شهادة التاريخ
شهادة التاريخ قديمة قدم المجتمعات في التواصل ونقل الخبرات والمعلومات؛ إذ تشهد الوثائق والتسجيلات والنقوش كيف أن الحضارات القديمة في مصر وبابل والصين … إلخ، قدَّمت إنجازات مترجمةً إلى اللغات الأخرى ونقلت عنهم. مثال ذلك: مخطوطات نجع حمادي التي تمَّ العثور عليها مصادفةً في منطقة نجع حمادي في صعيد مصر عام ۱۹٥٤م، ويرجع تاريخها إلى ما قبل القرن الرابع الميلادي؛ إذ تحتوي على ترجمات إلى اللغة المصرية القبطية لعديد من الدراسات والنصوص، مثل؛ فصول من جمهورية أفلاطون، ونصوص زرادشتية، بل ونصوص فلسفية يونانية قديمة كانت مفقودة. وهناك شهادة أواخر العصر الأموي في عهد خالد بن يزيد الذي كرَّس حياته لدراسة علوم الإغريق، وأمر بترجمة مؤلفات الكيمياء والطب، ثم شهادة العصر العباسي، وقد تنوَّعت مصادر الترجمة من اللغات السريانية واليونانية والفارسية والهندية؛ ممَّا ساعد على النهوض باللغة العربية، وأضحت لغة جميع الشعوب من بغداد إلى قرطبة، بل ولغة العلم شأن اللاتينية بعد ذلك في أوروبا. وهكذا تفاعلت الدولة الإسلامية في عز نهضتها تفاعلًا إيجابيًّا مع الحضارات الأخرى المحيطة بها، وإن كانت حضارات آفلة، ولكنه التفاعل الذي أكسبها منعةً وقوة ضمنا لها الحياة زمنًا. ثم نشاط الترجمة في الأندلس وعقب سقوطها مباشرة؛ إذ تمَّت ترجمة علوم العرب إلى اللاتينية لتكون أساسًا لنهضة أوروبية. ونجد شهادة صدق أخرى في مصر أيام محمد علي، ودور رائد النهضة الثقافية رفاعة الطهطاوي، ثم في مطلع القرن العشرين مع زخم الدعوة إلى الاستقلال والنهضة؛ إذ ازدهرت الترجمة آنذاك في مصر وفي متصرفية لبنان وبيروت.
وشهادة اليابان حين اكتشفت جفاف ينابيع التقليد وقصور الموروث عن مواجهة الجديد، وعقدت العزم على تجاوز هُوَّة التخلف والانضمام إلى ركب التقدم. هنا أدركت وقرَّرت أن العلم هو أداتها للنهوض، شريطة أن تمتلك ناصيته؛ ومن ثم عُنيت بتعليم اللغات الغربية في اقتران بنهضة تعليمية ودستورية شاملة لبرامج التعليم وتنظيم المجتمع وصناعة العقل؛ حيث احتلت العلوم مكانةً متميزة وسامية. وجعلت اليابان في عصر «الميجي» — أو النهضة — العلم والتعليم ضمن خطتها التنموية الأشمل، وسيلةً لاكتساب المهارات والخبرات، واتساع نطاق الحكمة وإنتاج الموهوبين؛ أي جعلت العلم والتعليم أداةً لبناء الإنسان القادر على تغيير المجتمع وبناء اليابان المعاصرة تحت شعار: «أمة غنية وجيش قوي». ونشطت حركة البعثات التعليمية والتكنولوجية، كما نشطت حركة الترجمة، ترجمة العلوم والمعارف العلمية النظرية والتطبيقية. وأصابت اليابان آنذاك — ولا تزال — حُمى التهام ثقافة وعلوم وتكنولوجيا الغرب، وبذا تفتَّحت وازدهرت الذاتية القومية اليابانية في صورة حضارية أصيلة، ونهضت اللغة والفكر. وأُقيمت في اليابان مع بداية عصر «الميجي» المؤسسة الهولندية، التي اضطلعت بأعباء إنشاء حركة ترجمة واسعة النطاق، وقرأ اليابانيون إنجازات أعلام الفكر والعلم في أوروبا، وعقدت اليابان اتفاقات مع كُبرى دُور النشر العالمية لإصدار طبعة باللغة اليابانية من إصدارات هذه الدور حال صدورها بلغتها الأصلية. ويقدَّر عدد العناوين المترجمة في اليابان آنذاك في أوائل القرن العشرين بحوالي ألف وسبعمائة عنوان سنويًّا، وهذا جهد مهول لا يدانيه إلا جهد اليابان في محو الأمية تمامًا خلال بضع سنين، والتوسع في إنشاء المؤسسات التعليمية والجامعات، حتى سبقت في هذا المضمار أكثر البلدان الأوروبية تقدمًا آنذاك.
وكان هذا هو أيضًا حال الاتحاد السوفيتي السابق في مستهلِّ نشأته، حين عقد العزم على النهوض من وهدة التخلف وقَبول التحدي؛ فقد أنشأ لينين — ضمن استراتيجية شاملة — جهازًا للترجمة ضمَّ أكثر من مائة ألف مترجم لنقل علوم الغرب إلى اللغة الروسية، وكان يشرف بنفسه على هذا الجهاز الذي حقَّق المعجزة بأن أصبح الاتحاد السوفييتي السابق موطنًا للإنجاز العلمي، وتطوَّرت اللغة الروسية لتكون لغة العصر والعلم. وكان الاتحاد السوفيتي قبل انهياره يضم أكثر من مليونَي مترجم عن جميع لغات العالم. وما كان لهذا كله أن يتحقَّق لولا تطوير جذري عصري للتعليم، ولولا اقترانه بنهضة علمية ودعم المؤسسات العلمية، ولولا حشد جهود الترجمة والمترجمين في وضع مؤسسي مخطَّط ومنهجي؛ ليكون نشاط الترجمة استجابةً لحاجة مجتمعية.
وهذا هو حال إسرائيل، التي ظهرت إلى الوجود كمجتمع ودولة، بينما اللغة العبرية شبه ميتة، وإذا بها تصبح لغة علم، وأضحت إسرائيل قوةً علمية وتكنولوجية، أو أصبح العلم قوةً داعمة وأداة حماية تتحدى به كل من حولها. وعلى الرغم من أن نصف سكانها مهاجرون يجيدون لغاتهم الأصلية، فإننا نجد حركة الترجمة نشطةً للغاية. وهذا ما سوف نعرض له من خلال الدراسة والإحصائية المقارنة.