المؤرخ الأدبي
كان بارت مهتمًّا على الدوام بالتاريخ، لأسباب عديدة؛ أولًا: لأن التاريخ هو نقيض الطبيعة. إن الثقافات تحاول الظهور بوصفها سماتٍ طبيعيةً لترتيبات وممارسات الظرف الإنساني، التي هي في حقيقتها ذات طبيعة تاريخية، ونتاج قوًى ومصالح تاريخية. وكما كتب بارت: «إن اللحظة التي نتنكَّر فيها للتاريخ، هي بكل وضوح تلك التي يكون فيها في ذروة نشاطه» («الكتابة في درجة الصفر»). والدراسات التاريخية — من خلال توضيحها لوقت كيفية ظهور الممارسات المختلفة إلى الوجود — تعمل على تبديد الأوهام التي تكتَنِف أيديولوجية ثقافة ما، وتفضَح افتراضاتها الأساسية بوصفها أيديولوجية.
ثانيًا: يقدِّر بارت قيمة التاريخ لأنه يتيح لنا الاطِّلاع على ما كانت تتسم به العصور الأخرى من غرابة وما تستطيع أن تعلمنا إياه بشأن الحاضر. في كتاب «مقالات نقدية»، في معرض تناوله للكاتب الأخلاقي لا بروييه الذي عاش في القرن السابع عشر، يقترح بارت أنه ينبغي لنا أن «نُبرِز كل ما يَفصِل عالَمَه عن عالَمِنا وكل ما تُعلِّمنا إياه تلك المسافة عن أنفسنا؛ هذا هو مشروعنا هنا: دعونا نناقش كل ما له أهمية ضئيلة بالنسبة إلينا أو لا أهمية له على الإطلاق في حياة لا بروييه؛ وربما أمكننا عندئذٍ أن نقبض أخيرًا على المعنى المعاصر لعمله.» إن التاريخ يثير اهتمامنا ويَحظَى بتقديرنا، تحديدًا، بفضل ما يكشفه لنا عن الآخر.
ثالثًا: التاريخ مفيد؛ إذ بإمكانه أن يزوِّدنا بقصة تجعل الحاضر قابلًا للفهم. وهذا هو ما كان يبحث عنه بارت في أول أعماله النقدية «الكتابة في درجة الصفر»؛ حيث يقدم لنا صورة مبسَّطة لتاريخ الكتابة (تاريخ فكرة ومؤسسة الأدب) سوف تضع الأدب المعاصر في سياقه التاريخي وتساعدنا في تقييمه. في عام ١٩٤٨، نشر جان بول سارتر — المفكر الأدبي الأعظم في زمانه — كتابًا كان له تأثير واسع بعنوان «ما الأدب؟» أجاب فيه عن هذا السؤال بتقديم تاريخ مختصر للأدب، وذهب إلى أنه لكي يتمكن الأدب المعاصر من الوفاء بعهوده، عليه أن ينأى بنفسه عن النزعة الجمالية والألعاب اللغوية لصالح الالتزام الاجتماعي والسياسي. وفي معرض إجابته على هذا السؤال، التي خَلَتْ بشكلٍ لافتٍ من أيِّ ذكر لسارتر، قدَّم بارت قصة بديلة تُفضِي إلى تقييم مغاير للأدب المعاصر.
بحسب القصة الممتعة، النابضة بالحياة التي يرويها سارتر، فإن الكُتَّاب الفرنسيين الذين عاشوا في أواخر القرن الثامن عشر كانوا هم آخِرَ مجموعة من الكُتَّاب وجدتْ لنفسها دورًا حقيقيًّا ومؤثرًا، حيث بلوروا لجمهور مؤثر رؤيةً تقدمية للعالم كانت — في الوقت نفسه أيضًا — رؤيةَ طبقتهم الخاصة. بيد أنه بعد عام ١٨٤٨، وبعد نجاح الطبقة البرجوازية في تطوير أيديولوجية لحماية دَوْرها المُهَيْمن الجديد وتبريره، وجد الكُتَّاب أنفسهم — لكي نبسط الأمر — أمام خيارين: إما الامتثال للأيديولوجيا البرجوازية، أو نبذها وتحويل أنفسهم إلى جماعة من المنبوذين بلا أي تأثير سياسي. ومن ثَم أضحى الأدب الأكثر «تطورًا» محض نشاط هامشي بلا جمهور حقيقي. فانحاز كلٌّ من فلوبير ومالارميه إلى أدب نخبوي «غير ملتزم»، بينما اختار سيرياليُّو القرن العشرين ما يعتبره سارتر نفيًا نظريًّا عقيمًا يتجنب أي اتصال جاد مع العالم.
ذهب سارتر إلى أن الكتَّاب المنتمين لجيله، بخبرتهم المكثفة ﺑ «صحة الوقائع التاريخية» أثناء الحرب العالمية الثانية ومقاومة الاحتلال الألماني، بإمكانهم أن يقدِّروا أهمية الالتزام وأن يجعلوا الأدب «ما هو عليه في جوهره؛ أي تبنِّي موقف.» «إن مهمتنا كأدباء هي تمثيل العالم وتقديم شهادة عليه.» وبينما الشعر، بالنسبة إليه، قد يكون محض لعب أو تجريب باللغة، فإن النثر «يستخدم» اللغة: ليسمِّي، ويَصِف، ويكشف.
فالكتَّاب عليهم أن يسموا الأشياءَ بأسمائها بلغة فعَّالة وشفافة.
إن إيبير [مناضل من مناضلي الثورة الفرنسية كان يتولَّى إصدار جريدة] لم يبدأ قط أي عدد من أعداد جريدة «الأب دوشان» دون أن يرصِّعه بكلمات مثل «اللعنة»، و«لوطي»، ورغم أن تلك البذاءات تخلو من المعنى فإنها كانت ذات دلالة. كيف ذلك؟ إنها تُشِير إلى وضع ثوري كامل. نَلقَى هنا نموذجًا لنمطٍ من الكتابة لم تَعُدْ وظيفته التواصل أو التعبير فحسب، بل فرض شيء ما يتجاوز نطاق اللغة، شيء يمثل التاريخ والموقف الذي نتبناه فيه في الوقت ذاته.
تحتوي كل أشكال الكتابة على علامات، مثل بذاءات إيبير، تشير إلى نمط اجتماعي، وعلاقة بالمجتمع. فبمجرد طبعها على الصفحة، تقول القصيدة: «أنا شعر، لا تقرأني كما تقرأ اللغات الأخرى.» وبالمثل، يمتلك الأدب طرقًا متنوعة لقول «أنا أدب»، وكتاب بارت هو تاريخ موجز ﻟ «علامات الأدب» تلك. وحتى أبسط الروايات لغةً — كما في أعمال هيمنجواي، أو كامو على سبيل المثال — تشير مواربةً إلى علاقة ما تربطها بالأدب والعالم. إن لغةً عاريةً تمامًا ليست لغةً طبيعيةً أو محايِدة أو شفافة إنما هي اشتباك متعمد مع مؤسسة الأدب؛ ورفضها الظاهر للأدبية سوف يصبح هو ذاته نمطًا جديدًا للكتابة الأدبية، كتابة معترف بها، كما يسميها بارت. إن لغة الكاتب هي شيء يَرِثه عن غيره، و«أسلوبه» أمر شخصي، يتألَّف ربما من شبكة لا واعية من العادات اللغوية والهواجس، بيد أن نمط كتابته هو شيء يختاره بنفسه من الإمكانات المتاحة له تاريخيًّا. إنه «طريقة لتصور الأدب»، و«استخدام اجتماعي للشكل الأدبي».
يذهب بارت إلى أنه في الفترة من القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، عمد الأدب الفرنسي إلى توظيف كتابة كلاسيكية منفردة، تميَّزت في المقام الأول بالثقة في الوظيفة التمثيلية للغة. فعندما كَتبتْ مدام لافييت أنه عندما علم الكونت دو تينديه أن زوجته حُبْلى من رجل آخر، «فكر في كل ما كان من الطبيعي التفكير فيه في مثل هذه المواقف»، فإنها كشفت عن حسٍّ بوظيفة الكتابة مماثل للحس الذي كشف عنه بلزاك بعد قرنين من الزمان عندما كتب أن يوجين دي راستجناك كان «أحد هؤلاء الشباب الذين سبكتْهم المِحَن وهيَّأتْهم للعمل»، أو أن بارون هولو كان «أحد هؤلاء الرجال الذين تُشرِق عيونهم عند رؤية امرأة جميلة.» فالكتابة الكلاسيكية تقوم على افتراض وجود عالم معقول، ومنظم، ومألوف يشير إليه الأدب. وهنا، تكون الكتابة سياسية من خلال الطريقة التي تشير بها ضمنًا إلى الشمولية والمعقولية.
تلك هي مراحل التطور بإيجاز شديد؛ أولًا: وعي حِرفي بالصنعة الأدبية، يتم صقله إلى درجة تقترب من الهَوَس (فلوبير)؛ ثم الإرادة البطولية للتوحيد، في المادة المكتوبة ذاتها، بين الأدب ونظرية الأدب (مالارميه)؛ ثم الأمل في الإفلات بشكلٍ ما من الحشو الأدبي بالإرجاء المتواصل للأدب، عبر إعلان المرء عزمه على الكتابة، وجعل هذا الإعلان هو الأدب ذاته (بروست)؛ ثم اختبار حسن النوايا الأدبية بطريقة متعمدة، عبر توليد معانٍ جديدة للكلمة الواحدة إلى ما لا نهاية دونما التقيد مطلقًا بأيٍّ منها (السريالية)؛ وأخيرًا، في اتجاه معاكس، خلخلة تلك المعاني إلى حدِّ محاولة تحقيق «وجود» للُّغة الأدبية، بمعنى حيادية الكتابة وليس براءتها، وتحضرني في هذا الصدد أعمال آلان روب جرييه.
يعود هذا التفسير إلى عام ١٩٥٩. لكن في «الكتابة في درجة الصفر» عام ١٩٥٣، لم يكن بارت يفكر في آلان روب جرييه بل في ألبرت كامو، الذي أطلق بارت على محاولته لإنجاز كتابة محايدة، خالية من العاطفة، «الكتابة في درجة الصفر». كان سارتر ينظر إلى «الكتابة البيضاء» على أنها رفض للالتزام. لكن بارت كان يرى أن كتابة كامو، شأنها شأن أمثلة أخرى من الأدب الواعي بذاته منذ فلوبير، تشتبك تاريخيًّا مع عصرها على مستوًى آخر؛ فهي تُناضِل ضد «الأدب» وافتراضاته عن المعنى والنظام. فالأدب الجاد عليه أن يضع نفسَه والأعراف التي تستخدمها الثقافة في تنظيم العالم، موضع السؤال؛ وهنا تكمن إمكاناته الجذرية. غير أنه «لا وجود لكتابة تستطيع أن تظل ثورية على الدوام»؛ ذلك لأن كلَّ انتهاك لأعراف اللغة والأدب يمكن استعادته في النهاية وتحويله إلى نمط أدبي جديد.
ثمة ثلاثة أشياء تحققها تلك الزيارة السريعة للتاريخ الأدبي؛ أولًا: التأكيد على «الاشتباك السياسي والتاريخي للُّغة الأدبية مع عصرها». فالدلالة السياسية للكتابة ليست ببساطة مسألة محتوًى سياسي أو التزام سياسي صريح للمؤلِّف، لكن تتمثل أَيضًا في اشتباك العمل مع التنظيم الأدبي للعالم الذي تُنجِزه الثقافة. ولسوء الحظ، لا يقدم بارت تحليلًا مفصَّلًا لطريقة تحديد المضامين السياسية للكتابة التجريبية، لكنه يوضح أن سعيَ الأدب لاستكشاف اللغة ونقد الشفرات الموروثة من شأنه أن يُعطيَ محفِّزات استقصائية ويوتوبية قيِّمة. وما يوضِّحه بطريقة أكثر إقناعًا هو أنه بما أن الدعاية السياسية تعمل كذلك بطريقة مواربة، فإن تقييم الدلالة السياسية للكتابة ليس عملًا بسيطًا.
ثانيًا: نجح كتاب «درجة الصفر» في ترسيخ سردية تاريخية شاملة تعزز عملية التفكير في الأدب. فيما بعدُ، سوف يقوم بارت بتطوير القصة التي اقترحها هنا عن أدب تمثيليٍّ، غير واعٍ بذاته، حلَّ محلَّه — بعد عام ١٨٤٨ — أدب تجريبي، إشكالي، واعٍ بذاته. فهو يميز، في «ص/ز»، بين القرائي والكتابي: فالقرائي هو ما نعرف كيف نقرؤه ومن ثَم يتمتَّع بنوع من الشفافية؛ أما الكتابي فواعٍ بذاته ويقاوم القراءة. ترتبط هذه التفرقة التاريخية الجديدة بممارسات القراءة في الحاضر بطريقة أكثر وضوحًا من ارتباطها بأحداث تاريخية، لكن بالإمكان العثور على بذرتها في التفرقة التي أقامَها بارت بين الكتابة الكلاسيكية والمعاصرة، والتي حاول من خلالها جعل الحاضر قابلًا للفهم.
وأخيرًا، من خلال التركيز على علامات الأدب — أي الطريقة التي تُشِير بها الكتابة ضمنًا إلى نَمَط أدبي — يلفت بارت انتباهَنا وانتباهَه إلى وجود مستوًى ثانٍ للمعنى، مشتَّت لكن مؤثر، وهو الذي سوف يواصل دراسته لاحقًا في أشكال متنوعة. تلك الدلالة من المستوى الثاني يطلق عليها «أسطورة»، وكعالِم أساطير تمكَّن بارت للمرة الأولى من العثور على صوته الخاص.