العلم والتكنولوجيا
في رحلة التفكير العلمي التي نتتبَّعها ها هنا بإيجاز عبر عصور التاريخ البشري لن نستطيع أن ننتقل إلى العصر الحاضر إلا إذا قدَّمنا إلى القارئ صفحات قليلة عن العلاقة بين العلم والتكنولوجيا طوال عصور المَعرفة البشرية؛ ذلك لأن التداخل بين هذين الضربين من النشاط هو في أساسه ظاهرة جديدة، يتميَّز بها عصرنا هذا بالذات عن غيره من العصور، بحيث لا نكون مُبالِغين إذا قلنا إنها هي السمة الأساسية المميِّزة للعلم في مرحلته الراهنة. ومن هنا كان لزامًا أن نُلقِي الضوء — في لمحة سريعة — على معنى التكنولوجيا وصِلَتها بالعلم منذ مراحله الأولى حتى عصرنا الحاضر.
إن لكلمة التكنولوجيا — عند كثير من الناس — رنينًا حديثًا يجعلهم يظنون أن العالَم لم يَعرف التكنولوجيا إلا في عصر قريب، وأن التكنولوجيا هي المخترعات الحديثة الراقية التي غيَّرت معالم الحياة البشرية في العصر الحديث وخاصةً في القرن العشرين، ولكن واقع الأمر هو أن الشيء الوحيد الحديث في هذا الموضوع كله هو اللفظ ذاته، أما الظاهرة نفسها فهي قديمة قدم الإنسان، ومن الخطأ أن نربط بين التكنولوجيا وبين المخترعات الحديثة؛ لأن هذه المخترعات لا تعدو أن تكون آخِر المراحل في تطور طويل بدأ منذ فجر الوعي البشري.
وأول معنًى يطرأ على ذهن الإنسان حين يُحاول تعريف التكنولوجيا هو معنى التطبيق العملي، فالحلم معرفة نظرية، والتكنولوجيا تطبيق لهذه المعرفة النظرية في مجال العمل البشري، ولكن على أي شيء يَنْصَبُّ التطبيق؟ إذا كنا نقصد أنه تطبيق للمعرفة العِلمية النظرية، فإن هذا بدوره معنًى حديث؛ إذ إن التكنولوجيا — كما سنرى — لم تكن مُرتكِزة على العلم طوال الجزء الأكبر من تاريخها، والأصح أن نقول: إنَّها تطبيقية بمعنى أنها تنتمي إلى الميدان العملي — ميدان الفعل وبذل الجهد — فهي شيء يرتبط باليد أكثر مما يَرتبِط بالمخ أو الرأس، وإن كانت الصلة بين اليد والرأس قد أصبحَت وثيقة كل الوثوق في عصرنا الحاضر.
والمعنى الثاني الذي تُثيره كلمة التكنولوجيا هو أنها وسيلة تُستخدَم في العمل البشري، فمنذ أقدم عصور التاريخ البشري كان الإنسان يستعين بأدواتٍ تُساعده في عمله، وهي أدوات تستحق اسم التكنولوجيا، فتهذيب قطعة من الحجر أو المعدن وربطها بقطعة خشبية من جذع شجرة واستخدامها فأسًا لقطع الأشجار أو لتقليب الأرض هو نوع من التكنولوجيا، واستخدام النار في الطهي أو في التدفئة أو في صهر المعادن كان كشفًا تكنولوجيًّا عظيم الأهمية بالنسبة إلى عصره، بل إنَّ أهميته بالنسبة إلى العصر البدائي الذي ظهر فيه، تَفُوق بكثير أهمية الطاقة الذرية بالنسبة إلى عصرنا الحاضر، واختراع العجلة لتيسير عملية نقل البضائع أو انتقال الأشخاص أو محاربة الأعداء، كان في عصره انقلابًا تكنولوجيًّا لا يقلُّ أهمية عن اختراع الطائرات في أيامنا هذه.
وإذن فكلُّ ما كان الإنسان يستعين به للقيام بأعماله — بالإضافة إلى أعضائه وقواه الجسمية — يَستحِق أن يُسمى تكنولوجيا. ولكن ما علاقة هذه الوسائل التي يُضيفها الإنسان إلى جسمه — لكي تساعده على إنجاز أعماله — بالجسم البشري ذاته؟ إنها قَطعًا امتداد له، ولكن بأي معنًى تُعدُّ امتدادًا للجسم؟ هل هي مناظِرَة لهذا الجسم أم مُكمِّلة له؟ لا جدال في أن الوسائل التي يستعين بها الإنسان في أداء عمله تُكمل ما لديه من قدرات؛ فالفأس لا تماثل اليد أو الذراع البشرية، ولكنها تُكملها وتُساعدها على أداء عملها بمزيد من الكفاءة. والعجلة بعيدة كل البُعد في شكلها وطابعها العام عن أرجل الإنسان، ولكنها تحلُّ محل هذه الأرجل في الانتقال من مكانٍ إلى آخر، وتحقق هذا الهدف بمزيد من الفعالية. والنار لا نظير لها عند الإنسان أصلًا، ولكنها بدورها تُعِين الإنسان على أداء أعمال يَعجز عن أدائها بقواه الجسمية وحدها. وهكذا نصل إلى عنصر آخر في معنى التكنولوجيا؛ هو أنها الوسائل التي يستعين بها الإنسان لتكملة ما ينقصه من القوى والقدرات.
وما دمنا قد تحدثنا عن تكملة النقص في قدرات الإنسان، فمن الواجب أن نُنبِّه إلى أن هذا النقص يتغير في طبيعته ومداه تبعًا لظروف كل عصر. ومعنى ذلك أن العامل الاجتماعي له دور في تحديد مستوى التكنولوجيا المطلوبة، وأوضَحُ دليل على ذلك أنه في العصور التي لم تكن فيها الآلات الميكانيكية ضرورية — نظرًا إلى وجود قوة عمل العبيد أو الأرقَّاء الذين كانوا يقومون بدور «الآلات البشرية» — لم تَظهر تكنولوجيا الآلات، مع أن المعرفة العِلمية في ذلك العصر كانت قادرةً على توصيل الإنسان إلى صُنعِ بعض أنواع الآلات على الأقل؛ فأرشميدس — العالِم اليوناني المشهور — قد صنَع بعض أنواع الآلات التي تسير بطريقة أوتوماتيكية، ولكنه كان يُعاملها على أنها «لعب» يلهو بها الإنسان، بل كان يخجل من الإشارة إليها في أبحاثه؛ لأنَّ ظروف المجتمع في العصر الذي كان يعيش فيه لم تكن تتطلَّب وجود آلات. وهكذا فإنه مع معرفته بطريقة إنتاج الآلات لم يُحاول أن يستعين بها في ميدان العمل البشري الجاد. وفي العصر الذي احتاج فيه المجتمع إلى الآلة في ميدان العمل، ظهَرت الآلة بالفعل، وإذا كان القارئ يجد صعوبة في الاقتناع بهذه الحقيقة، أو يجد الموضوع معقَّدًا إلى درجة يصعب على العقل استيعابها، فليتذكَّر أن هناك مثلًا بسيطًا نستخدمه كلنا في لغتنا العربية، وأعني به: «الحاجة أم الاختراع.» وهذا المثل يتضمَّن كل ما قلناه من قبل في هذا الموضوع؛ فهو يدلُّ في عبارة موجزة على أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين مستوى التكنولوجيا في أي عصر وبين حاجات المجتمع، وعلى أن الاختراع لا يظهر إلا إذا كانت الظروف الاجتماعية مهيَّأة لظهوره؛ أي إنه يُعبر عن العنصر الرابع والأخير في معنى التكنولوجيا؛ أي البُعد الاجتماعي، وأعني به أن التكنولوجيا تظهر لكي تسدَّ نقصًا يشعر به المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره.
وما دُمنا قد تحدثنا عن وجود صِلة وثيقة بين مستوى التكنولوجيا في أي عصر وحاجات المجتمع في ذلك العصر، فمن واجبنا أن نتساءل: هل يُعد العلم واحدًا من العوامل التي تُحدِّد حاجات المجتمع؟ إن المجتمع قد يحتاج إلى اختراع تكنولوجي معيَّن لكي يحلَّ مشكلة تتعلق بالزراعة أو بحرفة يدوية أو بالصناعة، ولكن هل يدخل العلم دائمًا ضمن العناصر التي تتحكَّم في تحديد هذه المشكلة، وفي توجيه التكنولوجيا إلى حلِّها؟ وبعبارة أوضح: هل كان العلم مرتبطًا بالتكنولوجيا في جميع عصورها؟
إن أبسط نظرة يلقيها المرء على التطور التكنولوجي للإنسان عبر العصور المختلفة تُقنعه بأن الاتصال الوثيق بين العلم والتكنولوجيا ظاهرة حديثة العهد، وإذا كنا قد ذكرنا من قبل أن التكنولوجيا ظاهرة موغلة في القدم، وأنها تمتدُّ بقدر ما يمتد تاريخ الإنسان، فينبغي أن ندرك أنها كانت طوال الجزء الأكبر من هذا التاريخ تسير على نحو مستقل عن العلم، وتتطور دون أن تكون معتمدة عليه.
ويَنطبق ذلك أيضًا على العصر اليوناني القديم الذي طُوِّرت فيه التكنولوجيا في بعض الميادين، ولكنها ظلَّت منفصلة عن العلم. بل إن هذا الانفصال قد ازداد حدةً نظرًا إلى ذلك الفهم الخاص للعلم الذي ذكرنا من قبل أن اليونانيِّين كانوا يتمسَّكون به، وهو أن العلم جهد نظري يستهدف إرضاء حب الاستطلاع لدى العقل الإنساني، ولا يتجه إلى تحقيق أيَّة أغراض عملية. وبالمثل فإن العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية — بل وأوائل العصر الحديث — قد شهدت كشوفًا تكنولوجية هامة لم تكن مبنيَّة على أساس عِلمي، فاختراع البارود الذي كان له تأثير حاسم في الحروب، والطباعة التي غيَّرت مجرى العلم والثقافة، والعدسات المُكبِّرة والمقرِّبة التي كشفت للإنسان أبعاد الكون الشاسع وتفاصيل الحياة الدقيقة؛ كلُّ هذه الكشوف تمَّت على أيدي صُنَّاع مهَرة، لا يَسترشِدون في عملهم بنظرية علمية، بل يستعينون بما توارَثُوه من خبرات، وبما يُضيفونه إليها باجتهادهم وحدسهم الشخصي، وبما يَستشعرونه من حاجة المجتمع الملحَّة إلى هذه الاختراعات.
ولو شئنا الدقة لقلنا: إنَّ التكنولوجيا هي التي كانت تؤثر في العلم طوال هذه الفترة، فكل مرحلة هامة من مراحل الكشف كان يسبقها تقدم تكنولوجي يمهد لها الطريق. وصحيح أن هذا التقدم التكنولوجي لم يحدث لأسباب متعلقة بالعلم، وأن الصناع الذين حقَّقوه لم تكن في أذهانهم أدنى فكرة عما يمكن أن يترتب على عملهم من تأثير علمي لاحِق، ولكن العلماء كانوا يتأثرون — عن وعي أو بغير وعي — بالكشوف التكنولوجية، ويتخذون منها منطلقًا لأبحاثهم النظرية، والدليل على ذلك أن العلم اليوناني — كما ذكرنا من قبل — يَدين بالكثير لتلك الخبرات التكنولوجية التي تراكمت لدى الحضارات الشرقية القديمة، والتي أعطت العالم النظري حافزًا قويًّا للتأمل والتفكير، ولولا هذا التراكم الضخم من المعارف العملية لما استطاع العلم اليوناني النظري أن يُحقِّق إنجازاته هذه في تلك الفترة الوجيزة. ومثل هذا يُمكن أن يقال عن الفترة التي بدأ فيها ظهور العلم الأوروبي الحديث في عصر النهضة؛ إذ إنَّ العصور الوسطى الأوروبية لم تكن فترة خاملة من الوجهة التكنولوجية، بل ظهرت فيها مجموعة من الاختراعات ذات الأهمية الحاسمة التي كان لها دور كبير في الانبثاق المفاجئ والتقدُّم المتلاحق للعلم الأوروبي خلال فترة وجيزة.
فمِن المؤكد مثلًا أن تطوير الساعة بحيث تُصبح جهازًا ميكانيكيًّا (بدلًا من الساعة الرملية أو الشمسية أو المائية) يدلُّ على الوقت بدقة، كان له دور كبير في علوم كثيرة يستحيل إجراء ملاحظاتها أو تجاربها إلا باستخدام توقيت دقيق، كذلك فإن طواحين الهواء والماء — التي أحرَزت تقدُّمًا ملحوظًا في العصور الوسطى — قد ساعَدت على ظهور علم الميكانيكا الذي كان أهم العلوم وأدقها في المرحلة الأولى من تاريخ العلم الحديث. أما كشف العدسات فقد كان تأثيره العلمي حاسمًا؛ إذ إنَّ التلسكوب الذي استخدمه جاليليو كان أداة عظيمة الأهمية في أبحاثه العلمية النظرية في ميدان الفلك والطبيعة، وبالمثل فإن ظهور الميكروسكوب الذي تمَّ على أيدي صُناع بارعين في صقل العدسات — لم تكن لديهم خبرة علمية كافية — قد ساعَد علماء آخرين على كشف عالم الأحياء الصغيرة الدقيقة، بحيث يُمكن القول دون مبالغة إن ظهور علم الأحياء بوصفِه دراسة ذات منهج علمي راسخ يرجع إلى هذا الكشف التكنولوجي قبل كل شيء.
وإذن فطوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية لم تكن التكنولوجيا تدين للعلم بشيء، بل كان العلم هو المدين لها بالكثير، حتى في تلك الفترات التي كان يُتصوَّر فيها أنه علم نظري خالص منبثق عن العقل وحده. ويُمكن القول: إن هذا الوضع قد استمرَّ حتى عصر الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، بل ظلَّ قائمًا في مجالات معيَّنة طوال جزء كبير من القرن التاسع عشر.
ولكنَّ شيئًا جديدًا كان قد بدأ يظهر في هذا المجال منذ بداية العصر الحديث في العلم الأوروبي، أعني منذ القرن السادس عشر أو السابع عشر، ولم يأتِ هذا الشيء الجديد بنتائج واضحة في البداية، ولكنه كان نقطة البدء في تطوُّر أصبح له في عصرنا الحاضر أهمية عظمى في حياة الإنسان، هذا الشيء الجديد هو التفكير في استخدام العلم للأغراض التكنولوجية، بحيث لا تُترَك الكشوف التكنولوجية لبراعة الشخصية أو تدريبه الفعال، وإنما تَعتمد على نظرية علمية مؤكَّدة. ولقد ذكرنا من قبل أن الفيلسوف الإنجليزي «فرانسيس بيكون» كان رائدًا في هذا الميدان، دعا إلى نَوع جديد من العلم، لا يكون هدفه إرضاء الطموح النظري للعقل البشري، بل يكون هدفُه تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة، وتسخير قواها لخدمتِه وإسعاد حياته. وصحيح أن دعوة بيكون هذه — التي ظهرت في أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر — لم تؤتِ ثمارها كاملة إلا بعد قرنين أو أكثر من وفاته، ولكنها نقطة الانطلاق نحو عصر جديد، ونحو فهمٍ جديد لوظيفة العلم وعلاقته بالتكنولوجيا.
ولكن الأمر الذي يَنبغي تأكيده هو أن المسألة لم تكن مجرَّد عبقرية شخصية من بيكون — وإن كان لهذا العنصر أهميته التي لا تُنكَر — بل إن بيكون كان يعيش في جو جديد استطاع أن يكتشف فيه اتجاهات المستقبل قبل أن تظهر معالِمُها بوضوح، وأن يتخذ من الدعوة إليها رسالة لحياته الفكرية. وكان هذا الجو هو انهيار الإقطاع في أوروبا، وظهور مجتمع تجاري ثم رأسمالي له احتياجات تكنولوجية هائلة تَعجز عن الوفاء بها أساليب الصناع القديمة مهما كانت براعتهم، وهكذا كان من الضروري أن يدعو بيكون إلى إعطاء التقدم التكنولوجي دفعة قوية إلى الأمام عن طريق ربطِه بالبحث العلمي، ولم يكن من الممكن أن تظهر ثمار هذه الدعوة دفعة واحدة، بل كانت في حاجة إلى فترة تمهيدية تتراكم فيها المعرفة العلمية، وتقترب فيها من مجال التطبيق التكنولوجي بالتدريج، ولكن المرء حين يتأمل جيدًا دلالة دعوة بيكون هذه — الذي أطلق عليه البعض عن حقٍّ لقب «فيلسوف الثورة الصناعية» قبل ظهور هذه الثورة بمائتي عام — وكذلك اتجاه الأبحاث التي كانت تتولاها الجمعية الملَكية في لندن؛ سيقتنع بأن ظهور الثورة الصناعية في إنجلترا بالذات وريادتها للعالم في الميدان الصناعي حتى أواسط القرن التاسع عشر لم يكن على الإطلاق من قبيل المصادفات.
وعلى يد هؤلاء المهندسين حدثت في عصر الثورة الصناعية تلك التحولات الكبرى التي غيَّرت وجه العالم الحديث؛ فحلَّت الطاقة البخارية محلَّ الطاقة المائية أو طاقة الحيوانات (الخيل مثلًا)، واستُخْدِم الفحم وقودًا للمصانع على نطاق واسع، وأصبحت عمليات الغزل والنسيج تتم في مصانع ضخمة لا في ورش فردية صغيرة، وبدأت الإنسانية تجني ثمار الجمع بين العلم والخبرة العملية التطبيقية.
ومنذ ذلك الحين أخذ ذلك الاتجاه إلى الجمع بين العلم والتكنولوجيا يزداد قوة بالتدريج، بعد أن ظهرت فائدته العملية بوضوح قاطع؛ إذ إنَّ التطور الذي كان يستغرق مئات السنين على أيدي صناع مهرة أصبح يستغرق سنوات قليلة عندما يتدخل فيه العلم ويحلُّ محلَّ الخبرات المتوارثة التي لا تتجدَّد إلا ببطء شديد، واكتسب الإنتاج في مختلف الميادين قوة دافعة هائلة بفضل الاتحاد الذي ازداد وثوقًا بين النظريات الأساسية وتطبيقاتها العمَلية. بل لقد أصبح ميدانا العلم والتكنولوجيا يستخدمان أساليب مشتركة ولغة واحدة، وظهر نوع جديد من البحث العلمي أخذ يَكتسب أهمية متزايدة، ويحتلُّ موقعًا وسطًا بين العلم النظري والصناعة هو «البحث التطبيقي» الذي يأخذ على عاتقه مهمة تحويل الكشوف النظرية الجديدة إلى مشروعات قابلة للتطبيق عمليًّا. وليس معنى هذا أن البحوث «الأساسية» — أعني تلك البحوث التي تُكوِّن الأساس النظري للتقدُّم العلمي، وتزوِّد العلماء بفهم جديد لقوانين الطبيعة — لم تَعُد لها أهمية؛ إذ إنَّ أحدًا لا ينكر أن هذه البحوث هي دعامة كل تقدم علمي حقيقي — بل كل تقدم تكنولوجي — في أي مجتمع، ولكن المهم في الأمر أن نسبة الأبحاث التطبيقية إلى مجموع الأبحاث العلمية أخذت تزداد باطِّراد.
ومن المؤكَّد أن طول أو قصر المدة الزمنية التي يحتاج إليها الانتقال من الأساس النظري لكَشف معيَّن إلى ظهور الاختراع الفعلي، يتوقَّف على عوامل متعدِّدة من بينها مدى الحاجة الاجتماعية إلى هذا الاختراع، ومقدار الوقت والجهد والمال الذي يُبْذَل من أجل التوصُّل إليه؛ فمشروع إنتاج القُنبلة الذرية — مثلًا — كان مشروعًا حيويًّا خلال فترة حربٍ قاسية، بل كان مسألة حياة أو موت، وكان يُمثِّل سباقًا رهيبًا مع الزمن حتى لا يَظهر هذا السلاح الفتاك عند النازيين فيُصبِح أداةً لتحقيق أحلام دكتاتور مجنون مثل هتلر، ومن هنا كُرِّسَت له موارد أغنى دول العالم، وأُعْطِيَت له أولوية مطلقة على ما عداه من المشروعات، وتفرَّغ له أعظم علماء الطبيعة في القرن العشرين، ولكن من الصحيح — رغم هذا كله — أن الشُّقة تضيق تدريجيًّا بين العلم النظري والتكنولوجيا التطبيقية كلما اقتربنا من العصر الحاضر.
بل إنَّ المشكلة في أيامنا هذه قد أصبحت — في بعض الأحيان — هي مشكلة التسرُّع في التطبيق التكنولوجي قبل القيام بأبحاث عِلمية كافية. وقد ذاعت في العالم — في السنوات الأخيرة — فضيحة العقاقير الطبية التي أُنْتِجَت على نطاقٍ تجاري قبل أن تمر مدة كافية لإجراء التجارب والبحوث التي تكشف عن أضرارها في المدى الطويل، وكان من نتيجة هذا التسرُّع في الإنتاج ولادة مئات من الأطفال المشوَّهين، أو عدد كبير من التوائم غير المرغوب فيهم، ومثل هذا يَنطبِق على كثير من مبيدات الآفات الزراعية التي تبيَّن وجود أضرار جانبية خطيرة لها.
وعلى أية حال، فإن ما يُهمُّنا من هذا كله هو أن العصر الحالي يشهد تداخلًا وثيقًا بين العلم والتكنولوجيا، زالت معه الحواجز الزمنية التي كانت تَفصِل بينهما في القرن الماضي، وظهَرت في ظله أنواع جديدة من البحوث العلمية التي تَجمع بين الأسس النظرية والجوانب التطبيقية في آنٍ واحد. ونتيجة هذا هي أن العلم أصبح هو الأساس المؤكَّد لكل تحوُّل تكنولوجي، وأن ما يقوم به الصانع المُخترع أصبح يقوم به الآن عالم تطبيقي متخصِّص.
ولا شك أن التأثير الذي يسير في الاتجاه المضاد له بدوره أهميته الحاسمة: فكما أصبحت التكنولوجيا في عصرنا الحاضر متقدِّمة إلى حدٍّ مُذهل بفضل ارتكازها على أساس من البحث العلمي، فكذلك أحرز العلم قدرًا كبيرًا من نجاحه السريع بفضل مساندة التكنولوجيا؛ إذ إن التكنولوجيا هي التي تُعطيه أجهزة أدق وأدوات أفضل للبحث وطرُقًا أكثر فعالية لاختزان المعلومات واستعادتها بسرعة فائقة، وبالاختصار فإن هذا الامتزاج والتأثير المُتبادَل بين العلم والتكنولوجيا هو المصدر الأول لقوة الإنسان المعاصر.
- (١)
فهناك رأي مُتشائم عرضه بعض المفكرين، وخاصةً أولئك الذين تغلب عندهم النزعة الأدبية، يذهبون فيه إلى أن هذا التزاوج بين العلم والتكنولوجيا سيَخلُق آلات ذات قدرات تزداد تعاظمًا على الدوام، حتى يأتي الوقت الذي يُفلت فيه زمامها من يد الإنسان فتَنقلِب عليه وربما قضت عليه أو جعلته عبدًا لها. ويُبالغ نفر من هؤلاء المُفكِّرين في تشاؤمهم فيتصوَّرون مجيء يوم تكتسب فيه تلك الآلات التي يَخلُقها الإنسان نوعًا من الوعي بذاتها، وحين تَشعُر بقدرتها التي تفوق بكثير قدرة الإنسان الذي أبدعها؛ تُدرك أن الإنسان كائن يُمكن الاستغناء عنه، وتُحقِّق هذا الهدف بالفعل، ويسود عهد الآلة الصمَّاء التي تحكم العالم بقوة «الحديد والنار» بالمعنى الحقيقي لهذا التعبير المشهور.
- (٢)
وهناك رأي آخر يتطرف في الاتجاه المضاد، فيذهب إلى أن الآلة هي التي ستُحرِّر الإنسان من كل أشكال العبودية، وتأخذ بيده في طريق المستقبل الذي يحلم به. وأصحاب هذا الرأي يتصوَّرون أن تقدُّم التكنولوجيا هو — في ذاته — ضمان ضد كل أنواع القهر، سواء أكان ذلك هو قهر الطبيعة للإنسان، أم قهر الإنسان للإنسان. وهكذا يدعو هؤلاء المتفائلون إلى إطلاق العِنان للتقدُّم التكنولوجي بلا قيود، ويرون في التطور الذاتي التلقائي للآلة مبشرًا بعهد جديد يحقق للإنسان الوفرة ويعفيه من كل جهد.
- (٣)
أما الرأي الثالث فيُخالف الرأيين السابقين في تأكيدِه أن الآلات — مهما ارتقَت — إنما هي أداة طيِّعة في خدمة الإنسان، وستظلُّ كذلك على الدوام، وأصحابه يعيبون على المتشائمين والمتفائلين من تجاهُلهم لدور الإنسان في توجيه مسار التكنولوجيا، وإنكارهم لذلك البُعد الاجتماعي الذي يتحكَّم في طريقة استخدام الإنسان للآلة، سواء لمصلحته أو ضد مصلحته؛ فالتكنولوجيا المنبثقة عن العلم والمتداخلة معه هي — قبل كل شيء — ناتج إنساني اجتماعي، ولن يُصبح لها ذلك الاستقلال الذاتي المزعوم إلا في ضوء نظرة خيالية مُغرقة في التشاؤم أو التفاؤل، لا تُقيم وزنًا لتأثير المجتمع في نوع الإنجازات العِلمية التي تحقِّق فيه، ولا تُدرك أن العلم والتكنولوجيا إنما هما حصيلة جهد مجتمع كامل وثمرة معارفه وأنشطته كلها، وأنَّ نوع المجتمع الذي يظهر فيه العلم هو الذي يحدد ما إذا كان هذا العلم سيسير في اتجاه عدواني أم في اتجاه يَستهدِف إسعاد الإنسان.
وغني عن البيان أن الرأي الثالث هو الذي يُعدُّ — في نظرنا — تعبيرًا عن الوضع الحقيقي للتكنولوجيا في العالم المعاصر، وفي ضوء هذا الرأي يستطيع المرء أن يَنقُد الرأيين السابقين بسهولة.
ولنبدأ أولًا بالرأي المُتشائم؛ فقد يبدو للوهلة الأولى أنَّ القائلين بهذا الرأي هم من السذج أو ضعاف النفوس الذين يَرتعدون خوفًا من تقدم التكنولوجيا الحديثة، ولكن الحقيقة على خلاف ذلك؛ فهم في الواقع يمتدون بخيالهم إلى المستقبل الذي يستشفُّون معالمه من خلال تلك البوادر التي بدأت تظهر في الحاضر، وهم يؤمنون بأن العقل البشري الذي انتقل في مائة سنة من الآلات الحديدية الضخمة القبيحة ذات الفعالية المحدودة إلى العقول الإلكترونية الصغيرة عظيمة الكفاءة، قادر على أن يصل بالآلة — بعد مائة سنة أخرى مثلًا — إلى مستوًى قد يُصبِح مهدَّدًا بالفعل، وإذا كان في تفكيرهم ضعفٌ فهو لا ينصبُّ على تصورهم لمستقبل التكنولوجيا بل على تصوُّرهم لعلاقة هذه التكنولوجيا شديدة التقدم بالإنسان.
ذلك لأن هؤلاء المتشائمين يَنظرون إلى التكنولوجيا بوصفها قوة لها استقلالها الذاتي وتطورها الخاص الذي يسير في طريقه غير عابئ بالإنسان، ومن هنا يَشيع بينهم الخوف من أن يأتي وقتٌ تستولي فيه الآلات — بعد أن يزداد تطوُّرها وتَشعُر بقدرتها الفائقة — على العالم وتُبيد الإنسان على أساس أنه كائن لم يَعُد له داعٍ، بحيث تسود العالم أجهزة باردة جامدة لا تعرف العواطف أو المشاعر. أي إنَّ وجهة نظرهم هي أن ذلك الجهد الهائل الذي ظلَّ الإنسان يبذله طوال تاريخه لكي يُحقِّق سيطرته على الطبيعة، سوف يَصِل إلى الحد الذي ينقلب فيه على الإنسان؛ بحيث يُصبِح الإنسان ذاته عبدًا للقوى التي أطلقها على أمل أن يَستعبِد بها الطبيعة، وكأن الطبيعة هنا تَنتقِم لنفسها من قهر الإنسان لها طوال عصره الحديث، وهذا الاتجاه الفكري الذي يَسير فيه هؤلاء المُتشائمون ينطوي كله على الاعتقاد أو على الافتراض الضِّمني القائل أن هذه الآلات تحكم نفسها بنفسها، وتسير تلقائيًّا في طريقها الخاص، وهو اعتقاد يتجاهَل البُعد الإنساني في التكنولوجيا، ويتأمل التطور التكنولوجي بنظرة أحادية الجانب.
وحين يُبدي هؤلاء المتشائمون جزعهم من أن يأتي اليوم الذي تَستعبِد فيه الآلة مبدعها — وهو الإنسان — فإنه وهكذا فإن التحليل في الواقع يُعبِّرون — دون أن يشعروا — عن نظرة متشائمة إلى طبيعة الإنسان نفسه؛ ذلك لأنهم يُسْقِطون وحشية الإنسان وهمجيته وعدوانيته على الآلة التي هي بطبيعتها سلبية محايدة، والتي لا تفعل إلا ما نأمُرُها به، وقد يكون هذا الإسقاط تعبيرًا عن ضمير مثقل بالشرور والذنوب، وقد يكون محاولةً للتهرُّب من مسئوليتنا عن الفوضى التي نُشيعها في العالم نتيجة لإخفاق نُظُمنا الاجتماعية الفاسدة، بحيث نُلقي باللائمة على الآلة بدلًا من أن نلوم أنفسنا. وأيًّا كان الأمر، فنحن في كل حالة نُبْدِي فيها تشاؤمًا بمُستقبل الإنسان وطريقة توجيهه لمجتمعه، نتستر على عيوب نظمنا الاجتماعية باتهام العلم والتكنولوجيا، مع أنهما بريئان من كلِّ ما نَدينهما به.
الحقيقة لموقف هؤلاء المتشائمين ليس هو أن الإنسان سيُصبح عبدًا للتكنولوجيا التي اخترَعها، بل إن التكنولوجيا ستُصبح شيئًا مخيفًا؛ لأنها ستكون عبدًا خاضعًا لإنسانٍ تسودُ العدوانية سلوكه.
ولسنا في حاجة إلى التوقف طويلًا عند رأي المتفائلين؛ إذ إن هذا الرأي — بقدر ما يعتمد على «التطور الذاتي للتكنولوجيا» من أجل حلِّ جميع مشكلات الإنسان — ليس إلا الوجه الآخر للعملة بالنسبة إلى الرأي المتشائم، وكل ما قلناه من قبل في نقد هذا الرأي الأخير ينطبق عليه، ولكن من الجانب المضاد بطبيعة الحال؛ فليس من حقِّنا أن نُغرق في التفاؤل إلى حدِّ الاعتقاد بأن الآلة قادرة على تحقيق السعادة للبشر، أو تخليصه من الشقاء والمعاناة «بجهودها الخاصة» أو «بتطورها التلقائي»؛ إذ إنَّنا بذلك نُعفي أنفسنا من مسئولية إصلاح أوضاعنا، ونُلقي بهذه المسئولية على الآلة، مع أن الإنسان وحده هو القادر على حل المشكلات التي أوقَع نفسه فيها، مستعينًا في ذلك — طبعًا — بالتقدم التكنولوجي.