سمير الليل
لا تكلف نفسك مشقةً ولا جهدًا، فلن يتاح لك حل هذا اللغز بالمشقة والجهد، ولا بالروية المتصلة والتفكير الطويل، وليس مصدر ذلك أن هذا اللغز عسير الحل، ولا أن الطريق إلى حله ملتوية متشعبة يوشك سالكها أن يجور فيها عن قصد السبيل، بل مصدر ذلك أن هذا اللغز يسير جدًّا أيسر مما تقدر، وأقرب إلى الحل مما تظن، وإن الطريق إلى فهمه قصيرة مستقيمة لا طول فيها ولا التواء، فأنت ترى صاحبنا أعجوبة من أعاجيب الدهر، وغريبة من غرائب الزمان. تجلس إليه فلا تكاد تسمع منه صوابًا ولا تكاد تفهم عنه شيئًا، وتتحدث إليه فلا يفهم عنك إلا أيسر ما تقول، ولا يكاد يرد عليك رجع الحديث حتى يأخذك شيء من العجب؛ لأنك لا تدري أتتحدث إلى عاقل أم تتحدث إلى مجنون.
وأنت تنظر إلى جسمه هذا الذي يمتد عن يمين وشمال، ومن وراء وأمام، ولا يكاد يرتفع في الجو إلا قليلًا، ولا يكاد يجد من الناس وكراسيهم ما يسمعه كما يسمع غيره من الناس، فيخيل إليك أن هذا اللحم المتراكب والشحم المتراكم قد ألقى بين نفسه وبين العالم حجبًا صفاقًا، وأستارًا كثافًا … فهي لا تكاد تحس من العالم شيئًا، والعالم لا يكاد يبلغها إلا بعد عناء شديد، وأنت تنظر إلى وجهه الضخم الجهم فترى على شفتيه الغليظتين ابتسامة تدل على البلة والغفلة أكثر مما تصور الفطنة والذكاء، وترى أنفًا ضئيلًا قد كاد يغرق فيما يكتنفه من لحم خديه، وجعل النفس يتردد فيه محتبسًا مختنقًا يسمع له صوت ثقيل بغيض، وترى جبهةً ضيقةً بارزةً قد انبسط فوقها رأس مفرطح عريض قل فيه الشعر، وأخذ فيه الصلع، وجعلت تبدو من خلاله رقع ضيقة جرداء حتى أنكره، وكره أن يكشف رأسه إلا قليلًا.
وترى عينين مغمضتين كأن صاحبهما نائم مغرق في النوم، فإذا أراد أن ينظر إلى شيء أمامه، أو إلى إنسان بين يديه، رفع جفنين متكسرين، ورفعهما في شيء من الجهد، فبدت من دونهما عينان صغيرتان منطفئتان لا تصوران يقظة ولا نشاطًا ولا ذكاءً، وإنما تصوران نومًا وخمولًا وغباءً شديدًا، فإذا استمعت له وهو يتحدث اضطررت أن تجهد أذنيك لينقل عنه الصوت إليك؛ لأنه يتكلم في صوت ليس بالنحيل ولا بالضئيل، ولكنه مع ذلك ليس بالقوي ولا بالمرتفع، وإنما هو صوت وسط بين ذلك مطرد منكسر أشبه شيء بالماء الفاتر يريد أن يجري جريانًا سواء، فتعترضه عقبات يسيرة جدًّا يتغلب عليها، وينشأ عن ذلك فيه تهدج وانحطام بين حين وحين، فمنظره يؤذيك والاستماع له يضنيك، والفهم عنه يشق عليك، والوصول إلى نفسه يرهقك من أمرك عسرًا، والحكم الذي تكونه في نفسك حين تقبل عليه أو تنصرف عنه هو أنه غلطة من غلطات الطبيعة، وفلتة من فلتات الدهر، ووهم من أوهام الظروف. كأنما أريد به إلى أن يكون حيوانًا من هذه الحيوانات الضخمة ذات الخلق المرتبك، والشكل الذي لا يروق، ثم عدل به في اللحظة الأخيرة إلى شكل الإنسان فلم يحسن تقويمه، ولم يعتدل قده، ولم يتسق شكله، ولم ينفخ فيه من الروح الإنساني العاقل إلا جزء ضئيل.
كذلك تحكم عليه حين تلقاه، وكذلك تحكم عليه حين تفارقه لولا أنك مضطر إلى أن تنكر هذا الحكم إنكارًا، وترفضه رفضًا، وتعترف كما اعترف بأن له حظًّا عظيمًا من الذكاء والفطنة، وبأنه يدبر أمره في حياته الخاصة والعامة تدبير المستبصرين أولى الذكاء النافذ، والذهن المتوقد، والعقل الذي لا يعبأ بالمشكلات، ولا يرتد عن معضلات الأمور، وأنت حائر كل الحيرة في هذا التناقض بين ما يظهر من شكله ومن عقله، وبين ما يصدر عنه من الأعمال والأقوال التي لا تصدر عن غفلة ولا عن غباء.
ومصدر هذا التناقض الذي تضيق به، وتراه لغزًا معضلًا، وتريد أن تلتمس له الحل فلا تجد إلى حله سبيلًا، أنك لم تعرفه كما أعرفه، ولم تظهر من أمره على ما أظهر عليه. فصاحبنا أعجوبة من غير شك، ولكنها أعجوبة لا تكاد تثبت لمن يعرفه حق معرفته، وسبيل ذلك أن تصحبه يومًا كاملًا، يومًا يأتلف من النهار والليل، فالنهار وحده لا يفسره، والليل وحده لا يجلوه، ولا بد من أن يتعاون هذان الفرسان اللذان يستبقان دائمًا، ولا يستطيعان أن يجتمعا في مستقر واحد، لا بد من أن يتعاون هذان الفرسان على تفسير غامضه، وتجلية أمره؛ لأنهما قد اقتسما نفسه اقتسامًا كاملًا.
فللنهار منه نصيب لا يعرفه الليل، ولليل منه نصيب لا يبلوه النهار، وآية ذلك أن عين الفجر لم تره قط إلا مغرقًا في نوم ثقيل أو غارقًا في سكر عميق، وأن عين الضحى المشرق لم تره قط إلا يقظان الجسم نائم النفس، وأن صدر الليل لم يره قط إلا مرحًا فرحًا خفيفًا رشيقًا كأنه لا يحمل هذا الجسم الضخم الثقيل، وإنما يحمل جسمًا قد صور من الهواء، فهو لا يسكن إلا ليتحرك، ولا يستقر إلا ليضطرب، ولا يسكت إلا ليتكلم، وهو لا يتكلم بهذا الصوت الفاتر المتكسر، وإنما يتكلم بصوت مرتفع عريض يملأ الفضاء، ويسمع من بعيد، وهو لا يجد مشقةً ولا جهدًا في رفع جفنيه، ولا في التنفس من أنفه الدقيق الضئيل، وابتسامته تلك الغافلة البلهاء تستحيل إلى ابتسامة أخرى فيها كثير جدًّا من الفطنة، وفيها كثير جدًّا من الذكاء.
وهو على كل حال ليس نائمًا إذا جنه الليل، وإنما هو أبعد الناس عن النوم، وأعظمهم حظًّا من اليقظة، بل قل إنه يقظة كله يقظة لا تنام ولا تنيم، وإنما توقظ الناس من حوله، ولعلها تزعجهم إزعاجًا فهو حياة ثائرة فائرة، وهو حركة هائجة مائجة، وهو تفكير متصل لا يعرف الانقطاع، وكلام مسترسل لا يعرف الوقوف.
فله نفسان؛ نفس قد صحبت النهار تنام فيه، وتؤذن الناس بأنها مستيقظة، ونفس قد صحبت الليل، تسهد فيه، وتخيل إلى الذين لا يألفونه أنها نائمة، وكل ما يصدر عنه من الأعمال التي تصور الذكاء، ومن هذه الأقوال التي تصور الفطنة إنما هو من وحي نفسه المستيقظة في الليل، تقدره وتدبره، ثم تهينه وتدخره لنفسه النهارية النائمة، فيصدر عنها كما تصدر الأحلام عن النائمين.
ولم يكن هذا حاله منذ مارس حياة الرجال، وإنما طرأ عليه قليلًا قليلًا كما تطرأ بعض العلل على بعض المرضى، فقد كان في المدرسة الثانوية وأثناء الدراسة الجامعية في مصر وفي أوروبا فتًى كغيره من الفتيان يشارك أترابه في الدرس، ويشاركهم في العبث والمرح، ولكنه يمعن في الدرس أكثر مما كانوا يمعنون، ويبلغ من النجح أكثر مما كانوا يبلغون، فإذا أقبلوا على مرحهم استوفى منه حظًّا أعظم من حظوظهم، وألح فيه إلحاحًا كثيرًا ما كانوا ينكرونه عليه، ويلومونه فيه، فلم يكن يلقى لومهم إلا بالسخرية، ولم يكن يستقبل إعراضهم إلا بالازدراء.
وما له لا يفعل ذلك، وإسرافه على نفسه في اللهو لا يقصر به عن إتقان الدرس، والتفوق على أترابه فيه، وما الذي يمنعه أن يعطي نفسه من لذة العقل أعظم حظ ممكن، وأن يعطي جسمه من لذة الحس أكبر قسط مستطاع، ولماذا ينصف نفسه بما يتيح لها من لذة العلم والمعرفة، ويظلم جسمه بحرمانه لذة العبث والمجون، وكذلك أنشأ لنفسه فلسفة خاصة لاءمت حياته في أوروبا ملاءمة ما، ولكنها لم تلائم حياته في مصر، فللأوضاع الاجتماعية في مصر خصائصها التي تفرض على الناس، ولا سيما حين يشغلون المناصب، ويرضون الرؤساء، ويرقون رقيًّا سريعًا، ألوانًا من الوقار، وضروبًا من الاحتشام تضطرهم إلى شيء من الجد والحرمان إن كانوا أصحاب عبث ومجون.
ومن أجل ذلك ضاق صاحبنا بالحياة أول الأمر ضيقًا شديدًا انتهى به إلى سأم شديد، وكاد ينتهي به إلى يأس مظلم، فقد رأى أبواب العلم والمعرفة والدرس والبحث مفتحة له على مصاريعها، ورأى فرص اللهو والعبث نادرة، ووسائلها محدودة، وأبوابهما لا تكاد تفتح إلا قليلًا، ولا تكاد تفتح إلا لتغلق، فإذا همَّ أن يلج منها إلى ما يريد اضطر إلى كثير من الحذر والاحتياط؛ لأن الأوضاع الاجتماعية في ذلك الوقت كانت تفرض الحذر والاحتياط، وقد هم أن يرضي نفسه، ويهمل حسه، وأن يمعن في لذة العلم، ويزهد في لذة الإثم، ولكنه لم يلبث أن آنس من نفسه زهدًا في المعرفة، وانصرافًا عن الدرس، وفتورًا عن البحث والدرس، ونظر فإذا هو يوشك أن يكون موظفًا كغيره من الموظفين الذين يضطربون من حوله خاملين لا يضيقون بالخمود والخمول، بل لا يشعرون بالخمود والخمول، وإنما هم راضون عن أنفسهم، وعن حظوظهم، قد اطمأنوا إلى الحياة، واطمأنت إليهم الحياة.
وكان صاحبنا أبعد الناس عن الرضى، وأبغضهم للاطمئنان، وأشدهم طموحًا إلى الرقي، وطمعًا في الامتياز، فلم يكد يفكر ويقدر حتى استيقن أن فلسفته تلك قد خلقت له، وأنه خلق لها، وأنها وحدها هي التي تستطيع أن تبلغه ما يريد من علو المنزلة، وارتفاع المكانة، وما دام لا يرضى بالقليل، ولا يقنع بما يقنع به عامة الموظفين، ولا يكفيه أن يخطو إلى الامتياز خطوات متئدة معتدلة، وإنما يريد أن يخطف الطريق خطفًا، وينهبها نهبًا، ويأتي بما لم تستطعه الأوائل كما يقول أبو العلاء، فلا بد من أن يلجأ إلى فلسفته فيحيا بها، ويحيا لها.
وقد فعل فاعتزل الناس إلا قليلًا، جعل يلقاهم في الديوان حين يغدو على عمله في الديوان، وجعل يلقاهم آخر النهار إن اضطرته الظروف إلى أن يلقاهم آخر النهار، ولكنه جعل لا يكاد يستقبل الليل حتى يبتسم لظلمته المظلمة ابتسامًا مشرقًا، ويمد إليه يد الصديق، ويفتح له قلب الخليل، ويتحدث إليه كما يتحدث الحبيب إلى الحبيب.
اتخذ الليل سميرًا ونديمًا، واتخذ الشراب سميرًا ونديمًا، واتخذ الكتاب سميرًا ونديمًا أيضًا، فجعل كلما أقبل الليل خلا إليه وإلى كتابه وشرابه ففكر وقرأ وكتب، واحتسى بين ذلك الكأس إثر الكأس، حتى إذا تولى الليل إلا أقله، وكادت توالي نجمهِ تتغور كما يقول ابن أبي ربيعة، أعرض عن الشراب كارهًا، وانصرف عن الكتاب محرجًا يضطره إلى هذا الانصراف، وذلك الإعراض أنه لا يستطيع أن يمسك الليل، ولا أن يرد النهار، وأن للقراءة والتفكير والشراب أثرًا في العقل والجسم جميعًا، فلا بد من الراحة بعد التعب، ومن النوم بعد السهاد الطويل، فهو إذن يسعى سعي المقيد في الوحل كما يقول مسلم بن الوليد، حتى يبلغ سريره فيلقي نفسه عليه إلقاءً، ويستسلم للنوم استسلامًا، وما أكثر ما كان يقبل على السرير والنوم، وهو يبغضهما أشد البغض، ويمقتهما أقبح المقت، ولكن لا بد مما ليس منه بد، على أن النوم لا يلبث أن يطبق عليه إطباقًا، ويضمه ضمًّا عنيفًا ثقيلًا قصيرًا أيضًا.
فهو يستيقظ قبل أن يرتفع الضحى، ويغدو على عمله كما تعرفه نائمًا أو كالنائم ممضًّا في هذا الذهول الغريب، وقد طالت تجربته لهذا النوع من الحياة أو لهذين النوعين المختلفين من الحياة حتى ألفهما إلفًا متصلًا، وأصبح لا يستطيع أن يحيا إلا كما نراه نحن في النهار، كما يراه الله وقليل من الأخلاء في الليل.
على أن حياته هذه المختلفة لم تلبث إلا قليلًا حتى ظهرت آثارها في رأيه، وعمله، وسيرته مع الناس. فهو أذكى من أن يأمن السكر على آرائه وأعماله وأقواله، فهو من أجل ذلك قد أساء الظن بنفسه فجعل لا يرى رأيًا إلا أطال التفكير فيه، والتقليب له قبل أن يعلنه، يتهم فيه ليله هذا السكران، ويخشى أن يدفعه إلى غير الصواب، وهو لا يقدم على عمل إلا بعد التردد المتصل، وبعد الإحجام الطويل، وهو لا يقول قولًا إلا بعد أن يزنه كما يزن الصيرفي دنانيره بميزانه الحساس الدقيق، ثم جعل سوء ظنه بنفسه يقوى ويشتد، ويمتد حتى تناول الناس جميعًا، وإذا هو لا يصدقك إذا استمع إليك كما أنه لا يطمئن إلى ما تهدي إليه من قول أو عمل؛ لأنه يتهم الناس جميعًا فيما يقولون ويعملون، كما يتهم نفسه في كل ما يعمل ويقول، ويريد سوء حظه أو حسن حظه لا أدري أن تبتسم له الأيام، ويستجيب له الحظ فيرقى ويرقى ويسرع إليه الثراء، وإذا هو يشعر كما يشعر غيره من الناس بأنه في حاجة إلى أن يكون لنفسه أسرة، ويؤسس لنفسه بيتًا فيتخذ الزوج، ولكنه لا ينعم بالزواج إلا أيامًا، فقد صرفته زوجه عن ندمائه؛ الليل والشراب والكتاب، صرفته فانصرف أول الأمر، ثم لم يلبث أن أدركه السأم فجعل يرد نفسه إلى ندمائه هؤلاء شيئًا فشيئًا، وهو كلما رد من نفسه جزءًا إلى ندمائه حرم زوجه هذا الجزء من نفسه؛ فسعد هو وشقيت هي، حتى إذا عادت نفسه كلها إلى ندمائه نعم بسعادته الكاملة، وشقيت بحرمانها الكامل، وعاش الزوجان في دار واحدة، ولكن كلًّا منهما أصبح لصاحبه عدوًّا يظهر الحب ويضمر البغض.
قلت لصاحبي حين بلغ هذا الموضع من حديثه: أو تظن الأمور تستقيم لهذا الكائن الغريب على هذا النحو الغريب من أنحاء الحياة؟ قال صاحبي: هيهات! وكيف تستقيم الأمور لرجل يسامر ظلمة الليل التي تغشى الأبصار، وظلمة الخمر التي تغشى البصائر، ألم أنبئك بأن حبه لهذه الظلمات قد أفسد عليه حياته الروحية، ودفعه إلى الإسراف في سوء الظن بنفسه وبالناس، ومتى استقامت الأمور لمن يقيم حياته على الإسراف في سوء الظن بنفسه وبالناس.