ما الترجمة؟ ولماذا؟
وجود الإنسان/المجتمع وارتقاؤه اجتماعيًّا ونفسيًّا وثقافيًّا وفكريًّا، بل وبيولوجيًّا، رهن العمل الاجتماعي العقلاني المجسِّد للمعرفة. وهذا النشاط الاجتماعي المزاوج بين العمل والمعرفة هو ما يمنح الإنسان/المجتمع أقوى أداة وأكبر إمكانات متاحة للسيطرة على مصيره؛ أي للتحرر، وليكون له الخيار في تقرير مستقبله. ورصيد المعرفة الاجتماعية هنا من مصدرَين أوَّلَين متداخلَين في لُحمة واحدة:
-
(أ)
معرفة هي ثمرة العمل أو الإنجاز الاجتماعي.
-
(ب)
معرفة هي ثمرة السعي الاجتماعي النشط بدافع الفضول، لاكتساب خبرات الآخرين في إطار المواكبة والمنافسة.
وبقدر فعالية الإنسان/المجتمع بقدر ما يكون ثراء هذا الرصيد، وغِنى الحوار، وبقدر ما يتجلى مرةً أخرى في قدرة الإنسان/المجتمع المتعاظمة على النشاط والحركة الهادفة المثمرة الإيجابية في بيئته؛ إذ إن هذا النشاط وثراء الرصيد هما نشاط معلوماتي وثراء معرفي يصبان في فعالية هادفة. وتعطُّل هذا النشاط يعني انحسارًا ونكوصًا إلى معارف موروثة مقطوعة الصلة بالحاضر، تُرسِّخ الغربة الاجتماعية والانكفاء على النفس، وفقدان سلاح معايشة العصر، ناهِيَك عن المواكبة أو المنافسة أو الصراع.
أقصد بهذا أن الحياة المعرفية للإنسان/المجتمع هي أولًا نشاط إبداعي، وهي أيضًا تفاعل أو ترجمة متصلة نشيطة فيما بين المجتمعات، وأنها هي عماد الحياة المجتمعية الفاعلة؛ ومن ثم تكون الترجمة توسيعًا لدائرة الحوار والمعرفة، وبالتالي توسيعًا لدائرة الفعالية؛ ومن ثم حرية الإنسان/المجتمع.
الترجمة بهذا المعنى هي حوار حضارات، وهو حوار شامل جميع مجالات المعرفة، علومًا إنسانيةً وطبيعية. والترجمة أداة اكتساب وأداة تعبير عن عزم الإنسان/المجتمع على استيعاب أكبر قدر يعنيه باختياره وإرادته، من حصاد المعارف الإنسانية، التي هي سلاح الإنسان في التطور والمنافسة والارتقاء، والأخذ والعطاء على المستوى الحضاري، تعزيزًا للوجود.
وحوار العصر حوار علمي منهجًا ولغةً وفكرًا وإنجازًا. وأريد بكلمة الحوار أن أتجاوز كلمة النقل الشائعة كمرادف للترجمة؛ إذ ليست الترجمة المنشودة مجرَّد نقل من لغة إلى لغة عبارات مسطورة بين دفتَي كتاب، لا تخلق تيارًا فكريًّا، ولا تدخل في نسيج رؤية للوجود والحياة، ومن ثم تظل عاطلةً من الطاقة الدافعة للحراك الاجتماعي. الحوار هنا هو حوار فكر وأفعال وإنجازات علمية تؤكد وجود الإنسان/المجتمع، وجودًا فاعلًا ومؤثرًا في العلاقات بين المجتمعات التي هي علاقات تنافس قد يتصاعد إلى حد الصراع، وتكون فيه الغلبة للأقدر علميًّا والأنشط عمليًّا؛ أي الأقدر على الإنجاز العلمي في شتى مجالات الطبيعة والمجتمع والنفس، والأقدر على إنجاز أكبر قدر من المعلومات الصحيحة، والأسرع كذلك في معالجتها وتوظيفها لأهدافه. والحوار العلمي هنا مَجلًى للمنافسة وامتلاك واستراق أسباب تقدم الآخر في مضمار المنافسة والتحدي والملاحقة والتجاوز. وأعني بالحوار العلمي ذلك الحوار المرتكز على الجهد النسقي المنطقي المنظَّم منهجيًّا، والمتبلور في صورة نظريات هادية، ومن ثم يدور الحوار بلغة حضارة العصر؛ أي بفكرها العلمي ومنهجها العلمي في التفكير والبحث، وبعلومها الأساسية ذات السيادة. وحوار اجتماعي على هذا المستوى لا يتوافر إلا بين أطراف يسهمون جميعًا بنصيب في النشاط الاجتماعي العلمي، وإبداع المنهج والنظريات.
وهكذا تغدو الترجمة — كنشاط اجتماعي — أداة المجتمع للتفاعل مع الجديد في العلوم والفنون والإنسانيات، وتُمثِّل عاملًا أساسيًّا ضمن مجموعة عوامل متكاملة للتقدم الحضاري. وباتت اليوم أكثر لزومًا مع السرعة المذهلة في مظاهر التقدم العلمي والتقني على المستوى العالمي. وتصبح الترجمة بصورتها هذه تعبيرًا مكثفًا عن المجتمع في تحولاته الإنسانية الشاملة، وعلى المستويات كافة. ومن هنا وفي ضوء عرضنا التالي لواقع الترجمة في العالم العربي، أرى الحديث عن الترجمة إنما هو دعوة لإعادة تكوين البنية الذهنية للإنسان العربي، تكوينًا حضاريًّا من حيث المحتوى وآلية الاستجابة؛ فالإنسان العربي بوضعه وبحالة بنيته الذهنية وآلية ردود أفعاله، غير مؤهَّل للتعامل مع التحديات الحضارية. وإن الحفاظ على البقاء هو تحدٍّ حضاري شامل لكل أنشطة وعلاقات حياتنا الاجتماعية التقليدية، وإن القدرة على مواجهة إسرائيل أو غيرها هي قدرة على مواجهة حضارية وليست عقائدية.
والصراع الحضاري ينطوي دائمًا على صراع ثقافي، بمعنى الثقافة الأعم كإطار معرفي قيمي حاكم للسلوك الاجتماعي. والأساس العميق لهذا الصراع، كما يقول توينبي، هو آلية التحدي والاستجابة، وهي آلية مستمرة استمرار المجتمعات، ومشروطة بظروف وملابسات التنشئة والنشاط الاجتماعيَّين. وها هو ذا التحدي ماثل بين ظهرانينا، بل وفي داخل أراضينا من واقع التخلف، واقع مادي يحاصرنا ويؤزِّمنا. والسؤال عن الاستجابة وعن المستجيب فكرًا وتأهيلًا.
الفجوة بيننا وبين الآخر المتقدم فجوة معرفية، أو معلومات منتجة وموظفة اجتماعيًّا، بحيث نعيها ونستوعبها ونمارسها ونسهم في إبداعها. التخلف الذي نعانيه قبل أن يكون اقتصاديًّا هو تخلف ثقافي معرفي؛ لأنه تخلف عن حضارة عالمية تمثل فيها المعرفة العلمية القوة المحركة والدافعة. المعرفة العلمية منهجًا للتفكير، ولغةً في التعبير، ومبحثًا للنشاط الاجتماعي، وإطارًا للسلوك والتنظيم، وأصبح اللُّهاث وراء المعرفة — إبداعًا وترجمة — سمة العصر حتى بين أكثر البلدان تقدمًا. لقد أصبحت الترجمة ممارسةً وآلية يومية في الدول المتقدمة لنقل إنجازات الآخرين إلى لغة العلماء والمتخصصين والممارسين من أبنائها. وها هي الولايات المتحدة الأمريكية لا تترجم فقط البحوث والدراسات المنشورة بلغات أخرى فور صدورها، بل تترجم أيضًا تلك التي نُشرت منذ قرون. وسبق أن طلبتُ بالفعل من مركز الأهرام للترجمة والنشر ترجمة كتاب عن الطب في مصر الفرعونية، وكتاب آخر عن الطب في الدول الإسلامية. معنى هذا أن الترجمة أداة الأمة على صعيد المنافسة الحضارية لتكون سبَّاقةً في العصر، وأيضًا مرجعًا للثقافة العالمية تنهل منها الأمم الأخرى. وهذا عين ما فعلته أوروبا إبَّان نهضتها حين ترجمت دراسات العلماء العرب والمسلمين، وحين استعادت ذخائر الإغريق عبر الترجمات العربية لها.
ونحن في بلدان العالم العربي لن نستطيع أن نعيد تأسيس أنفسنا انطلاقًا من معطيات ذاتية، واعتمادًا على تراث علمي ثقافي موروث مضى زمانه، وبعيدًا عن التواصل الحر مع الثقافات العالمية وآلية الإنجاز العلمي الحضاري العصري؛ انفتاح على العالم، وانفتاح عقلاني نقدي على تاريخنا الحضاري، بكل تنوعاته وتناقضاته، منذ فجر الوعي الإنساني. واستيعاب أو تمثُّل منهج ولغة التفكير العلمي والإنجاز. ومن شروط التفكير العلمي أن نملك غذاء تاريخنا وواقعنا، والواقع الحضاري للآخر، عقلًا علميًّا ناقدًا يشكِّل أساسًا لرؤية مستقبلية واستراتيجية تنموية شاملة لجميع أنشطة وعلاقات المجتمع عند مستوى العصر، وهذه الاستراتيجية التنموية هي جهد قائم على الأخذ والعطاء، أو لنقل: جناحاها؛ دراسة إبداعية جذورها نشاط اجتماعي إنتاجي، وترجمة معبِّرة عن هذا ومتكاملة معه؛ ترجمة تأخذ عن وعي نقدي، وتنتقي وتحفِّز وتنهض بالمجتمع فكرًا ولغةً ونشاطًا متعدد المناحي، وتُسهم في صوغ منظومة معرفية قيمية تقف بالمجتمع ندًّا وكفئًا في ساحة النزال الحضاري، وله استقلاله الحداثي معًا.
والهدف أن نبتكر صيغةً لنهضتنا تتجلى في علاقاتنا الاجتماعية على نحو جديد، وفي إنجازنا العلمي النظري والتطبيقي على مستوى العصر، وأن يكون مُنطلقنا وعي علمي بواقعنا وقضاياه والتحديات الماثلة، ووعي علمي بالواقع الإقليمي والعالمي من حولنا، وبكل ما يجري على أرضنا وآفاق المستقبل. ولن يتسنى ابتكار وإنجاز هذه الصيغة إلا بفضل جهد مجتمعي مؤسسي؛ أي قائم على مؤسسات تحظى بحرية الفكر والتعبير، كمُناخ عام راسخ حقيقي، وتحظى بحق التواصل العالمي الحر مع المجتمعات الأخرى، التي هي بدَورها مجتمعات قائمة على مؤسسات متقدمة. ويترسخ هنا مبدأ حرية انتقال المعلومات، وينهض كل مجتمع من خلال نشاط الترجمة بالحوار؛ أي بالترجمة والتفاعل؛ ولهذا أضحت جهود الترجمة هي جهود مؤسسات ضالعة بدَورها المميز في استراتيجية التنمية والمواجهة الشاملة.
إن المجتمع لا يستطيع أن يصوغ مثل هذه الاستراتيجية، ولا أن يصوغ صورة المستقبل، ولا أن يُعيد بناء مؤسسته الداخلية لتكون أهلًا للمواجهة، إلا إذا جرى تنظيم سياسته العلمية في ضوء الصلات الثقافية الوثيقة بمؤسسات البحث العلمي في البلدان المتقدمة واستيعاب إنجازاتها، شريطة توافر مُناخ محلي عام داعم وواعٍ بالعلم قيمةً وأداة ومنهجًا. ولن يتأتى هذا إلا بفضل سياسات ثقافية واقتصادية وإعلامية وعلمية وتعليمية تحشد الجهود، ويكون الإنسان العام عنصرًا إيجابيًّا حرًّا ومتحرِّرًا من كل أسباب التجهيل والتضليل الإعلامي والأيديولوجي؛ أعني: حين يفكر أبناء المجتمع عبر الحقيقة وتأسيسًا على رؤية علمية صحيحة، وصولًا إلى هدف قومي يدعم الانتماء، ويشحذ الجهود، وتنتفي معه كل مشاعر الاغتراب، بحيث تكون الأمة فكرًا وقيمًا ووجدانًا مؤمنةً بالتقدم العلمي، راغبة فيه، حريصة عليه، ومثقفة به، وواعية بكل ما يجري على الساحة العالمية من أمور وثيقة الصلة.
وتُمثِّل الترجمة في إطار هذا التطور مؤشرًا على طبيعة واتجاه الحراك الاجتماعي وقوة الدفع، ابتغاء النهوض أو اطراد التقدم، ودالةً على الوعي بالذات في إطار المنافسة أو الصراع على الوجود؛ أي: باعتبار الترجمة بعامة والترجمة العلمية خاصة — حسب مقتضيات حضارة العصر — دالةً على موقف وهدف اجتماعي واستراتيجي، ودالة على صدق العزم ومصداقية الجهد، قياسًا إلى عناصر التحدي. وشهادة التاريخ القديم والحديث والمعاصر أن ازدهار الترجمة واكب — إن لم يسبق — حركات النهوض الاجتماعي، ولازمَ التقدم المطَّرد للمجتمعات.