الدائرة الخبيثة
مدينةٌ
كثيرةُ الزوايا،
غريبةُ المرايا،
تلقي ظلالها كئيبةً على دَمي،
أُحِسُّني بها تشرد الغريب،
يحفُّني بها تنكُّرُ القريب،
وأصطلي نعيمَها،
وأرتوي حنانها الرهيب!
•••
وُلدتُ بعدما نجوتُ من ذراعِ أخطبوطها،
وحين حاولتْ وراثتي تفكُّ قيدَ بيئتي؛
ألفيتُني
مُحاصَرًا بحبِّها،
مُحاسَبًا بذنْبِها،
مُطالَبًا بثأرها
من أينَ تبدأُ الخيوطُ في ضبابِها؟!
وأين تنتهي النقوشُ في جلودِها؟!
وكيف تبرقُ الحياةُ في هُلامها؟!
•••
لقد تآمرَ الذئابُ يا حبيبتي،
وألبسوا مدينتي قناعَها الغريب،
وشوَّهُوا عيونَها،
ودنَّسوُا ترابَها،
وعكَّروا مياهَها،
وسمَّموا الحليب؛
فأصبحتْ شيطانةً تجاوزت قرونهُا السحاب،
وأنشبت نُيُوبَها في مرقد التراب،
ديمومة أنوائِها بالكونِ دائرة،
أرجوحة حبالها على الرقابِ دائرة،
طاحونة غليظة الرَّحَى،
تفتِّتُ المياهَ والحديد،
وتشعلُ الهواءَ والجليد،
تُزَاوجُ الجراحَ بالصديد،
وتفرزُ العداءَ والحروبَ والتمرُّدَ العنيد،
كيف النجاة يا حبيبتي؟!
وكيف مهربي معَك؟
وكيف أتَّقي جروحي؟
وكيف ألتقي برُوحي؟
فالجيفةُ التي تبعثرت وضمَّخت فَمَ المدينة
تغَلْغلَتْ في الكائناتِ كلِّها،
أخافُ أن ينالَنا وباؤُها
ونحن لا نزال برعمين،
نلعق النقاءَ والطهارة
والخيرَ والجمالَ والضياءَ والبراءة؛
فلا أمامنا سوى اعتصامِنا بحبِّنا.
•••
مسافرٌ إليك يا حبيبتي،
طريقيَ الحياة،
حصانيَ الثواني،
وزاديَ الأماني،
أدور راكضًا على الدوائر المفرَّغة،
«سيزيفُ» لم يزلْ مُبعثَرًا على السفوح والقمم،
معلَّقًا بين القنوطِ والألم،
وصخرتي — مدينتي —
دماؤها بداخلي،
ولم أزل سجينَ سُورِها العتيق،
عمري يقي كل ليلةٍ على غدي،
روحي تدوخُ حينما ترومُ معبدي،
أعود خائبَ المنى،
منكَّسَ الجبين،
حينما يَشُدُّني دَمي إليكِ،
هاربًا إلى طفولتي؛
فكيف أنتمي إلى أمومتي،
وثديُها بلا مذاق،
وحبُّها، لطفُها نفاق،
وِصالُها جميلُه الفراق،
حلالُها جميعُه الطلاق،
ضميرُها لنزوةٍ يُراق؟
•••
فأين أنت يا مدينتي؟!
وأين فيك بيتنا؟
•••
فعشُّنا الصغير ليس عشَّنا؛
البيتُ بيتُ ضيفِنا الثقيل،
أنِيسُنا صديقُنا اللدود،
لا أمنَ دونما حماه،
لا حبَّ دونما رضاه.
•••
حرِّيتي،
أوَّاه يا حريتي!
ظلَّانِ نحن في الفراغِ
دونما وطَن.
•••
طيرانِ هائمان،
طفلانِ في العراءِ دونما كفن.
•••
الحبُّ في مدينتي يُباع،
الحبُّ صارَ أبخس المتاع،
نبضُ القلوبِ صارَ عملةَ اللصوصِ والسماسرة،
والسوقُ سيطرت عليهِ قُوَّةُ الذئاب واليهود والجبابرة،
قد أوشكتْ أن تُلجمَ الأيام شرَّ الدائرة،
هبَّتْ رياحُ الآخرة،
تأخَّرَ اللاهون عن سفينة النجاة؛
فالويل للطغاة!
•••
لقد تعلَّقت مشانقُ القيامة،
أكادُ أسمعُ الصفيرَ في السماء،
وأبصرُ الورى يهرولون،
يصرخون يهربون من دمائِهم،
ويبتغون ثقبَ إبرةٍ؛ لينفذوا خلالهُ سُدًى
أكادُ ألمحُ المسيحَ هابطًا
ليقتلَ الذي طغى، وقال:
إنني الإلهُ خالقُ الفتن.
ليرحلِ الشقيُّ للجحيمِ بعدما خوى جرابُهُ،
وبعدما تنكَّرت له الفنون والحِيَل.
ليرحل الشقيُّ:
كافرًا،
وباطلًا،
وساخطًا على المدينة.