واقع العالم العربي
الترجمة في التاريخ العربي موقف ثقافي اجتماعي من المعرفة إنتاجًا وإبداعًا وتحصيلًا وتوظيفًا. والملاحظ أنه على الرغم من كل الزهو والتباهي بعصر الترجمة في الدولة العباسية، على قصره الشديد بل وهامشيته، وكذا حقبة الترجمة في العصر الحديث التي بدأت في مصر مع مطلع القرن التاسع عشر، فإن الترجمة كنشاط أو دور اجتماعي هادف لا تزال إشكالية؛ أي قضيةً خلافية يتصارع بشأنها رأيان. فالترجمة بمعنى حق الأمة العربية في أن تكثِّف سعيها لكي تنهل بحرية من معارف الآخرين ولا تقنع بما لديها، وكله موروث وليس بالجديد؛ يراها البعض غايةً مرذولة وهدفًا خطرًا عند الكثيرين، بينما يراها القليلون فرضًا واجبًا وضرورة، وهؤلاء هم دعاة التحديث الاجتماعي. ترى هذه القلة أن الترجمة شرط النهضة، بينما يرى الأكثرون من أهل التقليد، أن العلم هو العلم الذي ينفع في الآخرة. هكذا كان السلف، في زعمهم، ومن ثم فإن الترجمة على إطلاقها هي عندهم عامل هدم وتغريب وفيروس سرطاني يتعيَّن التحصين ضده. أمَّا كيف؟ فذلك بأن نحتمي وراء أصالتنا؛ أي ثقافة التقليد، كأن الأصالة كينونة اكتملت مع الأقدمين، صاغها السلف، ومستقلة عنَّا نحن التابعين. ومع هذا يتحدثون عن نهضة وصحوة، بدون علوم الآخرين؛ حفاظًا على الذاتية التي هي ذاتية دينية سلفية، وكأن النهضة شرطها سد السبل ضد هذا الفيروس الوافد اللعين، وفرض حجاب على الفكر دون أسباب الغواية والتضليل التي هي علوم الآخرين. وتتضخم عقدة التمحور حول الذات وكأن ما قاله الأقدمون هو القول الفصل المبين، ولا حاجة إلى مزيد. وهكذا يصدر الحكم إطلاقًا دون بيان أو تمييز (انظر أنور الجندي، حركة الترجمة، دار الاعتصام ۱۹۷۹م). ونجد في المقابل من يرى فتح الباب على مصراعَيه دون استراتيجية تنموية شاملة توجِّه خطأنا وتستهدف الاندماج كعناصر مساهمة بفعالية وكثافة في إبداع وإنجاز علوم العصر. وهنا يكون الهدف تجارةً للاستهلاك لا دعامة للبناء.
وجدير بنا الإشارة هنا إلى الفارق بين الترجمة والتعريب، حيث يعني التعريب، الذي يدور بشأنه الحديث كثيفًا وملحًّا في بلدان المغرب العربي، الدعوة إلى استمرارية اللغة العربية لغة الأم في الثقافة والحياة تأكيدًا للأصالة. نجد هذا واضحًا في البلدان التي خضعت للاستعمار الفرنسي الذي اتبع نهجًا محدَّدًا هو الاستيعاب؛ أي استيعاب مستعمراته وكأنها أجزاء من فرنسا بحيث تفقد هُويتها ولغتها القومية. ونجد في المغرب العربي من يدعو إلى الانفتاح على الثقافة العالمية بلغة أجنبية (الفرنسية)، ومن ثم لا داعي للترجمة. ويرى البعض الآخر عدم الانفتاح والاقتصار على العربية. وهنا نجد المثقفين البرجوازيين فكرًا وانتماءً يرون أن لا حاجة إلى الترجمة، وهنا موقف يدعم التمييز النخبوي ثقافيًّا، ويحول دون مقرطة الثقافة التي هي شرط للتحديث الاجتماعي.
والسؤال الأول عندي ونحن نُجري دراسةً استقصائية تحليلية لحالة الترجمة في بلدان العالم العربي: ما نصيبنا من الفكر العلمي أخذًا وعطاءً، ولن أقول: التفكير العلمي المنهجي، وإن كان كل منهما شرطًا أو وجهًا للآخر؟ وما نصيبنا من الفكر العلمي العالمي ودوره الفاعل في حياتنا (أعني الترجمة العلمية)، وليس نصيبنا من الإنجازات التكنولوجية، وهي أيضًا وجه مكمل ومتكامل مع إبداع الفكر العلمي، وقنعنا باستيرادها سلعًا استهلاكية؟ وكيف يجري اختيار هذا النصيب الذي نحصل عليه شذرات — لا نسقًا — بعدد الأفراد الذين حظوا بالاطلاع عليه؟ وهل يُمثِّل الفكر العلمي المترجم ركائز العلوم الأساسية البحتة والتطبيقية، ويجسِّد عندنا دعامةً أساسية في بنية تنموية استراتيجية ورؤية مستقبلية لمجتمعاتنا العربية؟
ليست الترجمة كما قلنا نقل معارف فحسب؛ بل تواصل حر بين الحضارات. ولا يكون هذا التواصل مثمرًا إلا حين تُفرِّقنا روح المغامرة الإنسانية التي يزكِّيها نهم معرفي لاستيعاب إنجازات وفتوحات العلم المرتكز على عبقرية الإنسان من أجل تغيير الواقع بإرادته! تغيير واقعنا الثقافي والبناء الاجتماعي بسبب حاجتنا المُلِحة إلى ذلك؛ وبذا نكون بنائين للحضارة عن وعي وإرادة وعقلانية. إننا قد ننقل نصوص النظريات أو المصطلحات، ولكن يظل حديثنا بها رطانًا؛ لأننا لا نستطيع أن ننقل الرأس المبدع ولا حياة وتاريخ النشاط الإنتاجي الخالق له. وقد نستورد نظريات ومناهج التعليم، ولكننا لا نستطيع أن نستورد الشغف بالعلم والنهم المعرفي؛ أي روح التعليم ذاته.
والسؤال: ما هو واقع الترجمة بعامة، والترجمة العلمية بخاصة في عالمنا العربي؟
نبدأ الإجابة بنبذة سريعة عن الترجمة إلى العربية في العصر الحديث:
يرجع تاريخ الترجمة في العالم العربي خلال العصر الحديث أو مطلع القرن التاسع عشر؛ أي بينما كانت لا تزال المجتمعات العربية واقعةً تحت نير الحكم التركي، الذي حاول فرض سياسة التتريك وجعل اللغة التركية هي اللغة السائدة في الثقافة والحديث وفي الدواوين. وبرز هذا الاتجاه بوضوح في بلدان الساحل الشرقي للمتوسط.
يبرز هنا مركزان للترجمة؛ متصرفية أو جبل لبنان أثناء الحكم العثماني. وجاءت ولادة الترجمة هنا مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بحركة التبشير، وفتح المدارس العربية لمواجهة سياسة التتريك، ومن ثم إحياء أو الحفاظ على اللغة العربية. وتحوُّل لبنان إلى أحد أبرز مراكز الحوار العربي الأوروبي. وأعلنت الجماعات التبشيرية التي توافدت على لبنان منذ القرن اﻟ ۱۸ أن رسالتها هي التنوير وإنشاء المدارس وتشجيع التدريس باللغة العربية. وكان واضحًا أن الهدف هنا هدف أوروبي ضمن الصراع بين سيطرة تركية متهاوية وبين قوًى أوروبية استعمارية صاعدة، ورأت سبيلها فصل المنطقة ثقافيًّا عن تركيا وتعزيز اللغة العربية أداةً للثقافة. ولكن حرًى بنا أن نشير إلى أن جماعات المبشِّرين لم يكونوا هم طليعة التنوير الحداثي في أوروبا العلمانية العقلانية، بل ارتبط معظمهم بالقوى الاستعمارية الساعية للسيطرة على البلدان العربية.
وقدَّمت لبنان بعد ذلك من خلال الجامعة الأمريكية في مطلع القرن العشرين أعلامًا في الفكر العربي من أمثال: بطرس البستاني الذي أصدر دائرة معارف البستاني، وأمين المعلوف الذي أصدر معجم الحيوان والمعجم الفلكي ومعجم النبات، وكذلك فارس نمر، ويعقوب صروف، وقد أصدرا مجلة المقتطف التي تضمَّنت الكثير من المقالات والدراسات المترجمة.
ولكن حركة الترجمة بمعناها الحقيقي كتيار اجتماعي نشط في مجال ترجمة علوم الغرب بغية تحديث المجتمع، قد بدأت في مصر منذ أن تولى محمد علي السلطة، ورأى أن سبيله للاستقلال بمصر تحديث جيشها ضمانًا لمواجهة السلطان التركي. وعُني محمد علي بإرسال البعوث إلى أوروبا لتلقي العلم ونقل العلوم إلى العربية. ويُعتبر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي بحق إمام التنوير والعلمانية؛ إذ جعل الترجمة مؤسسةً اجتماعية تعمل على تنفيذ مشروع قومي اجتماعي لتحقيق نهضة في العلوم والصناعات. ويعبِّر تاريخ الترجمة في مصر عن حالة المد أو الانحسار للحياة الثقافية المجتمع المصري، بل للمجتمعات العربية في سعيها من أجل الاستقلال والاندماج في حضارة العصر. وقد ساهمت الترجمة من بداية تاريخها في بلورة الاتجاهات الأساسية لحركة النهضة. وساعد على هذا ترجمة تيارات الفكر ومناهج البحث؛ ممَّا ساعد على علمية التوجه ومناقشة الفكر الاجتماعي، ورسم خطوات النهضة والارتقاء بالحوار، والاطلاع على إنجازات العلوم ومناهج بحثها. وانعكس هذا كله على صفوة المثقفين وعلى حركة التثقيف العام للجميع.
بدأ تاريخ الترجمة في العصر الحديث للعالم العربي انطلاقًا من هذَين المركزَين؛ مصر ولبنان، مع اختلاف الحوافز والدوافع والمسار والفعالية الاجتماعية في كلٍّ منهما. وتعثَّر نشاط الترجمة أو انحسر بعدما أصابت النهضة انتكاسة؛ بسبب الدور الاستعماري الأوروبي والنظم الاستبدادية الأوتوقراطية من الداخل. ولكنها لم تنعدم وإن تغيَّر مضمونها ومدى تشابكها في النسيج الاجتماعي. وإذا حاولنا أن نجري دراسةً وثائقية تحليلية لنشاط الترجمة كمًّا وكيفًا في البلدان العربية خلال الحقبة الحديثة والراهنة، سنجد أن ذلك يكاد يكون ضربًا من المحال.
وهنا ننتقل إلى الوضع العربي الراهن للترجمة في دور الدراسة الاستقصائية على أساسٍ من المسح الميداني. وقد لاحظنا ما يلي:
-
إن أكثر البلدان العربية حديثة عهد بنشاط إصدار الكتب، ناهِيَك عن الترجمة، بل إن بعض البلدان لا نجد لها اسمًا على خريطة صناعة الكتاب تأليفًا وترجمةً في الإحصاءات الدولية. ويبدو كأن غالبية البلدان العربية تعيش عصر الثقافة الشفاهية.
-
الترجمة ترف فردي في أغلب الأحيان، وجهد متباين التوجهات، ممَّا يعكس غياب رؤية عربية عامة تعي مقومات العصر ومقتضياته وتحدياته؛ عصر ثورة معلوماتية إنتاجًا إبداعيًّا وتوظيفيًّا، وعصر إبداع علمي وتكنولوجي، والتزام بمنهج تفكير علمي.
-
الكتاب المترجم لا يصل إلى أكثر من ٥٪ من إجمالي المنشور على المستوى العربي، في ضوء الإحصاء لعددٍ من دور النشر، وقد يصل إلى صفر بالمائة بالنسبة للكتب العلمية المتعلقة بعلوم العصر الأساسية. والكتاب المترجم على المستوى الحضاري متعدد أو متنافر الاتجاهات والمستويات، لا يكشف عن توجه مجتمعي غالب في اتجاه العصر، وإنما كتاب يربطنا بل ويحصرنا في ماضٍ سلفي على أساس أيديولوجي وقطيعة حضارية مع العصر، أو كتاب يربطنا بالعصر على أساس أن العصر عصر أعاجيب ومعجزات، أو كتاب معرفة استهلاكية، والقليل النادر الذي يصوغ ذهنيةً علمية إبداعية للإنسان، ويحدِّثنا عن العصر منهج فكر ونظريات، ويضعنا في إطار معرفي/قيمي لحضارة العصر على نحو يحفِّزنا إلى البحث، ثم إن هذا الكتاب نراه متعثِّرًا في طريقه إلى القارئ العربي كأنه غريب في بلد غريب. وحظه من توصيل المعرفة لا يتجاوز حدود الدهشة؛ إذ يتلقاه القارئ على نحوِ ما يتلقى إعجازات الغيب، التي لا تأخذ سمة التحدي الدافع إلى التطبيق.
-
الترجمة جهد فردي، وعلى الرغم من محدوديتها فإنها تتم بدون تخطيط، وإنما انتقائية فردية على مستوى المترجم أو الناشر.
-
الملاحَظ أن ثمة حاجزًا فاصلًا كثيفًا بين بلدان ومثقفي العالم العربي وبين إصدارات العالم المتقدم دون أي محاولة مجتمعية منظَّمة لكسر هذا الحاجز أو زيادة درجة شفافيته، وصولًا إلى تضييق الهُوَّة المعرفية العلمية بيننا وبين العالم المتقدم؛ الأمر الذي يجعل من الضروري ضرورةً مطلقة، سرعة بذل الجهد في هذا الاتجاه من خلال مشروع «مؤسسة عربية للترجمة».
-
من أخطر الظواهر أن القدر الأكبر من الترجمات الصادرة عن دُور النشر هي ترجمات لحساب هيئات ومراكز رسمية؛ أي دبلوماسية أجنبية (مركز الكتاب الأمريكي، البعثات الفرنسية، مؤسسات فولبرايت … إلخ)، ممَّا يعني غياب الرؤية والمصلحة القومية.
-
لا توجد إحصاءات ببليوجرافية شاملة ودقيقة عن واقع الترجمة خلال القرنَين ۱۹ و۲۰، تكون أساسًا للتحليل وتحديد رؤيتنا، وإذا أخذنا مصر كمثال باعتبارها الرائدة والأكثر كثافةً من حيث الإنتاج، نجد بين أيدينا «دليل الكتاب المصري»، وهو قوائم الكتب المتاحة لدى الهيئة العامة للكتاب كجهة إحصاء، باعتبار أنها الجهة الرسمية التي يودع لديها الناشرون إصداراتهم.
-
غياب دليل للمترجمين العرب وتخصصاتهم، ولا يوجد غير دليل واحد أصدرته المنظمة العربية للتربية، وهو قاصر ومبتسر؛ نظرًا لأن طريقة تأليفه تمَّت بتكليف جهات حكومية غير معنية بالنشر (جامعات وهيئات)، والنتيجة أن أدرج أساتذة الجامعات والموظفون أسماءهم. وظل الدليل حبيسًا، وكان لا أحد بعدهم منذ عشر سنوات.
-
غياب جيل جديد من المترجمين الخبراء المجيدين والمتخصصين؛ إذ الملاحظ في السوق نفس الأسماء القديمة للترجمات الجيدة.
-
الترجمات جُلها في العلوم الإنسانية بالمعنى التقليدي (الأدب والسياسة والأيديولوجيا الدينية)، أو كتب للتسلية، أو كتب تعليمية؛ لأنها الأكثر رواجًا وربحيةً لدُور النشر. والترجمة العلمية شبه غائبة، وما يوصف بالعلمية هي كتب عن نظم تشغيل الكومبيوتر، وإصلاح الفيديو والثلاجة … إلخ.