الكاتب
في علاقته مع الأنساق المحيطة به، مَن هو؟ لنقل إنه ببغاء؛ فهو يُعِيد إنتاج الأفكار بطريقة سيئة، يتتبع الكلمات، ويقوم بزيارات؛ أي يُبدِي احترامه لمفردات، يستحضر مفاهيم، ويُجرِي لها بروفات تحت اسم معين، ويستخدم هذا الاسم كأنه شعار (ومن ثَم يُمارِس نوعًا من الإيدوجرافيا الفلسفية)، وهذا الشعار يُعفِيه من أن يتتبع، حتى النهاية، النسقَ الذي يشكِّل هذا الدالُّ جزءًا منه (والذي يمثل له ببساطة علامةً). إن مفهوم «النقل»، القادم من التحليل النفسي وعلى ما يبدو سيبقى هنا، يهجر الموقف الأوديبي طوعًا، ويتمدد «مخزون الصور» اللاكاني حتى تخوم «عشق الذات» الكلاسيكي … وتتلقَّى كلمة «برجوازية» النبرةَ الماركسية بمجملها، بيد أنها تواصل تدفقها نحو الجمالي والأخلاقي، وبهذه الطريقة، لا شك، تُزاح الكلمات، وتتواصل الأنساق فيما بينَها، وتُجرَّب الحداثة (مثلما يقوم أحدهم بتجربة مفاتيح مذياع لا يعرف طريقة تشغيله) بيد أن التناصَّ الناتج عن ذلك يكون سطحيًّا بالمعنى الحرفي للكلمة: التزام فضفاض؛ فالاسم (فلسفي، تحليلي نفسي، سياسي، علمي) يحافظ على خيط يربطه بنسقه الأصلي لا يُقطع بل يبقى متينًا ومتذبذبًا. لا شك أن السبب في ذلك هو أن المرء لا يستطيع، في آنٍ واحد، أن يشتهي كلمة ويدفعها إلى نتيجتها المنطقية؛ ففي داخله، تسود شهوة الكلمة، غير أن هذه المتعة تتشكل جزئيًّا بنوع من الاختلاج المذهبي.
ومهما تكن المتع الناجمة عن تحرير مفردةٍ ما من نسقها الأصلي، فقد لعب «الاختلاج المذهبي» دورًا هامًّا في نجاح كتابات بارت، وعندما أقلع عن ذلك عبر ابتكار مفرداته الخاصة — متخليًا بذلك عن الدعم الإيحائي المستمَد من تشكيلة خطابية أخرى — كانت النتائج مختلفة تمامًا، فانطلاقًا من عِشْقه الدائم للتصنيف، اعتاد بارت الاستعانة بمصطلحات تقنية أو مفردات يونانية. وقد أكَّد في «حول راسين» أن هناك ثلاثة أنواع من التاريخ الأدبي: تاريخ المدلولات الأدبية، وتاريخ الدوال الأدبية، وتاريخ الدلالة الأدبية. إن استخدام مصطلحات تنتمي إلى نسق فكري واحد يُضفي على هذه النمذجة منطقًا ومعقولية حتى لو طُبقت هذه المصطلحات بطريقة استعارية، ولننظر بالمقابل إلى النمذجة التي أقامها في «سوليرز كاتبًا»، حيث اقترح وجود خمس طرق لقراءة سوليرز، يمكن ترجمتها بالتقريب إلى: «بالطعن»، «بالتذوق»، «بالبسط»، «بالأنف-في-الأرض»، و«بالأفق الكامل»، هذه النمذجة استعارية على نحو مضاعف؛ فالفئات تُقدَّم كأنها أنماطًا أو مفاتيح (قراءة «بالأفق الكامل»)، وهي مستمدة من حقول خطابية شديدة الاختلاف. إنها لا تشترك فيما بينها إلا بالقليل وتُطبَّق على القراءة بطرق غير مباشرة، إن القراءة وفقًا ﻟ «نمط الطعن» تعني أن تلتقط جملًا مليئة بالنكهة من هنا وهناك؛ والقراءة وفقًا ﻟ «نمط التذوق» تعني أن تستغرق في تطور معين استغراقًا كاملًا؛ والقراءة وفقًا ﻟ «نمط البسط» تعني أن تتقدم سريعًا وبانتظام، في حين أن القراءة «بالأنف-في-الأرض» تشق طريقها قدمًا كلمةً بكلمة، بينما قراءة «الأفق الكامل» تُلقي نظرة شاملة، وتنظر إلى النص باعتباره موضوعًا في سياق، هذا هو ما يمكن أن نسمِّيه «نمذجة قصيرة الأجل»: موحية، طريفة ربما، لكن بلا أي ادعاءات نظرية، ولا يوجد سوى احتمال طفيف للغاية أن يحاول آخرون دمجها في نظرية للقراءة. يواصل بارت صياغة عبارات نظرية بيد أنه ينجح على نحو متزايد في العثور على طرق لتقديمها تقوض طبيعتها النظرية.
كان بارت الكاتب كاتبًا عملاقًا ومتفردًا؛ أستاذَ نثرٍ فرنسيٍّ اصطنع لغةً جديدة وأكثر حيوية للنقاشات الفكرية، وبانحيازه لتركيبات لغوية فضفاضة وعاطفية بشكل استثنائي تربط بين جمل وعبارات تتناول ظاهرةً ما من زوايا مختلفة، نجح في إضفاء نوع من الصلابة الحسية على المفاهيم المجردة، يقوم فنه على تطبيق مفردةٍ ما وإيحاءات سياقها المعتاد على سياق آخر مختلف تمام الاختلاف، وربما يتجلَّى ذلك بأوضح صورة في الاستعارات التي يتم فيها إبراز السياق المنقول: «أنا لا أرمم ذاتي (كما نقول بشأن أثر تاريخي)»؛ «مُعفًى من المعنى (كما يُعفى أحدهم من الخدمة العسكرية).» ويَصِف بارت مخيلته بأنها «مقارِنة» وليست «استعارية»، فهي مولعة بالمقارنة بين الأنساق لا المقارنة بين موضوعات معينة («بارت بقلم بارت»). تلك سمة لأسلوبه واستراتيجية تحليلية عامة، في آنٍ واحد، كما يفعل حين يعالج ممارسةً ما باعتبارها لغةً، ويبحث عن المكونات والتمييزات المحتملة التي يقتضيها ذلك.
يعتبر «إمبراطورية العلامات» أولَ عمل له لا يرتبط بمشروع تحليلي أو نقدي، قال بارت عن اليابان: إنها «حررتْني بدرجة كبيرة على صعيد الكتابة» («نسيج الصوت»). وقد وجد أمامه في الحياة اليومية أشياءَ وممارسات حفزت كتابة مبهجة، «أسطوريات» جذلة لحضارة على النقيض من حضارتنا، وكتب أنه بدلًا من تخيل يوتوبيا خيالية «بإمكاني، دون الادعاء بأي طريقة كأن أصف أو أحلِّل أي واقع أيًّا كان، أن أختار من مكان ما في العالم عددًا من السمات (مفردة لغوية وتصويرية) وأشكِّل منها نسقًا. هذا النسق هو ما سأسميه «اليابان».» تتأمل ستة وعشرون شذرة طويلة في بعض جوانب هذه الحضارة — الطعام، المسرح، الوجوه، علب منمقة لا يوجد بداخلها شيء ذو بال، شعر الهايكو، ماكينات بيع تلقائي — ترسم صورة سريعة ليوتوبيا بارت؛ حيث السيادة للمظاهر الخادعة، والصور مفرغة من معانيها، وكل شيء محض سطح. إن اليابان الرأسمالية، صاحبة المعجزة الاقتصادية والتفوق التكنولوجي، لا وجود لها في هذه الصورة، بيد أن بارت كان يعرف جيدًا أي انتهاك يقترفه بتلك الصورة المثالية التي رسمها لليابان في حين كان أصدقاؤه في دورية «تِل كِل» يروِّجون لماو تسي تونج والثورة الثقافية الصينية. وأيًّا كانت حقيقتها، فقد وضعتِ اليابان بارت في «موقف كتابة».
لعل «بارت بقلم بارت» هو أكثر إنجازات هذا الكاتب تفرُّدًا. فالكتاب عبارة عن مجموعة من الشذرات مرتبة أبجديًّا، بعضها مكتوب بضمير المتكلم والبعض الآخر بضمير الغائب، وتحمل عناوين عرضية تمامًا ربما تكون أُضيفت لاحقًا لتوحي بوجود نظام اعتباطي ما، وهو ما لا يجعله «كتابًا عن أفكاره» وإنما «كتاب عن مقاومته لأفكاره الخاصة». إن أسلوبه المبتكر في السخرية من الذات، يُغري باستخدامه كدليل مرجعي، ولا سيما أنه ينكر سلطته الخاصة: «ما أكتبه عن نفسي ليس أبدًا الكلمة الفصل؛ فكلما كنتُ أكثر «صدقًا»، كنتُ أكثر «قابلية للتفسير» … فنصوصي مفككة، لا يستطيع أي منها أن يتوج غيره؛ والأخير ليس إلا نصًّا آخر، الحلقة الأخيرة في سلسلة، وليس معنًى نهائيًّا؛ نص على نص، لا يُضيء شيئًا أبدًا.»
فهو يقاوم أفكاره ويتحدث عن ذاته لا لكي يحلِّلها بل «لعرض نظام-صورة»؛ حيث يحرك صوره الخاصة كقطع ديكور على خشبة المسرح، فيجلب بعضها من الأطراف، ويدفع بالبعض الآخر إلى الخلفية، مرتبًا إياها، يقدم بارت ذكريات من طفولته أكثر إيجابية وحنينًا مما قد نتوقعه بناءً على ملاحظاته السابقة حولها، ولا يتردد في رسم صورة لحياة الطبقة المتوسطة، الهادئة التي عاشها، ولا سيما العطلات التي كان يقضيها في الريف، ويقول: «من المؤكد أنني عندما أكشف عن تفاصيل حياتي الخاصة، فإنني أضع نفسي في أشد حالاتي انكشافًا»؛ ذلك لأنه وفقًا للرأي السائد بين مثقفي اليسار، فإن «الشخصي»، و«المشين» حقًّا، «هو الأفعال التافهة، آثار الأيديولوجية البرجوازية التي تبوح بها الذات في اعترافاتها.» من هذا المنطلق، هو يخاطر بالفعل، رغم أن الكتاب يصمت عن مسائل أخرى بطريقة مثيرة للدهشة. فهو يكتب عن والدته، لكن لا يأتي أبدًا على ذكر أخيه نصف الشقيق، الذي يتم استبعاده من كتاباته بطريقة منهجية بفعل دوافع غامِضة، كأن مخيلته تطالب بأن تكون الأم موجودة من أجله هو وحده. كما أن بارت، نصير الجسد، لا يأتي بأي تصرفات جنسية طائشة؛ فهو يُشير في شذرة حول «الربة إتش» إلى أن «المتعة التي توفرها الممارسات المنحرفة (في هذه الحالة، المتعة المستمدة من الحشيش والمثلية الجنسية) دائمًا ما يُبخَس قدرها.» لكن لا وجود لأي اعتراف أو حكاية تشير إلى ما كانت عليه حياته الجنسية. وفي هذا الصدد كان علينا أن ننتظر النصوص التي نُشرت بعد وفاته، وخاصة كتاب «وقائع»، والتي كشفت عن حياة مثلية تعيسة: ساعات من التفكير في الفتيان، مع الإحجام عن الإتيان بأي فعل؛ خيبة أمل في اللقاءات التي يَرْوِيها. من خلال «كتابة الذات، وتجميع نسق الصورة، أحكم وثاقها لكي أحمي نفسي، وفي الوقت نفسه، أعرضها.» ويتم حساب النسب بدقة.
نبرة حكمة تحوم فوق هذا الكتاب (نحن، الواحد، دائمًا)، غير أن الحِكمة تتواطأ مع فكرة جوهرية عن الطبيعة البشرية؛ ومرتبطة بأيديولوجيا كلاسيكية؛ فهي أكثر الأشكال اللغوية صلفًا (وغالبًا ما تكون أكثرها حمقًا)، لماذا لا أنبذها إذن؟ السبب في ذلك، كما هو الحال دائمًا، عاطفي؛ فأنا أكتب حِكَمًا (أو أرسم حركتها) لكي أُطمئِنَ نفسي؛ فعندما يَظهَر اضطراب ما، أسعَى لتخفيف حِدَّته عبر تقييد نفسي إلى ركيزة ثابتة تتجاوز قدراتي، «هكذا هو الحال دائمًا بالفعل»، وهكذا تولد الحكمة. والحكمة نوع من الجملة-الاسم، فالتسمية تستدعي التطمين، علاوة على ذلك، فإن هذه أيضًا حكمة؛ فهي تخفِّف من حِدَّة خوفي من الانجراف وراء الشطط عن طريق كتابة الحِكَم.
تعتمد قوة مثل تلك التأملات على إبرازها الأسبابَ العاطفية للأبنية الفكرية؛ فهي تبدو وكأنها تبحث عن تفسير للعالم، لكن بما أن ما يغري هنا هو تفسير ذو قوة طاغية — بناء عقلي — فإن القارئ، شأن الكاتب، يظل حبيس دائرة خطابية، فكلما زادت ثقتنا في هذا التأمل، كان علينا التشكك فيه، ومثل تلك الأفخاخ هي الآثار الناجمة عن كل كتابة قوية.
أما أكثر إنجازات بارت شعبية وتفردًا ككاتب فهو كتاب «شذرات من خطاب في العشق»، وهو عبارة عن توثيق لخطاب العشق. وهذه اللغة — التي تتشكل بالأساس من شكاوى وتأملات العاشق في وحدته، وليس من أحاديث متبادلة بين عاشق ومعشوقته — قديمة ومجافية لذوق العصر. ورغم أنها تجري على ألسنة ملايين البشر، وتنتشر في ثنايا رواياتنا الرومانسية وبرامجنا التليفزيونية كما في الأعمال الأدبية الجادة، فإنه لا توجد أي مؤسسة تختص بتقصِّي هذا الخطاب، وحفظه، وتعديله، والحكم عليه، وتكراره، وتحمل مسئوليته.
فإذا كان ثمة هيئة مثل هيئة «الهلع»؛ فذلك لأن الذات في بعض الأحيان تهتف قائلة (دون أدنى اعتبار للمعنى العيادي للكلمة): أنا مصابة بنوبة هلع! عذاب! كما تغني كالاس في مكان ما، فالهيئة هي نوع من الأغنية الأوبرالية؛ وكما أن تلك الأغنية يتم تحديدها، وتذكرها، والتعامل معها من خلال «افتتاحيتها»: «بينما أنا مسجاة، ابكِ يا عيني، كانت النجوم ساطعة، أبكي مصيري»، كذلك فإن الهيئة تنطلق من انعطافة خطابية، نوع من الشعر، لازمة غنائية أو تلاوة، تصوغها في قلب الظلام.
«أريد أن أفهم …» «ما العمل …؟» «عندما يلمس أصبعي دون قصد …» «لا يمكن لهذا أن يستمر …» تلك بعض استهلالات هيئات بارت الغرامية، شذرات، سيكون باستطاعتنا، كما يقول، التعرف عليها. «تتخذ الهيئات أشكالًا ما دام باستطاعتنا التعرف، في خطاب عابر، على شيء تمَّتْ قراءته، أو سماعه، أو الشعور به.» وكما أن أجرومية اللغة هي وصف للمهارات اللغوية للمتحدثين الأصليين بها وتسعى للإمساك بما هو مقبول أجروميًّا من جانب المتحدثين بها، يحاول بارت الإمساك بما هو مقبول، ومعترف به، وفقًا لشفرات ثقافتنا وصورها النمطية، باعتباره شكوى عاشق، ويتخذ بارت من «فرتر» جوته نقطة مرجعية له؛ كونها كانت نموذجًا للمواقف الغرامية في قسم كبير من الثقافة الأوروبية وتحتوي على مخزون وفير من تلك البلاغة العاطفية، المعقدة المهملة.
لكنه مغرم؛ فهو يخلق معانيَ من لا شيء، في كل مكان، والمعنى هو ما يفتنه؛ إنه أسير محنة المعنى، فكل تلامس يُثير لدى العاشق سؤال الاستجابة: فالبشرة تطالب بتقديم إجابة.
(ضغطة على اليد — مستودع هائل من المعلومات — حركة بسيطة في الكف، ركبة لا تتحرك بعيدًا، ذراع تمتدُّ، كأنها بصورة طبيعية تمامًا، على امتداد ظهر الأريكة؛ حيث رأس الآخر ترتاح عليها شيئًا فشيئًا؛ تلك هي المملكة الفردوسية للعلامات الرهيفة المختلسة: مثل مهرجان، لا للحواس، بل للمعنى.)
يحيا العاشق في كون من العلامات؛ فلا شيء يخص المعشوق يمضي بلا معنًى، ويمكن للعاشق أن يقضي ساعات في تصنيف تفاصيل أفعال المعشوق وتأويلها، «الواقعة تافهة (دائمًا ما تكون تافهةً) لكنها سوف تجتذب كل لغة في حوزتي.»
إن مخاوفي حول السلوك بلا طائل، إلى ما لا نهاية، فإذا أعطاني الآخر، سهوًا أو دون قصد، رقم هاتف المكان الذي يمكن الاتصال به فيه في أوقات معينة، أرتبك في الحال: هل أهاتفه أم لا؟ (ولن يفيدني شيئًا أن تقول لي إن بإمكاني الاتصال به — فهذا هو المعنى المعقول والموضوعي للرسالة — لأن هذا الإذن هو تحديدًا ما لا أعرف كيف أتعامل معه.)
… فالبنسبة إليَّ، كذات عاشقة، كل ما هو جديد، كل ما يقلق، أتلقَّاه ليس كواقعة إنما كعلامة ينبغي تأويلها، فمِن وجهة نظر العاشق، تحمل الواقعة تَبِعةً لأنها تتحول مباشرةً إلى علامة؛ فالعلامة، لا الواقعة، هي ما له تبعة (بفضل أصدائها). فعندما يعطيني الآخر رقم الهاتف الجديد هذا، فعلى أي شيء تدل هذه العلامة؟ أهي دعوة لمهاتفته «في الحال»، من أجل متعة المكالمة، أو فقط «عندما تدعو الحاجة»، عند الضرورة؟ وإجابتي ذاتها سوف تتحول إلى علامة، سيقوم الآخر حتمًا بتأويلها، مطلقًا بيني وبينه مناورة عاصفة من الصور. لكل شيء دلالته؛ بهذه العبارة أوقع نفسي في شرَك، أكبِّلها بحسابات، وأحول بينها وبين المتعة.
في بعض الأحيان، تحت وطأة التفكير في «اللاشيء» (كما يراه العالم)، أُنهك نفسي؛ ومن ثم أحاول، كرد فعلٍ، العودةَ — كغريق يضرب قاع البحر بقدميه — إلى قرار عفوي (العفوية؛ الحلم الرائع؛ الفردوس، والقوة، والنشوة)، هيا، اتصل، ما دمتَ تريد ذلك! بيد أن مثل هذا الحل لا طائل تحته؛ لأن زمن العشق لا يسمح للذات أن توازي بين النزوع والفعل، وأن تطابق بينهما؛ فأنا لستُ رجل «العفوية»، وجنوني معتدل، وغير مرئي؛ و«في الحال» أخشى التبعات، كل التبعات، إن خوفي — تأملي — هو «العفوي».
لقد عمل بارت، المدافع عن المركيز دي ساد، على خلق مناخٍ فكريٍّ منسجم مع الانتهاك. إن استعادة عاطفية الحب، كما يقترح، هي انتهاك لانتهاك، خرق للعقيدة الثابتة التي تُعلي قيمةَ الانتهاك الجذري، وعبر استعراضه لهيئات خطاب مهمل، يفاجئنا بارت في «الشذرات» بجعل الحب، في أكثر أشكاله سخفًا وعاطفية، ليس ممتعًا بطريقة روائية فحسب بل أيضًا موضوعًا لاهتمام سيميوطيقي يعتد به.