شياطين البيان
صدقني يا سيدي أو لا تصدقني لن يغني هذا عن الحق شيئًا، والحق الواقع، وهو أن هذه القصة ليست مخترعةً، ولا مصطنعةً، وليس للخيال فيها أثر قليل أو كثير، وإنما هي شيء وقع، كما أن من الأشياء الواقعة أني قد خرجت من داري حين ارتفع الضحى، فسعيت إليك متثاقلًا أستمتع بهذا الجو الرائق، وبهذه الشمس الفاترة، وبهذا النسيم البارد الرقراق، وأدير في نفسي ما وقع لي من الأمر، واستعرض بعض الصور التي أريد أن أصطنعها لأقصه عليك، وأجيل في نفسي أيضًا ما سيكون بينك وبيني من أخذ ورد مستنكرًا عليَّ حديثي، وسأحاول إقناعك بأنه صحيح، وسيشتد بينك وبيني خصام لا بد من أن يثور بيننا كلما حدثتك ببعض الأمر؛ لأنك رجل لا تؤمن إلا بما ترى وتحس، ولا تصدق من أنباء الناس إلا قليلًا.
ولست أخفي عليك أني أعذرك ولا ألومك، فقصتي لا تخلو من غرابة، وآية ذلك أني أنا نفسي أنكرتها أشد الإنكار، وكنت واثقًا كل الثقة بأني رأيتها فيما يرى النائم، وكنت أتحدث إلى نفسي بأنها حلم غريب، طريف، وكنت ألتمس العلة لهذا الحلم، وكنت أجدها في غير مشقة، وكنت أستمتع بحلمي، وأستمتع بما بذلت في تعليله من جهد، وأستمتع كذلك بما سأتحمل في تأويله من عناء، ولكن رأيتني حين تقدم الليل، وكاد ينهزم أمام النهار، واقفًا أمام داري ألتمس المفتاح لأديره، فيفتح لي الباب، وأنسل إلى غرفتي في هدوء وخفة حتى لا يحس أهلي عودتي في آخر الليل، فلا أجد المفتاح، وقد تعودت ألا أخرج مع الليل إلا أخذت معي هذا المفتاح أوفر بذلك على أهلي حريتهم وراحتهم ونومهم، وأجنبهم بذلك أن يسهروا منتظرين عودتي أو أن يهبوا من نومهم حين أعود ليفتحوا لي الباب، ولكن المقادير أرادت أمس أن تجري الأمور على غير ما تعودت أن تجري عليه، فأنسيت المفتاح، وما أنسانيه إلا الشيطان، وسترى أن هذا لم يكن غريبًا، فقد كانت المقادير قد قدرت أن تكون ليلتي هذه من قسمة الشياطين، والشيء الذي ليس فيه شك هو أني التمست المفتاح حيث تعودت أن أحفظه فلم أجده، فجعلت أفتش في جيوبي كلها وما أكثرها فلم أجده، وقد ضقت بذلك أشد الضيق، حسبت أول الأمر أني قد أضعته، ثم لم ألبث أن ذكرت أني خرجت مسرعًا مع بعض الأصدقاء، وأعجلني الحديث فلم آت هذه الحركة اليسيرة التي انتزع بها المفتاح من مكانه، وأضعه في الجيب الذي تعودت أن أضعه فيه.
فلما تبينت ذلك غشيني من الهم ما غشيني، ووقفت واجمًا أول الأمر مترددًا بعد ذلك. أأطرق الباب فأزعج من في الدار، أم أقوم مكاني حتى يسفر الصبح، ويهب النوام، أم أعود أدراجي فأطوف في شوارع الحي أتلهى بهذا التطواف عن الانتظار، وقد طال علي هذا التردد فتحولت عن مكاني، ولكني لم أخرج من الحديقة، وإنما جعلت أطوف حول الدار، وأردد في نفسي قول الشاعر القديم:
ولم أكن أدور لأرى أم جعفر، وإنما كنت أدور مخافة أن أوقظ أم جعفر أو أزعجها، فيكون شر في هذه الدار التي لم تعرف الشر إلا قليلًا.
ولست أحدثك بما كان حين انجلى الصبح، وأشرقت الشمس، وفتحت الأبواب، واندفعت إلى غرفتي، وأسرعت إلى مضجعي، والتمست الراحة فلم أظفر منها بشيء ثم نهضت مكدودًا مجدودًا، وأقبلت أسعى إليك، ولم أذق للنوم طعمًا في هذه الليلة الطويلة القصيرة التي امتلأت من الأمر بأشده غرابة، وأعظمه سخفًا، ولولا قصة المفتاح هذه، لما شككت في أني رأيت حلمًا من هذه الأحلام الكثيرة التي تعبث بنفوس الناس حين يجن عليهم الليل، ولكنك ترى أني مستيقظ منذ أشرق الصباح أمس، ولعلك تذكر وما أظنك نسيت أننا قد قضينا شطرًا من الليل عند صديقنا فلان نسمر حول أحاديث الجن والشياطين، وما تزعم العرب من الصلة التي تكون بينهم وبين الشعراء، والخطباء، والكتاب، والذين يتعرضون لألوان البيان، وقد قال قائل منا: إن العرب في جاهليتهم وإسلامهم لم يتحدثوا بما يكون بين الشياطين والخطباء والكتاب من صلات، وإنما زعموا أن الشياطين قد وكلوا بالشعراء خاصة حتى إذا كان ابن شهيد في الأندلس زعم لنا في قصته المشهورة التوابع والزوابع أن للخطباء والكتاب شياطين كما أن للشعراء شياطين، وقد قص علينا في رسالته تلك زيارته لوادي الجن، وما كان من حوار بينه وبين خطباء الجن وكتابهم أولئك الذين كانوا يلهمون خطباء الإنس وكتابهم، وسمى لنا شيطان عبد الحميد الكاتب، وشياطين غيره من أعلام البيان، وسمى لنا شياطين جماعة من خصومه ومنافسيه في الفن، وزعم لنا أنه خاصمهم فخصمهم، وناظرهم فتفوق عليهم، وقد أخذت بحظي من هذا السمر كما أخذتم بحظوظكم منه، فلما تفرقنا بقيت في نفسي هذه الأبيات التي ألقاها زهير بن نمير. ذلك الدليل الجني لابن شهيد في زياراته المتصلة لتلك الأندية التي كان يجتمع فيها شياطين البيان، ولعلك تذكر أن زهيرًا ألقى أبياته هذه إلى صاحبه ابن شهيد، وجعلها آيةً بينه وبينه، فكلما احتاج ابن شهيد إلى صاحبه أنشد هذه الأبيات، فيسرع إليه زهير، ويجيبه من الأمر إلى ما يريد.
وقد جعلت أردد هذه الأبيات في نفسي، وأنا أمضي متباطئًا إلى الدار، ثم لست أدري لماذا لم أكتف بإدارة هذه الأبيات في نفسي، وإنما جعلت أنشدها في صوت خافت لا يكاد يسمعه غيري:
ولكني لم أكد أفرغ من إنشاد البيت الثالث حتى أحسست الرعدة تأخذني أخذًا عنيفًا كدت أهوى له إلى الأرض لولا أني تماسكت، ولولا أن ذراعًا قويةً عصمتني من السقوط. فقد سمعت صوتًا غريبًا نحيلًا يأخذني من جميع أقطاري، وهو يقول لبيك لبيك هأنذا زهير بن نمير خليل شاعرك الأندلسي ابن شهيد في الزمان الأول، والدهر القديم. ولست أخفي عليك أني قد أنكرت من هذا الأمر مثل ما تنكر، ولم ترتسم على وجهي هذه الابتسامة الساخرة التي ترتسم على وجهك الآن، وإنما تقبض وجهي تقبضًا شديدًا، وجعل العرق البارد يبل جبهتي، وهم لساني أن يدور في فمي صائحًا مستغيثًا، ولكني أسمع الصوت النحيل يسعى إلي، وكلما دنا مني زال عنه نحوله، وجعل يمتلئ شيئًا فشيئًا، وجرت فيه نغمات عذبة، وهو يقول: لا بأس عليك لا ترع، واتل معي قول الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، فقد تلا هذه الآية من قبلك جماعة من أمثالك العرب حين روعوا بمثل ما تروع به الآن من لقاء أصدقائهم من الجن.
وقد سمعني أتلو هذه الآية الكريمة مع صاحبي، ثم رأيتني أثوب إلى نفسي أو رأيت نفسي تثوب إلي، وإذا قلبي آمن كله، وإذا أنا هادئ هدوءًا لا أكاد أعرفه من نفسي حين يفاجئها ما لا تنتظر، وإذا أنا أسعى مع صاحبي كما تعودت أن أسعى معك في غير وحشة ولا تكلف، كأنما كان بيني وبينه ود قديم قد بعد به العهد، وطال عليه الزمان، ويجب أن أعترف لك بأني أحسست في ذلك الوقت أن لي شخصين مختلفين؛ أحدهما: يساير صاحبي فيسمع منه، ويتحدث إليه، والآخر: عاكف على نفسه في ناحية من نواحي الضمير يرقب ويسمع ويرى، ويحاول التحليل والتعليل، ويزعم لي أن ما أنا فيه إنما هو لون من ألوان الحلم لا عرض من أعراض اليقظة، ولكني شغلت عن هذا الشخص الذي انتبذ ناحية من نواحي الضمير بهذا الرفيق الذي جعل يتحدث إلي بالأعاجيب.
فقد كان يقول لي: صدقني إن هذا العلم الذي أخذه قدماؤكم عن اليونان، وأخذه محدثوكم عن الأوروبيين قد أفسد عليكم شيئًا كثيرًا، وأشاع في نفوسكم فنًّا من الكبرياء والغرور حرمكم متاعًا لا حد له. فأنتم تنكرون ما كان يعرفه قدماؤكم من معاشرة الجن، ومخالفة شياطين الفن، فإذا تحدث إليكم أبو العلاء بشيء من ذلك في رسالة الغفران، أو إذا تحدث إليكم ابن شهيد بشيء من ذلك في رسالة التوابع والزوابع لم تصدقوه، ولم تطمئنوا إليه، وإنما استمتعتم به في شيء من السخرية والتكذيب على أنه من آثار الخيال، وفن من فنون الصنعة، وما أبعد الفرق بين من يستمتع بالخيال المخترع، ومن يستمتع بالحق الواقع الذي لا شك فيه، وإنكم تنكرون المصادفة، وتردون كل شيء إلى ما تسمونه الأصول والقوانين، فردوا الأشياء إلى ما تريدون، ولكن اعترف بأن المصادفة وحدها هي التي أنطقتك بهذه الأبيات، فإذا أنا أستجيب لك مسرعًا لأجدد معك ذلك العهد القديم الذي كان بيني وبين ابن شهيد شاعر الأندلس وخطيبها وكاتبها، وأنت من غير شك حريص كما حرص ابن شهيد على أن تفر من حياة الناس لحظات طوالًا أو قصارًا دون أن تقطع الصلة بينك وبينهم، وإنما تراهم في شياطينهم، أو ترى شياطينهم وهم يزينون ما سيملئون به قلوبهم، ويحركون به ألسنتهم، ويجرون به أقلامهم من ألوان القول.
وقد زرت ابن شهيد على ظهر جواد أصيل، أما أنت فقد ظهرت لك فجأة لم تدر أنجمت لك من الأرض أم هبطت عليك من السماء، وما أظنك تنكر من ذلك شيئًا، فأنتم لا تتخذون الخيل الآن أداة للانتقال، وإنما تنتقلون في سياراتكم وطياراتكم وقطاراتكم هذه التي تخيلون إلى أنفسكم أنكم قد أحدثتم بها المعجزات، وابتكرتم بها الأعاجيب، وأظنك توافقني على أننا معشر الجن أقدر منكم على اختراع الطرائف، وابتكار الأعاجيب، وأين تقع طرائفكم وأعاجيبكم مما كنا نأتي به من الطرائف والأعاجيب في عهد سليمان عليه السلام، وإذا كنتم قد بلغتم ما بلغتم من المهارة والبراعة في عشرين قرنًا فأحرى أن نبلغ نحن من المهارة والبراعة في هذا الأمد الطويل بالقياس إليكم، القصير بالقياس إلينا ما لا يخطر لكم على بال.
وما أريد أن أشق عليك، ولا أن أكلفك من الأمر ما لا تحب، وإنما أريد أن أزور معك ناديًا من أنديتنا هذه التي يجتمع فيها شياطين البيان، وأن أظهرك عليهم حين يخلو بعضهم إلى بعض، وقد فارقوا قرناءهم من كتاب الإنس حين تقدم الليل، وآوى كتاب الإنس إلى مضاجعهم، وأقبل شياطينهم إلى ناديهم يجدون حينًا، ويعبثون في أكثر الأحيان. وهممت أن أرد على صاحبي رجع حديثه، ولكني أراني في قصر فخم لا أدري أنقلت أنا إليه أم نقل هو إلي، ولكني أجد نفسي فيه دون أن أتكلف لذلك سعيًا أو حركةً، وأسمع صاحبي زهيرًا يقول متضاحكًا: قد يخيل إليك أن هذا النادي في ضاحية من ضواحي القاهرة كهذه الأندية التي تنبث حول مدينتكم هذه الصغيرة، ولكن لا تجزع نفسك فإن بينك وبين القاهرة آمادًا لا تقطعها السيارات ولا الطيارات ولا القطارات، ولولا أني رفيق بك وفيٌّ لك لأظهرتك على بعض ما بينك وبين القاهرة من أمد، ولكن أخشى أن أروعك فأعد معي تلاوة الآية الكريمة: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. وأنا أتلو معه الآية الكريمة، وأجد الطمأنينة والأمن، وأهم أن أتحدث إلى صاحبي، ولكنه يبتدرني بالحديث فيقول: تعلم أن هذا النادي الذي أنت فيه مقصور على شياطين البيان الذين يلوذون بأدبائكم أنتم المصريين دون غيرهم من الأدباء. فلن ترى في هذا القصر إلا قرينًا لكاتب أو شاعر أو خطيب من هؤلاء الذين يملئون الجو في بلدكم فصاحةً، وبلاغةً، وبيانًا.
فأي شيطان من هؤلاء الشياطين تحب أن ترى؟ ولأيهم تحب أن تسمع؟ ومع أيهم تحب أن تأخذ في الحديث؟ قلت: لا أدري فإني أعرف كتابنا وشعراءنا وخطباءنا؛ لكثرة ما أقرأ وأسمع من آثارهم، ولو خيرتني لاقترحت عليك أن تزور معي ناديًا من أندية الشياطين الذين يوحون إلى جيل آخر من أجيال الأدباء، قال زهير: سبحان الله ما زلت بعد غارقًا فيما يغرق أمثالك فيه من الوهم. إنك لا تعرف كاتبًا، ولا شاعرًا، ولا خطيبًا حق المعرفة حتى ترى شيطانه، وتسمع منه؛ لأن ما يلقى إليكم من آثار الأدباء ليس إلا صدًى ضئيلًا لهذا الصوت الخصب الذي ينفث في القلوب، ويطلق الألسنة، ويجري الأقلام، وسترى بعد لحظات أنك لا تعرف من أمر أدبائكم إلا أيسره وأهونه شأنًا فامض معي.
ولم نكد نخطو خطوات حتى دفعنا إلى بهو رحب بعيد الأرجاء تضطرب فيه ظلال غريبة ضئيلة، وهي تتصايح وتتصاخب، ويكاد بعضها يمزق بعضًا لو أن الظلال يمكن أن تتمزق أو يدركها البلى.
وقد انفرد من بين هذه الظلال شخص غريب مرتفع في السماء ممتد في الفضاء كثير حركات الوجه كثير اضطراب الأعضاء لا يستقر في مكان، ولا يستقر لسانه في فمه، ولا تكاد أعضاؤه تستقر في مواضعها من جسمه، وإنما هو حركة متصلة، وصياح لا ينقطع، وقد حرص على ألا يدنو من الظلال الأخرى التي تضطرب في البهو فتملؤه دويًّا كدوي النحل، وإنما هو ممتاز منها دائمًا لا تكاد تدنو منه إلا نأى عنها، ولا تكاد تسعى إليه إلا ارتد في أنفة وكبرياء، وتجافى في غلظة منكرة.
قلت لصاحبي: زهير ما هذه الظلال؟ قال ضاحكًا: هي جماعة من الشياطين لم تأخذ من الفن بحظ، ولكنها خدعت عن أنفسها، وملأها الغرور، فقامت في هذا البهو مضطربةً صاخبةً تريد أن تقتحم على شياطين الفن ناديهم فلا تبلغ من ذلك شيئًا؛ لأنها ترد عن نادي الفن ردًّا عنيفًا: وليس اضطرابها هذا الذي ترى، وليس عجيجها هذا الذي تسمع إلا مظهرًا من مظاهر الغيظ، وفنًّا من فنون الحنق، وضربًا من ضروب الإلحاح في قرع الأبواب لعلها أن تفتح لها. قلت: وما هذا الشخص الذي يمتاز من هذه الظلال فيأبى أن يدنو منها أو أن يخلط نفسه بها، ولا يؤذن له مع ذلك في أن يتجاوز هذا البهو، فهو يتحرك وكأنه ساكن، ويسعى وكأنه واقف، وينطق وكأنه صامت، ويصخب وكأنه لا يقول شيئًا؟ قال: هذا مسيلمة الشياطين، أراد أن يكون شيطانًا من شياطين الفن فلم يستطع إلا أن يكون ثرثارًا مكثارًا مهزارًا لا حظ لقلبه من غناء، ولا حظ لعقله من علم، ولا حظ لضميره من حكمة، وإنما أتيح له حظ من قدرة على الاضطراب والصخب لم يتح لغيره من هذه الظلال، فهو ينأى عنها، ولا يستطيع أن يقطع ما بينه وبينها من الأسباب، وليس من شك في أنه يمتاز منها بعض الامتياز، ولكن ليس من شك في أن ما يراه لنفسه فنًّا، وما يحاول أن يلقيه إلى بعض من يتكثرون عندكم بالقول لا يعدو أن يكون كما يروى من قول مسيلمة الإنس: يا ضفدع بنت ضفدع، نقي ما تنقين أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين.
وهممت أن أتعجل صاحبي زيارة شياطين البيان، ولكن أراني في مكاني ذاك من الطريق إلى داري، وأسمع صاحبي زهيرًا يقول لي في صوته النحيل الذي جعل ينأى عني شيئًا فشيئًا: حسبك من ليلتك هذه ما رأيت، فإن راقتك صحبتي، وشاقتك زيارة شياطين البيان، فأنشد ما كان ينشد شاعر الأندلس وكاتبها وخطيبها ابن شهيد:
ثم أطرق صاحبي لحظة، ورفع إلي رأسه، وهو يقول في صوت هادئ منكسر: صدقني يا سيدي أو لا تصدقني فإن ذلك لا يغني عن الحق شيئًا، والحق الواقع الذي لا شك فيه هو أني قد رأيت وسمعت كل ما أحدثك به الآن.
قلت متضاحكًا: فلا تنشد هذا الشعر مرة أخرى وأنا معك، فإني لست في حاجة إلى أن أرى شيطانك الأندلسي. قال وهو يضحك ضحكًا فيه كثير من السخرية: لا بأس عليك، فقد أنسيت أن أنبئك بأنه زعم لي أنه لن يستجيب لإنشاد هذا الشعر إلا إذا كان هذا الإنشاد بعد أن يتقدم الليل.