بكائيةُ القارِ والعارِ
مهداة إلى الشاعر الصديق: محمد محمد الشهاوي
أيا فتنةً مزقَتْنا بوادي الشتاتِ،
وجرثومةً عربدتْ في هَيُولى الحياةِ،
ودمرت الكائنات،
وتفاحةً وسوستْ بالخيانةِ والغدرِ،
يا ثروةً أرضعتنا الشراهةَ والفقرَ،
يا قوةً دحرتنا إلى هُوَّة الوَهن،
يا شهوةً أرجعتنا إلى رتبة البَهم،
يا حيَّة المعجزات التي ابتلعَتْنا،
ويا شمعةً أُشعلتْ في ليالي هوانا،
وفي لعبةِ الطيشِ
قد أحرقت نفسها، أحرقَتْنا،
ويا نعمةً لوَّنت بالسوادِ القلوب الغريرة،
ويا نقمةً حسدتنا عليها النفوسُ الحقيرة،
لتَنْسَكبِ الآن فوقَ جبينِ الخليجِ سيولًا غزيرة،
لينسجمِ القارُ من حلماتِ السماءِ على أرضنا
غضَبًا، لعنةً، وسمومًا مريرة،
ليقْتَتِلِ الإخوةُ الفرقاء،
لتروِ الدماءُ رمالَ الجزيرة
نَخْبًا على شرفِ الأجنبي،
لترقصْ جموعُ المجانين جَذْلَى
بموتٍ مهينٍ، وعارٍ لعينٍ،
وذكرى انتحارٍ غبيٍّ.
•••
ويا سادةَ الحفلِ،
يا زعماء السكارى،
انثروا فوق لوثةِ هذي الرءُوسِ العطايا،
ألا هلِّلوا لنحيبِ الضحايا،
ألا باركوا زمجراتِ المراجم،
وحيُّوا هطولَ القنابل
فبين فحيحِ الصواريخِ تهوى الجماجم،
ألا صفقوا للدماءِ الرخيصةِ حين تراقُ
مزيجًا مثيرًا يُعرِّي هوى اللَّهْوِ فيكم؛
ففي «السِّرْك» ما يستبيكم،
ألا حرِّكوا كلَّ هذي الدُّمَى؛
فشِطْرَنْجُكم
رقعةُ الموتِ فيه بحجمِ المدى،
وهيا احشدوا في صياصي الرَّدى،
كلَّ هذي الجموع؛
فتلك المباراةُ تسليةٌ
تشعلون بها النفطَ نارًا غبَارًا دمارًا
وجائزة ووسامًا لمن سيُبيِدُ ومن سيَبِيدُ،
وسِيَّانَ كلُّ الوقودِ من الناسِ
أم من خيول المدى العربيِّ.
•••
وهَيَّا — بفرحتكم — أطلقوا في سماءِ القيامةِ بعضَ الحمام،
وأقواسَ نصرٍ، وأغصان زيتونة، وأكاليلَ غار
فحين تُسَوَّى بنا الأرضُ بعد انقشاعِ الغبار؛
يحلُّ الوئام،
ودوسوا على جثثِ القومِ نشوى،
وغنُّوا نشيدَ السلام؛
وسوفَ يردِّدهُ كلُّ حيٍّ كما البَبَّغاء،
وسوف يعمُّ بأرض الفناءِ الغناء،
ويَرْفل في طيلسِ الخُيلاءِ ضميرُ رعاةِ البقر،
وترتاحُ — في عالمٍ من هَناء —
جفونُ حماةِ الرذائل والقيمِ البربرية؛
فبعد انقضاء القرونِ
— وباسم الحضارةِ — تُسْتَنْزَفُ البشرية
وتُمْحَى رؤى الكونِ والأبجدية
بحربٍ صليبية
بل يهودية، بقناعٍ وباسْمٍ مُعَار،
تُحرِّرُ نفطَ البلاءِ المقدسِ،
أكذوبةً صَدَّقَتْها عقولُ البلاهةِ والانسياق المدنَّس.
•••
أيُّهذِي الجيادُ التي روَّضتها الأيادي الدنيئة،
وقادَتْ خُطاها إلى غابةِ الوحلِ بين نيوبِ الخطيئة
وسط الدجُنَّةِ نحو السقوطِ الرهيب،
ومستنقع النفط فخٌّ عجيب،
وقد زيَّنَتْه أيادي الحواة؛
فمن يمسح القارَ؟!
من يغسل العارَ
عن جسد الفرسِ العربي؟!
ومن يمسح الدَّم
والغِلُّ والثأر «يقلي» القلوب؟
فيا ليتَ غربانَ هذا الزمان تعلمنا؛
لنواريَ سوآتِنا
ونخبِّي — يا ورقَ التوتِ — عَوراتِنا،
فمأساة قومي
بطولِ التواريخِ والجسدِ المهترِئ
فوق عبابِ الخليجِ وبين رمالِ المحيطِ.
•••
وحجمُ المصيبة
حجمُ التمزُّق
حجم التشرذمِ والمهزلة؛
فقد أحرقَ الإخوةُ الجبناءُ قراهم،
واستغاثوا بسطوةِ هذا الحذاء الغشوم؛
ليطمس قدس ثراهم،
واستعاروا سموم الفرنجةِ؛
حتى تداوي دماهم.
•••
وقد حاصرتنا شياطينُ حِلْفِ الرَّدى والفتن،
وغُصْنا عميقًا بجوف المِحَن،
ولم نجنِ غيرَ الضياع،
وقد مزقتنا الضَّواري الجياع،
«فوائدُ قومٍ لئام مصائبنا، وجِراح القلوب العصِيَّة؛
وأضحوكةٌ نحن قُدامَهم؛ نحن شرُّ البليَّة.»
فمن يأخذُ النعمةَ النقمةَ الماردَ المتفجِّرَ
من تحتِ أرضٍ مقدسةٍ لوثَتْها يداه،
وعاثت فسادًا بها خطوات الطغاة؛
فلم نجنِ منه سوى
فتنةٍ تحتوينا،
سوى ردَّة تصطلينا،
ولم نجنِ منه سوى فُرقةٍ وعذاب مقيم؟!
•••
ومن يأخذُ الزيتَ حتى يعود لنا البيتُ
والأهلُ والخبزُ والملحُ،
حتى يعود لنا الشِّعْرُ والحلمُ
واحةَ حب وعشَّ سلام؟
•••
ومَن ذا يعيد لنا بلدًا آمنًا
يرزق اللهُ من فضلهِ أهلَهُ ثمراتِ القناعة؟
ومَن ذا يُعيدُ لنا وحدة الصف والقلب
في صلوات الجماعة؟