أضغاث أحلام
رأى فيما يرى النائم كأنه يسعى متروضًا على شط دجلة حين أخذ الأصيل يحسر عن الأرض والسماء في أناة، وريث ضوئه الشاحب الحزين، وكان يسعى في جنة فسيحة بعيدة الأرجاء، رائعة الحسن، قد اختلفت مناظر ما فيها من شجر وثمر وزهر وعشب، فهو ينتقل بين هذا كله مستأنيًا متمهلًا يقف عند هذا اللون من ألوان الزينة التي اتخذتها هذه الجنة فيطيل الوقوف، وينظر إليه فيطيل النظر، ولا ينتقل عنه إلا حين يستيقن أنه قد رسمه في قلبه رسمًا صادقًا، وصوره في ضميره تصويرًا دقيقًا، وكأنه كان يحس إحساسًا خفيًّا لا يكاد يعلمه أنه حالم لا عالم، فكان يريد أن يستبقي في نفسه هذا الحسن البارع الذي يراه في هذا الجمال الرائع الذي يتمتع به؛ لينعم بهما إذا ردته اليقظة إلى هذه الحياة البغيضة التي كان يضيق بها أشد الضيق؛ لأنها كانت تصور له آماله عراضًا، وتقعد به عن بلوغ هذه الآمال. فكان يجد الألم الممض، والعناء الثقيل في هذا الرجاء الذي ينفسح له، وهذا اليأس الذي يقعد به، وكان ألمه يزداد شدةً، وحزنه يزداد لذعًا حين يرى مواكب هؤلاء الأمراء والوزراء والكتاب وأصحاب المكانة في قصر الأمين والمأمون، فتنازعه نفسه إلى أن يكون واحدًا منهم يشاركهم فيما يستأثرون به من الغنى والسلطان والجاه، ولكنه ينظر فإذا الأسباب بينه وبين ذلك مقطوعة لا تريد أن تتصل، ومن أين لفتى من أوساط الناس وعامة أصحاب التجارة فيهم أن يرقى إلى الكتابة أو الوزارة أو قيادة الجند.
فكانت حياته منغصة بهذا الأمل البعيد واليأس القريب. فلا غرابة حين رأى ما رأى في أحلام الليل، أن يحرص على من يستبقي هذه المناظر الجميلة، وهذه المحاسن الفاتنة؛ ليتسلى بها إذا استيقظ عن يأس لا يريم، وأمل لا ينال.
وإنه ليتنقل في حلمه بين هذه المناظر الخلابة الساحرة، إذا هو يرى جاريةً حسناء، فاتنة الحسن تنتقل مثله بطيئة متمهلة في هذه الجنة الرائعة، ولا يكاد يرى هذه الفتاة حتى تقع من قلبه موقع الحب، فتملأه حتى كأنه لا يستطيع أن يشتمل غيرها شيئًا آخر، ثم يحاول أن يدنو منها ليتحدث إليها، ولكنها تنأى عنه مسرعة، وهي تقول في صوت عذب، ولفظ حلو: هيهات هيهات، لم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي، ثم ينظر فإذا هي قد غيبت عنه، وإذا قلبه قد خلا منها، ولم يستبق إلا صورةً ضئيلةً جدًّا إن امتازت بشيء فإنما تمتاز بالفتنة المغرية، والقسوة الموئسة.
ويمضي في طريقه هادئًا ينحدر نحو النهر في بطء فلا يكاد يخطو خطوات حتى يرى جاريةً أخرى ليست أقل من صاحبته الأولى رواءً ولا بهاءً، ولكنها أكثر منها زينةً، وأحسن منها شارةً، وإذا هي تلقي إليه نظرةً تضرم في قلبه نارًا أي نار فيرنو إليها من بعيد، ويريد أن يدنو منها لينظر إليها من قريب، ولكنها تنأى عنه مسرعةً، وهي تقول: هيهات هيهات! لم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي، ثم تغيب عنه كما غيبت عنه صاحبته الأولى، ولكنها قد تركت في قلبه صورةً ضئيلةً جدًّا، واضحةً جدًّا، يرى فيها سحر الجمال، وآية النعمة والثراء، ويمضي في طريقه منحدرًا إلى النهر، وإذا جارية ثالثة ليست أقل من صاحبتيها فتونًا وإغراءً، ولكن فيها استعلاءً وتكبرًا وشيئًا من غلظة لو كان في رجل لبغضه الناس، ولكنه يدعو إليها أشد الدعاء، ويرغب فيها أعظم الترغيب، ولا يكاد يراها حتى يجن بها جنونه.
وإذا هو يحاول أن يدنو منها ليجثو بين يديها، وليرفع إليها الطاعة، والعبادة كما تقدم الطاعة والعبادة إلى الأصنام، ولكنها تنأى عنه مسرعة، وتأبى حتى أن تقول له مثل ما قالت صاحبتاها من قبل، إنما تشير إليه إشارة فيها كثير من الكبرياء أن قف، فلم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي.
وقد أخذ الفتى ينكر هذا الحلم العجيب، وهو مغرق فيه لم يفق منه، وكاد إنكاره لهذا الحلم أن يرده إلى اليقظة، لولا أن صورة تتراءى له فيثوب إليها، وإذا جارية رابعة ليست أقل من صاحباتها دعاء للقلب، واستهواءً للنفس لولا أنها لا تنظر إلا شذرًا، ولولا أن كل ما يظهر على وجهها من هذه الآيات التي تصور دخيلة النفس، وأعماق الضمير، لا يدل إلا على الغلظة والغطرسة، وسوء الخلق، وهي مع ذلك تفتن كل الفتون، وتملأ قلبه هيامًا وشوقًا، وهو يريد أن يستعطفها، ولكنها عنه مسرعة، وهي تشير في إباء وجفاء، أن قف فلم يؤذن لنا بعد في أن نلتقي.
وقد أحس الفتى حسرةً مؤذيةً ولوعةً حرقت قلبه تحريقًا، وجعل يتحدث إلى نفسه في هذا الحلم الغريب؛ لأنه شقي بائس قد كتب عليه الحرمان في حياته اليقظة، وفي حياته النائمة.
ومن يدري لعل الحرمان أن يكون قد كتب عليه في حياته الدنيا، وفي حياته الآخرة، وإذن ففيم خلق؟ ولم قذفت به الأقدار في هذا العالم البغيض الذي لا تحلو فيه يقظة ولا نوم، ولكنه يرى امرأةً نصفًا ليست بالجميلة الرائعة، ولا الذميمة التي تنصرف عنها الأبصار، ولكنها شيء بين ذلك. في وجهها الحازم ما يدعو إلى الحب، وفيه ما يحمل على الإكبار، وفيه إشراق غريب يشيع في القلب رقة، وفي النفس عطفًا وميلًا إلى الحنان، وهذه المرأة قائمة مكانها لا تتحول عنه، ولا تظهر ميلًا إلى التحول عنه، وقد أخذ الفتى يدنو منها شيئًا، فلم تنفر منه ولم تغب عنه، وإنما أقامت مكانها هادئةً يفيض من وجهها هذا البشر الحازم، وهذا الحنان الذي يملأ القلب طمأنينةً ورضًى، وهي تشير إلى الفتى في ظرف وعطف أن أقبل، كأنها شهدت ما لقي من أولئك الجواري الأربع فرقت له، وأشفقت عليه، وأحبت أن تسليه وتواسيه، ولكن الفتى يعرض عنها إعراضًا، ويصد عنها صدودًا، ويوليها ظهره، وهو يقول: هيهات لن يكون بيننا لقاء، فلست أحب العطف، ولا أريد الرفق، وليس أبغض إلي من هذا الأمل الذي لا أجد في تحقيقه الجهد المجهد، ولا في الظفر به العناء الثقيل.
وكأن إعراضه هذا قد ملأ قلبه غيظًا فرده إلى اليقظة على أبغض ما كان يحب أن يستيقظ عليه من الحال. على هذا الأمل القريب الذي لا رغبة له فيه، ولا حاجة به إليه، بعد أن أفلتت منه هذه الآمال العسيرة التي كان عليها حريصًا وبها كلفًا، وقد أنفق نهاره مفكرًا في هذا الحلم الغريب، مستحضرًا هذه الصورة الجميلة التي تراءت له ثم نأت عنه، منكرًا حظه من النوم واليقظة جميعًا.
ويقبل أبوه مع المساء فإذا رآه في هذا الذهول، لامه أشد اللوم، وعنفه وأنبه أعظم التأنيب، وحثه على أن يترك حياة الأدب هذه، التي ترقى بأصحابها إلى السحاب، ثم لا تبلغهم من آمالهم شيئًا، ورغبة في أن يسير سيرة أسرته فيعمل في التجارة المريحة التي لا تضيع على صاحبها وقتًا ولا جهدًا ولا تفكيرًا.
ولكن الفتى يمتنع عن أبيه أشد الامتناع، ويظهر له الزهد في التجارة والازدراء لحياة التجار، ثم ينفق ليلةً ساهرةً لا يذوق فيها النوم، ولا يصاحب فيها إلا القلم والقرطاس، حتى أشرقت الأرض بنور ربها، وفرغت بغداد من مواكب الأمراء والوزراء والكتاب الذين استقروا في دواوينهم حين ارتفع الضحى. أقبل الفتى يسعى إلى ديوان الحسن بن سهل الوزير، فما زال يتلطف حتى أدخل عليه فأنشده مدحة أعجبته، وانصرف عنه بجائزة أرضته، وراح على أبيه آخر النهار بعشرة آلاف درهم نثرها بين يديه. قال الشيخ مبهورًا مسحورًا: لا ألومك بعد اليوم في ازدراء التجارة، والإقبال على حياة الأدباء.
ومنذ ذلك اليوم اتصلت أسباب الفتى محمد بن عبد الملك الزيات بأسباب الوزراء والكتاب، وما زال يرقى من درجة إلى درجة، ويسمو من منزلة إلى منزلة، حتى نظر ذات يوم، فإذا هو قد فوض الخليفة إليه أمور الدولة كلها؛ فله الأمر والنهي، وإليه المنح والمنع، وفي يده سلطان السيف والقلم جميعًا، وإذا ثروته لا تحصى، ولا يقاس إليها إلا ثروة أمير المؤمنين، ومن يدري لعله أن يكون أقدر على ابتذال المال والتصرف فيه من أمير المؤمنين، فهو يأمر وينهى في المال غير مراجع ولا مدافع، وأمير المؤمنين لا يعطى ولا يمنع إلا عن رأيه ومشورته.
وقد فرغ من غذائه ذات يوم، وآوى إلى مضجعه يلتمس شيئًا من راحة، فيغفي إغفاءةً قصيرةً، وإذا هو يرى نفسه في تلك الجنة الفسيحة ذات الأرجاء البعيدة، وجاريةً حسناء ترمقه من بعيد، وهو يدنو منها، محبًّا لها، معجبًا بها، حتى إذا استطاع أن ينظر في وجهها من قريب، لم ينكر هذه الصورة، وإنما ذكر كأن عهده بها كان قريبًا! فهي إذن تلك الفتاة الحسناء التي رآها في حلمه ذاك، والتي كانت تظهر عليها آيات الغنى والسعة، وهي تبسم له، وتدنو منه، وتقول له في صوتها العذب، ولفظها الحلو: ادن أبا جعفر فقد أذن لنا الآن أن نلتقي، قال أبو جعفر: جعلت فداك من تكونين؟ قالت في صوتها العذب، ولفظها الحلو: أنا الثروة.
وأفاق أبو جعفر باسم الثغر راضي النفس يعجب من حلمه القديم، وحلمه الجديد، ولكنه كان صاحب جد وحزم وفلسفة، فلم يلبث أن هز رأسه، وتلا قول الله عز وجل: قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ، ومضى أبو جعفر يصرف أمور الدولة كما يهوى، وعلى ما يحب أمير المؤمنين، لا يسأل عن العدل أين هو! ولا يسأل عن الظلم أين هو، وإنما يسأل عن رضى نفسه، ورضى أمير المؤمنين، يسلك إليهما الطرق المستقيمة والمعوجة، ويركب إليهما الحزن والسهل، ويضحي في سبيلهما بالماضي والمستقبل، فيجفو الصديق، ويلقاهم بالغلظة حينًا، والازدراء حينًا آخر، لا يعرف لهم ودًّا، ولا يرعى لهم عهدًا، حتى يقول له صديقه القديم إبراهيم بن العباس الصولي:
ثم يغلو في الاستعلاء، ويمعن في الكبرياء حتى يلقى أخا أمير المؤمنين أشنع لقاء، ويتعمد إيذاءه في نفسه وجسمه بمحضر من أهل الديوان؛ لأن أمير المؤمنين كان مغاضبًا لأخيه.
وفي مساء ذلك اليوم خلا إلى ندمائه، فأخذ من لهوه المادي والعقلي بحظ عظيم، وثقل عليه الشراب حين تقدم الليل فأغفى إغفاءةً قصيرةً، ثم أفاق وهو يتلو قول الله عز وجل: قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ فلما سأله بعض ندمائه عن ذلك، قال: رؤيًا رأيتها في هذه الإغفاءة، وما أرى إلا أنها من أثر الشراب.
ولم تكن الرؤيا من أثر الشراب، وإنما كان حلمًا يعبر حلمًا، فقد رأى نفسه في جنته تلك، ورأى تلك الجارية الأبية المتغطرسة تبسم له، وتسعى إليه، وهي تقول: ادن أبا جعفر فقد أذن لنا الآن في أن نصطحب. ألا تذكرني؟ لقد التقينا ذات مساء في جنتنا هذه على شاطئ نهرنا هذا، وقد كنت تريد أن تستعطفني، قال أبو جعفر: نفسي فداؤك من تكونين؟ قالت: أنا الجفوة قد أجبتك منذ اليوم، فأنا صفاء لك وجفاء لأعدائك، وما أرى إلا أن الناس جميعًا عدو لك.
ومضى أبو جعفر يستزيد من السلطان، ويستزيد من الثراء، ويستزيد من الكبرياء والبأس، حتى بلغ من العنف ما لم يبلغه وزير قبله، وسام المسلمين من ألوان العذاب ما لم يكن المسلمون يظنون أن من الممكن أن يساق إليهم، واتخذ تنوره ذاك الذي كان يستصفي به الأموال من العمال، وكان ضيقًا شديد الضيق، قد أحيطت أنحاؤه كلها بالمسامير ذات الحدود المرهفة، يدخل فيها الرجل من الناس فتأخذ المسامير جسمه من جميع أقطاره، وقد جرب أداته تلك في أحد العمال ذات يوم، وجعل ينظر إلى هذا العذاب، ويجد فيه متاعًا وراحةً ورضى، فلما ذكرت له الرحمة قال: إنما الرحمة خور في الطبيعة، وضعف في المنة، وما رحمت شيئًا قط.
وفي مساء هذا اليوم رأى فيما يرى النائم إحدى جواريه أولئك في جنته تلك، تسعى إليه باسمةً ابتسامًا مرًّا، وهي تقول: أقبل أبا جعفر ألا تعرفني؟ أنا صديقتك، القسوة، لقد التقينا ذات أصيل في جنتنا هذه على شط نهرنا هذا، فقد آن لنا الآن أن نلتقي، ولن يفرق بيننا إلا الموت.
وأصبح أبو جعفر ضيقًا بهذه الأحلام التي يعبر بعضها بعضًا، وحدث نفسه بأن يسأل في ذلك بعض أصحاب الفلسفة لعلهم يجدون لهذا النحو من حياة الناس تفسيرًا، ولكنه استكبر حتى عن السؤال، وخشي إن تحدث إلى الكندي الفيلسوف في ذلك أن يزدريه، ويستخف حلمه، ويتندر بقصته عند أمير المؤمنين. فلم يتحدث بشيء من أمره إلى أحد، وإنما تلا قول الله عز وجل: قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ.
ومضى أبو جعفر يصرف أمور الدولة كما يشتهي هو لا كما تشتهي أمور الدولة حتى ملأ الأرض رعبًا ورهبًا، وحتى كان الخوف قوام الصلة بينه وبين القريب والبعيد.
وقد توفي أمير المؤمنين، وانتقلت الخلافة إلى أخيه، ولكن أبا جعفر مطمئن القلب رضي البال، قد امتلأت نفسه ثقةً بنفسه، وأمن المكروه كل المكروه، فهو مستيقن أن قصور الخلفاء لم تعرف قط وزيرًا يشبهه قوةً وإيذاءً وحسن تصريف للأمور، فلن يستغني عنه أمير المؤمنين. ولكنه يصبح ذات يوم وقد وجد الشك اليسير الخفي إلى قلبه العنيف الأبي سبيلًا؛ لأنه رأى فيما يرى النائم جارية من جواريه تلك تبسم له ابتسامةً حزينةً، وتنأى عنه رويدًا رويدًا، وهي تقول في صوت تكاد تخنقه العبرات: وداعًا أبا جعفر، لقد حمدت صحبتي لك، ومعاشرتي إياك، ولكن قضي علينا أن نفترق، قال أبو جعفر: ويحك من تكونين؟ قالت: أنا صديقتك، السطوة، أتنسى يوم التقينا في جنتنا هذه على شط نهرنا هذا، وقد أفاق أبو جعفر في ذلك اليوم مضطرب النفس بعض الشيء، وهم أن يتلو الآية الكريمة فلم ينطلق بها لسانه، وإنما ألح الشك على نفسه إلحاحًا.
ولم يأت أصيل ذلك اليوم حتى كان أبو جعفر في سجن أمير المؤمنين المتوكل. قد جرد من سطوته وجفوته، وثروته وقسوته، ورد إلى حال الشقي البائس الذي لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، والذي يدعو فلا يستجاب له، ويتمنى فلا يحفل أحد بتمنيه، ويشكو فلا يرق أحد لشكاته.
وقد صبر أبو جعفر على السجن ما كان السجن سهلًا يسيرًا، ولكنه لم يلبث أن استحال إلى العذاب يصب عليه في الليل، وقد وكل السلطان به من يسامره، حتى إذا أحس منه راحةً أو شيئًا يشبه الراحة نخسه بالمسلات ليرده إلى الألم، وليجدد عهده بطعم العذاب، وقد صبر أبو جعفر على هذا العذاب ما واتته قوته، واحتملت طبيعته شدة البأس، ولكنه يرى ذات يوم على باب الحجرة التي يعذب فيها من حجرات السجن صورة يعرفها ولا ينكرها، يراها يقظان، وقد كان يرى صاحباتها نائمًا، وهو ينظر في وجهها نظرة المشوق إليها المفتون بها، وكلما زاد إليها نظرًا، ازداد إليها شوقًا، وبها كلفًا، وهو يدعو بقلبه كله ونفسه كلها، وهي تريد أن تستجيب له وتود لو تخطو هذه الخطوات القليلة التي تدنيها منه، وتقربها إليه، ولكنها ترد عن ذلك ردًّا رقيقًا فترسل إلى أبي جعفر نظرات حلوة فيها حنان وعطف وإشفاق، وإذا لسان أبي جعفر ينطلق بهذه الكلمة في صوت هادئ يقطعه الألم: الرحمة.
قال الذين يعذبونه، وقد ظنوا أنه يسترحمهم: إنما الرحمة خور في الطبيعة، وضعف في المنة، وهل رحمت شيئًا قط؟ ولم يطلب أبو جعفر إليهم رحمة، وإنما عرف صاحبته تلك التي رآها في جنته تلك على شاطئ دجلة فسماها باسمها.
ومنذ ذلك اليوم لم ينطق أبو جعفر إلا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، حتى حين أدخل في التنور الذي كان يعذب به الناس، ولم ينطق لسانه بغير هذه الكلمة حتى مات.