حديث الأوز
وأنا أعتذر إلى القراء من هذا العنوان الظريف الطريف الذي لم أكن أحب أن أصطنعه على ما فيه من طرافة وظرف؛ لأنه أشبه بأحاديث الفكاهة والمزاح، لا بأحاديث الجد المر الذي يجب أن نحرص عليه حين نأخذ في شئون التعليم.
ولكن صديقًا أديبًا من أصدقائنا الأدباء أراد أن يتحدث عن نشر التعليم فضرب الأوز له مثلًا، يذهب في ذلك مذهب الفكاهة الساخرة، وإن كانت شئون التعليم في هذه الأيام لا تحتمل فكاهةً، ولا سمرًا.
تحدث الصديق الأديب أن صاحبه جحا زعم لقاضي المدينة أنه يستطيع أن يأتي بتسع عشرة أوزةً فيحبسهن في حجرة من الحجرات، ثم يدخل عليهن عشرين رجلًا، فلا يخرج واحد من هؤلاء الرجال إلا ومعه واحدة من هؤلاء الأوز، وقد أنكر القاضي هذا الحديث لما بين هذين العددين من الاختلاف، ولكن جحا ألح فيه وأصر عليه، فاضطر القاضي إلى أن يستجيب له، وأقبل جحا بأوزه التسع عشرة، وأدخل القاضي عليهن عشرين رجلًا كان بينهم صراع وقراع سالت له الدماء، وشاهت له الوجوه، ثم جعل الرجال يخرجون رجلًا في أثر رجل، ومع كل واحد منهم أوزته حتى خرج آخرهم، وليس له شيء، فلما سأل القاضي جحا عن معجزته، أنبأه بأنه لم يرد إلا عبثًا ليبين له وللناس أن الديموقراطية الصحيحة لا تحدث المعجزات، ولا تخلق المستحيلات.
والمغزى الذي قصد إليه الصديق الأديب هو أن الذين يريدون أن ينشروا التعليم بغير حساب، وأن يحشروا الأعداد الضخمة في الأماكن الضيقة، إنما يذهبون مذهب جحا حين أراد أن يقسم التسع عشرة أوزة قسمة سواء على عشرين رجلًا فلم يبلغ من ذلك ما أراد.
والمثل كما ترى رائع، بارع وقاصم، فاصم لا تقوم له حجة، ولا يثبت له دليل، فليست الديمقراطية إذن كلامًا يقال، ولا هي دعوة تنشر وتذاع، وإنما هي أعمال يقدم عليها أصحابها عن بصيرة، ويحققونها عن روية، وليس يكفي أن يقال للناس كلوا ليأكلوا، ويأمنوا شر الجوع، وليس يكفي أن يقال للناس تعلموا ليتعلموا، ويأمنوا شر الجهل، وإنما ينبغي أن يهيأ الطعام على قدر الطاعمين، وأن يهيأ العلم على قدر المتعلمين، فإن لم نفعل كانت دعوتنا إلى الطعام والعلم أشبه بعبث جحا حين أراد أن يقسم تسع عشرة أوزةً على عشرين رجلًا قسمةً سواءً.
ومن قبل الصديق الأديب ضربت للتعليم أمثال أخرى تتصل بالطعام؛ فقال قائلون: إن الذين ينشرون العلم بغير حساب، ويحشرون الأعداد الضخمة في الأماكن الضيقة كالذين يلقون الطعام القليل إلى الجماعة الكثيرة، فما هي إلا أن يلقى هذا الطعام حتى يكون الزحام والخصام والاصطدام، ثم يفترق الناس، وقد آذى بعضهم بعضًا، ولم يظفر بالطعام منهم إلا قليل.
والغريب أن يقال مثل هذا الكلام في هذه الأيام التي تواجه الحكومات مشكلة التموين، ومعضلة الطعام القليل يلقى إلى الجماعات الضخمة من الناس … ولا يفكر الذين يقولون هذا الكلام ويكتبونه في أن حوادث حياتهم اليومية تنقض ما يقولون نقضًا. فإن الحكومة إنما قامت لتجري الأمور بين الناس بالقسط، وتقضي بينهم بالحق، وتمكن كل واحد منهم من أن يأخذ نصيبه الضئيل من الطعام القليل، لا يعدو في ذلك بعضهم على بعض، ولا يظلم القوي منهم في ذلك الضعيف، وليس المهم أن تنجح الحكومة في ذلك أو تخفق، وأن تعدل الحكومة في ذلك أو تجور، وإنما المهم أنها أنشئت لتجري أمور الناس بينهم بالقسط، ولتطعم عشرين رجلًا من تسع عشرة أوزةً، والخطأ الذي انحرف فيه جحا عن الصواب، ولم يكن للقاضي أن يجاريه فيه: هو أنه أراد أن يقسم التسع عشرة أوزةً على العشرين قسمةً سواءً، ولو أنه أصلح الأوز، وهيأه للطعام؛ لجاز أن يغذي بهن مائة أو مئات من الناس دون أن يقع بين هؤلاء الناس صراع أو قراع، ولكن جحا لم يكن مصريًّا، ولا عربيًّا، وربما كان له حظ من دعابة، ولكنها دعابة غير عاقلة، ولو قد كان جحا مصريًّا عربيًّا لعرف أن في مصر أمة تمتاز بخصلتين؛ إحداهما: القناعة والرضى بالقليل، والأخرى: الإيمان بالمعجزات، والكرامات، وخوارق العادات.
وليس كل مصري حريصًا على أن يأخذ أوزة صحيحة حية يفرح بها في بيته، وينظر إليها تذهب وتجيء، تبسط جناحيها وتقبضها، وترسل في الهواء صوتها الذي يطرد الملائكة، ويدعو الشياطين، كما يقول أهل الريف. ليس كل مصري حريصًا على أن يظفر بين حين وحين بجزء أوزة عظيم أو ضئيل، بل ليس كل مصري حريصًا على أن يذوق طعم الأوز أو يشم ريحه، وإنما المصريون قوم قانعون أكثرهم يرى الأوز ويسمع عنه، ولكنه لا يبلو طعمه، ولا يعرف له مذاقًا.
وهو على ذلك لا ينكر الحياة، ولا يضيق بها، ولا يسخط عليها فإن أتيح له قليل من لحم الأوز أو من مرقه أو من ريحه حمد الله، وأثنى عليه، وشكر له هذه النعمة التي لم يكن ينتظرها، ولا يرجوها.
وقد أراد الله بالمصريين خيرًا فلم يجعل العلم أوزًا، ولم يجعل الأوز علمًا، وإنما جعل العلم شيئًا كهذا الهواء الذي يمتلئ به الجو، ويستطيع الناس جميعًا أن يتنفسوه، وجعل العلم شيئًا كهذا الماء الذي يفيض به النيل، ويستطيع الناس جميعًا أن يشربوه، وقد يكون الهواء نقيًّا، وقد تكدره رمال الصحراء؛ فالناس يتنفسونه على كل حال … وقد يكون الماء صفوًا، وقد تشوبه الجراثيم؛ فالناس يشربونه على كل حال، وقد يكون الطعام كثيرًا، وقد يكون قليلًا، وقد يكون صالحًا، وقد يكون رديئًا؛ فالناس يأكلونه على كل حال؛ لأنهم لا يريدون أن يموتوا مختنقين، ولا أن يموتوا ظامئين، ولا أن يموتوا جائعين، وقد تكون المدرسة واسعة، وقد تكون ضيقة، وقد يكون الأستاذ ممتازًا، وقد يكون معتدل الحظ من الامتياز، وقد يكون الكتاب ميسرًا، وقد يكون معسرًا، ولكن الناس يتعلمون على كل حال؛ لأنهم لا يريدون أن يعيشوا جاهلين، ومكان وزارة المعارف في مصر كمكان وزارة التموين. فما رأي جحا التركي إن قيل له: إن في مصر طعامًا يكفي لتغذية نصف المصريين، وأن نصفهم الآخر يموت جوعًا.
وما رأي جحا التركي إن قيل لوزارة التموين إن في مصر كساء يكفي لنصف المصريين، فيجب أن يكتسي نصفهم، وأن يظل نصفهم الآخر ضاحيًا عاريًا. وما رأي وزير التموين إن قيل له مثل هذا الكلام؟ وما رأي البرلمان إن قال له وزير التموين مثل هذا الكلام، وأي النصفين من المصريين يستطيع أن يأكل، وأن يكتسي فيعيش، وأي النصفين من المصريين يحب أن يجوع، وأن يعرى فيموت. أما جحا التركي: فلن يرى بأسًا في أن يأكل القادر على أن يشتري الطعام، ويكتسي القادر على أن يشتري الثياب، ويموت الذين لا يقدرون على أن يشتروا طعامًا ولا ثيابًا، وليس على أحد من ذلك بأس؛ فالله قد قسم الحظوظ بين الناس فجعل بعضهم غنيًّا يستطيع أن يشتري الغذاء والكساء، وجعل بعضهم معدمًا لا يستطيع أن يجد غذاءً ولا كساءً.
ولكن وزارة التموين لا تذهب لحسن الحظ هذا المذهب الآثم، وإنما تفعل ما تستطيع؛ ليجد الفقراء والأغنياء ما يقيم الأود، ويستر الجسم، وهي تغذو الأعداد الضخمة بالقليل من الطعام، وتكسو الأعداد الضخمة بالقليل من الثياب؛ توفق أحيانًا، ويخطئها التوفيق أحيانًا أخرى، والفرق بين جحا المصري وجحا التركي بسيط جدًّا، فجحا المصري لا يفرق بين العلم والطعام، وجحا التركي يرى أن من حق الناس أن يأكلوا ويشربوا ويعيشوا، وألا بأس عليهم من أن يجهلوا، ويخضعوا لآفات الجهل فيمتاز بعضهم من بعض، ويتفوق بعضهم بعضًا، ويصبح بعضهم لبعض عبيدًا وتبعًا.
وقد نشأ المصريون على ألوان من العقائد يحدثهم بها جحا المصري مصبحًا وممسيًا؛ فهو يحدثهم بأن النبي ﷺ قد أطعم الأعداد الضخمة من أصحابه حتى أشبعهم بالقليل الضئيل من الطعام الذي لم يكن يكفي إلا لتغذية الرجلين أو الثلاثة، وهو يحدثهم بأن الله قد أنزل على عيسى مائدة من السماء كانت عيدًا لأولهم وآخرهم، وهو يحدثهم بأن في ألف ليلة وليلة أوزًّا لا كالأوز، ودجاجًا لا كالدجاج تؤكل الواحدة منها حتى لا يبقى إلا عظمها، قد جرد من كل ما كان عليه من اللحم، ثم يجمع هذا العظم في طبق من الأطباق، ويقال له كلام فينتفض بقدرة الله، ويعود كهيأته قبل أن يؤكل أوزًّا ودجاجًا يستطيع أن يجد فيه الجائع شبعًا ولذةً، فمصدر هذا كله أن جحا المصري يؤمن بالبركة من جهة، ويؤمن بالعدل من جهة أخرى، ويرى من أجل ذلك أن القليل يجب أن يكفي الكثير، وأن الناس كلهم لآدم، وأن آدم من تراب، وأنهم جميعًا من أجل ذلك سواء في الحقوق والواجبات يجب أن يأكلوا ويشربوا ويتنفسوا ويتعلموا، لا يمتاز بعضهم من بعض إلا بالتقوى، والأعمال الصالحات التي هي خير عند ربك ثوابًا، وخير مردًّا.
فأنت ترى فرقًا بين التعليم الذي يعلمه جحا المصري للمصريين، والتعليم الذي يلقيه إليهم جحا التركي من مدرسته تلك في جمبولاد، وقد أراد الله أن يفهم المصريون لغة المصريين، وألا يفهم لغة التركي منهم إلا أفراد قليلون، وهم من أجل ذلك لا يشبهون التعليم بأوز جحا التركي، وإنما يشبهونه بهذه المائدة التي أنزلها الله من السماء فكانت عيدًا للناس أولهم وآخرهم، وبهذا الطعام القليل الضئيل الذي أشبع منه النبي ﷺ مئات من صحابه ثم تركه كاملًا موفورًا، وبهذا الأوز الذي تحدثني عنه ألف ليلة وليلة بأنه ينفد ليتجدد، ويفني ليبقى، ويموت ليحيا.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، ووزرائهم، وشيوخهم، ونوابهم، وقادة الرأي فيهم أن يؤمنوا مثلهم بهذه الآيات، وألا ييأسوا من روح الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، وقادة الرأي فيهم أن يعرضوا عن هذا الهزل إلى الجد، وعن الباطل إلى الحق، وأن يعلموا المصريين ما وجدوا إلى تعليمهم سبيلًا في المدارس الواسعة، وفي المدارس الضيقة، وفي الهواء الطلق على الكراسي الوثيرة، وعلى الكراسي الخشنة، وعلى الحصر، وعلى الأرض العراء؛ لأنهم يرون الجهل حريقًا يلتهم النفوس والقلوب، ويجب أن يطفأ مهما تكن الوسائل التي تتخذ لإطفائه.
وهم يريدون من علمائهم، وأدبائهم، وقادة الرأي فيهم أن يقولوا للدولة: أنفقي، وأنفقي عن سعة، فإن لم تتح لك الميزانية ما تريدينه فافرضي الضرائب في غير تردد، وفي غير مهل، وعلمي حتى لا يبقى في مصر جاهل ولا غافل، ولا معرض للاستغلال مهما يكن المستغل، والاستذلال مهما يكن المستذل، والتسلط مهما يكن المتسلطون، وإنه لمن المؤلم المؤذي حقًّا أن يحتاج المصريون إلى أن يقولوا هذا للعلماء، والأدباء، وقادة الرأي.
وقد مرت على المصريين أيام كانوا يساقون إلى المدارس بقوة السلطان، ويدفعون إليها دفعًا بالإكراه، ويفرون بأبنائهم من التعليم. فقد انعكست الآية، وتغيرت الأيام، وأصبح الجاهلون يطلبون العلم فيردهم عنه العلماء، فإذا ألحوا في ذلك سيقت إليهم أحاديث الأوز، وقصت عليهم قصص جحا، وعبثه في جمبولاد.
كلا أيها السادة، يجب أن يخلص العلماء للعلم، وأول مراتب الإخلاص له أن ينشروه بكل وسيلة، وأن يذيعوه من كل سبيل، وألا يكونوا كهذا البخيل الذي يقول فيه بشار: