معاملة المرأة
إذا كانت هذه هي المرأة في جملة صفاتها ومزاياها ونقائصها وحقوقها فكيف نعاملها؟ أو كيف نهتدي بمُجمل هذه الآراء والمشاهدات في معاملتها؟
ولا ينصرف هذا السؤال إلى معاملة المرأة في الأندية ومجالس البيوت والمحافل العامة؛ لأن هذه المعاملة تجري على سُنَّةِ المجاملة التي تفرضها آداب كل أمة، وتجري على سُنَّةِ المراسم التي يرعاها من يدين بها ويتقيد بعُرفها ونكرها.
وهو أيضًا لا ينصرف إلى معاملة المرأة في القوانين والدساتير؛ لأن جميع ءالقوانين والدساتير سواء ما لم تدرأ المرأة عن حوزتها الأولى وفريضتها العليا، وهي الإشراف على مملكة البيت وعلى تنشئة الجيل المقبل وصيانة الأسرة.
إنما ينصرف السؤال إلى «المرأة الطبيعية» لا سيدة النادي ولا عضو المجتمع ولا صاحبة الحقوق في القانون والدستور.
وأوجز ما يُقال في جواب السؤال على هذا المعنى أن الرجل الذي يُحسن معاملة «المرأة الطبيعية» هو الرجل الذي يشغل إحساسها، وأن الذي يشغل إحساسها ولو بالسخط والغضب والإثارة أقرب إليها ممن يتركها فاترة النفس لا تغضب ولا ترضى ولا تميل ولا تنفر ولا تشكر ولا تنطوي على حقد أو موجدة.
وقد شوهد نساء كن يُحسبن من السعيدات المنعمات؛ لأن أزواجهن كانوا يُغدقون عليهن النعمة ويتأدَّبون غاية الأدب في خطابهن ولا يزالون معهن على ديدن الكياسة في الخلوة والاجتماع كأنهم يعيشون معهن الدهر على ملأ من نبلاء القرون الوسطى! فلم تنقضِ عليهن مدة حتى طلبن الطلاق وألحفنَ في طلبه، وذهبن إلى أزواج يمزجون الرضا بالغضب واللين بالخشونة، فأخلدن إلى العيش معهم وآثرنه على تلك المجاملات التي لا انقطاع لها في خلوة ولا اجتماع.
وشوهد نساء يشكون بين الجد والمزاح أن أزواجهن يُسرعون إلى استجابة كل إشارة لهن، وإنجاز كل رغبة من رغباتهن، وسمعت من هؤلاء النساء من تقول: بودي لو يخالفني يومًا فيأبى أن يذهب إلى دور الصور المتحركة حين أقترح عليه الذهاب إليها، وبودي حين يقبل الذهاب أن يخالفني ولو في اختيار الدار التي أدعوه إليها.
وفي هذه الأمنية من جِدٍّ أكثر ممَّا فيها من مزاح.
لأن المرأة تستريح إلى الشعور «بالحماية» وتنوط بهذا الشعور طمأنينتها وتسند إليه ضعفها، وهي لا يخلص لها الشعور بالحماية إذا انطلقت بغير وازعٍ يمنعها بعض المنع ويردها إلى الطاعة من حين إلى حين. وقد تُخالف الرجل فتسعد بالنجاح في المخالفة، ولكنها تشيع هذا النجاح بالندم وتَوَدُّ لو حبطت مخالفتها وتعوضت منها الشعور بالقوة التي تردها إلى طاعتها.
وشغل الإحساس ضرورة للمرأة لا محيص لها عنها أو ضريبة مفروضة عليها لا نجاة لها منها، وكفى من بواعثها إلى شغل إحساسها أنها تمتحن في كل دورة قمرية بثورة لا تكبحها أو بهمود لا ينقذها منه إلا ثورة تلعجها وتحرك رواكدها، وإنه مع هذا لسبب عارض يزاد على السبب الدائم الذي جعل حياتها منوطة بالمؤثِّرات الحاضرة غير حافلة بما يعقبها.
ومن المتواتر في أقوال بعض الرجال من عشراء النساء الطبيعيات أن المرأة تحب الرجل الذي يضربها ويهينها، وتؤثره على الرجل الذي يكرمها ولا يزال يترضاها.
وقد يكون في هذا القول تقديم وتأخير: تقديم للضرب والإهانة على الحب، وأحرى أن يتقدم الحب على الضرب والإهانة؛ فإن المرأة تقبَلهما ممَّن تحبه لتزداد شعورًا بحبه وغلو قيمته لديها، وقد يسرها أن تعلم كيف أصبحت أثيرةً عند الرجل حتى أثارته غيرة عليها أو اهتمامًا بشأنها؛ لأن قلة الاكتراث هي أخوف ما تخافه من الرجل الذي يعنيها.
ولكن التقديم والتأخير في ذلك القول لا يجرِّدانه من الصدق الذي تعرف له علة معقولة؛ فإن المرأة يلذ لها الخضوع إذا وجدت من يخضعها لأنه يحقق لها أنوثتها بين يدي الفحولة الغالبة عليها، وإنها ليلذ لها الألم أحيانًا لأن الألم مقترنٌ بأحب الوظائف إلى طبيعتها وهي طبيعة الأمومة، ومتى لَذَّ لها الخضوع والألم فلا عجب أن يلذ لها الضرب والهوان ممن يعنيها.
ويشبه هذا القول أن المرأة تُعرض عمَّن يُقبل عليها وتُقبل على من يُعرض عنها؛ لأن المرأة تتهم نفسها إذا أعرض عنها الرجل فلا يهدأ بالها حتى تدفع عنها التهمة وتسترد إليها الثقة بفتنتها وغوايتها. وقد تشعر أنها بلغت من الرجل كل ما توده إذا هي لمحت منه الإعجاب بها، فلا حاجة بها إلى المبالاة به؛ لأنها عرفت قيمتها لديه، إلا أن يكون الرجل قد أعجبها فهي تتخذ من إعجابه بها وسيلة إلى استبقائه في أثرها.
وذاك الذي يصدُق على المرأة في هذه الخلة يصدُق على كل ضعيف يلتمس قيمته في نظرات الناس إليه؛ فإنه ليقنع ويتعالى إذ لمح المبالاة به، وإنه ليخنع ويتردَّد إذا لمح الإعراض عنه. ومهما تكن المرأة جميلة فاتنة فهي تتهم جمالها وفتنتها إذا عجزت عن غزو رجل من الرجال بهما، ويقع في خاطرها على الأثر أنه يهملها؛ لأنه يعرف من النساء من هي أجمل وأفتن. فيكون رضاه أحب إليها من رضا المعجبين بها والحائمين حولها.
ومن المحقَّق أن المرأة لا تضن براحة ولا سمعة ولا كرامة في سبيل الرجل الذي تتبعَّل له تبعُّل الأنثى لفحلها، وقد تأنف من معاشرة الضرة مع رجل لا يملكها بفحولة طبعه ومتانة أسره، ولكنها تقبل معاشرة الضرات طيعة راضية إذا صادفها الرجل الذي يملكها بفحولة طاغية على مشيئتها، وتسرها يومئذٍ ساعة الحظوة لديه بين ضراتها كأنها نعمة منتزَعة من السماء، تظل تحلم بها وكأنها لا تصل إليها إلا أن يسعدها الحظ عند مالكها ومولاها.
وقد تقول «سيدة النادي» غير ذلك بلسانها، ولكنها لا تقول غير ذلك لا بلسانها ولا بقلبها إذا حلت فيها «المرأة الطبيعية» محل السيدة الاجتماعية، وإنما تحل فيها «المرأة الطبيعية» محل سيدة النادي بين يدي «الرجل الطبيعي» الذي ينفذ بها من شعائر العُرف المصطنع إلى ما وراءها.
والمرأة بعدُ لا تتطلع من الرجل إلى شعور أحب إليها من شعور الحماية المحيطة بها والقوة الغالبة عليها؛ ولهذا يرضيها أن يمتزج بمعاملتها شيء من معاملة الطفلة المدللة ولو من ابنها وأخيها. فأحب الرجل إلى المرأة هو الرجل الذي تسكن إليه طفلة مطمئنَّة تقبل حنانه وتخاف غضبَه وتتوخى رضاه ولا تأنف من تأنبيه وتعذيبه.
تلك هي حواء، في قرارة الوقائع والآراء، لا تتبدل حتى تتبدل الأرض والسماء.