أزمة الترجمة العلمية وتعريب المصطلح
أزمة الترجمة العلمية انعكاس لأزمة المجتمع، كذلك أزمة تعريب المصطلح العلمي تعبير عن هذه الأزمة المضاعفة. المصطلح لغة، واللغة فكر، والفكر وجه تعبيري للفعل الاجتماعي النشط؛ إذ لا فكر في المجرد؛ أعني لا فكر بدون فعل اجتماعي. والفكر في عصرنا الراهن فكر علمي؛ لأنه وليد فعل اجتماعي علمي تُجسِّده البحوث العلمية النظرية والعملية بقواعدها المنهجية؛ ولهذا نجد المصطلح العلمي يعود في نسبه نشأةً وتكوينًا إلى مركز أو موطن النشاط العلمي الاجتماعي، وحيث توجد مراكز البحث العلمي المعرفي التي تُبدع اللغة أو المصطلح، تعبيرًا عن نشاطها الاجتماعي، وتكون هي موطن تصدير المعرفة والفكر والمصطلح. وتظهر هنا مشكلة الانفتاح. التلقي والترجمة والقدرة على الاستيعاب والمواكبة، شريطة أن يعرف المجتمع طريقه ومفاتيح النهوض، ومن ثم تكون له معايير الاختيار. وقد تكون المشكلة أزمةً تَحول دون ذلك كله، وتكرِّس التخلف إذا ما سدَّ المجتمع السبيل وآثر الانزواء والانغلاق، وقنع بمظاهر المحاكاة للاستهلاك، وعجز أو عزف عن بذل نشاط مجانس حضاريًّا يؤهِّل المجتمع وفق قضاياه ومشكلاته وخصوصيته لمواكبة الفكر، وابتداع المصطلح الذي يفضي إلى تطوير اللغة من خلال تطوير الفعل الاجتماعي الذي يجسِّده مشروع قومي.
وفي ضوء واقع حال الترجمة العربية وتناقضاته مع مقتضيات العصر تتكشَّف أسباب ندرة وقصور الترجمة العلمية وأزمة تعريب المصطلح. وغني عن البيان أن لا تقدم لأمة الآن بدون استيعاب العلوم الأساسية وتوظيف أسس العلم؛ نظريات، ومنهج تفكير، وتطبيقات عملية، باعتبار العلم قوة حركة وهيمنة للبلدان المتقدمة. لقد تعثَّرت خطواتنا في سبيل ترجمة أمهات الكتب ودوائر المعارف التي تسهم — علاوةً على نشاطنا الإبداعي الذاتي — في صوغ نظام معرفي عصري؛ أي علمي.
والترجمة العلمية لا تأتي اعتسافًا، ولا تخضع لاختيارات فردية أو عشوائية، وإنما رهن توفر رؤية استراتيجية تنموية شاملة، وإيمان بدور الإنسان العام صاحب المصلحة أن يعايش مُناخًا عامًّا وتنشئة اجتماعية وتعليمية، يتأهل بفضلهما للانتماء إلى المعرفة العلمية والتفكير العلمي، ويرى فيهما أداءه لصنع المصير. هذا علاوةً على تأسيس حقه اجتماعيًّا في حرية التماس المعرفة ونهمه في تحصيلها من منطلق عشق المغامرة والاستكشاف، وإيمانه بقيمة المعرفة الإنسانية في تنوعها وتعدد مصادرها وحق تحصيلها وفق منهج بحث محدد القواعد، باعتبار أنها الأقدر على صنع الحياة، وأنها ركيزة البناء الاجتماعي والسلوك الفردي، ودعامة الرفاهية وحل مشكلات الحياة.
واستطرادًا لهذا نقول: إن التنمية الحقيقية بكل صورها، بما في ذلك الثقافة والفكر؛ أي بناء الإنسان، رهن العلم. والتنمية تعامل اجتماعي نشط مع الطبيعة والإنسان. وهل يكون ذلك بغير العلم؟ وإذا كان الإنسان العام دعامة البناء الجديد، فهل يكون ذلك بدون تعليم علمي ومعارف علمية ليكون أهلًا للفعل الإبداعي العلمي؟ والعلم بلا وطن، فهل نعيد بناء أنفسنا ونؤكد ذاتنا في عزلة عن الآخر دون وعي نقدي وصناعة علمية تشمل الجميع؟
وليس غريبًا أن عصر العلم بدأ مع عصر الصناعة، العلم المنهج والمبحث والبرهان العقلي والإيمان بالعقل النقدي وبالتغيير قانونًا للوجود. ولكننا لا نزال نعيش عصر ما قبل العلم، وهذا ما تؤكده حال الترجمة العلمية في عالمنا العربي. نعيش عصر ما قبل العلم، ليس فقط بسبب غلبة الإنسانيات — وإن كان الفصل بين علوم إنسانية وعلوم طبيعية بات فصلًا غير مستساغ، في ضوء الإيمان بوحدة العلم انطلاقًا من الإيمان بوحدة الإنسان/الكون، ناهِيَك عن تطور الإنسانيات وصبغتها العلمية — ولكن من حيث موقفنا من المعرفة، ونهجنا في الحياة وافتقارنا إلى المنهج، وغياب البحث العلمي المؤسسي أو عزلته اجتماعيًّا، ومن ثم غياب النشاط العلمي كفعل اجتماعي وغياب المُناخ الحافز له، والذي ينعكس في غياب الطلب على الكتاب العلمي وقصور الإقبال على ترجمته. وإذا كان العلم إيمانًا بالتغيير بناءً على معرفة علمية بالواقع، فإننا في ضوء إغفال العلم نعزف عن تغيير مجتمعنا ونعيش حياةً استاتيكية أو راكدة أو حياة تخضع لنظام معرفي استاتيكي؛ ولذلك لا نجد قضية تغيير المجتمع هي القضية الملحة، بل تغيير الذات؛ أي أن نغير ما بأنفسنا. ونعيش عصر ما قبل العلم متمثلًا في غياب العلوم الأساسية والموسوعات والدوريات والمعاجم العلمية، غيابها إبداعًا وفعلًا؛ وهذا لغياب الفعل العلمي كنشاط اجتماعي. ونجد لغتنا — وهي فكرنا — لغةً غير علمية وتعبِّر عن فكر بعيد كل البعد عن العلم. ولأننا نعيش عصر العلم بلغته، فإننا نعيش أزمة التناقض بين العلم واللغة العربية. والتزمنا هنا نهجًا خاطئًا؛ إذ حصرنا مشكلة الترجمة العلمية في المصطلح العلمي، وراج القول: إنها مشكلة لغة. وأصبح الموقف إمَّا دفاعًا عن اللغة أو اتهامها بالقصور، ثم نراه اتهامًا مردودًا إلى نحورنا؛ لأن اللغة هي ذاتنا. ونحتال لدفع الاتهام دون أن نحتال لشق الطريق الصعب وهو تغيير المجتمع إنسانًا وفكرًا وسلوكًا ونظرةً إلى الحياة وتقديسًا للمعرفة العلمية. وذهب بنا الظن إلى أننا إذا ترجمنا المصطلح فقط، تيسَّرت لنا المعرفة العلمية والنشاط العلمي، ونسينا أن اللغة فكر نشط؛ أي فعل اجتماعي في الأساس. واللغة العلمية هي النشاط العلمي الذي يهيِّئ إمكانات تطويع اللغة. الإنسان يكون إنسانًا علميًّا بفضل نشاطه العلمي وليس بما يمتلكه من مفردات؛ فالكلمات تأتي تاليةً للنشاط، والمجتمعات التي تقدَّمت هي تلك التي طوَّعت النشاط العلمي للغة الأم؛ أي بدأت به ثم عبَّرت عنه، وأبدعت مصطلحاتها العلمية بفضل نشاطها، ولم تنكَب بدايةً ونهاية على تطويع المصطلح الأجنبي.
المصطلح قرين ونتاج البحث العلمي. والمصطلح مفهوم، والمفهوم لا يتحصَّل إلا من خلال وبفضل نشاط البحث العلمي ومعايشة العلم؛ لأن المصطلح لغة أيِّ فكر أو مفهوم، والذي هو الوجه الآخر للفعل الاجتماعي في وحدة وتكامل. وسوف يظل العلماء يكتشفون ويبدعون، وسنظل نحن نكتشف ونبدع، وتظل اللغة تلهث ابتغاء صياغة المصطلحات الدالة على المفاهيم الجديدة، ولكن نشاطنا هو الأساس الأول لكي نواكب. ومع ترجمة القديم أو السابق نستطيع من خلال نشاطنا البحثي أن نلاحق ونضيف. إن لدينا الآن مئات الآلاف من المصطلحات العلمية التي تتزايد باطراد، ولكن أين صداها في التعليم أو في المجتمع؟ وهي على كثرتها لم تصنع من مجتمعنا مجتمعًا علميًّا. إن المصطلح ظاهرة اجتماعية يولد ويحيا من خلال النشاط الاجتماعي. ولغة العلم تنمو وتزدهر في وطن يرعاها حين يجسدها في فكره ونشاطه فتكون بعضًا من وجوده الحياتي.