حديث القلوب
لا أريد أن أسميه؛ لأني لا أريد أن يعرفه الناس، وحسبي أنه سيعرف نفسه، ولو استطعت أن أخفيه على نفسي لفعلت فأنا أحبه أشد الحب، وأوثره أعظم الإيثار، وأكره أن يأتيه من نحوي أيسر الجهد، وأهون العناء، وأقل الأذى، وأرى أني لا أتكلف له ذلك، ولا أتصنعه، وإنما هو حق الصديق على الصديق، ودين الخليل عند الخليل، وما لي لا أرى له هذا الحق، ولا أعترف له بهذا الدين، وقد استقبلنا الصبا رفيقين، واستقبلنا الشباب زميلين، واستقبلنا الكهولة صديقين … لم تستطيع حوادث الأيام على كثرتها واختلافها أن تثير بيننا أيسر الخلاف فضلًا عن أن تفرق بيننا في الآراء والأهواء.
نعم، لقد استقبلنا الصبا رفيقين، فجلسنا معًا على حصير الكتَّاب، واختلفنا معًا بين يدي سيدنا لا يكاد أحدنا يفرغ من تلاوة ما حفظ من القرآن حتى يقوم الآخر مقامه، ويتلو مثل ما تلا، ثم نلتقي بعد ذلك في مجلسنا ذاك في ركن من أركان الكتاب، فنتذاكر ما سمعنا من ألفاظ اللوم والتشجيع التي كان يسوقها إلينا سيدنا في صوت يغلظ حينًا حتى كأنه الرعد، ويرق حينًا حتى كأنه النسيم، وقلدنا هذه الحركات الطريفة التي كان يأتيها بإحدى يديه ليحدث بها صوتًا متلاحقًا سريعًا يحثنا به على أن نكر التلاوة كرًّا؛ ليتبين مقدار حفظنا للقرآن حتى إذا صليت العصر تركنا الكتاب غير ضيقين به ولا آسفين على تركه، وإنما نحن نتركه مفكرين في العودة إليه إذا كان الغد، ونتركه مبتهجين بانصرافنا عنه إلى هذا اللعب الذي سنستأنفه في زاوية من زوايا الدار أو في ناحية ما على شاطئ القناة.
نعم، واستقبلنا الشباب زميلين نختلف إلى مجالس العلم في الأزهر الشريف نجد حين نستعد للدرس، وحين نسمعه، وحين نجادل كل الأساتذة فيه، ونلهو حين نفرغ من ذلك، وحين نأخذ في العبث بأساتذتنا وزملائنا، وما كنا نرى ونسمع مما كانوا يعملون ويقولون، لا أذكر ولا أراه يذكر أننا اختلفنا يومًا ما في أمر ذي خطر، وإنما كنا متفقين دائمًا مؤتلفين دائمًا، لا نتكلف اتفاقًا ولا ائتلافًا، وإنما تجري أمورنا هينةً لينةً، وتمضي الحياة بنا على رسلها رفيقةً رقيقةً، حتى لقد كنا نرى ما يثور بين الأصدقاء والزملاء من هذا الخلاف العارض الذي يباعد بينهم من حين إلى حين، فنتكلف الضيق بحياتنا هذه التي لا تعرف خلافًا ولا افتراقًا في الرأي، ثم لا نلبث أن نثوب إلى الضحك والابتهاج والرضى بحياتنا هذه الراضية المطمئنة.
وقد فرقت حوادث الأيام بين شخصينا أعوامًا طوالًا أو قصارًا، ولكنها لم تستطع أن تفرق بين نفوسنا وضمائرنا، ولا أن تخالف بين أهوائنا وآرائنا، وإنما لبثنا متفقين على البعد كما كنا متفقين على القرب، واتصلت بيننا رسائل ما زلنا نعود إليها بين حين وحين كلما كلفتنا الأيام من أمرنا شططًا، ثم التقينا بعد الفرقة، وتدانينا بعد التنائي، واستأنفنا في حياة الرجال ما مضت عليه أمورنا في حياة الصبية والشباب من هذا الود النقي، والإخاء الرضي، والتعاون على البر والمعروف.
وليس حياة الناس تخلو مما يؤذي، ولا هي تبرأ مما يسوء، وليست حياة الناس تخلو من هذه الخصومات التي تفسد عليهم أمرهم أحيانًا، وتمنحهم القوة والأيد وحب الجهاد والكفاح أحيانًا، وقد عرض لكل واحد منا حظه من هذا كله، ولكن الغريب أن شيئًا من ذلك لم ينل أحدنا من قبل صاحبه، وإنما كان هذا ينالنا من قبل قوم آخرين، فكنا نتعاون على احتمال الشر ودفع المكروه، وكان كل واحد منا يجد عند صاحبه ما يجده الصديق عند صديقه من المواساة والعون، والتسلية والعزاء.
ثم مضت الأيام على ما تعودت أن تمضي عليه مستأنية متشابهة حينًا، ومتعجلة مختلفة حينًا آخر، وجرت فيها الحوادث تباعد بيننا بعض الشيء، ثم لا تزال تلح في المباعدة بيننا حتى جعلنا ننفق الأسابيع والأشهر لا نلتقي، وننفق الأسابيع والأشهر لا يكتب أحدنا إلى صاحبه شيئًا، ولكنَّا كنا على ذلك نلتقي بين الحين والحين فلا يكاد أحدنا يلقى صاحبه حتى ينشد ضاحكًا قول الشاعر القديم:
ثم نستأنف حديثنا كأصفى ما يكون الحديث بين الصديقين الصفيين: وكانت أكثر أحاديثنا لا تكاد تتصل بحاضرنا، ولا بحاضر الناس، ولا تكاد تتصل بمستقبلنا ولا بمستقبل الناس، وإنما كانت تتصل بهذه الذكرى التي نسجت منها صداقتنا نسجًا، وصورت منها مودتنا تصويرًا، وكانت هذه الذكرى الحلوة تكاد تشغلنا دائمًا عن حاضرنا وحاضر الناس، وعن مستقبلنا ومستقبل الناس، ولكننا نلتقي ذات مساء في هذا القطار الذي ينقل الناس من الإسكندرية إلى القاهرة. يأخذ أحدنا القطار في الإسكندرية، ويأخذه الآخر في سيدي جابر، وقد مضى القطار في طريقه، ولم يفطن أحد منا لمكان صاحبه، ثم تكون لفتة منه فيراني فيسرع إلي مستبشرًا مبتهجًا، وهو يقول ماذا؟ أنت هنا! وألقاه مغتبطًا محبورًا، وأنا أقول: ماذا! أنت هنا! ثم يجلس كل منا إلى صاحبه، وما نكاد نفرغ من التحية التي تعودنا أن نتهاداها حين نلتقي حتى نأخذ في حديث الجو، ثم في حديث السفر، ثم في حديث القطر التي تحسن الإبطاء أكثر مما تحسن الإسراع، وتحسن التأخير عن مواعيدها أكثر مما تحسن الوفاء بهذه المواعيد، ثم عن الإسكندرية التي تزدحم بالقاصدين إليها، والنازحين عنها، وتموج بالمقيمين فيها، ثم عن جو الإسكندرية وجو القاهرة، والموازنة بين ما يكون بينهما من اختلاف في الصيف، ومن اختلاف في الشتاء، ومن توافق فيما يكون بين ذلك من الفصول، ثم نأخذ في حديث الصحف الجادة والهازلة، وفي حديث الأدب القديم والأدب الجديد، وننفق هذه الساعات التي ينفقها المسافرون بين القاهرة والإسكندرية متحدثين عن كل شيء إلا عن أنفسنا، ملمين بكل شيء إلا بأحداث السياسة، وما كان أكثر ما نلتقي فلا نتحدث إلا عن أنفسنا، وما كان أكثر ما نتحدث عن أنفسنا فنعبث أثناء الحديث بالسياسة وأصحابها، ونتخذ من هذا العبث ألوانًا من المتاع الرفيع.
أما اليوم فقد ألقي بيننا وبين أنفسنا حجاب صفيق، وألقي بيننا وبين السياسة والسياسيين ستار كثيف، وجعلنا نتحدث كما يتحدث الناس حين يلتقون على غير معرفة موثقة أو مودة متينة قد برئت من التكلف، وألقيت عنها الحجب والأستار، فهم حراص على ألا يقول بعضهم لبعض ما يؤذي أو يسوء، لماذا تعمدنا أن نجتنب الحديث عن ذات أنفسنا، ولماذا تعمدنا أن نجتنب الحديث حتى عن حاضرنا وحاضر الناس، وحتى عن مستقبلنا ومستقبل الناس، ولماذا أنفقنا هذه الساعات الطوال لا نتحدث إلا في هذه الموضوعات التي لا تحطم شيئًا كما يقول الفرنسيون، ولماذا نسي كل واحد منا أن ينشد حين رأى صاحبه قول الشاعر القديم:
سل السياسة عن هذا فهي التي تستطيع أن تخبرك الخبر اليقين، وسل السياسة عن هذا فهي التي تحسن التفريق بين الأصدقاء، والتقريب بين الأعداء، وهي التي تحسن أن تنسي الناس أنهم كانوا رفاقًا في الصبا، وزملاء في الشباب، وأخلاء في الكهولة. وسل السياسة فهي التي تحسن أن تقيم المنافع العاجلة مقام المودة الباقية، وأن تشغل الناس بساعتهم التي هم فيها عن ماضيهم ذاك الطويل، وأن تشغل الناس بما يقضون من منافع، وما يرضون من مآرب، وما يحققون من آمال عما وثقت الأسر بينها من عرى متينة، وصلات كان يظن أنها أبقى على الزمن الباقي من الزمن.
وهل من الحق أننا لم نتحدث في هذه الساعات الطوال عن ذات أنفسنا، وهل من الحق أننا لم نذكر في هذه الساعات الطوال تلك الأيام الحلوة التي امتلأت لذات الصبا والشباب، وهل من الحق أننا لم نعبث بالسياسة والسياسيين، وأننا لم نعبث بأنفسنا؛ لأنها اتصلت بالسياسة والسياسيين، وهل من الحق أننا أنفقنا هذه الساعات الطوال في هذه الأحاديث التي كنا نكره أن نخوض فيها، والتي يستعين الناس بها على أن يحتمل بعضهم بعضًا، وهل من الحق أن هذه الأحاديث التي أنفقنا فيها الساعات الطوال لم تعن أحدنا على أن يحتمل صاحبه، فكنا نستنجد بالسجائر التي نكثر من تحريقها، وكنا نستنجد بما عند صاحب البولمان من القهوة والليمون والبرتقال، وكنا نستنجد بتكلف الفكاهة، واختراع الدعابة نجذبها من شعورها جذبًا كما يقول الفرنسيون، وهل من الحق أن أحدنا لو عرف أنه سيلقى صاحبه في القطار لقدم سفره أو آخره حتى لا يكون هذا اللقاء، وحتى لا يكون الاضطرار إلى هذه الأحاديث الفارغة التي لا تغني عن أصحابها شيئًا إلا أنها تعينهم على قطع الوقت، وتمكنهم من أن يحتمل بعضهم بعضًا.
نعم كل هذا حق، ولكن هناك حقًّا آخر لم أشكك فيه، ولم يشك فيه صاحبي لحظة، وهو أن ألسنتنا كانت تهذي بما لا يغني، وأن آذاننا كانت تتجرع هذا الهذيان، وأن قلوبنا في أثناء ذلك كانت تتحدث بما لم تكن تتحدث به ألسنتنا، وأن نفوسنا في أثناء ذلك كانت تستمتع بما لم تكن تستمتع به آذاننا، فقد كان كل واحد منا يكذب على صاحبه أشنع الكذب بما يلقي إليه من هذا الكلام الذي لا طائل فيه، والذي لا يدل على شيء، وكان كل واحد منا يصدق صاحبه أعذب الصدق بهذا الحديث الذي لم تكن تجري به الألسنة، ولم تكن تتلقاه الآذان، وإنما كانت تخفق به القلوب، وتستمتع به النفوس، وتجد فيه العقول راحة وروحًا، وتجد فيه الضمائر رضًى وأمنًا.
أما أنا فقد كنت أراني وما أشك في أن صاحبي قد كان يرى نفسه معي في ذلك المكان الضيق أمام تلك الدار الصغيرة على شاطئ القناة، وقد أظلتنا شجرات بسطت أغصانها إلى ماء القناة من ناحية أخرى، وقامت عليها الطير تملأ الجو بغنائها المتصل الرفيع، وخفق أجنحتها المتقطع، ونحن نأخذ فيما تعودنا أن نأخذ فيه من حديث، وقد رفعنا أصواتنا ليسمع كل منا صاحبه، فقد كان غناء الطير، وحفيف الورق، وهفيف النسيم، وتصايح الصبية من حولنا، وتنادي الرجال والنساء هنا وهناك، كان هذا كله يوشك أن يحول بيننا وبين الحديث.
نعم، كنت أراني مع صاحبي في هذا المكان، وكنت أسمع قلبي يلقي إلى قلب صاحبي حديث المودة والإخاء صفوًا عفوًا، وعذبًا نقيًّا، وكنت أتلقى من قلب صاحبي مثل ما كنت ألقي إليه على حين كانت ألسنتنا تهذي بسخيف القول؛ لأن ظروف الحياة قد أخذت تعلم الناس أن يخفوا المودة، ويظهروا النفاق، وأن يسروا الحب، ويعلنوا البغض، وأن يكذب بعضهم على بعض حتى في ذات أنفسهم، وأن يخيل بعضهم إلى بعض أن الأسباب بينهم مقطعة، وإن الأسباب بينهم لموصولة، ولكن مهلًا. إن إخفاء المودة يوشك أن يمحوها، وإن إسرار الإخاء يوشك أن يقتله، وإن التصريح بالكذب والنفاق وإعلان التباعد والخصومة يوشك أن يجعل الكذب والنفاق والتباعد والخصومة أصولًا لما نستأنف من حياة.
وقد وصل القطار إلى القاهرة، ونهضنا يريد كل منا أن يروح إلى أهله، ولم يقل أحد منا لصاحبه شيئًا بلسانه؛ لأن لسانه لم يكن يقول إلا كذبًا، وقال كل واحد منا لصاحبه كل شيء بقلبه؛ لأن قلبه لم يكن يقول عنه إلا صدقًا، وراح كل واحد منا إلى داره، وإن قلبه ليتقطع حسرات؛ لأنه لا يستطيع أن يبين عما فيه من حب دفين.
أبلغ الأمر بنا أن نخافت بالمودة ونجهر بالنفاق؟