الترجمة وحوار المتوسط
- الأول: أن إسرائيل أطلقت قمرًا صناعيًّا للتجسس. وقد عقَّبت
صحيفة معاريف على ذلك الحدث قائلة: «إن المسافة بين
إسرائيل وكل جيرانها تقاس الآن بالسنوات الضوئية.» وهي
في هذا لسان حال دوائر أخرى كثيرة داخل إسرائيل
وخارجها.
ودلالة الحدث أمران، وليست القضية في ظاهرها تجسُّس إسرائيل؛ فإن أسرارنا العربية ذائعة شائعة وإن خفيت على الشعوب.
ولكن التجسُّس هنا بقمر إسرائيلي يعني أن إسرائيل عزمت على أن تكون مشاركًا مستقلًّا وأصيلًا في الثورة التقنية العسكرية، وجوهرها المعلومات تحصيلًا وتنظيمًا ومعالجةً وتوظيفًا لصالحها. النصر والسيادة في هذا العصر للأقدر على امتلاك المعلومات، والأفضل والأسرع في استخدامها. وحرب المعلومات ليست فقط حرب ميادين القتال، ولكنها حرب صناعة أو إنتاج وتحصيل معلومات، بل وقدرة على تشويه معلومات الخصم وصناعة وعيه والتلاعب به، سواء في ميادين الحياة المدنية أو العسكرية المختلفة. وصراع الحضارات هو دائمًا وأبدًا صراع معلومات. هذا عن قمر التجسُّس، أمَّا الصاروخ حامل القمر فهو حامل تاريخ لتطور علمي وتعليمي وتنموي بعامة، ودلالته أن إسرائيل تملك قاعدةً علمية وتكنولوجية متطورة هي حصاد مجتمع علمي راقٍ ومستوًى تعليمي متقدم، وثقافةً سياسية واقتصادية على المستوى الاجتماعي تدعم هذا التطور وتغذِّيه وتهيِّئ له الاستقلال والمشاركة الإيجابية عالميًّا.
- الحدث الثاني: ندوة نظَّمتها مدرسة الترجمة في تاليدو أو طليطلة في
إسبانيا بعنوان «تبادل الأفكار في حوض المتوسط: دور
الترجمة». والذي يعنيني هنا أن المتوسط، مرةً ثانية أو
ثالثة في تاريخ الحضارات، يُزمع التحوُّل إلى ساحة
لقاء ثقافي؛ أي حوار ساخن أو هادئ بين ثقافات
المجتمعات المتوسطية في محيط عالمي متداخل؛ ممَّا
سيكون له أثره في تطورها وتنافسها وتحديد السيادة لبعض
أطرافها. والسؤال: ما هو سلاحنا إذا أردنا النزول
كقوًى عصرية إلى هذه الساحة التي لا ترحم؟ وفي تعقيب
سريع بين حاصرتَين على هذَين الحدثَين يلخِّص الموقف:
جاء في تحقيق نشرته الأهرام يوم ١٥ / ٥ / ١٩٩٥م، أن
الهيئة العامة للكتاب أصدرت إحصاءً يقول: إنه قد صدر
في مصر خلال عام ١٩٩٤م وحده ثلاثة آلاف عنوان عن
الشعوذة والدجل صادفت رواجًا كبيرًا!
صراع الحضارات دائمًا ينطوي على صراع ثقافي بمعنى الثقافة الأعم، كإطار معرفي قيمي حاكم للسلوك الاجتماعي. والأساس العميق لهذا الصراع، كما يقول توينبي، هو آلية التحدي والاستجابة، وهي آلية مستمرة استمرار المجتمعات. وها هو ذا التحدي ماثل أمامنا. واقع مادي يحاصرنا ويؤزِّمنا. والسؤال عن الاستجابة وعن المستجيب فكرًا وتأهيلًا.
الفجوة بيننا وبين العالم الآخر فجوة معرفية، أو معلومات موظفة اجتماعيًّا بحيث نعيها ونستوعبها ونمارسها ونساهم في إبداعها. التخلف الذي نعانيه قبل أن يكون اقتصاديًّا هو تخلف ثقافي معرفي في حضارة عالمية تمثِّل فيها المعرفة العلمية القوة المحرِّكة والدافعة؛ المعرفة العلمية منهجًا للتفكير، ومبحثًا للنشاط الاجتماعي، وإطارًا حاكمًا للسلوك. إن اللُّهاث وراء المعرفة أصبح سمة حضارة العصر حتى بين أكثر البلدان تقدمًا.
ونحن في مصر — أو العالم العربي — لن نستطيع أن نُعيد تأسيس أنفسنا انطلاقًا من معطيات ذاتية وبعيدًا عن التواصل الحر مع الثقافات العالمية. انفتاح على العالم، وانفتاح على تاريخنا الحضاري بكل تنوعاته منذ فجر الوعي الإنساني. ومن شروط التفكير العلمي أن نملك إزاء هذا وذاك عقلًا علميًّا ناقدًا يشكِّل أساسًا لرؤية مستقبلية، واستراتيجيةً تنموية شاملة لجميع أنشطة المجتمع عند مستوى العصر. إنها أخذ وعطاء، أو لنقل: جناحاها دراسة إبداعية جذورها نشاط اجتماعي منتج، وترجمة معبِّرة عن هذا ومتكاملة معه، تأخذ عن وعي نقدي، وتنتقي، وتحفِّز، وتنهض بالمجتمع فكرًا ولغةً ونشاطًا متعدد المناحي، وتساهم في صوغ منظومة معرفية قيمية تقف بالمجتمع ندًّا وكفئًا في ساحة النزال الحضاري، وله استقلاله الحداثي معًا.
ولكن ما نصيبنا من الفكر العلمي أخذًا وعطاءً؟ ولن أقول: التفكير العلمي، وإن كان كل منهما شرطًا أو وجهًا للآخر. وأعود لأسأل: ما نصيبنا من الفكر العلمي العالمي ودوره الفاعل في حياتنا (أي الترجمة العلمية)، وليس نصيبنا من الإنجازات التكنولوجية العلمية التي نستوردها سلعًا استهلاكية؟ وكيف يجري اختيار هذا النصيب؟ وهل يمثِّل دعامةً أساسية في بنية تنموية استراتيجية ورؤية مستقبلية لمجتمعاتنا العربية؟
ليست الترجمة نقل معارف فحسب، بل الترجمة تواصلٌ حر بين الحضارات. ولا يكون هذا التواصل مُثمرًا إلا حين تؤرِّقنا روح المغامرة الإنسانية التي يزكِّيها نهم معرفي لاستيعاب إنجازات وفتوحات العلم المرتكز على عبقرية الإنسان من أجل تغيير الواقع؛ واقعنا الثقافي والبناء الاجتماعي لحاجتنا المُلِحة إلى ذلك؛ وبذا نكون بنَّائين للحضارة عن وعي وعقلانية. إننا قد ننقل النظريات أو المصطلحات، ولكن يظل حديثنا بها رطانًا؛ لأننا لا نستطيع أن ننقل الرأس المبدع، ولا حياة النشاط الاجتماعي الإنتاجي الخالق لها. وقد نستورد نظريات ومناهج التعليم، ولكننا لا نستطيع أن نستورد الشغف بالعلم، والنهج المعرفي؛ أي روح التعليم ذاته.