بارت بعد بارت
وقد ثار جدل أوسع وغضب أشد عند قيام فال بنشر سلسلة من اليوميات بعنوان «أمسيات باريس»، التي أشار إليها بارت ﺑ «الأمسيات الفارغة»، تلك الصفحات التي تعود إلى الصيف الأخير قبل وفاته تروي وقائع أمسيات في باريس لا يحدث فيها الكثير؛ إذ يتناول طعامه مع أصدقائه، يبحث عن فيلم يشاهده، يتسكَّع في المقاهي، يلاحق فتيانًا بتردُّد، أو ينزعج من طريقتهم في ملاحقته، ويتمنَّى لو تركوه وحدَه يقرأ جريدته في هدوء. كان بارت قد نشر في السابق مقالًا بعنوان «تأملات»، ضم تأملاته حول شكل اليوميات: هل أحتفظ بيوميات بهدف نشرها يومًا ما؟ وراح يستعرض العيوب: اليوميات ليس لها «رسالة»، أو ضرورة؛ وترغم الكاتب على اتخاذ أوضاع معينة، وتُثير على الدوام بتفاهتها، وعرَضيتها، وتكلُّفها السؤالَ الهذليَّ: «هل هذا أنا؟» («هسهسة اللغة»). لكن يبدو أن تلك العيوب هي تحديدًا ما اجتذب بارت في اليوميات، لقد أصبحت تدوينات اللاحدث شكلًا كتابيًّا «شبه مستحيل»، جذابًا بفضل كل ما يستبعده: المعنى، الاستمرارية، الحبكة، البناء المعماري.
اجتاحني نوع من اليأس، وشعرت برغبة في البكاء. كم تبدَّى لي بوضوح أنه ينبغي أن أقلع عن ملاحقة الأولاد؛ لأن أحدًا منهم لا يشعر نحوي برغبة، وأنا كنتُ إما متحرجًا أكثر مما ينبغي وإمَّا مرتَبِكًا أكثر مما ينبغي لفرض رغبتي عليهم. إن تلك حقيقة لا سبيل إلى تجنبها، أكَّدتْها جميع محاولاتي في المغازلة، إنني أعيش حياةً كئيبة، وإنني، في النهاية، ضَجِر منها حدَّ الموت، وإنه لا بد لي من تجريد حياتي من هذا الاهتمام، أو هذا الأمل … لن يتبقَّى لي سوى الأوباش. (لكن ماذا سأفعل إذن عندما أخرج؟ أستمر في مراقبة الفتيان، وأرغب في الحال في أن أُغرم بهم؟ ما شكل المشهد الذي سيكون عليه عالمي؟) عزفتُ قليلًا على البيانو من أجل أُو [صديق شاب يُدعَى أوليفر اصطحبه بارت معه للمنزل]، بعد أن طلب منِّي ذلك، مُدرِكًا أنني في تلك اللحظة بالذات قررتُ إنهاء كلَّ ما يربطني به، كم كانت عيناه جميلتين حينئذٍ! وجهه اللطيف، الذي زاده شعره الطويل لطفًا على لطف، مخلوق رقيق لكن غامض ولا سبيل لبلوغه، حلو المعشر لكن ناءٍ، ثم صرفتُه، بحجة أنني لديَّ عمل أقوم به، مدركًا أنها النهاية، نهاية ما هو أكثر من أوليفر؛ الوقوع في حب صبي واحد.
هكذا يختتم الكتاب: ليس بمقولة «لا صِبية بعد اليوم» وإنما لا إمكانية بعد اليوم للوقوع في حب صبي واحد.
ماذا أصبح بارت بعد ٢٠ عامًا من وفاته؟ الإجابة الأبسط هي، أصبح كاتبًا، فقد صدرت أعماله الكاملة — ثلاثة مجلدات ضخمة يحتوي كلٌّ منها على أكثر من ألف صفحة — عن دار نشر سيويل التي اختصت بنشر أعماله لفترة طويلة، والنتيجة الأساسية لهذه الطبعة هي أنها أغرقت الكتب المفردة التي صنعت شهرة بارت في بحر من الكتابات الأخرى: مقالات، مقدمات، إجابات عن أسئلة الصحفيين، محاضرات وملخصات محاضرات، والعديد من المقالات الصحفية القصيرة. وتعكس تلك المجلدات الثلاثة إنتاجًا متواصلًا وتركز الانتباه على المفكر، والأديب، لكن قبل كل شيء، على الكاتب الذي تجد فيه منبعها المشترك، كما توضح تلك المجلدات أيضًا كمْ كان بارت يحب الحافز الذي يوفره له تكليف معين. ورغم أنه كان لا يجيد قول: «لا»، ودائم الشكوى في الظاهر من الالتزامات العديدة التي كان عليه أن يَقبَلها، فإن الطلبات والتكليفات كانت تستحثُّه لقول شيء مثير للاهتمام عن أي موضوع بعينه وأسفرت عن إنتاجٍ حسن الأسلوب، وأنيق، ومناهض للآراء المستقرة.
عززت «الأعمال الكاملة» صورة بارت ككاتب من خلال الجمع بين كتابات متناثرة في شتى أنواع المطبوعات، داخل فرنسا وخارجها مثل «لوموند» و«ألماناكو بومبياني» و«سا» و«فوتو» و«آرت برِس» و«بلاي بوي» و«زووم» و«نوفو ريفيستا موزيكالي إيطاليانا» و«فوج أوم»، فضلًا عن العديد من كتالوجات المتاحف والمعارض الفنية، وتعكس جميعها اهتمامات ثقافية واسعة، بالفنون البصرية، والموسيقا، والأدب المعاصر. ومع ذلك لم يكتب بارت نقدًا سلبيًّا قط؛ فهو لا يحب أن يلعب دور المحكِّم الثقافي. إنه في الحقيقة أقل الناس ميلًا للجدل، رغم أنه يسمح لنفسه بإبداء ملاحظات تثير الجدل لدى الآخرين (وقد كان اضطراره لخوض جدل مع بيكار جراء هجومه على «حول راسين» مصدر تعاسة هائلًا بالنسبة إليه)، ولأن تلك الكتابات لا يمكن حصرها حتى في أوسع المشروعات نطاقًا، ولا حتى مشروع المحكِّم الثقافي، فإنها أصبحت أعمال كاتب.
في عام ١٩٧٨ ألقى بارت محاضرة قوية وبليغة في كلٍّ من باريس ونيويورك بعنوان «الزمن الذي كنتُ آوي فيه إلى فراشي مبكرًا» وهو السطر الافتتاحي في رواية «البحث عن الزمن الضائع» لبروست، هذا التكرار لجملة بروست يوضح قرار بارت بالتوحد معه، ليس «مع المؤلف المرموق صاحب هذه التحفة الأدبية، إنما مع العامل — المعذَّب حينًا، المنتَشِي حينًا آخر، المتواضع في جميع الأحوال — الذي أراد القيام بعمل أضفَى عليه، من البدايات الأولى لمشروعه، سمة مطلقة» («هسهسة اللغة»). فحتى الثلاثينيات من عمره، ظل بروست مترددًا بين الرواية والمقالة، لكن فجأة — لا ندري لذلك سببًا — في صيف ١٩٠٩، بدأ كل شيء يتخذ مكانه الصحيح؛ فقد وقع على «شكل ثالث» سوف «يزيل التناقض بين المقالة والرواية» من خلال طريقة معالجته للزمن وابتكار سارد يروي رغبته في الكتابة، ويخمن بارت أن الحدث الذي استحثَّ لدى بروست الحاجة لممارسة جديدة في الكتابة كان موت والدته، وإذ كان بارت نفسه فقد والدته توًّا، فقد قدَّم نفسه باعتباره في وضع مماثل، ومهيَّأً لحياة جديدة («كنتَ تعرف أنك فانٍ؛ وفجأة بدأتَ تَشعُر أنك فانٍ.») وإذ يرى نفسه محكومًا عليه بالتكرار حتى الموت (مقالة جديدة، سلسلة محاضرات جديدة)، فقد كتب: «ينبغي أن أخرج من تلك الحالة الشبحية (حالة «السوداوية الخمولية» كما تسميها النظرية القروسطية) التي يعرِّضني لها الإنهاك الناجم عن المهام المكرَّرة والحِداد. والآن — بالنسبة إلى الذات التي تكتب، التي اختارت أن تكتب — لا يمكن أن تكون ثمة «حياة جديدة»، كما يبدو لي، إلا باكتشاف ممارسة جديدة في الكتابة.»
كان بروست يبحث عن «شكل سوف يستوعب الألم ويتجاوزه»، ووجده بالفعل، وقد وجد بارت في واقعة موت جدة السارد في «البحث عن الزمن الضائع» لبروست، وموت الأمير بولكونسكي في رواية «الحرب والسلام» لتولستوي «لحظتين للحقيقة»؛ حيث «على حين غرة، يتطابق الأدب تطابقًا مطلقًا مع انهيال شعوري، «صرخة» في جسد القارئ الذي يعاني، عبر الذكرى أو الترقب، انفصالًا جذريًّا عن الحبيب، ويتم طرح سؤال متسامٍ: أي لوسيفير هذا الذي خلق «في الوقت عينه» الحب والموت؟» ورغم أن المشاعر مثار سخرية في يومنا هذا، فإن الرواية «هي تحديدًا الشكل الذي، عبر إسناد خطاب المشاعر إلى الشخصيات، يسمح بالجهر بتلك المشاعر؛ فهنا يمكن للعاطفي أن يُقال.» إن الكاتب هو مستودع خسارات العالم كلها، والعاطفة التي يُمكِنها بثُّ الحياة في العمل هي الحب، أو الشفقة، أو التعاطف. تلك هي رؤية الأدب التي تبرر اختيار «حياة جديدة» من شأنها أن تجعل من الأدب أفقًا كلِّيَ الإحاطة.
ويختتم بارت كلامه بالسؤال: هل هذا معناه أنني سوف أكتب رواية؟ «كيف لي أن أعرف؟» بل هو يعرف بالفعل — كما يقول — أن «من المهم بالنسبة إليَّ أن أتصرَّف كأنه يتعيَّن عليَّ كتابة هذه الرواية اليوتوبية.» وهذا يتضمن، من الآن فصاعدًا، وضع نفسه في مكان «الذات التي تقوم بشيء ما، وليس في مكان الذات التي تتحدث عن شيء ما، فأنا لا أدرس منتجًا، بل أضطلع بعملية إنتاج … أطرح فكرة رواية عليَّ أن أكتبها؛ ومن ثم أتوقع أن أتعلم شيئًا عن الرواية أكثر من مجرد النظر إليها باعتبارها عملًا ناجزًا كتبه آخرون.»
هذه واحدة من أكثر مقالات بارت تبصرًا، وبلاغة، وإثارة للمشاعر، وأثارت، كما هو متوقَّع، موجة من الحماس لكلٍّ من الرواية التي كان يمكن أن يكتبها و«للإعداد للرواية»، كما كان يقول في محاضراته، بيد أن قوتها مرتبطة بما تتضمنه من نظرية للرواية، وتحليلها البارع لروايات الآخرين، خصوصًا الاستراتيجيات التقنية لبروست؛ فمن أجل نظرية أو تاريخ «عاطفي» للرواية — يركز على بلورة المشاعر — لا ينبغي لنا بعد الآن «البحث عن جوهر الكتاب في بِنيته، بل على العكس، علينا الإقرار بأن العمل يتحرك، ويَحيَا، ويتبرعم من خلال نوع من «الانهيار» لا يترك سوى بضع لحظات معينة قائمة في مكانها، لحظات تمثل — على وجه الدقة — ذُرا العمل …» هذا طرح مهم بخصوص الرواية، رغم أنه بالتأكيد محل جدل، يدفعنا للتساؤل إذا لم تكن تلك «الذُّرا» تعتمد، بطرق شتَّى، على علاقاتها مع الأجزاء الأخرى في البنية، لكنه بلا شك طرح نقدي هام حول طبيعة الروائع المكتملة، وليس رؤية شخص يجد صعوبة بالغة في أن يكتب، والحال أنه ما إن يُقِمْ بارت تعارضًا ما — على سبيل المثال، «الاضطلاع بالإنتاج» بدلًا من «دراسة منتج ما» — حتى يسارع بتقويضه في الممارسة.
فهل كان بارت سيكتب رواية لو أن حياته الجديدة امتدت لأكثر من ٢٣ شهرًا بعد كتابة هذه السطور؟ هل كانت «الحياة الجديدة» العمل الكبير الذي كان سيكتبه لو لم يختطفه الموت؟ من المؤكد أن الاحتفاء بعطالة يتم تعريفها كنقيض للإرادة اللازمة لإنتاج أي عمل أدبي متماسك يزيد السؤال تعقيدًا، وهي النتيجة ذاتها التي تترتب على معرفتنا أن بارت كان يتجنب البِنى الدالَّة ويفضِّل عليها تلك التي تؤلِّف بين شذرات بطرق اعتباطية، كالقوائم الأبجدية مثلًا. إن كراهيته لما كان يسمِّيه «هيستريا» كان من شأنها أن تمنعه من الاستعانة بحبكة أو بنية ذات سمة درامية تهدد بإنتاج دلالة.
تذهب ديانا نايت، في أفضل دراسة ظهرت حول مسودات «الحياة الجديدة»، إلى أنه يتعين علينا أن نأخذ بارت بكلمته عندما يقول في محاضرته حول بروست إنه من المهم له أن يتصرف «كأنه» كان عليه أن يكتب هذه الرواية اليوتوبية، لا أن يكتبها بالفعل؛ فالتخطيط لها، ووضع الخطوط العريضة لبعض الشذرات، شيء، لكن كتابتها بالفعل كانت ستُعَدُّ خيانةً لطابعها اليوتوبي كما لمبادئ «الزن»، التي اقترحت تكريس نفسها لها.
لقد بدأ بهجاء منطق «لا هذا ولا ذاك» (كتاب «أسطوريات») لينتهي به المطاف بالاستغراق في حلم يقظة يوتوبي عن «المحايد» (وهو نوع مضاعف من منطق «لا هذا ولا ذاك»).
ومن الممكن تلخيص التغير الذي حدث خلال السنوات العشرين التي أعقبت وفاة بارت في خمس نقاط:
أولًا: حدث تغير هائل في أهمية بارت؛ ففي عام ١٩٧٩، قبل عام من رحيله، أطلق عليه واين بوث: «الرجل الذي لعله يتمتع بالتأثير الأقوى على النقد الأمريكي في يومنا هذا.» أعتقد أن هذا القول لم يُقصد به الإشادة ببارت بقدر ما قُصد به الشكوى من الإغواءات الشريرة التي كان يُعتقد أن النقد الأمريكي ينصاع لها، لكنه يظل، رغم ذلك، تصريحًا يَبْهَتك عندما تقرؤه في ٢٠٠١، ويذكرك بالأهمية التي كان يتمتع بها بارت في السبعينيات. من الصعب وصف تلك الأهمية، وهذا في حد ذاته أمر مثير للاهتمام؛ فهي يقينًا لم تكن أهميةَ مَن يسمِّيهم فوكو، مؤسسي «الخطابية»، مثل فرويد أو ماركس، حيث تتخذ المحاولات لتطوير الفكر شكل تعليقات أو تأويلات للنصوص الأصلية. ولم تكن كذلك أهميةَ مؤسس مدرسة فكرية، قام ببناء إطار نظريٍّ يعمل في داخله عدد كبير من الناس (لم يكن ثمة «بارتيون» في بريطانيا أو أمريكا مثلما كان هناك لاكانيون أو ألتوسيريون، رغم أن هناك كثيرين، وأنا من بينهم، تأثَّروا به إلى حدٍّ كبير). كذلك لم تكن أهميته أهمية مكتشِف، ارتبط اسمه بفكرة هامة، مثلما يكثر الاستشهاد ببندنكت أندرسون كونه أوضح لنا أن الأمم والجماعات الكبيرة هي «جماعات مُتخيَّلة». إن العلامة المميِّزة للأهمية الخاصة التي تَمتَّع بها بارت تتمثل في إمكان استخدام سلطته كنقطة انطلاق لا تحتاج إلى تبرير، فمثلًا عبارة: «يشير رولان بارت إلى أن …» كانت طريقة جيدة لبدء مقال عن أي موضوع تقريبًا؛ وتتمثل أهميته تحديدًا في حقيقة أن لا أحد سوف يردُّ قائلًا: «وماذا إذن؟»
هذا نوع من السلطة اكتسبه والتر بنيامين في مجال الدراسات الأدبية (مع الفارق أن بنيامين لديه مجموعة من المؤلفات يكرس الناس جهودهم لشرحها)، تلك السلطة التي تتمتع بها نقطة مرجعية لا خلاف عليها، كما يمكن أن نسمِّيها، تجعل من أحدهم مفكِّرًا كبيرًا ورمزًا ثقافيًّا، بيدَ أن بارت فقد إلى حدٍّ بعيد هذا النوع الغريب من السلطة؛ فهو لم يَعُد شخصًا لا تحتاج إلا أن تستشهد به لكي تدفع الأمور في الاتجاه الذي تريده، واليوم، ينبغي أن تذكر الأسباب التي تدعو إلى قراءاته أو الاستشهاد به.
ثانيًا: في العصر الذهبي لِمَا كان يُعرَف اختصارًا ﺑ «النظرية»، كان من السهل أن ننظر إلى بارت باعتباره منظِّرًا في المقام الأول، لكن اليوم؛ حيث «النظرية الرفيعة» لم تَعُد جديدة، ولم تَعُد تثير الخوف أو الإعجاب، فمن السهل أن يكتسب بارت أهميةً باعتباره شخصًا قاوم النظرية — خصوصًا نظرياته الخاصة — وسعى لمراوغتها أو لتجاوزها، وسوف أعود إلى هذه النقطة بعد قليل.
ثالثًا: ثمة احتمال أقل اليوم أن يحتفي معجبو بارت بالتململ أو التغيير باعتباره الملمح الثابت لأعماله؛ إذ ظهرت ثوابت أخرى، سواء أكانت النزعة اليوتوبية (نايت)، أم البحث عن «المحايد» (كومينت)، أو السعي لإضفاء الطابع الأدبي على المعرفة (فيليب روجر)، لكن هل تستطيع تلك الثوابت الإمساك بأكثر الجوانب إثارة للاهتمام في أعمال بارت؟
لقد أصبح بارت أيقونة ثقافية ساهم وصوله إلى عشق اللغة الفرنسية ورهافتها — بعد اجتيازه محطات أخرى يُفترض أنها ثورية — في رفع قيمته باعتباره تأكيدًا على أن الثقافة تكمن أساسًا في العلاقة بين الذات الفردية والإرث المتمثل على الوجه الأكمل في اللغة الأم، «بعد أن تخلى عن الأوهام العلمية للبنيوي المتشدد، وتخلص من شعارات النضالات الثقافية والسياسية، بدأ بارت السيميوطيقي حياة جديدة من الكتابة، ومن الآن فصاعدًا، سيترك بارت الفرصة لرولان لكي يتكلم، جالبًا إلى المقدمة الذات الراغبة، الذات المتفردة، عاشق اللغة والأسلوب الذي لا يخجل من عشقه.»
وأنا أستشهد بهذا المقتطف ليس لأنه مبتذل؛ وإنما لأنه — في آنٍ واحد — نموذجي ويجد تبريرًا له في المسار الذي سلكتْه كتابات بارت، فكما رأينا، تنتقد بشدة كتاباته الأخيرة «حلمه البهيج بالعلموية»، واللغة العليا الخاصة بالتعارضات الثنائية التي لعبت أدوارًا حاسِمة في تحليلاته المبكِّرة حتى عندما كان يَضَعها موضع السؤال — «الإحالة» في مقابل «التضمين»، والاستعارة في مقابل الكناية، القرائي في مقابل الكتابي — صارت موضوعًا للسخرية في «بارت بقلم بارت» باعتبارها «تزييفات»، أو «هيئات إنتاج»، أو «مشغلات نصية» مسروقة من خطابات أخرى وتُستخدم كجزء من «آلة الكتابة»، «لتجعل النص يسير قُدمًا»، «وهكذا يتقدم العمل عبر افتتانات مفاهيمية، وحماسات متتالية، وهذيانات سريعة الزوال.»
قد نقع فريسة إغراء تقمص هيئة العليم هذه، والاحتفاء بتفوق الرؤية الثاقبة للكاتب بدلًا من أوهام المنظِّر المنتظر. إنها هيئة شديدة الإغراء، خاصةً في يومنا هذا، بعد أفول نجم النظرية وحيث تقمُّص هيئة الناقد الفطِن لادِّعاءاتها يجعل المرء على ما يبدو أقرب إلى النجاح، لكن تحديدًا بسبب الإغراء الذي تنطوي عليه هذه الرؤية، يتعين على القارئ البصير أن يُمعِنَ التفكير في تضميناتها، وقد يأخذ هذا اتجاهَيْن محتملين. فأولًا: بإمكاننا أن نسأل، كما فعلتُ أنا آنفًا، إن كان قيام بارت بتبديد الأوهام في أعماله المبكِّرة ليس إلا تنصيبًا لأوهام جديدة؛ أي مراوغة أنيقة. وبالنظر إلى صعوبة تقييم المرء لمفاهيمه السابقة، كم هو مغرٍ أن يُعلِن أنها كانت محض افتتانات أو تجليات لرغبة مضمرة في الكتابة يمكن أن تربطه بمؤلفين آخرين، لا وجود هنا لنظرية، لا شيء سوى الكتابة! إن من شأن سخرية بارت من مفاهيمه السابقة أن تعمل، تحديدًا، على خلق أسطورة بارتية، أسطورة الكاتب، والمؤلف.
لا يعني هذا أن بارت ليس كاتبًا؛ فهو كاتب متميز على نحو استثنائي، كاتب أنيق، متفرد، وجسور. لكن تمامًا مثلما ذهب هو إلى أن النبيذ جيد من الناحية الموضوعية لكن خيرية النبيذ أسطورة، فبإمكاننا أن نذهب نحن أيضًا إلى أنه بينما بارت كاتب عظيم من الوجهة الموضوعية، فإن بارت الكاتب أسطورة؛ محض بناء أيديولوجي يتمثل تأثيره، على وجه الدقة، في إثنائنا عن تناول كتاباته ووضعها موضع الاختبار، واستخدامها لنرى ما يمكن أن تفعله بالنسبة إلى الممارسات والموضوعات الثقافية التي نهتم بتحليلها. لقد أراد بارت أن يكتب كما أعلن، لا أن يكتب «عن موضوع معين»، بيد أنه لا يمكن فصل عظمة وأهمية كتابته عن مزاعمها بشأن الموضوعات الثقافية التي يتناولها، وينطبق هذا على مقالته المتأخِّرة الرائعة عن بروست، التي أعلن فيها تحوُّلَه من الكتابة عن موضوعات معينة إلى الكتابة فحسب، بالقدر نفسه الذي ينطبق به على أعماله المبكِّرة (التي كثيرًا ما تبنى فيها أيضًا فكرة الإنتاج).
إن الحطَّ من شأن المفاهيم أو التنظيرات السابقة والاحتفاء ببارت ككاتب هما إذن وجهان لعملة واحدة، ومن المهم أن نتقصَّى تداعياتهما على مكانة بارت في الوقت الراهن؛ لماذا ينبغي أن نقرأه؟ هل لكي نعمِّق شكوكنا في أن الخطاب النظري ليس سوى صورة ملتبسة من صور تضخم الذات؟ في هذه الحالة، فإن قيمة بارت ستكون مشروطة بوجود حضور مؤثر للنظرية، وهو أمر على المرء أن يتعلم مقاومتَه، وهو بالكاد حالنا اليوم، وعلى العكس، فإن أعمال بارت أكثر فائدة في تحفيزنا على المغامرات الفكرية وتشجيعنا على التفكير خارج نطاق الآراء السائدة.
وسوف أذهب إلى أن قيمة بارت، لا بل عبقريته، لا تكمن في البصيرة الثاقبة أو النزعة العاطفية التي وَسَمَتْ أعماله المتأخرة، وإنما في أعماله المبكرة، التي قام فيها باستكشاف احتمالات عدد من العلوم، ففي «مقالات نقدية» يسمي الكاتب «مجرِّبًا عامًّا»، يقوم بتجريب الأفكار على الملأ، أمام الجمهور، ويعود للفكرة نفسها في «بارت بقلم بارت»؛ فهو (بارت) «يستحضر أفكارًا؛ وتُجرَّب الحداثة (كما يقوم أحدهم بتجربة كل المفاتيح في مذياع لا يعرف طريقة تشغيله).»
إحدى السمات الجوهرية لعبقرية بارت هي اكتشافه الوظيفة الإرشادية للنزعة المنهجية والحاجة إلى الوضوح. وتحديدًا عندما كان يسعى لصياغة نظرية أو تحليل منهجي لشيءٍ ما، فإنه كان يتجه، بفعل هذا الإجراء، إلى تناول مشكلات وموضوعات وعناصر في الخطاب يتم إغفالها عادةً. إن النموذج السيميوطيقي، الذي يقضي بأنه حيثما يوجد المعنى يكُن هناك نسق، وأنه ينبغي تحديد المستويات المختلفة للدلالة والدوال والمدلولات لكل مستوًى من مستويات الدلالة، يتطلب أن نفكر، على سبيل المثال، في وظيفة كل عنصر من عناصر عناوين صور الموضة والطريقة التي تنعكس بها الطبقة الاجتماعية في الملاحظات حول الطقس، وفي حالة الأدب، فإن المنهج المتدرج الذي استخدمه في «ص/ز» أجبره على تقصي الطريقة التي يتم بها التقاط أتفه التفاصيل في الظاهر وأكثرها دلالةً على حدٍّ سواء، وتمثيلها، وتنظيمها، وفقًا لأي مناهج أو شفرات.
إن المنهجية، أولًا وقبل كل شيء، أداة تغريب؛ حيث يتعين عليك النظر إلى الأشياء في مقالات جديدة، وبطرق جديدة والإتيان بجديد تقوله، وهكذا، سواء أَخْرَج لنا نظرية أصيلة واضحة المعالم أم لا، فإن النزوع المنهجي له أهمية حاسمة بالنسبة إلى بارت، وعندما ينقلب عليه، فإنه يخاطر بالسقوط في الأشكال البرجوازية والعاطفية للأسطرة التي قام بتحليل آلياتها في السابق.
وثمة مثال على المزايا التي توفِّرها المنهجية، هو ذلك الخط البسيط والسهل في التقصِّي (الذي أصبَحَ الآنَ مَلْمَحًا ثابتًا في نظام التعليم الفرنسي) الذي أسماه بارت «وقع الواقع»، فهو يبدأ من بارومتر معلق على الحائط في منزل أوبيان في رواية «قلب بسيط» لفلوبير: «تحت بارومتر، ثمة بيانو فوقه كومة هرمية الشكل من الصناديق وعلب الكارتون.» ماذا عن البارومتر؟ يسأل بارت، «إذا كان التحليل يسعى إلى أن يكون شاملًا (وما قيمة أي منهج لا يسعى إلى استجلاء موضوعه بكليته؛ أي، في هذه الحالة، سطح النسيج السردي بأسره؟) … فإنه سيصطدم لا محالة بتدوينات لا تبررها أي وظيفة (ولا حتى أقلها مباشرة) …» («هسهسة اللغة»). فهي تتضمن نوعًا من الإفراط المبتذل، «ترفًا» سرديًّا. ويثور هنا، كما يكتب بارت، سؤال على أكبر قدر من الأهمية بالنسبة إلى التحليل البنيوي للسرد: «هل كل شيء في السرد له أهمية، وإن كانت الإجابة: لا — إن كانت ثمة مساحات لا أهمية لها تستقر في الوحدات السردية — فما هي، في نهاية المطاف، إن جاز القول، أهمية ما لا أهمية له؟» تفاصيل لا تسهم في تطوير الحبكة، أو التشويق، أو الشخصيات، أو المناخ، أو المعنى الرمزي، ومع ذلك تمتلك وظيفة دلالية، كما يستخلص، بفعل افتقارها للمعنى تحديدًا، تقول «نحن الواقع»؛ ذلك لأن الأيديولوجية الغربية تُقِيم تعارضًا بين المعنى والواقع، «تعارضًا أسطوريًّا هائلًا بين الواقعي وما هو قابل للفهم.» «إن بقايا التحليل الوظيفي التي لا تَقبَل الاختزال تشترك جميعها في هذا؛ فهي تشير إلى ما يسمَّى عادةً «الواقع العيني».» وتلك الوظيفة ذات الأهمية البالغة في الأنساق السيميوطيقية لم يتم التنظير لها، أو تصورها باعتبارها وظيفة تتعلق بالمعنى الضمني، لكنها ذات أهمية حاسمة بالنسبة إلى الأعمال التي تنتمي للتراثين الواقعي والطليعي، كما نظَّر لها بارت في أعمال روب جرييه على وجه الخصوص؛ حيث الوصف «يطهِّر» المعنى (من خلال الإفراط في التفاصيل والموضوعية) ويبطل سحر السرد.
إن الالتزام السيميوطيقي هو ما يمكِّن بارت من إبراز الصراع الدائم بين المعنى وتفريغه في الأدب، والموضة، وغيرهما من أنساق الدلالة، حيث من السهل للغاية على ناقد إنساني أن يفترض وجود معنًى كافٍ دون أن يشغل باله بملايين العلامات التي تشير نحو المعنى بينما تفشل في توصيل ما نتوقعه منها.
إن وظيفة الأدب، كما يقول بارت في تصدير «مقالات نقدية»، ليست كما يعتقد كثيرون «التعبير عما لا يمكن التعبير عنه» — فهذا من شأنه أن يكون أدبًا للروح — بل في «نزع التعبير عما يمكن التعبير عنه»، في أشكلة المعاني التي تُضْفِيها شفراتنا الثقافية على الأشياء؛ ومن ثَم محو العالم كما خطته الممارسات الخطابية السابقة؛ ومن ثَم هناك صلة بين أهداف نصير الطليعة، والتحول الثقافي، وبين حلم العلموية المبهج الذي قاد بارت الشاب إلى تجريب سيميوطيقا منهجية وتركيز اهتمامه على كل ما نعتبره بديهيًّا أو نعامله كشيء لا أهمية له. سيكون من المحزن لو أن بارت هذا فُقد إلى الأبد في صورة «العاشق الجسور للغة والأسلوب» التي يروجها معجبوه المعاصرون، الذين يريدون نسيان المنظِّر لصالح الكاتب. بالإمكان القول، بدلًا من ذلك، إن المنظِّر هو الكاتب الذي نأخذ أفكاره بجدية. وهذا ما يستحقه بارت بكل تأكيد.