» يستمع إلى ما يدور في القاعة، بعد أن أطلق جهاز تنصُّت لاصق، لا يرى بسهولة … لصقه في جدار المبنى، وبدأ يستمع لكل ما يُقال.
كان الشياطين يتابعون تعبيرات وجه «أحمد» التي كانت تدلُّ على الدهشة، فداخل القاعة كانت هناك أحداث ضخمة تدور … استمر الحديث داخل القاعة. لقد كان هناك من يخطب. وقال «أحمد» لنفسه: لا بد أنه زعيم الإنكا …
فجأة أشار «أحمد» للشياطين بأن يُسرعوا بالاختفاء وخلع السماعتين، ثم انطلق مُسرعًا خلف الشياطين، وترك جهاز التنصُّت اللاصق على حائط القاعة. فجأة لمع ضوء قوي، وعندما التفت الشياطين، كانت كومة هائلة من الحطب قد اشتعلت حتى أحالت المكانَ كلَّه إلى نهار.
أصبح الشياطين واضحين تمامًا، لكنهم حاولوا الاختفاء خلف أحد الأعمدة الضخمة، التي تقف كقوس النصر.
قال «باسم»: طريقة الخناجر!
قفز «أحمد» قفزة هائلة، أصبح على أثرها بجوار السور، ثم بدأ يتسلقه، وفعل «باسم» نفس الشيء، ثم تبعهما «خالد» و«هدى»، وعندما كانوا يقفزون إلى الأرض، ارتفعت صيحة: لقد قفزوا!
فُتحت البوابة التي كانت قد أُغلقت، لكن الشياطين كانوا قد اختفَوْا في قلب الليل، وظهرت المشاعل تُضيء الجبل، والسهل، غير أن الكهوف الصخرية كانت مكانًا طيبًا للاختفاء. أسرع «باسم» يقول: الحشائش. عليكم بالحشائش!
نظر «خالد» في دهشة، ولم تفعل «هدى» شيئًا. أسرع «أحمد» و«باسم» إلى فتحة الكهف، وأخذا ينتزعان الحشائش القريبة، ويلقيان بها إلى «خالد» و«هدى»، ثم أخذ «أحمد» يدعك جسمه بالحشائش فتبعه «خالد» و«هدى» وإن كانا لم يعرفا السبب. صمت الشياطين، بينما كانت أقدام كثيرة تقترب وتبتعد.
قال «أحمد»: قفوا بجوار مدخل الكهف. لا بد أن نرسل رسالة عاجلة إلى رقم «صفر».
أخرج الجهاز، بينما وقف بقية الشياطين عند باب الكهف، أرسل «أحمد» رسالة عاجلة إلى رقم «صفر»: «من «ش. ك. س» إلى رقم «صفر» … يجب الإسراع بمهاجمة «ماهشوبيكشو». هناك خطةٌ للاستيلاء على الدول المجاورة، هناك أيضًا كمياتٌ كبيرة من القنابل، والأسلحة الخطيرة، بعضها جاهز، وبعضها في طريق الإعداد. إن مملكة الإنكا القديمة تستعدُّ للعودة؛ للاستيلاء على ممتلكاتها القديمة. إن العالم قد يتعرض لحرب نووية!»
جاء رد رقم «صفر»: «من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» … الرسالة في الطريق …»
صفَّر «باسم» صَفَّارةً فهمها «أحمد»، فأخفى الجهاز بسرعة، ثم تقدَّم في اتجاههم، وخرج الشياطين من الكهف. كان الصمت يحيط بكل شيء، وإن كان الضوء يبتعد قليلًا قليلًا عن المكان، وكانت الظلمة هي الستار الوحيد ليبتعدوا عن المكان. فتقدَّموا قليلًا في اتجاه الغرب، حيث توجد مدينة «كوزكو» وحيث يمكن أن يجدوا العمران.
فجأة صاح صوت: قفوا!
كان هناك حارس ضخم يقف، وقد شهر مدفعه الرشَّاش في وجوههم. قال العملاق الضخم: إياكم أن تتحركوا، إنني أراكم جيدًا، وأنتم قد لا ترونني.
كانت الظلمة كفيلةً بأن يتصرَّف الشياطين. أخرج «أحمد» مسدسه، ثم أطلق إبرةً مخدِّرةً، ولم تمضِ لحظة حتى سمعوا صوت ارتطام جسده الضخم بالأرض فأسرعوا إليه، وحصلوا على المدفع، ثم كمَّموا فمه، وربطوا ذراعيه خلفه.
بدءوا يتقدمون في حذر. كان الصمت يجعلهم أكثر حذرًا؛ فإن أية حركة يمكن أن تكشفهم …
مضى وقتٌ طويلٌ وهم في تقدمهم، لكن فجأة انحدرت صخرة من تحت قدم «هدى» فصرخت، غير أن «باسم» الذي كان يسير خلفها أمسك بها بسرعة وهو يقول: لا بأس. يجب أن نظل على حافة الجبل، فهي خير من الطريق الرئيسي حتى لا يرانا أحد …
كانت صرخة «هدى» بداية لمتاعب جديدة، فقد رنَّت الصرخة في الفضاء الصامت، وعلتها صرخاتٌ خشنةٌ، عرف الشياطين أنهم أمام مشاكل جديدة، لكنهم كانوا على استعداد لها.
بدأت قمة الجبل تُضاء، ويقترب الضوء أكثر فأكثر، حتى كاد الشياطين يظهرون، غير أنهم غيَّروا اتجاههم إلى الخلف … بعيدًا عن الضوء الزاحف إليهم.
كانت أصوات الصرخات تتردد في جنبات الجبل، وسمعوا صوتًا يرنُّ قائلًا: هذا حارسٌ مقيَّد. لا بد أنهم قتلوه!
قال «باسم»: إننا نعود الآن إلى نفس مكاننا. هذا يعني أنهم منتشرون في كل مكان!
بدءوا ينزلون الجبل، بدلًا من السير في محاذاة قمته. كان نزولهم بطيئًا، خوفًا من الوقوع من أعلاه … خصوصًا وأنه ينحدر انحدارًا مستقيمًا. ظلوا ينزلون غير أن الأصوات كانت تقترب منهم، حتى أصبحت الأصوات فوق قمة الجبل تمامًا. صاح صوت: ها هم. إنهم ينزلون الجبل!
أسرع الحراس في النزول، وكمدربين على حياة الجبال كان نزولهم أسرع من نزول الشياطين، قال «باسم»: تقدَّموا أنتم …
رفع مدفعه الرشاش، ثم أطلقه كالمطر؛ فتهاوى الحراس الواحد بعد الآخر، وصاح الآخرون: إنهم عصابة ضخمة!
ظلَّ «باسم» يطلق الرشَّاش، ويتهاوى الحراس، في نفس الوقت الذي ردَّ فيه آخرون بمدافعهم الرشاشة، كان يفيد «باسم» أنه يختفي خلف صخرة، وكان الحراس يتقدَّمون.
فجأة، رنَّت طلقة عند قدمي «هدى» فألقت بنفسها بعيدًا، غير أنها تهاوت، فجرى «أحمد» إليها، فقد كان من الممكن أن تظل تتهاوى حتى قاع الجبل. غير أن «هدى» استطاعت أن تمسك بصخرة، فأنقذتها. قال «أحمد»: هل أصبتِ بشيء؟
هدى: لا يهم. المسألة ليست خطرة …
ساعدها «أحمد» على القيام، واستمروا في السير. في تلك اللحظة، كان «باسم» قد أفرغ كل ما في الرشَّاش من طلقات، وبدأ يستخدم مسدسه، لكنه لم يكن يكفي أمام سيل الطلقات … ولم يكن أمامه إلا أن يجريَ في خطٍّ متعرج، حتى لا يُصاب. وبرغم كثرة الطلقات التي كانت تئزُّ حوله، وعند قدميه، وفوق رأسه، إلا أنه لم يتوقف.
كان بقية الشياطين قد اقتربوا من السهل. قال «أحمد»: يجب أن نغطِّيَ انسحاب «باسم».
وقفوا، وأخرجوا مسدساتهم، ثم بدءوا إطلاقها … ثم أخرج «أحمد» قنبلة دخان، ثم قذف بها قذفةً قويةً، ارتفعت ارتفاعًا كبيرًا، ثم انفجرت عندما اصطدمت بالجبل فأحالته إلى ستار كثيف من الدخان. وقد أفاد الدخان «باسم» كثيرًا فقد أسرع في النزول بعد أن اطمأنَّ إلى أن أحدًا من الحراس لن يراه.
استمر تقدم الشياطين … وفي كل مرحلة، كان «أحمد» يُلقي قنبلة دخان لينسحبوا تحت ستارها. لكن فجأة، ظهر عند السفح مجموعة أخرى من الحراس، وأصبح واضحًا أن الشياطين قد وقعوا في فم «الكماشة». قال «أحمد» بعد أن انضم إليهم «باسم»: يجب أن نلقيَ قنابل مسيلة للدموع، وقنابل الدخان في وقت واحد. إن هذا قد يُنقذنا، وإلا وقعنا في أيديهم!
أخرج الشياطين قنابل الدموع، وقنابل الدخان، ومعًا … كانوا يقذفون أربعة قنابل دموع، ثم أربعة قنابل دخان، وتحوَّل الجبل إلى كتلة من الدخان الأبيض … وبدأت أصوات السعال تصل إليهم …
تقدَّموا بمحاذاة قمة الجبل، دون أن ينزلوا، فقد أصبح الدخان ساترًا بينهم وبين الحراس الذين يسعلون أسفل الجبل … كانوا يشعرون بالإجهاد الشديد، لكن تلك اللحظة بالذات لم تكن تحتاج إلَّا للمجهود. وهكذا ظلُّوا في تقدمهم.
فجأة، كانت السماء تُمطر رَصاصًا. لقد كان الرَّصاص ينزل من كل جانب، غير أن صخرة وحيدة ضخمة أنقذتهم في تلك اللحظة، فقد انبطحوا تحتها، ولم يخفت صوت الطلقات لحظة واحدة، لقد ظلت الطلقات تدوِّي حولهم، وهم يرقدون، وقد جعلوا وجوههم في الأرض، خوفًا من أن تُغير طلقةٌ مسارها إذا اصطدمت بصخرة، فتصيب أحدًا منهم …
لكن الوقت لم يَطُل، فقد وصل إلى آذانهم صوت طائرات قادمة من الغرب … ثم فجأةً، تحوَّل الجبل إلى نهار، لقد أطلقت الطائرات قذائف مضيئة، ثم انفجرت قنبلة دوَّى صداها في أنحاء «ماهشوبيكشو».
عندما انتهى صدى انفجار القنبلة، كانت الطائرات تبتعد قليلًا، وخيَّم صمت سريع، انقطع مرة أخرى، فقد عادت الطائرات من جديد …
شعر «أحمد» بحرارة في جيبه الداخلي. عرف أن هناك رسالة من رقم «صفر»، فأخرج الجهاز، وجاءته الرسالة: «من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» لقد تمت مهمتكم بنجاح. أهنئكم.»
نظر «أحمد» إلى الشياطين، وبلَّغهم الرسالة، فجلسوا يرقبون الطائرات وهي تؤدِّي مهمتها الأخيرة …