الترجمة
بدايةً أضع تعريفًا للترجمة غير الشائع، تعريفًا تُحدِّد صيغتَه المهامُّ والمسئوليات ومقتضيات نشاط المجتمع الذي يحق أن نسميه ترجمة. وينأى بنا عن المزاج الثقافي الاحتفالي السائد بيننا الذي يفضي إلى تزييف الوعي، ويضيع معه الطريق، ونقع أسرى الصخب حيث ضجيج ولا طحين.
وحري بنا أن ندرك بادئ ذي بدء أن الترجمة في عصور نهضتها تكون قرينة نهضة مجتمعاتها، بل ثمة تلازم بين الاثنَين. وتمثل في حالة النهضة حركةً ومنظومة مؤسسية، وليست نشاطًا فرديًّا أو تراكمًا عدديًّا. وتُجسِّد منظومةً معرفية وتعبيرًا عن حالة حضارية اتخذت الطابع المؤسسي، ويهيئ لها المجتمع الدعم المؤسسي الاجتماعي والاقتصادي والصناعي والعلمي والتعليمي … إلخ؛ أي يحشد لها مثلما يحشد لكل أنشطة المجتمع عوامل التمكين، وصولًا إلى المستقبل المنشود وفق استراتيجية جرى التخطيط لها علميًّا.
ولكن لماذا المعرفة/الترجمة؟ ولماذا السعي إليها سعيًا شبكيًّا في إطار المؤسسات الاجتماعية؟ وما هي حدود المعرفة المنشودة ومجالها من حيث التخصصات والفنون، ومن حيث الموطن والمصدر؟ وما هي آليات ومعايير اختيار المعارف للترجمة على الصعيد الاجتماعي؟ معارف محلية، تاريخية، معاصرة؛ أي باعتبارها نشاطًا اجتماعيًّا داخليًّا، أم نشاطًا متبادلًا بين المجتمعات؟
الإجابة تأتي تأسيسًا على فهم معنى المستقبل، ومعنى البحث في الزمان والمكان الحضاريَّين كدور وكحركة. ونعني هنا المستقبل الاجتماعي؛ إذ يتميَّز الإنسان/المجتمع بأنه كِيان حي دينامي هادف. والمستقبل هدف حركة أو حراك اجتماعي يأتي بِناءً على وعي بالواقع والسياق المحلي والعالمي كطور حضاري واختيار. ويخضع الاختيار الواعي لمحددات عدة هي أشبه بإحداثيات تتلاقى في محل هندسي مشترك، بحيث تشكل في مجموعها قوة دفع متكاملة ومتناغمة ضمانًا لبلوغ الهدف. أو لنقل بعبارة أخرى: إن بلوغ الهدف له مقتضيات من حيث تشخيص الواقع المحلي وخط المسار والأساليب، وطبيعة محيط الحركة الاجتماعية؛ أي الواقع الإقليمي والعالمي وما ندركه من تحديات حافزة إلى الحركة في إطار صراع لا حوار فيما بين المجتمعات. وأقول: صراع لا حوار؛ لأن الحوار مرحلة تعبر عن توازن القوى، وتوازن القدرة على الأخذ والعطاء فيما بين الأفراد أو المجتمعات، إلى حين اختلال حالة التوازن، فيتحول الحوار إلى صراع، وتكون الهيمنة للأقوى بفضل ما يملك من أدوات القوة؛ الفكر والتكنولوجيا.
ذلك لأن المجتمعات في حركتها وفي تناقضها وتعاونها وصراعها إنما تسير لهذا كله بين بُعدَين؛ الثقافي، والعلمي التكنولوجي. وهذان البعدان على الصعيد الإنساني في تطور مُطَّرد، أو هكذا الوضع السوي النظري، وإن تغيرت حركة بَنْدول الحضارات في تناوب أو تبادل بين المجتمعات حسب طبيعة واقعها وحصتها من التقدم وشروط فعاليتها. وإذا كانت الحضارة — حسب تعريفنا لها — هي الإبداع العلمي التكنولوجي قرين إطار فكري قِيمي، بمعنى أن التطور التكنولوجي في المجتمعات لا يعني فقط تطور وارتقاء الأدوات المادية، بل وأيضًا تطور وارتقاء الأداة المعنوية التي هي الثقافة. ومن هنا فالثقافة متغيرة ومتفاعلة، وهي إجمالًا أداة المجتمع لتشخيص ظواهر الحياة وتحديد أسلوب التعامل الهادف معها.
لهذا فإن الثقافة في حركة مجتمعية مع التاريخ، ومتنوعة بتنوع الزمان والمكان. والثقافة نجل لواقع إبداعي علمي تكنولوجي، وهي إحدى أداتَين حضاريتَين في التمكين وفي الحوار والمناقشة والتناقض والصراع بين المجتمعات. وحري أن ننظر إلى الترجمة في إطار هذا الفهم، وليس بمعنى أنها معارف مجردة منقولة، وهو ما يصدق على الترجمة كترفٍ ثقافي. وحسب هذا الفهم تكون الترجمة أداةً لفعل اجتماعي نشط هادف. والهدف تحقيق إنجاز؛ أي التمكين الاجتماعي في إطار الماراثون الحضاري بين المجتمعات، وينعكس على الإنسان فكرًا وحياةً اجتماعية ودورًا حضاريًّا.
إذن لا بد وأن تكون الترجمة نشاطًا اجتماعيًّا لا فرديًّا، وهادفًا ومخططًا وليس عَفْويًّا، وإلا أضحت كماء مسكوب في صحراء حتى وإن أفاد به بعض الكلأ. ويتعيَّن أن تكون كذلك مستوفيةً لشروط تَكفُل بلوغ الهدف الذي هو علة الحركة؛ لأن الهدف أو المستقبل هو دائمًا علة حركة الإنسان. فالإنسان/المجتمع لا يتحرك ميكانيكيًّا بدافع خارجي قسري، ولا يتحرك عَفْويًّا، وإنما يتحرك من أجل … أي نحو المستقبل كما يعيه أو يفهمه، أو كما تقضي ثقافته؛ ذلك لأن بعض الثقافات الاجتماعية قد تبتر عوامل إرادة التغيير وصولًا إلى هدف حياتي دنيوي في إطار الطبيعة وقوانينها، وإنما تحث الإنسان على الانصراف عن هذا، وأن يرى هدفه الأجلَّ فرديًّا يعزز الخلاص من بلاء الدنيا، والتوق الأبدي إلى ما وراء الطبيعة.
نأتي أخيرًا إلى تحديد معنى الهدف المحرِّك لنشاطنا؛ أعني تحديد معنى المستقبل في ضوء المحدِّدات التي ذكرتها، وأيضًا في ضوء تشخيص واقعنا الحضاري ومدى التناقض بين الواقع والهدف، ومن ثم مدى وطبيعة الجهد اللازم (من حيث الترجمة) لضمان بلوغ الهدف.
يؤكد الواقع الحضاري الآن أننا إزَاء مرحلة حضارية جديدة لها خصائص مميزة نحن عاطلون منها، ومن ثم معوقون حتى الآن. الحضارة الجديدة أو الطور الحضاري الجديد الذي يحدد لنا معالم التحدي والمستقبل الذي يتعين أن ننشده ونحشُد القوى والطاقات من أجله، هو حضارة عصر المعلومات وبناء مجتمع المعرفة؛ الاقتصاد والإنسان والثقافة … إلخ، وهذا الطَّور الحضاري هو الباب الثاني من حضارة عصر التصنيع.
- (١)
التكنولوجيا الجديدة تجاوزت الحدود الجغرافية القومية، وتجاوزت معها هذه الحدودُ التطلعات والتفاعلات والتكوينات الشبكية لجماعات النخبة والمصالح.
- (٢)
تُقدِّم التكنولوجيا الجديدة إمكانات مهولة للشراكة في المعرفة والأرشفة والاستعادة وصياغة المحتوى معرفيًّا، بل والتلاعب به.
- (٣)
المعرفة أهم رأسمال، ومن ثم نجاح أي مجتمع يتمثل في نجاحه في إدارة المعرفة. التحكم فيها إنتاجًا وصياغةً واستيعابًا واستثمارًا واستغناءً وتجديدًا.
- (٤)
نشوء مجتمع كوكبي قائم على التفاعل الشبكي.
- (٥)
ثورة في إنتاج المعرفة والتسارع المذهل في توليدها؛ بحيث إن التمييز بين المجتمعات وقدراتها ينبني على أساس فائض قيمة المعرفة الموظف والمستثمر لتأكيد التمكين والهيمنة.
- (٦)
تلاشي الحدود بين المجتمعات، وما يُفضي إليه من تكثف التواصل والتفاعل بين الثقافات، سواء عن طريق الهجرة والسفر أو عبر الميديا، وما يقتضيه هذا من تمكين وحصانة ودينامية وتسامح وحرية تفاعل ووعي علمي بالحقائق عند المواجهة والقدرة النقدية العقلانية عند التلقي (الترجمة).
ويستهل مجتمع/اقتصاد المعرفة نمطًا جديدًا للإنتاج يُغيِّر مصدر خلق الثروات والعوامل الحاكمة للإنتاج. بالأمس كان الحديث عن فائض قيمة العمل كإنتاج، الآن فائض قيمة المعرفة كإنتاج. القيمة هي المعرفة، والعمل المنتج للمعرفة، والعاملين المنتجين للمعرفة، والمعرفة المنتجة للعمل.
ويجسد مجتمع المعرفة صورةً جديدة ومميزة للتنظيم الاجتماعي من حيث كيف أو نوع الإنتاج (المعرفة وهضمها وتوظيفها وسرعة التوظيف ومحتواها والمنتج منها)، وكم الإنتاج، ونطاق استثمار المنتج وهدفه. هنا توليد المعلومات/المعرفة ومعالجتها ونقلها وطاقتها التفاعلية هي المصادر الرئيسية للإنتاجية الاجتماعية وصور القوة والهيمنة بفضل ظروف تكنولوجية وعلمية جديدة تهيَّأت ونشأت خلال الفترة الأخيرة. وأصبحت الإنسانية تتكامل كوكبيًّا على أساس شبكي بين المشاركين. ويقتضي هذا الأساس توفُّر الكفاءة والنِّدِّية. هذا أو إفراز وإخراج مَن هم دون المستوى ربما ليقنعوا بالتلقي، ومن ثم الاغتراب عن العالم أو الإقصاء والتهميش.
ويمثل مجتمع المعرفة — بصورته هذه — ثورةً متسارعة من التكنولوجيا والمعلومة والمحتوى المعرفي بفضل التغذية المتبادلة والتلاحم؛ ذلك أن النظام المعلوماتي يُفضي إلى تنامٍ تكنولوجي للتراكم المعرفي، وصولًا إلى مستويات أرقى من التعقد في معالجة المعلومات؛ فالتكنولوجيا والمعلومات مترابطتان في جديلة واحدة متنامية صاعدة. وهنا رابطة وثيقة بين الثقافة وقوى الإنتاج؛ إذ لا ثقافة — ثقافة حضارة العصر — بدون قوى الإنتاج (إبداعًا وتوظيفًا وتطويرًا)، ولا قوى إنتاج بدون هذه الثقافة. ويعني هذا أيضًا أن الهيمنة ستكون حق مجتمعات المعرفة. فهي بؤرة وركيزة ومصدر عملية توليد المعرفة والإنتاجية، وهي المصدر الفعَّال للثروة والسلطة والرموز؛ أي الثقافة.
هنا نقول: إن حياة المجتمعات ومستقبلها الآن رهن تمثُّل واستيعاب ثورة المعرفة كوكبيًّا. حضارة عصر المعلومات أو عصر ثورة المعرفة وتجلياتها في النظام الاجتماعي؛ أي إعادة تشكيل جذرية لهياكل المجتمعات وعلاقاتها الداخلية الرأسية التراتبية والتحول الجذري إلى نمط جديد للإنتاجٍ يوحِّد بين التكنولوجيا والمعرفة في صعود متسارع ارتقائي؛ ولهذا فإن الانتماء إلى العصر رهن المشاركة الإيجابية أخذًا وعطاءً على أساس الكفاءة والندِّية، وما يقتضيه هذا من تحوُّل في ظروف وشروط التنشئة الاجتماعية والتغذية الفكرية (الثقافية العلمية في التعليم والإعلام … إلخ)، من حيث نطاقها الكوكبي ومضمونها ومحتواها الداعم والمؤسس محليًّا. وليس الانتماء إلى الماضي والقناعة به، وليس الاكتفاء بالتلقي في سلبية. وتأسيسًا على هذا نقول: إن المستقبل ليس مستقبل نشاط الترجمة منعزلًا عن الجُمَّاع المنظومي لأنشطة المجتمع، وإنما مستقبل المجتمع حيث الترجمة إحدى التجليات، أو هي آلية من بين آليات الحراك أو التمكين الاجتماعي كمًّا وكيفًا، وهي مؤشر أيضًا على مدى ما يتحلى به المجتمع من خصوصيات النهَم المعرفي ووضوح الرؤية نحو مستقبل مرسوم وقدرة على تعبئة الطاقات والجهود.
لهذا أقول: إن الهُوة بيننا وبين المجتمعات المتقدمة هوة معرفية في الأساس، من حيث إبداع وإنتاج وتوظيف المعلومة وإغناؤها بمحتوًى معرفي. وليس الفارق كميًّا — أي كم المعلومات — بل فعالية الإنتاج الإبداعي والقدرة على معالجة المعلومة وصياغتها في نسق معرفي. أعني إرادة فعل التغيير ومقتضيات توفر هذا الفعل لدى إدارة المجتمع والتكوين النفسي والثقافي والعلمي لأفراد المجتمع الذي يخلق بينهم صورة البحث المشتركة. الانتماء والتضافر والفعالية المشتركة المتكاملة. هكذا حتى نكون مشاركين عن أصالة في عملية البناء الحضاري. ومن شروط هذه المشاركة سد الفجوة المعرفية عن طريقَين؛ إبداع محلي، وتحصيل المعارف أو المعلومات التي أبدعها الآخرون. تحصيلها وملاحقتها في نهَم عقلاني نقدي لتدخل في نسيج البنية المعرفية للمجتمع وتوظيفها اجتماعيًّا ضمن استراتيجية تحوُّل حضاري لمجتمعنا. وهنا يبرز دور الترجمة وشروط فعاليتها ونجاحها.
هذا هو مُناخ العصر، أو السياق الحضاري الذي يتعين أن نتحاور ونتفاعل فيه ونرسم في ضوئه المستقبل، وتكون الترجمة إحدى آليات التمكين، إحدى آليات حشد الطاقات والجهود الفكرية والعلمية والإعلامية والثقافية والإبداعية … إلخ؛ لتعظيم رأس المال البشري؛ أي الإنسان هدف النهضة وأداتها وضمان الكفاءة والندِّية للخطو على طريق النهضة. ويبقى هنا سؤال أو أسئلة:
هل الترجمات الصادرة في العالم العربي على قِلَّتها وتدَنِّيها وتَشتُّت أهدافها تمثِّل خطوةً على الطريق؟
هل تصدر بِناءً على خطة مجتمعية هادفة؟
هل هي نشاط مؤسسي؟ ليس بمعنى أنها تصدر عن إدارة أو مجلس حكومي أو تجاري، وإنما بنية اجتماعية تاريخية ذات سياسة موجَّهة ورؤية مستقبلية جامعة لجهود أعضائها عن وعي نحو الهدف مع تغذية عكسية مستمرة بين الصادر والعائد لتصحيح المسار، فضلًا عن علاقة شبكية تربطها بمؤسسات/منظومات المجتمع ككل.
أعود لأقول: مجتمع المعرفة، مجتمع المستقبل القريب والتحدي المباشر، مجتمع تفاعلي قائم على حرية الفكر والرأي والتعبير والإبداع وحرية تدفق المعلومات والتأكيد على حقوق الإنسان والحريات الأساسية مجتمعةً دون تجزئة. ومجتمع المعرفة مجتمع تعظيم رأس المال البشري وحق وحرية المرء في تنمية شخصيته نموًّا حرًّا كاملًا، وألَّا يخضع المواطن — وليس الرعية — لأية قيود وانحيازات تفرضها سلطة ما، سياسية أو دينية أو أبوية. ويمثل التعليم والمعرفة والمعلومات والاتصالات بؤرة النشاط المتجدد بُغية تقدم البشرية ورفاهيتها في مساواة كاملة دون تمييز من حيث النوع أو الجنس أو الدين أو النسب … إلخ. ومجتمع المعرفة أيضًا مجتمع مؤسسي مدني، ومن ثم نقيض كامل لمجتمع السلطة السياسية المركزية الأبوية. وهو أيضًا ساحة للإبداع العلمي والتكنولوجي في ترابط كوكبي حر. والترجمة هنا هي حلقة وصل كوكبية ورافد تغذية جوهرية لجميع هذه الأنشطة، وهي تغذية مجتمعية لا فردية وهادفة تخطيطيًّا.
دعونا نسأل — في ضوء هذا التصور — هل مصر أو أي أمة عربية تمثل المستوى العام والسوي للأمم من حيث الإبداع العلمي والفكري وتهيئة شروط التحول الحضاري إلى مجتمع معرفة؟ وهل تمثل المستوى العام والسوي من حيث الترجمة والنهَم المعرفي وإصدار وانتشار الكتاب؟ وإذا كانت الأمة — أي أمة عربية — دون المستوى، فهل هي كذلك عن جهل، بمعنى أنها لا تعرف، ومن ثم هذه حقيقة خافية وإذا تكشَّفت سوف تعقد العزم وتعبئ الجهود للحاق به؟ وإذا لم تكن كذلك فلماذا؟
الشيء اليقيني أن مصر والمجتمعات العربية، والمثقفين العرب جميعًا — خاصةً مثقفي السلطات — يعرفون حقيقة الهاوية العلمية والفكرية والثقافية والتكنولوجية، وكذا حقيقة تدني وضع الترجمة. وشاعت هذه الحقيقة على الصعيد العالمي في تقارير الأمم المتحدة، وعايَرَنا بها جورج بوش الابن. ماذا كان رد الفعل؟ انبرى مثقفو السلطات العربية يكذبون عن وعي ما قلناه تأسيسًا على إحصاءات صدرت عن المواقع الرسمية للدول العربية. هذا بدلًا من عقد دراسات ميدانية وإحصاءات علمية موضوعية لاستكشاف حقيقة الدعوى أو الادعاء وحقيقة واقعنا.
لست بحاجة إلى أن أُعيد وأُكرِّر إحصاءات سابقة. ولكن أقول إجمالًا: الوضع المصري والعربي عامةً أسوأ الآن كثيرًا ممَّا كان منذ عشر سنوات. العالم تغيَّر، والهُوة المعرفية اتسعت. العالم يعيش ثورةً حضارية معرفية، ونحن نناشد عقول السلف ونناجي الماضي. والثورة المعرفية جوهرها ومحورها الثقافة/الفكر/المعرفة المؤهِّلة لاقتسامها على نطاق كوكبي.
ويكفي أن نشير إلى:
يُنفق العالم سنويًّا أكثر من ٥٠٠ مليار دولار على البحث والتطوير العلميَّين، وهذه معرفة يتعيَّن استيعابها وتوطينها والإسهام فيها بإبداع محلي.
ويستحدث العالم كل سنة أكثر من ٤٠ ألف مصطلح علمي جديد، كما يستحدث قرابة ۲۰۰ ألف قضية رياضية جديدة تحمل معها عددًا كبيرًا من مئات المصطلحات. وطبيعي ليس لنا أن نقنع بالتنقيب عن مقابلٍ للمصطلح في التراث، وإنما تلزم المتابعة للجديد وابتكار واستحداث جديد في اللغة، علاوةً على المشاركة الإيجابية في النشاط العلمي.
وتصدر المعرفة العلمية والتكنولوجية كلها بِلغات غير عربية؛ ۸٦٪ بالإنجليزية، والباقي بلغات ألمانية وفرنسية وغيرها، وليس للغة العربية فيها نصيب.
هنا الترجمة بقدر ما هي إحدى آليات تمكين المجتمع، هي أيضًا إحدى آليات تخصيب وتطوير؛ أي تمكين اللغة.
ولكننا — لأننا شعوب تعشق الطرب — نقنع بنرجسية الثناء على اللغة العربية، ونتقاعس عن الإبداع وعن الترجمة. والأزمة ليست أزمة لغة، بل أزمة الإنسان/المجتمع العربي. وإذا تطلَّعنا إلى المستقبل الذي يُجسِّده العالم المتقدم أمامنا، نرى واضحًا كم هو مستحيل تصوُّر مجتمعِ معرفة بدون ترجمة، أو لنقل: كم هو مستحيل بِناء مستقبل بدون ترجمة!