العرب والترجمة
حق وحرية الانفتاح في تسامحٍ على فكر الآخر، والتفاعل مع أُطر المعاني والدلالات فيما بين الثقافات؛ أي الترجمة. قضية خلافية، وإشكالية صعبة في ظِل ثقافة الكلمة التي تُعبِّر عن ذلك بمقولة تتكرَّر على مستوى التقديس في عبارة «ثوابت الثقافة العربية»؛ إذ حَسْب هذه النظرة: الكلمة هي الوجود الذهني المثالي الحقيقي، وليس الوجود بمعنى فضاء الفعل والتغيير المولِّد للفكر في تفاعل جدلي مُطَّرد ومتطور. والكلمة/الوجود امتداد وتجَلٍّ لمشيئة قدسية خالدة، ومن ثم أضحى الخلود قِسمةً مميزة، ومن هنا يأتي الحديث عن الثوابت ورفض التفاعل الذي يؤدي إلى صدع إطار المعنى والرؤية مع كل جديد.
وإذا عدنا إلى التاريخ العربي والإسلامي التماسًا لفهم الترجمة ودَورها في المجتمع، نرى بوضوح مظاهر هذا الصراع ونتائجه، ثم هزيمة طرف لحساب طرف آخر ظلَّ له الفوز والولاية على الفكر العام حتى الآن، وله تجلياته المادية المؤثرة ومسئوليته عمَّا آلَ إليه حالنا.
البداية هنا — بحكم الخطاب العربي المنحاز عقديًّا — مع فترة اتساع الرقعة الجغرافية الحضارية الموصوفة بالحضارة العربية حينًا، والإسلامية حينًا آخر؛ إذ إنه مع خروج موجة جديدة من موجات الهجرة لسكان شبه الجزيرة العربية على امتداد الحقبة التاريخية الأركيولوجية الحديثة من نطاق أو حصار صحراء شبه الجزيرة، انطلق المهاجرون العرب هذه المرة يحملون عقيدةً بمسمًّى جديد هو الإسلام.
وتحققت لهم الهيمنة في مناطق ذات تواريخ حضارية عريقة أوشكت شعلة الحضارة — أي الإبداع والتجديد — على الانطفاء فيها، أو لنقل: ذَوَت جَذوة الفعل الإبداعي الحضاري لأسباب عديدة؛ ثقافية وتاريخية واقتصادية وسياسية وعسكرية … إلخ. أنهكتها الصراعات فيما بينها، وفي داخلها، ولكنها تملك تراثًا غنيًّا من الإنجازات وقضايا الفكر والعقيدة ذات الخصوصيات المميزة. وعرف التاريخ مدارس أو مناراتٍ للفكر في هذه البلدان، مثلما شهد صراعات وغزوات متبادلة.
ونذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، أكاديمية جُنديسابور في خوزستان في فارس، وجهود علمائها في مجالات الفكر والفلك والترجمة وغيرها. ونذكر مدرسة الإسكندرية لتنوع الاتجاهات العقدية والفكرية فيها، سواء في العصر الهيليني أو ما قبله؛ حيث كانت مدرسة أو معبد «برعنخ» راقودة المصري الفرعوني، الذي أُنشئت مدرسة الإسكندرية البطلمية على غراره، ناهِيَك عن معابد مصر الفرعونية. ونذكر بلاد الإغريق ومدارس الفكر الفلسفي والرياضيات والإلهيات فيها. وكانت للإغريق تعاملاتهم وغزواتهم مع المنطقة حتى حدود الهند. ونذكر كذلك شرق المتوسط وآسيا الوسطى التي توهَّجت فيها مدارس فكرية وصراعات عقدية حول المسيحية في تنوع خصب، حيث مدارس النساطرة. ونذكر تاريخ بابل وآشور والسُّريان ومراكز الفكر في أنطاكيا وحَرَّان والرُّها ونصيبين وأوغاريت. وكانت جميعها قلاعًا فكريةً وعقائدية أثَّرت بإشعاعاتها في الإقليم على اتساعه، مثلما كانت لها جميعها تفاعلاتها خارج حدود هذه الأقاليم. وكان لبعضها حضور ثقافي، بل ومادي، مثل الفرس والرومان داخل شبه الجزيرة.
ضمَّ العرب قطاعاتٍ واسعةً من هذه البلدان المنهكة حضاريًّا، والشديدة التنوع فكريًّا وعقديًّا تحت راية سلطة سياسية واحدة تحمل اسم عقيدة الإسلام. وخلق الواقع الجديد فرصةً جديدة لتفاعل جديد على نطاق إقليمي واسع بين هذه الإنجازات الحضارية السابقة. تفاعل في سياق جديد مغاير؛ سياق يمتد مكانيًّا من حدود الصين عبر الهند وفارس، إلى شرق المتوسط ومصر والإغريق. وكان الوضع الجديد أشبه بحقنة أدرينالين مُنشِّطة لجسد واهٍ ضعيف، فبثَّت الروح والحَمِية فيه من جديد، وأفاق الجسد إلى حين.
وتجلَّت ثمار التفاعل في ظل السياق الجديد وقضاياه الجديدة، وكانت مرحلةً لاستيعاب فكر وافد، وإيقاظ فكر موروث، وتفاعل من منطلق خصوصيات سابقة متنوعة مع رؤًى وفكر إسلامي جديد، وليس بالغريب، وإنما يُمثِّل نقلةً على امتداد متصل الأديان في تطورها الإقليمي.
وحقَّق المأمون حلمه الذي استهلَّ به فترةً لم تَدُم طويلًا، هي فترة أو عصر تأكيد سلطان العقل على الفكر والفعل الدنيويَّين. وهذا هو الإنجاز الذي أثمر إبداعات في الفكر الفلسفي وفي العلوم والرياضيات وفي الفلك، واستحقَّ المأمون من أجله أن يُطلق علماء الفلك المعاصرين لنا اسمه على إحدى فُوَّهات القمر. وحُلْم المأمون وصياغته، الذي جاء تجليًّا لنشأته وبيئته، له دلالة ذات مغزًى، سواء أكان تعبيرًا عن وعي باطن، أم روايةً عن وعي ظاهر. ويُروى أنه رأى في منامه أرسطو، المعلم الأول، وسأله: «أيها الحكيم، ما الحسن؟» أجابه الحكيم: «ما حَسُنَ في العقل.»
وهذه هي العبارة ذاتها التي ظلَّت مقولةً فلسفية موضوع جدال وسِجال بين المعتزلة وخصومهم، والتي قالها الفيلسوف العربي الكندي، إلى أن بلغت ذِروتها في فكر فيلسوف العقل ابن رشد، الذي حرَّر الحُسْن والعقل والحق من أي انحيازات عقدية أو مرجعيات دينية. وكان نموذج المأمون إقامة مركز يُعنى بتعلم المذهب العقلي على غرار الأكاديمية الفارسية في جُنديسابور التي عُنيت بترجمة المعارف الإغريقية والرومانية والبيزنطية وعلوم الشرق الأقصى إلى اللغة الفارسية. وانفتحت الأكاديمية على مذاهب المفكرين والفلاسفة في تنوعهم، بمن في ذلك من كانوا يسمَّون الهراطقة.
وأنشأ المأمون نموذجًا محاكيًا في بغداد هو بيت الحكمة. ولا غرابة في ذلك؛ إذ إن المأمون أمه فارسية، وعاش حينًا واليًا على بلدة مَرو الخاضعة للسلطان الفارسي. وأصبح بيت الحكمة في بغداد مؤسسةً علمانية لمجتمعٍ قائم على العقل والإبداع. وأقام المأمون مرصدَين ومكتبة. واشتمل بيت الحكمة على برامج بحثية في علوم اللغة والطبيعة وما وراءها والرياضيات والطب والفلك. وعُني بيت الحكمة عنايةً فائقة بالترجمة عن العديد من اللغات، وفي جميع المعارف، في نَهَم لا يعرف حدودًا أو قيودًا، وعرف التاريخ أسماء أعلام مشهود لهم دون اعتبار لفوارق عقدية، ويُمثِّل إنتاجهم الخصب المتنوع جهدًا مؤسسيًّا لفريق عمل بكل معنى الكلمة.
ولكن الفكر الأصولي السلفي المتشدِّد ناصَبَ المأمون وبيت الحكمة العداء، وخاض معارك باسم الدين والتفسير الحرفي ضد مشروعات المأمون العلمانية، التي كان مُقدَّرًا لها — لو استمرَّت — أن تنقُل الشرق الأوسط إلى آفاق حضارية رَحْبة. وكان رائد هذه الحركة السلفية المناهضة للعقل في أيام المأمون هو الإمام أحمد بن حنبل في مجال العقيدة، والثاني الإمام أبو حامد الغزالي، الذي كان بفكره مِعولًا لهدم العقل الفلسفي، وانعقدت للفكر السلفي السيادة منذ ذلك التاريخ. ونلاحظ أن هذه المعارك لا تلبث أن تظهر نشطةً دومًا، معارِضةً لكل دعوة للعقل والعقلانية والنهضة العلمية والتطور.
وعلى الرغم من هذا الصراع باسم المُقدَّس، فقد أعطى التفاعل ثمارًا فكريةً متنوعة وإبداعات علمية تُوجزها عبارة الحضارة الإسلامية أو العربية. ومن عجب أننا نجد من يُشيد بهذا العصر، على قصره، في زهو باعتباره عصر ازدهار، ونجد مَن هم على طرف نقيض، ويرَون أن هذه الفترة هي سر وبداية النكبة. وهاتان رؤيتان متوازيتان على امتداد التاريخ حتى اليوم. والأمر الجدير بالبحث والتفسير هو لماذا تنعقد الغلَبة في النهاية دائمًا لأصحاب التوجه السلفي؟
والذي يعنينا هنا أن وقائع هذه المرحلة تؤكد لنا أن الترجمة كانت إحدى آليات هذه النهضة في تزاوج مع واقع ينبض بحياة فكر وفعل اجتماعيَّين جديدَين، واقع تربطه علاقة رحم بالسابق على تنوُّعه، وعلاقة نسب بقضايا الحاضر الجديد آنذاك.
واستسلم العقل العربي بعدها لحالة انكفاء ووهن حضاري؛ أعني انطفأت جذوة الإبداع في ظل سيادة نُظم حكم عاطلة من ثقافة الفعل الاجتماعي والعقل الإبداعي والانتماء والتطوير الحضاري، وسادت مقولة: «كل مستحدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.»
وامتدَّ عصر الوهن الحضاري إلى أن تيسَّرت ظروف تفاعل جديدة مع ما اصطُلح على تسميته الحضارة الحديثة؛ أي الغرب. وبعيدًا عن اختلافات التفسير أقول: بدأت الترجمة في العصر الحديث من موقعَين، ولكلٍّ أسبابه الخاصة للنشأة والتطور؛ في مصر، وفي متصرفية لبنان، أو جبل لبنان أثناء الحكم العثماني.
ارتبطت الترجمة في لبنان بموقف مناهض لسياسة التتريك، ومن ثم محاولة الحفاظ على اللغة العربية ضمانًا لفصل المنطقة ثقافيًّا عن تركيا، وهو الموقف الذي دعمه الغرب. وقدَّمت لبنان أعلامًا في الفكر العربي والترجمة، نذكر منهم: أمين المعلوف صاحب معجم الحيوان، والمعجم الفلكي، ومعجم النبات. وكذلك فارس نمَّر، ويعقوب صروف، اللذان أصدرا مجلة المقتطف، وتضمَّنت الكثير من الدراسات المترجمة في سياق سياسة التنوير.
ولكن حركة الترجمة كنشاط اجتماعي تنويري واستقلالي داعم للنهضة والتحديث، بدأت في مصر في عهد محمد علي. ويُعتبر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي إمام التنوير والعلمانية؛ إذ جعل الترجمة، وبدعم من السلطة، مؤسسةً اجتماعية هدفها إنجاز مشروع قومي اجتماعي شامل لجميع أنشطة الحياة، وتحقيق نهضة في العلوم والصناعات.
بدأ تاريخ الترجمة في العصر الحديث للعالم العربي انطلاقًا من هذَين المركزَين. وتعثَّر نشاط الترجمة أو انحسر بعدما أصابت جهود النهضة انتكاسة بسبب الدور الاستعماري الغربي، والنظم الحاكمة الاستبدادية المحلية التي حالت دائمًا دون أن تكون قضية الوطن أمانةً بين يدَي شعب واعٍ ومشارك في إدارة شئون مجتمعه بحرية. وبدأت صحوة جديدة للترجمة مع مطلع القرن العشرين قرينة صحوة اجتماعية وسياسية للمطالبة بالاستقلال. وبرز أعلام للفكر العربي، كما نشأت مؤسساتٌ للترجمة والتنوير في إطار رؤية قومية لتحصيل علوم الحداثة التي هي أساس نهضة وازدهار الغرب.
ومع بداية ما يمكن أن نُسمِّيه عصر استقلال الكِيانات العربية ونشوء دول جديدة في منتصف القرن العشرين، ظهرت مراكز ومؤسسات للترجمة في غير المركزَين السابقَين؛ في الكويت وسوريا والعراق والسعودية، وأخيرًا في دبي وأبوظبي وقطر.
وأبدت الجامعة العربية اهتمامًا بدور الترجمة، ودعت، بِناءً على مبادرة من عميد الأدب الراحل طه حسين، إلى إنشاء مؤسسة عربية للترجمة لإعداد المترجمين. ولكن لم يتحقَّق من هذا كله سوى إقامة المعهد العالي العربي للترجمة الذي أُقيم منذ بضع سنوات فقط في الجزائر، ولا يزال في دور التجربة، وشرع في تخريج مترجمين يُؤرِّقهم سؤال: ماذا عسانا أن نترجم؟ ولماذا نترجم؟ ولمن نترجم؟ أعني أن جهدهم التعليمي غير مقترن بمشروع قومي محلي أو عربي، وأمامهم العالم العربي عاطل من هدف نهضوي.
معنى هذا أن هناك إدراكًا عربيًّا رسميًّا لدَور الترجمة وتدني وضعها، ولكن في حدود الإدراك النظري للموقف دون أن يصدقه سلوك عملي ووعي قومي. ولهذا نرى نشاط الترجمة بؤرًا متناثرةً على صعيد الأرض العربية، ولا يخرج عن كونه جهودًا شكليةً لمراكز أو منظمات أو مؤسسات هي في حقيقتها مجرَّد دُور نشر.
- (١)
أكثر البلدان العربية حديثة العهد بنشاط إصدار الكتب تأليفًا وترجمة، بل إن هناك بلدانًا ليس لها اسم على خريطة صناعة الكتب.
- (٢)
الترجمة من حيث الكم متدنية أشد التدني قياسًا إلى البلدان الأخرى، وقياسًا إلى مقتضيات حضارة العصر والنهوض بالإنسان وبالوطن.
- (٣)
الترجمة على الرغم من تَدَنيها ومحدوديتها هي نشاط فردي، حتى وإن صدرت باسم مؤسسة ما هنا أو هناك؛ إذ هي جهد متباين التوجهات، ممَّا يعكس غياب رؤية وخطة عربية عامة أو محلية تعي مُقوِّمات العصر وتحدياته، وتُمثِّل استجابةً لها.
- (٤)
نسبة الكتاب المترجم أقل من ٪۱۰ من إجمالي الإصدارات على المستوى العربي، وهي أربعة في الألف بالنسبة للإصدارات المترجمة عالميًّا سنويًّا، بينما نسبة عدد العرب إلى العالم واحد على أربعة وعشرين. وسبق أن أشرنا في كتابنا «الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي»، ما سبق أن نشرته مُنظَّمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للجامعة العربية في كتابها الصادر عام ۱۹۹٦م، من أن إجمالي عدد الكتب المترجمة إلى العربية منذ عهد خالد بن يزيد حتى عام إصدار الكتاب، لا يتجاوز عشرة آلاف عنوان، وهو ذات عدد إصدارات إسبانيا في عام واحد من الكتب المترجمة.
- (٥) الغالبية العُظمى من الكتب المترجمة لا تربطنا بما يُسمَّى العلوم الأساسية Basic Sciences، التي هي دعامة البناء الحضاري، وحصاد جهود البحث والتطوير والمنافسة. ولكن غالبية ما يوصف بالكتب العلمية هي علوم تطبيقية، مثل إصلاح الحاسوب مثلًا. ولا يكشف الكتاب المترجم عن توجُّه مجتمعي ماكرو… أي توجُّه كلي وشامل لحركة مجتمعية ناهضة في اتجاه العصر. والقليل النادر الذي يهدف إلى صَوغ ذهنية علمية إبداعية نقدية.
- (٦)
ثمة حاجز فاصل كثيف بين بلدان ومثقفي العالم العربي وبين إصدارات العالم المتقدم؛ لأسباب ثقافية، فضلًا عن أنَّ استيراد الكتاب جهد فردي. هذا علاوةً على أن المجتمعات العربية موزعة كلٌّ تحت سيادة لغة أجنبية هي لغة المستعمر السابق، ممَّا يجعل كلًّا منها خاضعةً لرؤيةٍ ثقافية منحازة. وتعاني مشكلة توحيد المصطلحات العلمية عربيًّا على الرغم من وجود «مكتب تنسيق التعريب» في الرباط التابع لجامعة الدول العربية.
- (٧)
قدر كبير من الترجمات صادر عن دُور نشر لحساب هيئات ومراكز دبلوماسية أجنبية؛ ولذلك فإنها تعكس رؤاها ومصلحتها. ومن هنا جاءت دعوتنا إلى «تعريب الترجمة»، بمعنى أن تصدر انطلاقًا من رؤية عربية نهضوية خالصة.
- (٨)
الافتقار إلى إحصاءات ببليوجرافية شاملة ومحقَّقة عن الحاضر والتاريخ؛ ممَّا يعني افتقار المجتمع إلى ذاكرة تُسجِّل نشاطه الثقافي، بما في ذلك الترجمة. هذا على عكس ذاكرة الثقافة الدينية الأصولية.
- (٩)
غياب دليل المترجمين العرب وتخصصاتهم وإنجازاتهم، على الرغم من أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أصدرت دليلًا، إلا أنه قاصر ومعيب.
- (١٠)
غياب جيل جديد من المترجمين الخبراء المجيدين، ويعكس هذا فقر الثقافة وقصور التعليم، تعبيرًا عن غياب الجهد النهضوي.
- (١١)
غياب الدراسة التحليلية للمترجَمات دراسة بِناء على منهج المباحث العلمية المتداخلة، تاريخ وعلم نفس واجتماع وأنثروبولوجيا … إلخ؛ لتحليل الموضوع وتحليل الأسباب؛ أسباب التدَني من حيث الكم والكيف، دون الاقتصار على إحصاءات كمية وأرقام مجرَّدة. هذا إذا أردنا أن نعرف أنفسنا ونُفكِّر عبر الحقيقة وإن كانت مؤلمة، تأكيدًا لعزمنا على التغيير. وغني عن البيان أن دراسة تحليل الموضوع سوف تكشف عن أي فروع المعرفة تحظى باهتمامنا، وأيها نعزف عنها، ومن ثم وجه القصور المعرفي الحقيقي في حياتنا الثقافية، ومدى ارتباط ذلك تاريخيًّا بثقافة مجتمعية غالبة، وكذلك اقتران ذلك بتخلفنا المعرفي العلمي.
- (١٢)
غياب الدراسة التحليلية المقارنة لمراحل وعصور نشاط الترجمة في حياتنا، والمقارنة مع المجتمعات الأخرى؛ حتى لا نزهو بفُتات وقشور الإنجازات الفكرية العلمية. ويكفي أن نعرف أن العالم ينفق أكثر من خمسمائة بليون دولار سنويًّا على البحوث والتطوير، وجدير بالذكر أن الدول المتقدمة تُنفق سنويًّا ما بين ۲ و۳ بالمائة من إجمالي الدخل القومي على البحث العلمي في المجالات غير العسكرية، بينما تنفق البلدان العربية ما بين ٠٫٢ و٠٫٥ بالمائة من دخلها. ويتجلى فقر البحث العلمي في اغتراب غالبية العلماء العرب خارج أوطانهم.
وحري بنا هنا أن نُلقي نظرةً إلى خُلاصة ما انتهى إليه التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية، والذي يعرض الحصاد الثقافي العربي لعام ۲۰۰۷م؛ إذ يؤكد أن المُناخ السياسي المتسم بالاستبداد والقهر وغياب الحريات أدى إلى انتعاش الظلامية والأصولية والتطرف. ونعرف أنه مُناخ ممتد على مدى قرون. وطبيعي أنه مسئول عن انصراف الإنسان العربي عن ثقافة تحصيل العلم، وعن الاهتمام بالقراءة العلمية والبحث، والعجز عن التغيير، وهو ما يتجلى في مجال النشر تأليفًا وترجمة.
ويشير التقرير العربي الأول إلى تَدَني النشر العربي تأليفًا وترجمة، وقصوره الشديد، وندرة الكتاب الذي يتناول علومًا أساسية، وغلبة الكتب الدينية والأدبية.
وسبق لنا، منذ أكثر من عشر سنوات، أن عرضنا في الطبعة الأولى من كتابنا «الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي» (إصدار المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة)، رؤيتنا التي تؤكد ذلك على أساس من دراسة تحليلية وإحصائية. ولكن للأسف انبرى عدد من المثقفين الذين فَزِعوا من هول الصدمة، وحرصوا على الدفاع الأعمى عن النظم الحاكمة، وعن واقع مهين متردٍّ، وشرعوا في التشكيك في الرؤية وفي الإحصائيات عن غير علم. ونحن لن نخطو خطوةً واحدة إلى الأمام ما لم نلتزم منهج «التفكير عبر الحقيقة».
بعد هذا أقول إجمالًا: الترجمة في التاريخ العربي موقف ثقافي اجتماعي سلبي من المعرفة إنتاجًا وإبداعًا وتحصيلًا واستثمارًا. إن مناط الأمل ومحور الجذب في ثقافتنا الاجتماعية التي أفقرها ورسَّخ واقعها البائس، الاستبدادُ والجمود والتخلف، هو تحصيل علم لَدُنِّي دون الدنيوي، ونرى في هذا صراطنا المستقيم وخيرنا الأعظم.
ولهذا فإن النهوض بالترجمة لا يكون إلا بشرطَين:
-
(١)
عقد العزم المجتمعي على إنجاز نهضة شاملة لكل مجالات النشاط والحياة في المجتمع من سياسة وإدارة وتعليم وتأويل واجتهاد ديني عقلاني حر، وبحث علمي دون قيود من خارج المنهج العلمي في البحث والتفكير في تناسبٍ مع تحديات ومقتضيات حضارة العصر.
-
(٢)
أولوية إعادة تنظيم البنية الذهنية للإنسان العربي في إطار رؤية علمية نقدية لواقعنا راهنًا وتاريخًا، وترسيخ ثقافة الفعل الاجتماعي والتغيير والتنوع في حرية، والانفتاح على الفكر العالمي في تعدده، والهدف بناء عقل جديد لإنسان جديد ومجتمع جديد. وهذا هو الواجب الأول لأي مؤسسة أو وِزارة معنية بالثقافة الحقة لا الثقافة الاحتفالية، ولكنه واجب غائب عن الوعي غياب الحاجة المُلِحة إلى النهضة.
بقيت نقطتان وثيقتا الصلة بموضوع الترجمة وموقف العرب من الترجمة، وهاتان النقطتان موضوع دراسات جادة متطورة على الصعيد العالمي بدأت في العقدَين الأخيرَين:
-
أولًا: دراسة المنتَج أو العائد الثقافي للترجمة إلى ومن
العربية، مع دراسة مقارنة في الزمان بين مراحل وعصور
نشاط الترجمة، وكذا مقارنة مع المجتمعات
الأخرى.
تفتقر البلدان العربية لمثل هذه الدراسة على الرغم من أنها تحظى باهتمام واسع مع بداية مرحلة نهاية الاستعمار الغربي الأوروبي، والمراجعة لكل تراث التنوير. وكم هو واجب أن نعود إلى أنفسنا بفكر نقدي أو ما يسمى self-reflexiveness على الامتداد التاريخي، وندرس أسباب تدَني الترجمة وطبيعة الحصاد على الرغم من تدَنيه، والأثر الناتج عنه، أو عن توظيف واستثمار هذا الحصاد! وندرس كيف صاغت الترجمات صورة الآخر الذي نترجم عنه في الأذهان وانعكاس ذلك على سلوكنا، وكيف صاغت صورتنا أمام أنفسنا، وكيف جرى التفاعل ليكون الحصاد تعميقًا لشعور بالدونية إزاء الآخر، أو ترسيخًا لشعور نرجسي بالتفوق الزائف حين نزهو بالسلف دون أنفسنا وجهودنا، أو عزمًا على التحدي على أساسٍ من الندِّية في إطار مقارن مع المجتمعات الأخرى.
هذا مع إيمان بأن الترجمة هي مترجِم وثقافة وكتاب وقارئ ومجتمع داعم، وديناميكية حركية نحو هدف مشترك، ونقد عقلاني، وتسامح وموضوعية في التلقي وفي النقد، ومغامرة في سبيل نهَم معرفي واستكشاف للمجهول. ولكن من أسفٍ أن هذه العناصر ودراستها دراسةً تحليلية نقدية غائبةٌ جميعها.
وجدير بالذكر هنا جهود الباحثين في المستعمرات السابقة في أمريكا اللاتينية وفي الهند وعددٍ من بلدان جنوب وشرق آسيا؛ مثال ذلك: أن فريقًا من الباحثين الهنود استحدث خلال الثمانينيات فضاءً معرفيًّا جديدًا في مجال الدراسات التاريخية الهندية، ويحمل الفريق اسم «فريق دراسات المُهَمَّشين أو التابعين» Sub-altern Studies Group، والاسم مأخوذ عن المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي، والهدف نقد العلاقات غير المتوازنة بين الذات والآخر، خاصةً خلال فترة الاستعمار، وكيف صاغ الغرب أيديولوجيا صورة الآخر (الغرب) من خلال ثقافته المنقولة إلى مثقفي الهند. واصطنع الغرب صورةً شائهة عن المجتمع الهندي يثبتها الباحثون الغربيون خارج إطار الزمان والمكان، وكأنها هي الهند دائمًا في كل زمان ومكان. وتجلى هذا في مجالات بحث عديدة. وذهبوا في مجال التاريخ إلى أن تاريخ الهند، ليس كما صوَّر الغرب، هو تاريخ شركة الهند الشرقية، وإنما هو فعالية وصراع عامة الهنود على مدى التاريخ لبناء الذات والحفاظ على هُويتهم.وجاء ميلاد هذا المنهج تحديدًا بعد الحرب العالمية الثانية ومراجعة الشباب الأوروبي لتاريخه وانحيازاته التي أدَّت إلى اكتواء مجتمعاتهم بويلات حربَين متعاقبتَين مدمِّرتَين. واقترنت هذه المراجعة باستقلال المستعمرات السابقة. وتوافقت آراء المثقفين هنا وهناك على ضرورة تصحيح الرؤية ورفض هيمنة ثقافة الغالب، وتأكيد نسبية الثقافة، والاعتراف بخصوصية ثقافة الأنا والآخر في تكافؤ نِدِّي.
وتقتضي الأمانة أن نذكر أن مصر الحضارة والتاريخ كانت تنبعث دائمًا حيةً من جديد على أيدي مثقفيها وعلمائها خلال مراحل النضال التماسًا للنهضة، ولكن لا تلبث أن تخبو مع انحسار زَخَم حركة النهضة، وطغيان حاكم أجنبي أو مستبد محلي، أو هيمنة أيديولوجيا سلفية.
وحَرِي بي أن أذكر هنا مثالًا يُوضِّح مدى الأثر الراسخ لآلية نقل المعارف من الغرب واصطناع صورة الآخر في انحياز أيديولوجي، أو لنقل: صورة الأنا والآخر (الغرب والشرق) كوجهَين نقيضَين. ذلك أنه عند مناقشة ترجمة كتابي «أثينا إفريقية سوداء» تأليف مارتن برنال، و«التراث المسروق» تأليف جورج جيمس، في ندوة في المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، وضح أن عددًا من الأكاديميين كانوا أعجز من أن يستسيغوا أو يتحرَّروا من الأُطر المعرفية الغربية المنقولة عن الغرب، واغتذَوا عليها خلال فترة دراستهم الأكاديمية في ظل الاستعمار. والغريب أن هذه هي الأُطر ذاتها التي تخلى عنها وأدانها كثير من الباحثين الغربيين في الدراسات والمراجعات النقدية التي راجت مع وبعد ثورة الشباب في السبعينيات.
-
ثانيًا: النقطة الثانية هي الترجمة في عصر العولمة أو عصر
ثورة المعرفة أو ثورة الاتصالات أو لنُسمِّها ما شئنا.
وكذا الترجمة في إطار صراع الوجود تأسيسًا على المعرفة
فيما بين المجتمعات ضمانًا للسبق الحضاري والمَنَعة
الحضارية وليس مجرد البقاء. وغني عن البيان أن الترجمة
من أهم آليات التواصل المعرفي على الصعيد الكوكبي.
وأصبح واضحًا أن هذا العصر بكل مسمياته يحمل طاقةً
وقدرة على التأثير والتغيير جذريًّا في ثقافات الشعوب
جميعها من خلال كثافة التواصل الذي أصبح يسيرًا وبلا
حدود، حتى وإن سار في اتجاه واحد على الرغم من قيود
الاستبداد. وطبيعي أنه تواصُل ليس قاصرًا على اللغة
الشفاهية واللغة المكتوبة، بل تواصل سمع بصري، وعبر
وسائط الإعلام المتعددة «المالتي ميديا»، وعبر المعارض
والمتاحف والسياحة والهجرة. والترجمة هنا لها دور واضح
في التلقي. وتطمح بلدان إلى أن تحقق لنفسها الهيمنة
على الآخر عن بُعد، من خلال صياغة عقول وأُطر معرفة
الآخر، وضمان السيادة لثقافتها واحتكار المعلومات وشغل
موقع المرجع والمصدر للمعلومات والمعارف؛ أي أن تكون
هي بنك معلومات العالم. وهذا ما تحرص عليه الولايات
المتحدة من خلال الشبكات الفضائية. وسؤالنا: تُرى ما
هو الموقف العربي من الترجمة في هذه المجالات إرسالًا
واستقبالًا؛ أي في إعادة تشكيل الثقافات وإعادة تشكل
الهُوية؟
الترجمة الآن هي الوسيط العالمي بامتياز في نطاق ما يسمى فضاء التفاوض فيما بين الثقافات على الصعيد الكوكبي Global-Inter cultural Negotiation، وتزايد الاهتمام بحدة لدى الغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول لفهم ثقافة/فكر المنطقة العربية.
وتجري دراسات الغرب في إطار معرفي غربي. والترجمة النقدية هنا ضرورة حيوية. ولكن السؤال: ما الذي يصنع صورة الأنا لدى الآخر؟ ترك العرب للغرب مهمة صناعة الصورة وتوارَوا خلف عبارةٍ تدغدغ الوجدان النرجسي السقيم قالها شيخ ذائع الصيت: «لقد سخَّر الله لنا الغرب …» وهذا خطأ فادح. وانسحب الأصوليون ولاذوا بالماضي وانكفئوا على تراث قديم خارج العصر؛ فكانت نرجسية مريضة. وهذا خطأ فادح آخر يتجلى في رفض التعددية والتنوع والتطور ووأد للعقل العلمي الحر، على الرغم من أن هذه بعض خصائص التراث الذي يجهلونه.
الترجمة أحد جناحَي النهضة للاستيعاب النهم واقتناص معارف الآخر، والجناح الثاني هو الإبداع الذاتي في مجال الفعل والفكر. وهذان الجناحان لا يحلقان بالمجتمع إلا في مُناخٍ من الحرية والديمقراطية وثقافة الفعل والتغيير.
الطريق إلى المستقبل مشحون بالتحديات، تحديات مع أنفسنا لفهم وتغيير أنفسنا ثقافيًّا وتاريخيًّا، وتحديات مع الآخر في ضوء مقتضيات حضارة العصر، وإن لم نقارن لن نفهم. وإن لم نعقد العزم على التزام نهج علمي في الفهم وفي مواجهة التحديات لن نخطو أبدًا إلى أمام.
ونعود لنسأل: أين العرب من كل هذا؟!