لغتنا وتعريب العلم
اللغة، الفكر، المعرفة، الفهم، الفعالية، الإنتاجية والإبداعية؛ هذه جميعها تكاد تكون مفاهيم مترادفة؛ إذ لا لغة بدون فكر، ولا لغة أو فكر بدون فعالية إنتاجية للأنشطة الإنسانية في إطار علاقة الإنسان/المجتمع بالوجود. وإذا كانت اللغة أداة تواصل فإنها تواصل فكري لِمَا هو موضوع فهم الإنسان النابع من تلك العلاقة الإنتاجية النشطة؛ إذ إننا نعي الوجود ونتعامل معه ونعبِّر عنه باللغة ومن خلالها، فكأن اللغة هي الفكر والفعل والرمز في آنٍ.
وجهان للمشكلة
- (أ)
العلاقة بين لغة العلم واللغة الطبيعية في المجتمع.
- (ب)
صياغة المصطلحات العلمية.
والشِّق الأول شق أصيل؛ ذلك أننا بحاجة إلى بحث حقيقة أبنية اللغة الطبيعية وبحث العلاقة بين اللغة العلمية بما لها من خصوصيات، وبين أبنية اللغة الطبيعية السائدة، وإلى أي حد تُعتبر هذه العلاقة معزِّزةً أو معوِّقة لصياغة الفكر العلمي؛ فقد تكون أبنية اللغة الطبيعية في المجتمع، كما هو شأنها في الحضارات السابقة على حضارة الصناعة، تعبيرًا عن فكر أو ثقافة اجتماعية ترى الوجود تجليات، وترى الظواهر موضوعًا لتأملات نظرية مجردة، ونتائج منسوبة إلى علةٍ خارج الذات والطبيعة، وتجاوز فكر الإنسان وقدراته على البحث والاستكشاف. وها هنا تكون اللغة أو أبنية الفكر الاجتماعي حائلًا دون فعالية الإرادة الإنسانية للتغيير واستكشاف قوانين اطراد الظواهر الطبيعية، أو لنقل: أبنية تَقنَع بالتواكل والكسل الفكري والإحالة إلى علة خارقة؛ إذ تكفي عبارة كلامية ينتهي عندها الإشكال، ويقنع الإنسان/المجتمع بالتفسير الذي يتجاوز الطبيعة التي هي موضوع البحث العلمي. بينما البحث العلمي له لغة المنطق من حيث العلة والمعلول، وبُعدا الزمان والمكان والعلاقات بين ظواهر طبيعية لها قوانينها التي تعبِّر عن حركتها واطرادها، ونشأتها وتكوينها، وتهيِّئ للإنسان إمكانية التحكم والسيطرة؛ أي أن تكون ساحةً لفعالية الإنسان وممارسة إرادته في التغيير.
ويرتبط هذا بأوثق ارتباط بالمنهج؛ ذلك لأن المنهج ليس فقط قواعد بحث، بل توجه عقلي، ونهج في الفهم، وأسلوب لغوي في الصياغة، ونحو في التعامل مع الواقع موضوع الدراسة.
لغتان وقطيعة معرفية
فاللغة بمترادفاتها السالفة الذكر هي الإنسان/المجتمع دورًا وعلاقاتٍ وفاعليةً وأسلوبَ هذه الفاعلية؛ فقد تكون اللغة في مجتمع ما — وبحكم هذه الاعتبارات — لغةً غارقة في تهويمات ومفردات وعبارات نظرية مجردة أو تأملية ميتافيزيقية، ومن ثم تكشف عن مسافة فاصلة هي مسافة واقعية، تفصل بين اللغة وبين التعبير الذي يجسِّد فعاليةً مادية مباشرة وإيجابية بين الإنسان/المجتمع والوجود، ومثل هذه اللغة تنتظر من الإنسان/المجتمع أن يستنَّ سنةً جديدة في علاقته أو في حواره مع الوجود؛ أي تنتظر تحولًا حضاريًّا لتكون اللغة هي لغة الحضارة الجديدة وفكرها ومفاهيمها وفعاليتها الإنتاجية؛ ولهذا يقال: إن التحول الحضاري، وهو في جوهره تحول مادي/فكري، أو مادي/روحي، كما يفضل البعض أن يسميه، هو أيضًا بالضرورة تحول في اللغة، أو أن لكل حضارة لغتها من حيث المدلول والتعبير عن الإنسان/المجتمع الجديد في علاقته الإنتاجية النشطة بالوجود، وكذا من حيث النظرة إلى الوجود ونهج التعامل معه.
ولعل هذا هو أحد الأسباب في أن البعض يقاوم ويتشدَّد في مقاومته لأي تجديد حضاري باسم الحفاظ على اللغة، خاصةً إذا كانت اللغة هي إحدى خصوصياته أو مرتكزاته الحضارية التي بدونها يغدو صفرًا من كل شيء حسب مفهومه التقليدي، وكأن حضارته هي فقط صياغة لغوية ومضامين تقليدية ورسوم كلامية مكتوبة أو مقروءة، وليست فكرًا وقيمًا ونشاطًا إبداعيًّا له تاريخ؛ أي لا يراها تاريخية الدلالة ومرحلةً من مراحل تطور اجتماعي مُطَّرد المضمون أبدًا، ومثل هذه اللغة تكون عائقًا أمام لغة العلم، بل وأمام منهج البحث العلمي والفهم العلمي للظاهرة؛ ذلك لأنها تضع الإنسان/المجتمع أسير نظرة إلى العالم منافية معرفيًّا لنظرة العلم.
إن مصطلح السبب أو السببية في لغة التقليد منافٍ مدلولًا ونطاقًا لمصطلح السببية في لغة العلم. ولغة التأمل النظري للظواهر من حيث هي تجليات، تَحُدُّ من قدرة الإنسان على الفعالية الإيجابية واقتحام الظاهرة وفهم قوانينها وتغيرها والخطو بها نحو هدف أو مصير يقرِّره الإنسان. وتعزو مثل هذه اللغة أسباب الظاهرة إلى علةٍ خارجها، حتى ليتعذَّر فهمها على نحو آخر، وكل من يحاول التعبير بمثل هذه اللغة عن ظواهر العلم وعن منهج البحث العلمي وإنجازاتها سوف يجد أن لغة التقليد لن تطاوعه، بل سوف يخلط بين اللغتَين غصبًا ويشوِّههما؛ فلا هي لغة تأمل ميتافيزيقي في ظاهرها، ولا هي لغة علم في حقيقتها، وإن ظل هو من حيث الفعل والفكر خارج ساحة العلم.
إن لغة العلم هي لغة تغيير الظاهرة بفضل فعل إنساني إيجابي بعد فهم أسبابها من داخلها، وإيمان بقدرة الفاعلية الإنسانية على التحكم في مسارها، ومن ثم في مصير الإنسان. وصورة الكون والإنسان في لغة التقليد أو حضارة ما قبل المنهج العلمي، صورة تعبِّر عنها لغة تساوي فكرًا سكونيًّا ثباتيًّا مطلقًا لا تاريخيًّا. على عكس الحال في العلم؛ فالتحدث بلغة العلم لا ينقل صورة العالم إلى صاحب الفكر التقليدي؛ فلكل لغة صورتها عن الوجود أو رؤيتها أو فكرها. وصاحب الفكر التقليدي إذا ما اصطنع لغة العلم في حديثه إنما يصطنع رطانًا غير ذي مدلول ما لم تحدث وظيفة معرفية تجعله يرى العالم من خلال إطار معرفي/قيمي جديد هو إطار العلم؛ لذلك نرى التقليدي يصوغ عبارات إنشائيةً عصرية الشكل ليحدِّثنا عن صورة تقليدية، ويُبين لنا بوضوح أن المفكر التقليدي، بدون هذه الوظيفة المعرفية اجتماعيًّا والمتجاوبة مع نشاط مجتمعي، يرتدُّ أو ينتكس سريعًا إلى التقليد فكرًا أو سلوكًا؛ أي إطار معرفي/قيمي؛ فهو في باطن فكره له الحاكمية ومقطوع الصلة بالواقع.
وهكذا يمكن القول: إن التقليدي بفكره أو بلغته إنما هو أحد تجليات أزمة الوعي الاجتماعي والتاريخ في مجتمع يعاني من السكون وعدم التجديد، تجديد الفعل والفكر، ومن ثم تجديد اللغة. إن التعامل مع العصر يكون بفكر؛ أي بلغة حضارة العصر التي هي منتج اجتماعي حضاري. وبهذه اللغة نقرأ حياتنا وتاريخنا وعالمنا قراءةً جديدة، وتكون هي القراءة الأرجح صوابًا والأنجح وسيلةً لرسم معالم المستقبل والتحرك نحوه. ومن ثم نقول: إن المسافة الفاصلة بين اللغتَين هي مسافة حضارية. وتستلزم المصالحة أو عملية التصحيح نقلةً حضارية بكل مقتضياتها؛ لغة، ومنهج تفكير، ونظرةً إلى العالم، ونهج تعامل أو تناول لظواهر الوجود؛ أعني أن قطع هذه المسافة الفاصلة لا يتأتى إلا بفضل وظيفة معرفية كاملة الأركان لينتقل الإنسان/المجتمع نقلةً حضارية جديدة.
إشكالية الدلالة
أمَّا مسألة المصطلح فإنها تتعلق برسم الكلمة ودلالاتها وذيوعها اجتماعيًّا، ولا يخفى أننا نعاني مشكلةً في هذه العناصر الثلاثة؛ الرسم، والدلالة، والرواج؛ فقد نجد مصطلحًا واحدًا مرسومًا بالأحرف العربية في صياغات مختلفة باختلاف المترجم، وقد نجد مصطلحًا عربيًّا غير واضح المدلول لغياب إطاره الفكري ونشاطه العلمي المتولد عنه، وقد يكون للرسم الواحد دلالات متباينة عند أصحابه في اللغة الأجنبية لأسباب اجتماعية وثقافية، وتكون المشكلة في التعبير عن ذلك عربيًّا.
إن المصطلحات العلمية هي في حقيقتها إفراز ونتاج عمليات بحث فكري، وهنا يكون المصطلح تعبيرًا وتجسيدًا لوحدة الفكر والفعل أو وحدة النشاط الاجتماعي الإنتاجي والنشاط الفكري معًا، وليس في استقلال؛ إذ يضع الباحث مصطلحًا للدلالة على موضوع اكتشافه، أو حدث ما يعايشه. ووضوح المعنى في الأذهان لا يكون إلا بتصور الذهن لدلالة المصطلح؛ أي عناصر الحدث كآلية أو كموضوع. وطبيعي أننا لا ننشد امتلاك كلمة عربية جديدة نزهو بها أو إبدال منطوق غربي بمنطوق عربي، وإنما غايتنا وضوح المعنى والصورة الذهنية والمفهوم. الأمر الذي لا يَبين جيدًا إلا من خلال نشاط علمي موازٍ من شأنه أن يوضِّح، بل ويضيف.
المصطلح معرفة وفهم
والمصطلح العلمي ليس كلمةً فقط منطوقةً أو مكتوبة مودعةً في قاموس، بل هو جزء من نشاط معرفي هو بعض نسيج المجتمع. الكلمة في حد ذاتها خاملة سلبية، ولكنها ضمن هذا النسيج تعبِّر عن فعالية نشطة داخل بنية فكرية تجسِّد علاقة الإنسان بالحياة، ومعبرة عن مستوًى معرفي، وتتداخل في رابطة عضوية وبمصطلحات أخرى؛ أي بنية معرفية دينامية آخذة في التطور.
وهكذا لا يكون المصطلح كلمةً جديدة، بل وحدة من وحدات لغة العلم التي تسعى إلى إثبات حصاد البحث والتجريب؛ أي إثبات المعارف. إنه معرفةٌ مجالها النشاط المجتمعي، وهو بهذا المعنى إنجاز بكل ما تعنيه كلمة إنجاز من فعالية إيجابية أو إضافة.
وهو أيضًا إنجاز من حيث إنه لبنة من لبنات نسيج النشاط المعرفي المجتمعي للتحقق تجريبيًّا أو نظريًّا من العالم. إنه إنجاز من حيث إنه وليد شرعي لبحث نظري أو تجريبي يتعيَّن أن يكون ضمن إطار الوعي، ومن حيث إنه إنجاز، فإن — شأنه شأن العلم — له دلالة تاريخية واجتماعية، ومن ثم فهو رهن بزمان نشأ فيه أدَّى إلى ظهوره أو اندثاره، ورهن بظروف اجتماعية من حيث القيم التي تعزِّزه أو تنبذه، والنشاط العلمي الذي يستوعبه ويمنحه الحياة.
الوظيفة الاجتماعية للمصطلح
المصطلحات العلمية تأتي ذلولةً منقادة لمجتمع يمثِّل العلم فيه نشاطًا معرفيًّا سائدًا، وفعاليةً لها دورها في بناء المجتمع. هكذا الحال في عصور الازدهار الحضاري، حيث الترجمة تلبية لحاجة اجتماعية؛ أي استجابةً لنشاط إنتاجي إبداعي. ليس الأمر أن هناك لغةً متخلفة وأخرى متحضرة، وإنما هل ثمة وظيفة اجتماعية للمصطلح، أو سيظل مهجورًا أو محصورًا؟ فالنشاط العلمي الاجتماعي هو الكفيل بتيسير وإنجاز صوغ المصطلحات ومنحها الحياة، وإضافة الجديد واستيعاب الوافد وليد حركة الإبداع العلمي النشطة في العالم.
ومهمة التعريب لا تنتهي عند صياغة مصطلح برسم عربي ظنًّا منَّا أن المصطلح العلمي ثابت الدلالة يكفي تعريبه مرةً وإلى الأبد؛ فهذا غير صحيح؛ إذ إن المصطلح — من حيث هو ظاهرة علمية — له حياة ومسار. وتجارب الأمم شواهد صدق على ما ذهبنا إليه، من ذلك تجارب اليابان والصين وإسرائيل. مثال: إسرائيل واللغة العبرية؛ فقد كانت اللغة العبرية في عداد اللغات الميتة، ولكن مع نشأة إسرائيل بدا الاهتمام بإحياء اللغة العبرية لتكون أداة تواصل بين شتات المهاجرين الذين وفدوا من بلدان متعددة الألسن. ومع النشاط العلمي الاجتماعي سرعان ما أصبحت لغةً حية متطورة ومعبرة عن مختلِف دقائق العلوم. ولو كان المجتمع الإسرائيلي قنع بالأدب والشعر مَظهرًا للنهوض الحضاري، لجاء إحياء العبرية في صورة لغة أدب وشعر من دون العلوم.
إن إحياء اللغة في مجتمع عازم على استيعاب مختلِف العلوم وممارستها والإفادة بها، والمساهمة في النشاط العلمي الإبداعي، جعل اللغة العبرية أداةً متقدمة اغتنت بالمصطلحات العلمية الجديدة، وقادرةً على التعبير السهل والدقيق عن مختلِف القضايا العلمية، وحدث هذا استجابةً لحاجة مُلِحة لمجتمع نشط علميًّا، وليس مجرد مجتمع يتلقى الوافد الجديد حسبما يأتي له.
لم يكن جوهر المشكلة هو ترجمة المصطلح، بل تهيئة وظيفة اجتماعية للمصطلح، من خلال نشاط اجتماعي أصيل وفعال؛ فاللغة هي أكثر وسائل التفكير الإنساني دقةً ومرونة، ومن ثم لا تبقى ساكنةً إلا بسكون مجتمعها، ومتطورةً أبدًا بتطوره. وهي في نشأتها وارتقائها إنما تواكب التغيرات التي تطرأ على بنية الحياة الاجتماعية والثقافية، وتعكس واقع الفعالية النشطة أو ركود المجتمع.
وإذا كانت اللغة نتاج مجتمع، فإنها أيضًا وجود هذا المجتمع أو صورته، ولا تستطيع كلمة أن تكتسب أهلية العضوية في نسيج اللغة وشهادة بقاء وحياة، ما لم يكن لها رصيد في النشاط العملي العلمي الذي يُضفي عليها مشروعية الوجود.
جوهر القضية ليس كلمةً عربية بديلة، بل فعل عربي بديل تجري معه اللغة لسانًا عربيًّا.