الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر
(١) العلم والمجتمع
ليس العلم ظاهرة مُنعزلة، تنمو بقدرتها الذاتية وتسير بقوة دفعها الخاصة وتخضَع لمنطقها الداخلي البحت، بل إنَّ تفاعل العلم مع المجتمع حقيقة لا ينكرها أحد؛ فحتى أشدُّ مؤرِّخي العلم ميلًا إلى التفسير «الفردي» لتطور العلم، لا يستطيعون أن يُنكروا وجود تأثير متبادَل بين العلم وبين أوضاع المجتمع الذي يظهر فيه، حتى ليكاد يصحُّ القول بأن كل مجتمع يَنال من العلم بقدر ما يريد. ولا شك أن العرض الموجز الذي قدمناه من قبل للمراحل الرئيسية لتطور العلم وللنمو التدريجي لمعناه ومفهومه، يتضمَّن أدلةً وشَواهدَ مُتعدِّدة على الارتباط الوثيق بين حالة العلم في أي عصر وبين أهم العناصر في الحياة الاجتماعية لذلك العصر؛ بحيث يُكوِّن العلم جزءًا من كل، ويُكوِّن وجهًا واحدًا لحياة متكاملة يحياها المجتمع.
فالتاريخ يقدم أمثلة كثيرة تُثبت أن المجتمع يُحدد — بقدر معقول من الدقة — نوع العلم الذي يحتاج إليه، وهذا لا يَتنافى على الإطلاق مع تأكيد أهمية العبقرية الفردية للعالَم، ودوره الأساسي في الكشف العلمي، فلا أحدَ يَزعم أن العالم مجرَّد «أداة» يستعين بها المجتمع لتلبية حاجاته، أو أن الكشوف العِلمية يمكن أن تتمَّ على أيدي أناس لم تتوافَر لهم عبقرية كبيرة، ما دامت تظهر في المجتمع المناسب وفي الوقت المناسب. بل إنَّ هذه أحكام باطلة تبخَس العالم الكبير حقَّه، وتُصوِّره كما لو كان وسيلة في أيدي قوة غيبية تتحكَّم فيه تحكمًا تامًّا، حتى لو كان المرء يُطلِق على هذه القوة الغيبية اسمًا يبدو في ظاهره علميًّا، هو «حاجة المجتمع».
وحقيقة الأمر هي أن الكشف العلمي يحتاج إلى تضافُر العامِلَين معًا؛ حاجة اجتماعية وعبقرية ذهنية، وكلُّ ما في الأمر أنه عندما تتوافَر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب ظهور العبقرية الذهنية؛ ذلك لأنَّ أفراد البشرية — الذين يُعدُّون بالملايين — لا يَخلُون في كل عصر من عباقرة، ولكن المُهم أن يأتي العبقري في وقتِه، وأن يُلبِّي حاجات عمره، ومِن المؤكَّد أن هناك حالاتٍ ظهر فيها عباقرة في غير أوانهم؛ أعني في وقت لم يكن المجتمع فيه مهيَّأً لقَبول كشوفهم، فكانت النتيجة أنْ لمعت عبقريتُهم فجأة ثم انطفأت فجأة كالشهاب البارق، دون أن يَترُكوا وراءهم تأثيرًا باقيًا. وهذه ظاهرة ضربنا لها من قبل مثلًا واضحًا؛ هو تلك الآلات التي اخترَعها العالم اليوناني المشهور «أرشميدس»، ولكنه خَجِل من إظهارها على الملأ، ونظر إليها كما لو كانت «لعبًا» للتسلية. ولو كان هذا العبقري يعيش في عصرنا الحديث لأدرَك على التوِّ أهمية هذا التنظيم الميكانيكي لعناصر الطبيعة في ميدان التطبيق العملي، ولتَوصَّل إلى ضرورة استخدام مبدأ الآلية من أجل توفير جهد الإنسان ووقته، ولكنه كان يعيش في عصرٍ تُوجد فيه «آلات آدمية» — هم العبيد — فما الداعي إلى التفكير في آلات طبيعية مادية؟
وفي الميدان النظري البحت، نستطيع أن نَضرب مثلًا آخر يَنتمي إلى صميم عالَمنا العربي، وهو حالة ابن خلدون؛ فهذا العالم العبقري قد توصَّل — في «مقدمته» المشهورة — إلى المقومات الرئيسية للدراسة العلمية للمجتمع البشري؛ أي لعلم الاجتماع (الذي أسماه «علم العمران»)، وكثير من آرائه قد تردَّدت — فيما بعد — بطريقة تكاد تَتشابه حتى في التفاصيل عند أولئك الذين اعتبرهم الأوروبيون روَّادًا لعلم الاجتماع، ولكن الكشف الرائع الذي توصَّلَ إليه ابن خلدون لم يجد مجتمعًا يستجيب له؛ فلم يَظهر في مجتمعه من يُنبِّه إلى أهميته، ولم يتابع آراءه وتعاليمه تلاميذُ يُكمِلون رسالته، ولم تستمر حركة العلم الجديد الذي توصَّل إليه في مسيرتها، بل توقَّف كلُّ شيء، وظهرت عبقريته كما لو كانت شعلة ساطعة انطفأت بسرعة، ولم يتنبَّه إليه الناس إلا عند «إعادة اكتشافه» بعد عصره بقرون عديدة، كل ذلك لأن الفترة التي ظهر فيها ابن خلدون والتي أعقبت ظهوره كانت فترة بداية الانهيار في الحضارة الإسلامية، وبداية عهد الغزوات الأجنبية وما ترتب عليها من انحلال داخلي فيها.
وما هذه إلا أمثلة نودُّ أن نثبت بها أن الكشوف العلمية المستقرة في أي عصر هي حصيلة التفاعل بين عاملَين؛ بيئة اجتماعية مهيَّأة لها، وعبقرية فردية تظهر في الوقت المناسب. والفارق الوحيد في تأثير هذَين العاملين يرجع إلى أن أحدهما جماعي والآخر فردي؛ فحين تتوافَر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب على المُجتمع أن يُفرز — من بين الملايين من أفراده — العبقرية القادرة على تلبية هذه الحاجة. أما حين تتوافَر العبقرية الفردية وحدها دون أن تتهيأ الظروف الاجتماعية المواتية، فإن التاريخ قد يطويها في زوايا النسيان، أو قد يقول عنها — إذا أراد إنصافها — إنها عبقرية ظهرت في غير أوانها.
(٢) الوضع الاجتماعي للعلم المعاصر
في ضوء التمهيد السابق، يستطيع القارئ أن يستنتج أن البحث في الوضع الاجتماعي للعلم المعاصر ينبغي أن يسير في كلا الاتجاهين؛ فليس يكفي أن نشير إلى أهمية العلم في مجتمعنا الحالي — بما فيه من سمات مميزة — في تحديد معالم العلم المُعاصِر وإعطائه طابعه الذي أصبح مألوفًا لدينا.
إنَّ العلم قد اكتسب — منذ أوائل القرن العشرين — أهمية تفوق أهمية أي إنجاز آخر طوال تاريخ البشرية؛ فصحيح أن الإنسانية تَفخر — عن حقٍّ — بفلسفاتها وآدابها وفنونها، وتَعترف بما تدين به لهذه الإنجازات من فضل في تشكيل عقل الإنسان وروحه، ولكن المكانة التي اكتسبها العلم في هذا القرن، والتأثير الذي استطاع أن يمارسه في حياة البشر (بغضِّ النظر عن كون هذا التأثير إيجابيًّا أم سلبيًّا، فهذه مسألة سنَعرض لها فيما بعد) يجعل العلم بغير شك هو الحقيقة الكبرى في عصرنا الحاضر، ومن ثم في كلِّ العصور. ولا يَعني هذا أننا لا نفخر بمذاهبنا الفكرية أو أعمالنا الأدبية والفنية، ولكنه يعني أن فخرنا بالعلم أعظم، وأن التغير الذي أدخله العلم على حياتنا أقوى من أي تغيُّر لحقها بفضل أي إنجاز آخر.
والأهمُّ من ذلك — بالنسبة إلى مكانة العلم في العصر الحاضر — أن العلم هو الإنجاز الذي يُمكِننا أن نُسمِّيَه «مصيريًّا» بحق في هذا العصر، فلأول مرة في تاريخ تجربة الإنسان الطويلة على هذه الأرض، يُدرك أن العلم هو الذي سيُحدِّد مصيره سلبًا أو إيجابًا؛ إذ تعيش البشرية في خوف دائم من أن تُدمِّر حياتها وحضارتها حرب نووية أو بيولوجية تَعتمِد اعتمادًا كُليًّا على العلم، وتعمل الدول لهذه الحقيقة ألف حساب في استراتيجياتها وسياساتها الأساسية، وفي طريقة إنفاقها لموارِدِها. ومن جهة أخرى فإن الأمل الأكبر لدى البشرية — في مستقبل أفضل وفي حلِّ مشكلاتها الغذائية والصحية المستعصية بل في استمرار قدرتها على البقاء والنماء — هو الآن معقودٌ على العلم.
وقد انعكس ذلك بوضوح في اتِّساع نطاق الاهتمام بالعلم إلى حدٍّ هائل؛ ففي القرن الماضي كان العلم من شأن «المتخصِّصين» وحدهم، ولم تكن مشكلاته تُناقَش إلا في المجامع العلمية وفي المؤسسات المتخصِّصة، أما اليوم فقد أصبح الجميع يتابعون تطور العلم باهتمام، وأصبحت أخباره تحتلُّ مكان الصَّدارة في وسائل الإعلام الجماهيري؛ فكيف نُعلِّل هذه الظاهرة التي تبدو فيها مفارقة صارخة؛ أعني الاتساع الهائل في نطاق الاهتمام بالعلم، في نفس الوقت الذي أصبح فيه العلم يَزداد غموضًا وتعقيدًا على الدوام، وابتعدَت فيه لغته الرمزية المتخصِّصة عن إفهام العقول العادية ابتعادًا تامًّا؟ لا شك أن التعليل الوحيد لذلك هو الطابع المصيري للعلم المعاصر؛ فمهما كانت صعوبة هذا العلم، فإننا جميعًا نتساءل: هل يُمكن تجنُّب كارثة حرب عالمية ثالثة؟ ونحن نعلم أن هذا السؤال المصيري — الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستقبل كل منا وبمستقبل أجيالنا الجديدة — يعتمد على مجموعة من العوامل، من أهمِّها العلم، كذلك نعلم أن مشكلات الحياة اليومية وهمومها — أعني مشكلات كالغذاء والإسكان والمواصَلات والطاقة والبيئة — سيتوقَّف حلُّها إلى حدٍّ بعيد على الطريقة التي يوجِّه بها الإنسان أبحاثه العلمية في المرحلة المقبلة.
فلنتأمل إذن بعضًا من هذه المشكلات؛ حتى تتكوَّن لدينا صورة متكاملة عن ذلك الوضع الفريد للعلم في مجتمعنا المعاصر:
(٢-١) مشكلة الغذاء والسكان
ليس المرء في حاجة إلى أرقام أو جداول إحصائية لكي يُقرِّر أن العالم يُعاني — منذ الآن — من أزمة مُستحكمة في الغذاء؛ ففي العالم أغلبية من السكان لا تَحصُل من الغذاء على الحد الأدنى اللازم لكي يَحيا الإنسان حياة سليمة، وفيه أقلية مُتخَمة يعاني كثير من أفرادها من الملل والأمراض الناتجة عن الإفراط في المأكل، وإذا كان النقصُ في كمية الطعام التي تحصل عليها الأغلبية الفقيرة خطرًا، فإن النقص في نوعيته أخطر؛ فالغذاء اللازم لبناء الجسم لا يتوافر إلا بنِسَب ضئيلة لدى شعوب كاملة، وهو يهدد الأجيال الجديدة في مناطق شاسعة من الأرض بنمو جسمي وعقلي غير مُكتمِل.
ومن المؤكَّد أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين مشكلتَي الغذاء والسكان؛ فالازدياد الرهيب في عدد السكان يؤدِّي إلى تضاعُف الطلب على الغذاء، على حين أن موارد العالم من الغذاء محدودة، وبطبيعة الحال فإنَّ أحدًا لا يُردِّد اليوم آراء «مالثوس» الذي دقَّ ناقوس الخطر في القرن التاسع عشر، مؤكِّدًا أن العالم مهدَّد بمجاعة لأن السكان يَتضاعَفون بسرعة تفوق بكثير سرعة زيادة الموارد الغذائية؛ ففي الوقت الذي ردَّد فيه «مالثوس» هذا الكلام، كان سكان العالم ما زالوا قليلين، وكانت هناك موارد هائلة لم تُستغلَّ بعدُ في العالم، ولم يكن هناك بالفعل ما يُبرِّر تشاؤمه المفرط، ولكن نُذُر الخطر أصبحَت أوضح في عصرنا الحاضر، الذي تضاعَف فيه عدد سكان العالم أكثر من مرة بالنسبة إلى القرن الماضي. والأخطر من ذلك أن الفترة التي يتضاعَف فيها هذا العدد تقلُّ باستمرار؛ ففي نهاية هذا القرن يتوقَّع العلماء أن تحمل هذه الأرض ضعف عدد من يعيشون فيها اليوم، وبعد عشرين عامًا من القرن الجديد سيتضاعَف العدد مرة أخرى، فهل ستكفي موارد الأرض من الغذاء لإعاشة هذه الأعداد المهولة؟
ولعلَّ مما يزيد من قوة الارتباط بين مشكلة الغذاء ومشكلة السكان: أن البلاد التي تعاني من نقص واضح في التغذية، هي تلك التي يزداد عدد سكانها بمعدَّلات سريعة، على حين أن البلاد التي تتمتَّع بمستوًى جيد في الغذاء هي عادةً بلاد تقلُّ نسبة الزيادة في سكانها، وربما استقر عدد سكانها عند مستوًى معيَّن منذ مدة طويلة؛ فالازدحام السكاني وارتفاع نسبة المواليد مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بسوء التغذية.
ولكن هل يَعني ذلك أن البشرية ستقف عاجزة عن إيجاد حل، وستَنتظِر المجاعة المحتومة دون أن تُحرِّك ساكنًا؟ وهل المَخرج الوحيد من هذه الأزمة المرتقبة — والتي ظهَرت بوادرها بوضوح منذ الآن — هو أن تتوقَّف الزيادة في سكان العالم، وخاصةً في البلاد الفقيرة؟ لا شك أن هذا الحل لا يتناول إلا جانبًا واحدًا من جوانب الموضوع، وهو يفترض أن عددًا كبيرًا من الأوضاع الجائرة في العالم لن يطرأ عليه أيُّ تغيير، ولا يُمكن المساس به؛ ومن ثم يلجأ إلى تغيير وضع واحد فقط، هو عدد السكان.
ومن سمات هذا الحلِّ أنه يُلقي اللوم كله على البلاد التي تُعاني من أزمة الطعام؛ فهو يبرئ جميع المذنبين، ويرمي بكل ثقل الإدانة على الضحية. إن معناه ببساطة هو أن هذه البلاد مسئولة عن المجاعة التي تُعاني منها؛ لأن فيها من السكان عددًا زائدًا، وأنها هي أيضًا المسئولة عن الحل؛ وذلك بأن تُخفِّض عدد هؤلاء السكان إلى الحد الذي تُصبح فيه مواردها كافية لإطعامهم.
على أن هذا الحل يغفل عددًا هائلًا من العناصر الأخرى التي تنتمي إلى صميم هذا الموضوع، والتي يرجع الكثير منها إلى عوامل خارجة تمامًا عن إرادة البلاد الفقيرة؛ فهو يتجاهل — مثلًا — أن هناك بالفعل بلادًا غنية — كالولايات المتحدة — تدفع للمزارعين إعانات طائلة من ميزانيتها السنوية كيلا يَزرعوا حقولهم؛ لأن زراعة هذه الحقول وإنتاج كميات وفيرة من المحاصيل يؤدي إلى انخِفاض السِّعر العالمي لهذا المحصول؛ ولذلك ينبغي أن يظلَّ إنتاجه في حدود معينة لا يتعداها، بغضِّ النظر عن وجود أناس جائعين في مناطق أخرى من العالم. وهو يُغفل أن زيادة السكان تَرتبط بعوامل من بينها الأمية والتخلُّف الاقتصادي والاجتماعي، وأن هذه العوامل ترجع أساسًا إلى خضوع كثير من البلاد الفقيرة لدول استعمارية كانت حريصة على استمرار تخلُّفها حتى تضمن استسلامها لها، وأن ذيول هذه السياسة ظلَّت باقية حتى بعد تخلُّص هذه الدول من قبضة الاستعمار المباشر.
ولكن قد يكون الأهم من ذلك، من وجهة النظر التي نُركِّز عليها في هذا الكتاب، هو أن هذا الحل — الذي يَحصُر المشكلة في حدود العلاقة بين الموارد الغذائية وعدد السكان — يتجاهل الإمكانات الهائلة للعلم في إيجاد حلول أفضل لهذه المشكلة المعقَّدة؛ فلدى العلم — في هذا المجال — قدرات هائلة لم يُسْتَغل معظمها بعد؛ كالبحث في وسائل استزراع المناطق الصحراوية الشاسعة، وإسقاط المطر الصناعي، واستخلاص المواد ذات القيمة الغذائية الحالية من طحالب البحار والمحيطات — وهي مورد لا يَنفد — وتحويل مخلفات بعض الصناعات إلى مواد غذائية، فضلًا عن أن الأرض الصالحة للزراعة في العالم أوسع بكثير من الأرض المزروعة بالفعل، كما أن إمكانات مضاعفة غلَّة الأراضي الزراعية بأساليب علمية حديثة قائمة على الدوام.
وبعبارة أخرى، فإن العلم لم يَقُلْ بعدُ كلمته النهائية في هذه المشكلة، ولم يُعلن يأسه من حل مشكلة الغذاء بأساليبه الخاصة حتى نفكر نحن في حلها عن طريق الإقلال من عدد السكان، وكل ما في الأمر أن العلم يَقف — في أغلب الأحيان — مكتوف الأيدي؛ لأن طاقاته وموارده موجَّهة نحو تحقيق أهداف أخرى بعيدة كل البُعد عن هذا الهدف الإنساني. ففي ظلِّ مناخ عالَمي يسوده العداء المتبادل بين الدول، وتكتسب فيه كل دولة نفوذها عن طريق القوة الغاشمة، لا يُمكن أن تتهيأ الظروف التي تجعل المجتمعات تُخصِّص طاقاتها العلمية من أجل البحث عن موارد غذائية جديدة للملايين الجائعة، بل إن الغذاء نفسه يَتحوَّل إلى سلاح في هذا الجو الذي يسود العلاقات الدولية في أيامنا هذه، وقد يكون أحيانًا مُعادِلًا في تأثيره لأشد الأسلحة فتكًا؛ فمن المرغوب فيه — بالنسبة إلى بعض الدول القوية — أن يظلَّ هذا التفاوت بين الجوع والشبع، وبين الندرة والوفرة في الغذاء قائمًا؛ لأنه يُتيح للدول التي تَملِك من الغذاء ما يفيض عن حاجتها أن تَضغط بسلاح التجويع على الدول التي لا تملك من الغذاء إلا القليل؛ حتى تضمن خضوعها وتَأمنَ من تمرُّدها، وفي مثل هذا الجوِّ لا يكون هناك — أصلًا — استعداد لحشد الطاقات العلمية في حملة مركَّزة تستهدف القضاء على الجوع، من نوع تلك الحملة التي أدَّت في سنوات قلائل إلى صعود إنسان إلى سطح القمر.
وعلى ذلك، فليس في وسع أحد أن يَجزم بأن مشكلة الغذاء ترتبط بمشكلة السكان وحدها، وأن كمية الغذاء وعدد السكان يَتناسبان تناسبًا عكسيًّا، أو يُمثِّلان كفتي ميزان لا يمكن أن ترجح إحداهما إلا إذا خفَّت الأخرى، فواقع الأمر هو أن هذا لا يُمثل إلا جانبًا واحدًا من جوانب المشكلة، وأن للمشكلة جوانب أخرى كثيرة؛ من أهمها: نوع العلاقات السائدة بين الدول، وطريقة توجيه الموارد العِلمية، وإمكان أو عدم إمكان إيجاد أسلوب إنساني في التعامل بين الجماعات البشرية.
ومع كل هذا، فإنني لستُ من المؤمنين بسياسة ترك التزايُد السكاني يتضاعف دون ضوابط. وإذا كنتُ فيما سبق قد حرصت على تأكيد وجود عوامل أخرى تؤثر في أزمة الغذاء إلى جانب عامل السكان، وأن من الخطأ الفادح أن نتصوَّر وجود علاقة ثنائية — لا تشترك فيها أية اطراف أخرى — بين كمية الغذاء وعدد السكان، إذا كنتُ قد حرصت على هذا التأكيد، فإن حرصي هذا لا يَنفي إيماني بأن تضاعف أعداد السكان دون ضوابط — وخاصةً في البلاد الفقيرة والمتخلِّفة — هو أمر ينبغي تلافيه.
ولهذا الرأي أسباب ومُبرِّرات متعدِّدة، قد لا يكون بعضها متصلًا بمشكلة الغذاء على الإطلاق؛ فمن الواجب الحدُّ من التزايد السريع للسكان في هذه البلاد، لأسباب تتعلق أساسًا بمستوى الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية التي يُمكن أن تُقَدَّم إلى الأجيال الجديدة في المجتمعات النامية. وربما كان الأهم — حتى من هذا كله — الأسباب النفسية والتربوية العائلية؛ فمِن الصعب على الأسرة التي تعيش في الربع الأخير من القرن العشرين أن تُبْدِي عناية كافية بعدد كبير من الأبناء، وأن تُوجِّههم نفسيًّا وتؤهلهم لحياة ناجحة في المستقبل، وبطبيعة الحال فإن هذه الصعوبة تَتضاعَف إذا كان المستوى الاقتصادي لهذه الأسرة هابطًا. ولكني أعتقد أنه حتى في المستويات الاقتصادية المرتفعة يَندر أن يجد أبناء الأسر الكبيرة العدد نفس الرعاية النفسية والاهتمام الشخصي والإرشاد التربوي الذي يَجدُه أبناء الأسر ذات الأعداد القليلة.
بل إنَّ الإنجاب أصبح في ظلِّ العلم الحديث أمرًا يُمكن التحكم فيه دون عناء، ومن هنا لم يكن هناك مُبرِّر على الإطلاق لكي نترك الحبل على الغارب في مسائل الإنجاب، وكأنَّ هذا شيء يستحيل التدخل فيه، ثم نُجهد أنفسنا بعد ذلك في محاولة الحد من الأضرار المترتِّبة على تزايُد النسل الذي كان يمكن ضبطه بجهودٍ أقل بكثير من تلك التي نبذلها من أجل تلافي نتائجه.
ولقد لاحظت في جميع المناقشات التي تدور — سواء في بلادنا العربية وفي خارجها — أن كل من يناقش هذا الموضوع يُسلِّم تسليمًا تامًّا باستحالة فرض قيود إجبارية على أعداد الأبناء، حتى لو كان ممن يؤمنون إيمانًا قاطعًا بأن زيادة السكان هي وحدها سبب نقص التغذية وسوء الخدمات وهبوط مُستوى المعيشة في البلاد المتخلفة، والحُجَج التي تُقال في هذا الصدد هي أن هناك أسبابًا نفسية أو اجتماعية — وربما دينية في بعض المُجتمعات — عميقة الجذور، تمنع من إجبار الناس، بقوة القانون مثلًا، على التوقُّف في النسل عند حدود معينة. وأنا أسلِّم بأن الوضع الحالي هو كذلك بالفعل، ولكني أعتقد أن هذا الوضع السكاني يَستحيل أن يستمر إلى ما لا نهاية، وأن المستقبل سيشهد تغييرًا جذريًّا في موقفنا من هذه المشكلة.
ذلك لأننا لو استقرأنا تاريخ المجتمعات البشرية لوجدنا أن الإنسان ظلَّ يَفرض على نفسه مزيدًا من القيود لكي يَنال مزيدًا من الحريات، وهذا تعبير يبدو متناقضًا؛ إذ كيف تُفرض القيود من أجل ضمان الحريات؟ ولكن من السَّهل أن يفهم القارئ ما أعني إذا ما فسَّره في ضوء مثال مألوف في حياتنا اليومية، وهو إشارات المرور: فنحن نَفرض على أنفسنا أن نتقيد بإشارات المرور؛ لكي ننال بذلك مزيدًا من الحرية في حركة المرور، والدليل على ذلك أن تعطُّل إحدى الإشارات — الذي يبدو في الظاهر وكأنه يُعطي السائق أو السائر «حرية» السير كما يشاء — يؤدِّي في واقع الأمر إلى إلغاء هذه الحرية بما يُسبِّبه من تكدس وفوضى في المرور. وهكذا الحال في أمور البشر جميعًا؛ إذ ننتقل من حالة «الحرية» العشوائية أو المتخبِّطة التي كانت تسود في البداية، إلى نوع من التنظيم أو التقييد الذي يُحقِّق لنا مزيدًا من الحرية.
وخلال تاريخ الإنسان الطويل كانت هناك أمور يَعتقِد أنها يَنبغي ألا تُمَس، ومع ذلك فقد تناولها التنظيم والضبط في الوقت المناسب، فليس في استطاعة الإنسان — مثلًا — أن يَسير عاريًا في الطريق حتى ولو كان يشعر براحة كبيرة في هذا العمل؛ لأنه يؤذي مشاعر الآخرين بهذا السلوك، وليس في استطاعته أن يقول للناس أي شيء يريد قوله؛ لأنه قد يُحاكَم بتُهمة القذف العلني، وليس في استطاعته أن يَربح إلى غير حد؛ لأنه — حتى في الدول الرأسمالية — خاضعٌ للضرائب، وقِس على ذلك آلاف الأمثلة التي تُثبت أن مفهوم الحرية القديم — بمعنى الانطِلاق بغير قيود — يُخلي مكانه على نحو مُتزايد لمفهوم آخر هو التنظيم والتقييد الذي يؤدِّي إلى مزيد من الحرية الحقيقية.
وفي اعتقادي أن إنجاب الأطفال سيُصبِح يومًا ما داخلًا في نطاق هذه الفئة من الأفعال التي ينبغي أن تَخضع للتقييد والتنظيم الذي يَستهدف — في نهاية الأمر — صالح البشرية كلها وصالح الأجيال الجديدة بوجهٍ خاص، وسيأتي اليوم الذي يَنظر فيه المجتمع البشري إلى مسألة إنجاب كائن جديد على أنها مسئولية يجب أن تُمارس بحساب، وفي إطار ضوابط وضَمانات معينة؛ لأنها تُلقي عبئًا على مجتمَع كامل، ولأنَّ هذا المجتمع سيُصبح بالفعل مسئولًا عن هذا الكائن؛ تثقيفه وتعليمه ورعايته؛ ومن ثم فلا بد أن تكون للمجتمع كلمة تقال في هذا الموضوع. أما العقبات التي يُمكن أن تظهر في حالة تعليق مثل هذا التنظيم — كاحتمال إنجاب العدد المُقرَّر من جنس واحد فقط، أو كالإنجاب من عدة زوجات، أو وفاة الأبناء في كارثة مفاجئة، إلى آخر هذه الحالات المحتملة — فما هي في الواقع إلا استثناءات يمكن معالجتها بسهولة في إطار التنظيم الشامل.
ولعلَّ القارئ يدهش إذ يجد أنني اتخذت في البداية موقف المهاجم لمن يرون في تحديد النسل الوسيلة الوحيدة لتخفيف أزمة الطعام في العالم الفقير، ثم اتخذت في النهاية موقف المدافع عن مبدأ تحديد النسل حتى بقوة القانون، ولكني لا أرى أي تعارض بين هذا وذاك؛ إذ إن العالم — حتى لو وصَل إلى مرحلة التنظيم العلمي لعلاقاته الاجتماعية والسياسية بحيث يُكرِّس من موارده ما يكفي لحل مشكلة الطعام عن طريق البحث العلمي المركز — سيجد أن مِن مصلحته إيقاف تكاثُر السكان عند حدود معيَّنة، بل سيأتي وقتٌ يكون لزامًا عليه فيه أن يفعل ذلك، بحيث يُلغي هذه «الحرية» المزعومة في مسألةٍ تمسُّ المجتمع ككل، ويَفرض من الضوابط على النسل ما فرضه من قبل على شتى مظاهر حياة الإنسان. فنحن قد أصبحنا «كائنات اجتماعية» منضبطة، مندرجة في تنظيمات وخاضِعة لقوانين لا حصر لها، وفي كل يوم يتَّسع نطاق التنظيم الاجتماعي لأمور كانت من قبل تُتْرَك للسلوك التلقائي العفوي، فلماذا يشذُّ إنجاب كائنات جديدة عن هذا الاتجاه العام للسلوك البشري، مع أنه من أخطر مظاهر السلوك البشري في عواقبِه ونتائجه، وهو قد أصبَحَ في الوقت نفسه — بفضل العلم الحديث — من أسهلِها تنظيمًا؟
(٢-٢) مشكلة البيئة
قبل الستينيات من هذا القرن كان الكلام عن «مشكلة البيئة» لا يتعدَّى جدران عدد محدود من المَجامع العلمية الشديدة التخصُّص، وفي الستينيات ذاتها — وخلال فترة وجيزة — أصبحَت هذه المشكلة واحدة من أكثر المشكلات تداولًا على ألسنة الناس وفي أجهزة الإعلام وفي الهيئات الدولية الكبرى، وأُنْشِئَت لها معاهد متخصِّصة وكراسي أستاذية في الجامعات، وظهرت لها مجلات خاصة، ومئات الكتب بشتى اللغات، بل لقد أُنْشِئَت لها وكالة أو هيئة دولية متخصِّصة منبثقة عن هيئة الأمم المتحدة، فما الذي أدى إلى هذا الانتقال السريع من التجاهل التام لمشكلة البيئة إلى الوعي الزائد بها؟
من المؤكَّد أن المشكلة ذاتها كانت موجودة قبل ظهور هذا الوعي المفاجئ بوقتٍ طويل؛ ذلك أن التقدم العلمي والتكنولوجي كان لا بد أن يَترك آثاره العميقة على بيئة الإنسان، ومنذ بداية العصر الصِّناعي أصبح تدخل الإنسان في البيئة حقيقة أساسية من حقائق هذا العصر؛ لأنَّ لفظ «الصناعة» ذاته يَعني تغيير عناصر البيئة بجهد الإنسان. كانت المشكلة موجودة بالفعل منذ وقت طويل، ولكن التنبيه إلى خطورتها وإلى أبعادها المتعدِّدة هو الذي تأخر في الظهور.
أما هذا الظهور المتأخر للوعي بمشكلة البيئة فربما كان راجعًا إلى مجموعة من العوامل، أهمها التوسع الهائل في التصنيع والزيادة الضخمة في الإنتاج بعد الحرب العالَمية الثانية، وهو توسع وصل إلى حد إدخال تغيُّرات أساسية في البيئة الطبيعية التي أُخضعت لمتطلبات الصناعة إلى حدٍّ قضى على كثير من معالِمها الأصلية، ولكن لعلَّ العامل الأهم من ذلك — في ظهور مشكلة البيئة على المسرح الدولي بصورة مباغتة — هو ظهور وعي جديد — في غمرة هذا السباق المحموم على الإنتاج الضخم بين الدول الصناعية الكبرى — بضرورة الحفاظ على توازُن البيئة التي يعيش فيها الإنسان وغيره من الأحياء، فقد أدرك الكثيرون في المجتمعات الصناعية أن تلاعُب الإنسان ببيئته قد زاد عن حده، وأن الجريَ اللاهث وراء التصنيع أدى إلى نسيان الطبيعة الأم، بل أدَّى إلى تلويثها بمختلف النواتج المتخلِّفة عن عمليات التصنيع.
ولقد كانت مشكلة تلوث البيئة — نتيجة لنفايات المصانع — هي المشكلة الصارخة التي أثارت الاهتمام العالَمي بموضوع البيئة؛ ذلك لأن المصانع تَطرُد من مداخنها الضخمة كميات هائلة من الغازات التي تُلوِّث جو مدنٍ بأكملها، وتُعرِّض حياة الإنسان — وخاصة الأطفال الذين لا يَستنشِقون هواءً نقيًّا — لأخطار جسيمة، وفضلًا عن ذلك فإن الأنهار تتلوَّث بما يُلْقَى فيها من مخلفات المصانع، وتهدِّد الحياة المائية فيها بالخطر، فضلًا عن أخطار تلويث مياه الشرب. بل إنَّ البحار ذاتها — بكل مساحاتها الشاسعة — تتعرَّض بدورها للتلوث بسبب مخلفات المصانع القريبة منها والسفن التي تسير فيها والموانئ المطلَّة عليها.
وهكذا يبدو أن هذا الوعي القويَّ بمشكلة البيئة قد ظهر في بداية الأمر بوصفِه رد فعل على التوسع الضخم في الإنتاج الصناعي، والتسابق بين الدول وبين الشركات المنتجة في إغراق الأسواق بسِلَع جديدة، دون أي تفكير في الأعراض الجانبية التي تُصاب بها البيئة الطبيعية نتيجة لهذه المُنافِسة الرهيبة على الإنتاج، وكان الهدف الأساسي لتلك الحملة العالمية الداعية إلى حماية البيئة، هو أولًا تجنُّب الأخطار المباشرة للتلوث، التي أصبحت أخطارًا ملموسة في البلاد المتقدمة، وهو ثانيًا تحقيق نوع من التوازن بين مطالب الإنسان ومطالب الطبيعة؛ فالإنسان يُريد تحوير الطبيعة لكي تُلائم أغراض الإنتاج الصناعي، والطبيعة تريد أن تُحْفَظ وتُصان، وكان على المهتمين بشئون البيئة أن يُحاولوا الاهتداء إلى الوسائل الكفيلة بالتوفيق بين هذين المطلبين، بعد أن أفرط الإنسان في الاهتمام بالمطلب الأول إلى حدٍّ يُهدِّد بضياع المعالم الأصلية للطبيعة.
بل إن التقدم في تكنولوجيا الزراعة ذاتها — التي هي ألصق بالبيئة الطبيعية من الصناعية بطبيعة الحال — قد أدَّى إلى مشكلات بيئية خطرة؛ فاستخدام مبيدات الآفات على نطاق واسع أدى إلى تلوث المزروعات وتعرُّض مستهلكيها لأخطار التسمُّم، فضلًا عن أن إلقاء مياه الصرف في الأنهار والتُّرع قد لوَّثها بدورها، وهدَّد كل أشكال الحياة المائية بالخطر.
ولا يَقتصِر هذا الخطر على التلوُّث وحده، بل إن هناك خطرًا آخر يتمثَّل فيما يُسمى «باختلال التوازن البيئي»، فعناصر الطبيعة المختلفة قد تعايَشَت على مدى مئات الألوف من السنين بحيث يَعتمِد بعضُها على بعض في توازُن دقيق، وتدخُّل الإنسان للقضاء على أحد هذه العناصر يُمكن أن يؤدي إلى نتائج غير متوقَّعة في عناصر أخرى تبدو بعيدة عنه؛ وذلك لأن التوازُن بينها قد اختلَّ، وكلنا نَذكُر إلى أي حدٍّ أُعجب الناس في العالم بأسره بتجربة الصين الرائدة حين قضت — في أيام قلائل — على العصافير التي كانت تتكاثَر بالملايين، وكانت تهدد محاصيل الحبوب تهديدًا خطيرًا يؤثر في ثروة الأمة الزراعية، ولكن هذا القضاء المُبرَم على العصافير قد تبيَّن — بعد سنوات قلائل — أنه ألحق الضرر بالتربة الزراعية؛ لأنَّ العصافير كانت تأكُل ديدانها التي تفرز سمومًا، فلما اختفت العصافير تكاثَرت هذه الديدان إلى حدٍّ كان له تأثيره الضار على خصوبة التربة. وهكذا فإن تدخُّل الإنسان في التوازن الدقيق الذي تُكوِّنه البيئة الطبيعية قد أدى في نهاية الأمر إلى ضرر غير متوقَّع.
وعلى أية حال، فسواء نظرنا إلى المشكلة من زاوية التلوث، أم من زاوية الإخلال بالتوازن الطبيعي، فإنها في مُعظم حالاتها تُعَدُّ نتيجة مباشرة للتقدُّم العلمي والتكنولوجي السريع في عصرنا الحاضر، وهي تدعونا بإلحاح إلى مُحاوَلة الحد من بعض الأضرار الجانبية التي يَجلبها هذا التقدم معه، لا سيما بعد أن استفحلَت هذه الأضرار الجانبية في الآونة الأخيرة بصورة تدعو إلى القلق، ولكن ظهور الوعي بالمشكلة، وانعقاد عشرات المؤتمرات والندوات المتعلِّقة بها، ونشر مئات الأبحاث عنها؛ أدَّى إلى اتساع نطاق الاهتمام بموضوع البيئة إلى حدٍّ يفوق بكثير مسألة مكافحة التلوث، فظهَرت أبعادٌ اجتماعية وجمالية للمشكلة، تناولت بالتحليل بيئة الإنسان الحديث بوجه عام، بغضِّ النظر عن أضرار التصنيع الواسع النطاق.
ذلك لأنَّ التفكير المتعمَّق في مشكلات البيئة يُبيِّن أن هذه المشكلات يَصعُب حلها من جذورها ما دام الهدف من النشاط الاقتصادي هو التنافُس على الربح، ففي ظلِّ هدف كهذا تكون الحلول جزئية فقط، ولا يُؤخذ بها إلا بقدر ما يُمكن إدماجها في إطار اقتصاد السوق، أما إذا تعارضت مع هذا الاقتصاد فإنها تُهْمَل. ولما كان هذا الاقتصاد ميالًا بطبيعته إلى التوسُّع والوصول إلى الحدود القصوى المُمكنة للإنتاج فإن الحلول الجذرية لمشكلات البيئة فيه تكاد تكون مُستحيلة. وهكذا يرتبط موضوع البيئة بنوع القيم الاجتماعية والاقتصادية السائدة، ويتَّضح أن إيجاد حلٍّ حقيقي يحفظ للإنسان توازُن بيئته، يحتاج إلى تغيير أساسي في قيَم المجتمع، لا تعود فيه مرتكزة على التنافس بل على التعاون والتعايُش؛ أي إنَّ المسألة ترتدُّ في واقع الأمر إلى نوع الأنظمة التي يختارها الإنسان لمجتمعه. ومن هنا اعتقد البعض — عن حقٍّ في رأيي — أن مشكلات البيئة لا تجد حلولها الحقيقية إلا على مستوًى عالَميٍّ شامل.
والواقع أن مسار العلاقة بين الإنسان والبيئة كان موازيًا — إلى حدٍّ بعيد — للعلاقة بين الإنسان وناتج عمله؛ فقد تصوَّر الإنسان في وقت ما أن ما ينتجه يفلت زمامه من يده، ويخضع لقوى مجهولة تسير في طريقها الخاص دون أن يستطيع أحد أن يوقفه أو يُعيد توجيهه، وكان ينظر إلى التلوث الناجم عن هذا التقدم على أنه الضريبة الحتمية التي يَنبغي أن يدفعها الإنسان كلما ازداد سيطرةً على الطبيعة؛ أي إن ثمن التقدم العلمي والتكنولوجي هو إفساد البيئة الطبيعية التي يستظلُّ بها الإنسان. ولكن التفكير بدأ يتَّجه في السنوات الأخيرة اتجاهًا مخالفًا؛ هو أن قدرة الإنسان على فهم قوانين الطبيعة واستغلالها لصالحه لا ينبغي على الإطلاق أن تؤدِّي إلى تشويه الإنسان لبيئته الطبيعية؛ فالعلم والتكنولوجيا هما — قبل كل شيء — وسائل اصطنعها الإنسان لكي يبني لنفسه حياةً أفضَل؛ ومن ثم كان من الضروري توظيفها من أجل صيانة البيئة الطبيعية لا تلويثها.
ويُمكن القول إنَّ الوعي العالَمي بمشكلات البيئة قد ظهر متأخرًا، ولكنه نما بسرعة هائلة، بحيث أصبح الإنسان — بعد مضيِّ سنوات قلائل — حريصًا على دراسة تأثير أي نشاط يقوم به في بيئته الطبيعية، وأخذ يضع من القوانين ويتخذ من الاحتياطات ما يعتقد أنه كفيل بصيانة هذه البيئة من أخطار التدخل الزائد في توازنها الطبيعي. ولكن لا يُمكن القول إننا اقتربنا من المرحلة التي نستطيع فيها التوفيق بين تحقيق التقدم الاقتصادي الواسع النطاق، والمحافظة على نقاء الطبيعة وضمان سعادة متكاملة للإنسان في عالم يتطلع إلى الإنتاج الوفير.
ولكن ما موقف المنطقة التي نعيش فيها من مشكلات البيئة؟ من الواضح أن هذه المشكلات قد ظهرت أصلًا في بلاد صناعية متقدِّمة، والاهتمام الذي أُبدي بها، والضجة التي أُثيرت حولها، والاتجاه المفاجئ إلى دراستها علميًّا وتطبيقيًّا، إنما كان في هذه البلاد. ولما كانت بلادُنا في عمومها مفتقرة إلى التصنيع الثقيل على نطاقٍ واسع، فيبدو أن مُشكلات البيئة لا تمسُّها مساسًا مباشرًا. كذلك فإن عملية استهلاك الموارد الطبيعية إلى حدِّ الاستنفاد لم تَحدُث بعدُ في معظم بلاد العالم الثالث؛ ومن ثم فإن الخوف من أخطار النفايات الصِّناعية ليس له حتى الآن ما يُبرِّره.
ومع ذلك فإن هذا لا يعني على الإطلاق أن تقف بلادُنا مكتوفة الأيدي حتى يَجيء الوقت الذي تُداهمها فيه أخطار التلوث أو انعدام التوازن البيئي؛ فمِن الواجب أن نفيد من تجربة البلاد الأخرى التي سبقَتْنا في مجال التصنيع وفي التكنولوجيا الزراعية المتقدمة، ولنتذكر أن من أهم عوامل التلوُّث البيئي ازدحام المدن، وأن حركة الانتقال إلى حياة المدن تسير في بلاد العالم الثالث بسرعة وبغير تخطيط؛ مما يُساعد على ظهور كثير من المشكلات المتعلقة بالبيئة.
وهنا ينبغي علينا أن نعود إلى الكلام عن جانب آخر من جوانب مشكلة البيئة أصبح في الآونة الأخيرة يشغل قدرًا كبيرًا من اهتمام المشتغلين بهذا الموضوع، وأعني به الجانب الجمالي للبيئة. فليست المشكلة الوحيدة المتعلِّقة بعلاقة الإنسان ببيئته الطبيعية هي المشكلة المادية الناجمة من تدخُّله الزائد في الطبيعة وسوء استخدامه لطاقاتها وموارِدها، بل إنَّ البيئة الجمالية بدورها ينبغي أن تكون موضوعًا لاهتمامنا وعنايتنا. فالطفل الذي ينشأ في بيئة تتَّسم بالقبح، ولا يرى حوله مظهرًا من مظاهر الجمال أو الذوق أو التناسُق والانسجام، يكون قد افتقد عنصرًا هامًّا من عناصر إنسانيته. وفي وسعنا أن نقول: إنَّ هذا القُبح يمكن أن ينتج عن الثراء المفرط، أو عن الفقر المُدقِع؛ ففي البلاد ذات الاقتصاد المتقدِّم والإنتاج الوفير، يكون السعي إلى الضَّخامة في البناء متعارضًا — في أحيان كثيرة — مع البحث عن الجمال؛ وعند حدوث هذا التعارض فإن الطرف الذي يُضحَّى به — في الغالب — هو الجمال. وهكذا فإن كثيرًا من المدن الصناعية الكبرى — التي تُنتج ثروات اقتصادية هائلة ويَتعامل أهلها بأموال طائلة — تفتقر إلى الجمال الذي قد نجده بدرجة تفوقها بكثير في بلدة صغيرة بسيطة البناء مُتواضعة الموارد، ولكن القبح يوجد أيضًا على الطرف الآخر في السلم الاقتصادي، وهو أمر طبيعي تمامًا؛ ففي البلاد الفقيرة لا يكون هناك مجالٌ للاهتمام بالجمال، وحيث تسود الأزمات الاقتصادية ويتكدَّس الناس في بيوت مُتهالكة وتَضيق الأرض بمن عليها لا تتوقَّع من أحد أن يَحرِص على وجود لمسات جمالية في البيئة، أو على ترك مساحات خضراء واسعة لتنقية الهواء وتنقية النفوس معًا، ما دامت لقمة العيش هي الشغل الشاغل للجميع.
هذا العامل الجمالي يُمثِّل العنصر الأهم من عناصر مشكلة البيئة في بلاد العالم الثالث، ومن حسن حظِّ كثير من هذه الدول أن لدَيها تُراثًا حضاريًّا عريقًا ما زالت آثاره قائمة في أرجائها على نطاق واسع، وهذه الآثار — فضلًا عن الطابع التقليدي العريق للعمران في هذه البلاد — يُمكن أن تكون عنصرًا أساسيًّا في المحافظة على الجانب الجمالي للبيئة، وما يَستتبِعه ذلك من إعلاء للجوانب المعنوية في حياة الإنسان. ومن هنا كان حرص الكثيرين على صيانة الآثار العريقة في البلاد الفقيرة؛ لكي يكون فيها تعويض عما تَعجز هذه البلاد عن تحقيقه بمواردها الاقتصادية المحدودة.
غير أنَّ ضرورات التنمية وإدخال الأساليب التكنولوجية الحديثة في الحياة كثيرًا ما تتعارَض مع الحرص على الطابع الجَمالي التقليدي للبيئة في البلاد النامية. بل إنه ليَبدو — في بعض الأحيان — أن أصوات أولئك «الزوار الأجانب» الذين يَنصحون أهل هذه البلاد بالمحافظة على الطابع التقليدي لبيئتهم، وبعدم الانسياق وراء إغراءات الحياة العصرية، هي في حقيقتِها دعوة (مقصودة أو صادرة عن نيَّة حسنة) إلى أن تظلَّ هذه البلاد «متحفًا» أثريًّا يَستمتِع به المُتفرِّجون وحدهم. وهكذا تبدو هذه النظرة «المتحفية» إلى البيئة — في بعض الأحيان — عائقًا في وجه تطور المجتمع نحو الأخذ بأساليب التقدُّم الحديثة. وعلى أية حال فإن التحدي الحقيقي أمام بلادنا النامية — فيما يتعلق بالمشكلة التي نتحدَّث عنها ها هنا — هو في الوصول إلى الصيغة الملائمة التي تُوفِّق بين المحافظة على الهوية الأصيلة للبيئة من جهة، واللحاق بموكب التقدُّم العلمي والتكنولوجي من جهة أخرى.
(٢-٣) مشكلة الموارد الطبيعية
لهذه المشكلة وجهٌ نَعرِفه في بلادنا العربية حق المعرفة، هو الوجه المتعلق بأزمة الطاقة؛ فمصادر الطاقة — وعلى رأسها البترول — أصبحَت في وقتنا الراهن موضوعًا من أهم الموضوعات التي تبحثها المؤتمرات العِلمية والتجمُّعات السياسية، والتي تتغيَّر بسببها الاستراتيجيات وتتشكَّل الأحلاف وتَنشب النزاعات وتُحاك المؤامرات. والمُشكِلة التي يُواجِهها العالم — والتي أصبح على وعي تامٍّ بها في أيامنا هذه — هي أنَّ مصادر الطاقة التقليدية — وخاصةً البترول — محدودة، وأنَّ التقدُّم التكنولوجي يدفع العالم رغمًا عنه إلى التوسُّع في استهلاكها؛ ومن ثم فإنه سيُواجَه في وقتٍ غير بعيد بموقف يجد فيه بتروله قد نفد؛ فيعجز عن استغلال كافَّة موارده الطبيعية الأخرى.
على أنَّ الأمر المؤكد هو أن العلم لا يقف مكتوف الأيدي أمام هذا الاحتمال المخيف؛ فالبحث لا يتوقَّف لحظة واحدة عن مصادر بديلة للطاقة، وعلى رأسها الطاقة الذرية التي قطَعت الدول المتقدمة شوطًا بعيدًا في استخدامها، وكذلك الطاقة الشمسية التي استُغلَّت بدورها ولكن على نطاقٍ أضيق. كما أن ثمَّة تفكيرًا جادًّا في استغلال طاقة الحرارة الأرضية، وطاقة المد والجزر على نطاق عالَمي واسع، ولكنَّ المشكلة في هذه الطاقات البديلة هي أنها لم تُصبِح بعدُ اقتصادية إلى الحد الذي يُبرِّر استخدامها على نطاق واسع، وكلُّ الآمال تتركز — بطبيعة الحال — على خفض تكاليف إنتاجها إلى حدود معقولة بحيث تُصبِح بديلًا عن الطاقة البترولية حينما تنفد.
ولكن البترول والطاقة — بوجه عام — ليسَت إلا وجهًا واحدًا من أوجه مشكلة الموارد الطبيعية التي تُواجه العالم اليوم؛ فهذا العالم يَستهلِك موارده الأخرى — من الحديد والنحاس والقصدير … إلخ — بمعدَّل متزايد؛ لكي يُلبِّي أغراض الصناعة التي تتوسَّع بلا انقطاع، ومطالب الاستهلاك التي اعتادها الإنسان حتى أصبحَت جزءًا لا يتجزَّأ من حياته. وإذا كانت بعض الموارد الطبيعية قابلةً للتجديد — كالأخشاب مثلًا التي يُمكِن أن تتجدَّد بظهور أشجار جديدة — فإن الموارد المعدنية التي تُسْتَهْلَك لا يُمكن تعويضها؛ ومن ثم فإن رصيد العالم منها يَتضاءل يومًا بعد يوم.
وقد دقَّ عدد كبير من الباحثين ناقوسَ الخطر، مُعلنًا أن الموارد الحالية من المعادن الهامة التي تقوم عليها الصناعات الرئيسية — ومن ثم تقوم عليها الحضارة العصرية بأَسرها — لا بد أن تنتهي في وقتٍ قصير إذا سارت الزيادة في معدَّلات الاستهلاك سيرتها الحالية؛ فبعض المعادن لا يُقدَّر للمخزون منه أن يدوم أكثر من ربع قرن، وبعضُها قد يدوم أكثر من ذلك، ولكن الأمر المؤكد هو أنه إذا انقضى على البشرية قرنٌ آخر ظلَّت فيه صناعاتها تستهلك الموارد الطبيعية على النمط السائد الآن، فإن معظم الموارد الأساسية سيكون عندئذ قد نفد.
وفي مقابل ذلك يذهب بعض المُتفائلين إلى أنَّ الصورة ليست قاتمة إلى هذا الحد، فمِن المُحال أن يظلَّ العقل الإنساني يَنتظِر — في حالة من السلبية — نقصان رصيده من موارد الطبيعة يومًا بعد يوم، حتى ينتهي الأمر بالبشرية إلى العودة مرة أخرى إلى الكهوف بعد أن تنضب آخر ذرة من معادنها ومن طاقاتها. والرأي الذي يُدافع عنه هؤلاء هو أن التقدُّم العلمي كفيل بأن يَكشف للإنسان آفاقًا جديدة لا تَخطر له الآن على بال، فإذا توصل الإنسان إلى الوسائل الفعالة لاستخراج الثروات الطبيعية الكامِنة في أعماق المحيطات، فمن المؤكد أنه سيهتدي فيها إلى احتياطيٍّ من الموارد يبلغ أضعاف ما قدَّره المُتشائمون، وإذا استطاع أن يتوغَّل في باطن الأرض ذاتها — التي يُمكن القول أن كل كشوفنا تكمن على السطح الأعلى من قشرتها الخارجية — فسوف يجد على الأرجح موارد معدنية هائلة مدفونة في الأعماق البعيدة للأرض، وإذا أصبح الاتصال بين الكواكب والنجوم الواقعة في الفضاء القريب من الأرض حقيقة واقعة، وأمكن تحقيقُه بطريقة منتظمة، فسوف يستخلص الإنسان من هذه العوالم الجديدة موارد تُعوِّضه عن كل ما يَفقده على سطح الأرض.
ومع ذلك فإن هذا الرد — الذي يَعتمِد على إنجازات علمية بعيدة المدى — لا يبدو كافيًا في نظر الكثيرين، الذين يرَون أن المشكلة ستواجه العالم في وقت أقرب من ذلك الذي تتحقَّق فيه آمال هؤلاء المُتفائلين؛ فهناك احتمال قوي في أن يواجَه الإنسان بنقص أساسي في موارده الطبيعية «قبل» أن يكون العلم قد تمكَّن من التوصُّل إلى بدائل أو كشف مصادر جديدة لها، وعندئذ يكون لزامًا علينا أن نُفكِّر — منذ الآن — فيما ينبغي عمله قبل أن يتحقَّق هذا الاحتمال المخيف.
فمن الواضِح — في نظر الكثيرين — أن الأجيال البشرية يَنبغي أن تتخلى عن أنانيتها، وعن رغبتها في ضمان أعلى مستوى مُمكِن لمعيشتها، وعليها أن تُفكِّر في مصير الأجيال التي ستعقُبها، فلا تبدد موارد الطبيعة إلى الحد الذي لا يترك لهذه الأجيال اللاحقة ما تستطيع أن تَستهلكه.
ومن المؤكَّد أن معدل الاستهلاك في الدول الغنية يزداد بدرجة تنذر بخطر حقيقي في المستقبل، إذ يصلُ هذا الاستهلاك أحيانًا إلى حدِّ التبديد السفيه، وهنا يكون من الطبيعي أن يثور الضمير الإنساني على هذا التبديد غير المسئول، الذي لا يحدث من أجل إشباع ضرورات حيوية، بل يَحدُث لإرضاء رغبات أنانية ونزوات استهلاكية مجنونة لا يُلبِّي معظمها حاجات أصيلة لدى الإنسان. فإذا كان هذا الاستهلاك الزائد عن الحاجة يتمُّ على حساب الضرورات الأساسية التي ستحتاج إليها الأجيال المقبلة، أليس من حقِّ المرء أن يعترض ويُطالب بالتريث والتفكير في الآخرين، لا سيما إذا كان هؤلاء الآخرون هم أبناؤنا وأحفادنا؟
على أن أنصار الرأي المُضاد يسوقون حججًا تبدو في نظر الكثيرين معقولة: فمن الواجب — في نظرهم — أن نترك الأجيال المقبلة تواجه مشكلاتها بنفسها، ولو افترضنا أن الجيل الحالي قد قلَّل استهلاكه — بقدر ما يستطيع — مراعاة لمطالب الأجيال القادمة، فإنَّ هذا لن يكون حلًّا للمشكلة؛ وذلك لسببين: الأول أن المُستهلِكين الحقيقيِّين في هذا العالم هم قلة من الدول التي تشكل نسبة ضئيلة من مجموع سكان العالم، أما الأغلبية الساحقة فتَعيش على مستوى الكفاف. ولو اختفَت الأنانية من العالم، وسادَه تنظيمٌ عاقل يُراعي مصالح الغير، فسوف يكون أول ما يَنبغي على هذا التنظيم عمله هو رفع المستوى الاستهلاكي للأغلبية البائسة من شعوب العالم إلى مُستوًى معقول، وعندئذ سنُواجه المشكلة بنفسِ حدَّتها الحالية وربما بمزيد من الحدة؛ إذ إن رفع مستوى ألوف الملايين من فقراء العالم إلى حدٍّ معقول سيُؤدي إلى استِهلاك لموارد العالم بمعدَّل قد يفوق المعدل السائد بين الدول الغنية المبذِّرة في الوقت الراهن. وأما السبب الثاني فهو أننا مهما قتَّرْنا على أنفسنا الآن، أو حتى بعد جيل أو جيلَين، فسوف نُضطر — عاجلًا أو آجلًا — إلى مواجهة المشكلة بكل حدَّتها يومًا ما، إذ إنَّ ترشيد الاستهلاك — حتى لو تحقَّق على نطاق عالمي — لن يمنع من حدوث أزمات في الموارد الطبيعية في المستقبل، وكلُّ ما سيؤدي إليه هو إرجاء المشكلة إلى حين.
ولا شكَّ أن هذه الحُجة الثانية يمكن أن يرد عليها بأن إرجاء المشكلة يعني إعلاء فرصة أطول للعلم كيما يتوصَّل إلى حلول جديدة غير مألوفة لمشكلة الموارد الطبيعية، بدلًا من أن يضطر العالم إلى مواجهة هذه المشكلة قبل أن يكون العلم قد أعدَّ نفسه لحلها، كما أن ضمان مستوًى معقول للغالبية الفقيرة من سُكان الأرض قد يساعد سكان هذه المناطق على بذل المزيد من الجهد من أجلِ استخراج كل ما هو كامن في أقاليمهم من ثروات.
ولكن الذي يُهمنا من هذه المقابلة بين الآراء المتعارضة في مشكلة الموارد الطبيعية هو أولًا أن المشكلة ليست بالبساطة التي تبدو عليها للوهلة الأولى، بل إنها من التعقيد بحيث تستدعي قدرًا غير قليل من التفكير المتعمَّق، الذي يوازن بين الحجج والردود عليها، ويدرك أن للموضوع أبعادًا متعدِّدة. ويُهمنا ثانيًا في هذا الموضوع أن نؤكد ارتباطه بمشكلات أخلاقية، كمشكلة أنانية الأجيال، وبمشكلات اجتماعية كمشكلة التقريب بين مستويات المجتمعات البشرية. ولكن ربما كانت أهم المشكلات العقلية التي يثيرها هذا الموضوع هي تلك المشكلة الأساسية المتعلقة بالقيم، وأعني بها قيمة الحياة الاستهلاكية التي تعيشها المجتمعات الصناعية الحديثة.
ذلك لأن المُجتمعات المتقدمة أصبحت — في عصرنا الحاضر — تنظر إلى التوسع في الاستهلاك كما لو كان غاية في ذاته، وتعدُّه قيمة أساسية من قيم الحياة ينبغي أن تؤخذ على ما هي عليه دون مناقشة، بل إنَّ الإنسان الحديث أصبح ينظر إلى أيِّ نظام اجتماعي على أنه جهاز ضخم وظيفته الأولى والأساسية هي توفير مطالبه الاستهلاكية، وأصبح يَحكم عليه — إيجابًا أو سلبًا — في ضوء قُدرته أو عدم قدرته على تحقيق هذه المطالب.
ولقد أصبحَ هذا الأسلوب من التفكير متغلغلًا فينا إلى حدِّ أننا لم نَعُد قادرين على مناقشته، بل أصبحنا نعده جزءًا من طبيعة الأشياء، ونظامًا من أنظمة الكون. ولكن حقيقة الأمر أن هذا كله اتجاه حديث، ينتمي إلى قيم المجتمع الصناعي الغربي، وهي القيم التي استطاعت — بفضل تفوُّق هذا المجتمع — أن تَنتشِر وتعمَّ أجزاءً كبيرة من العالم المعاصر. والدليل على أن هذا الاتجاه الاستهلاكي ينتمي إلى الإنسان الحديث وحده، هو أن العصور الماضية كانت تُفكِّر في الأمر بطريقة مغايرة تمامًا؛ فعند اليونانيين القدماء كان الفكر الفلسفي والأخلاقي — وخاصةً عند سقراط وأفلاطون وأرسطو والرواقيِّين — يتجه إلى تعويد الإنسان السيطرة على رغباته والتحكُّم فيها، ولم يقل أحد عندئذ أن وظيفة النظام الاجتماعي هي أن يُوفِّر للإنسان أكبر قدر من أدوات الاستهلاك. وفي العصور الوسطى كانت مُعظم الرغبات الاستهلاكية — التي هي محور حياتنا الحاضرة — تُعدُّ رغبات شريرة، وكان هدف النظام الاجتماعي والفكري هو إخماد صوت هذه الرغبات، وكان الإنسان الأمثل هو ذلك الذي يَعزف عن تحقيق مطالب الترف والرفاهية.
ولستُ أودُّ أن يَفهم القارئ مما أقوله أنني أدعو إلى الزُّهد أو أحمل على الحياة الحديثة لأنها مُترَفة؛ إذ إنَّ الأمر المؤكَّد هو أن دعاة الزُّهد المتطرِّف كانوا يكبتون كثيرًا من الرغبات الإنسانية المشروعة، ويَقمعون مطالب حيوية للإنسان، وقد أثبتَت الأيام أن كثيرًا من دعاة الكبت والقمع هؤلاء يعيشون حياةً مضادة تمامًا لتلك التي يدعون الناس إليها. ومن جهة أخرى فإن الإنسان قد أحرز في العصر الحديث تقدمًا لا شك فيه حين استطاع أن يتحرَّر من هذا الكبت، واقتنع بأن إرضاء رغباته الطبيعية لا يتعيَّن أن يكون في ذاته أمرًا شريرًا.
ولكن ما أودُّ أن أثبته — من هذه المقارنة — هو أن النمط الحالي للحياة الاستهلاكية ليس أمرًا مسلَّمًا به كما نتصور الآن، وأن الإنسان كان يعيش في عصور أخرى في ظلِّ قيَمٍ مضادَّة لتلك التي يُسلِّم بها الآن، حتى لو لم يكن قد تمسَّك دائمًا بهذه القِيَم، فإذا أدركنا هذه الحقيقة؛ أمكنَنا أن نتأمَّل بنظرة نقدية طبيعة الحياة الاستهلاكية التي يتصوَّر الإنسان الحديث أنها أقصى أمنياته.
وحين نقوم بهذا النقد ستَظهر بوضوحٍ أمامَنا عيوبُ هذا التطلع الاستهلاكي المخيف الذي يتملك الإنسان في المجتمعات المتقدِّمة، ويَحلم به الإنسان في المجتمعات غير المتقدِّمة، وحقيقة الأمر هي أن المشكلة لا تَكمن — على وجه الدقة — في الاستهلاك أو عدم الاستهلاك، بل إن أساس الموضوع كله هو «نوعُ» الاستهلاك، فنحن قد تطرَّفنا في الاتجاه المضاد لما كان يدعو إليه أجدادنا من زهد وعزوف عن المطالب المادية، حتى أصبحنا مُحاطين بشبكة مُحكَمة من الوسائل الإعلامية التي تدعونا بذكاء شديد إلى استهلاك أشياء تافهة. وهكذا يَجد المرء — أينما ذهب — إعلانات ضخمة تدعو إلى صنوف من المأكولات أو المشروبات، وتُغريه بمظهرها الحسِّي الفج، وتُصوِّر الشِّفاه الظامئة وهي تتلهَّف على الزجاجة المثلَّجة، أو الأسنان الشَّرِهة وهي تنقضُّ على قطعة اللحم، حتى ليَشعُر المرء بأن الزمن قد دار دورة كاملة منذ عهد الترفُّع على المحسوسات حتى عهد الإغراق السوقي فيها.
ولنقُلْ مثل هذا عن أساليب استثارة الرغبات الحسية الأخرى — كالجنس — التي أصبحَت تَحفل بها إعلانات الأفلام والملاهي وتُزيِّن أغلفة المجلات … إنها بدورها مظهَر لقِيَم معيَّنة، قد يكون لها جانب إيجابي هو أن الإنسان لم يَعُد مكبوتًا، ولكن لها جوانب سلبية واضحة، هو أنها تجعل للحياة الإنسانية أهدافًا حسِّية مباشرة، وتُسيء إلى الرغبات الإنسانية الطبيعية ذاتها؛ إذ تجعلها موضوعًا للمُتاجَرة والرِّبح، وتَنزع عنها طابع الخصوصية — الحالي هو أساسي فيها — لتُحيلها إلى سِلعة عامة يتداولها الجميع.
والأعجب من ذلك أن السعي المحموم إلى الاستغلال التجاري للرغبات الإنسانية قد دفَع هؤلاء المستغلين إلى خلق «رغبات صناعية» لا تُلبِّي حاجات طبيعية لدى الإنسان، ولكن الإلحاح المستمر عليها — بالدعاية والإعلان — يُقنع الناس على نحو مُتزايد بأنها رغبات أساسية. وهكذا يُخْلَق لدى الإنسان — في المجتمعات المتقدِّمة أو في المجتمعات الثرية (وهما ليسا دائمًا شيئًا واحدًا) — إحساس بضرورة تغيير طراز سيارته أو ثلاجته أو ملابسه أو حتى ساعته كلما جدَّ في هذا الميدان جديد، لا لأنَّ ما لديه قد استهلك، بل لأنَّ عقله قد تشكَّل بالطريقة التي يُريدها المنتجون، والتي تضمَن لهم أكبر قدر من الربح، وكم من الملايين تُنْفَق سنويًّا من أجل تلبية هذه الرغبات المُصطَنعة التي هي — في أغلب الأحيان — رغبات غير ضرورية، بل إنَّ بعضها قد يجلب — على المدى الطويل — ضررًا. فإذا: كاختراع فرشاة أسنان تتحرَّك بالكهرباء بدلًا من حركة اليد، أو أجهزة آلية لتغيير سرعة السيارة بدلًا من جهاز التغيير اليَدوي، أو جهازٍ للتحكم عن بُعْد في ضبط التليفزيون حتى لا يقوم الإنسان من مكانه … وكلُّها مخترعات تبدو في ظاهرها مريحة، ولكنها في حقيقتها تُعوِّد الإنسان الخمول الزائد، وتَحرمه من ممارسة أقل قدر من الجهد الجسمي الذي هو في أشد الحاجة إلى بذله؛ كيلا يتعرَّض لأمراض التَّرَف «والحضارة».
وربما قيل — دفاعًا عن نمط الحياة الاستهلاكية هذا: إنَّ عصرنا يستطيع أن يَملِك ترف الاستهلاك لأنه عصر إنتاج فائض، على حين أن فلسفة الزهد كانت تَشيع في عصور الحِرمان والإنتاج الشحيح، ولكن هذه حجة هزيلة؛ إذ إنَّ عصرنا بدوره مليء بمظاهر الحِرمان التي تصل إلى حدِّ المجاعة في بعض البلاد الفقيرة، وإلى حدِّ سوء التغذية ونَقص الملبس والمسكن بين النِّسبة الغالبة من البشر. بل إنَّ الدول الغنية ذاتها لا تخلو من الحرمان، وإن كانت تسعى جاهدة إلى التستُّر عليه. وهكذا فإننا إذا كنا نَملك إنتاجًا فائضًا — وهو أمر لا يَنطبِق على الجميع — فمن المؤكد أننا لم نُحسِن استخدامه، وإنَّ الأنظمة الاجتماعية التي يعيش الإنسان الحديث في ظلِّها لم تَصِل بعدُ — في معظم الأحيان — إلى مستوى العدالة؛ ومن ثم فإنها تدعو إلى الترف الزائد في إطار من الحرمان.
ويستطيع المرء أن يذهب إلى أبعد من القول بأنَّ الإغراق في الاستهلاك لا يُلبِّي حاجات أساسية لدى الإنسان، وأنه مظهَر من مظاهر الظلم والافتقار إلى عدالة التوزيع في العالم المعاصر؛ ذلك لأن الاستهلاك الزائد يُشوِّه بالفعل كيان الإنسان وفكرَه، ويَنتهي بالمرء إلى السطحية والابتذال؛ فعِبادة الاستهلاك قد أدَّت — في هذا العصر — إلى تكوين نمطٍ من البشر الذين يتصوَّرون أن قيمة المرء إنما تُقاس بما يملك، وبما يُحيط به نفسه من مُقتنيات. ويبدو أن القوة السطحية التي نكتسبها من تلك الأجهزة المعقَّدة التي تُزوِّدنا بها التكنولوجيا الحديثة تَخدعنا؛ فتُوهمنا بأننا أصبحنا بالفعل «أقوى» و«أفضل» مما كنا عليه من قبل، مع أن كل ما نَقتنيه إنما هو قشرة خارجية لا تجعلنا أفضل «من الداخل» على الإطلاق، ولقد ميَّز الفلاسفة — منذ وقت طويل — بين ما يَكونُه المرء وما يَملكه. ويبدو أن مروِّجي السِّلَع الاستهلاكية لا يهدفون إلا إلى نشر عبادة «التملُّك»، وذلك على حساب الكيان الحقيقي للإنسان.
ومثل هذه الأوهام ليست فردية فحسب، بل إنَّ هناك شعوبًا ومجتمعات تقع كلها — باستثناء قِلة من المُفكِّرين فيها — فريسة الاعتقاد الباطل بأنَّ القيَم العليا للحياة إنما تَنحصِر في توافُر وسائل الترف ومظاهر الرخاء، ولكن حقيقة الأمر أن هناك قيمًا أعلى من هذه بكثير، هي قيم الثقافة والمَعرفة وتحقيق الذات، فإذا كان علينا أن نُفاضِل بين مجتمعين، يَحرص الأول منهما على أن يُوفر لأكبر عدد من أفراده السيارات الفاخرة وأحدث الأجهزة الإلكترونية التي تجعل الحياة اليومية أيسَر وأمتع، على حين أن المجتمع الآخر يَحرص على أن يوفر لأكبر عدد من أفراده تعليمًا ذا مستوًى عالٍ وثقافة رفيعة، ويَنشُر بينهم تذوق الفنون والآداب على أوسع نطاق، فأيُّ هذَين المُجتمعَين يَنبغي أن يُعَدَّ محقِّقًا لآمال الإنسان؟ لا جدال في أن الجمع بين الأمرَين هو الحالة المُثلى، ولكنه لا يبدو مُمكنًا في ظروف العالم الراهنة. ومن هنا فإن المرء لا يملك إلا أن يُفاضل بين هذا وذاك، ويُمكِن القول، بنظرة واقعية: إنَّ عددًا كبيرًا من الناس يُفضِّلون النوع الأول، ولكن هذا إنما يرجع إلى تأصُّل قيم الرخاء المادي في النفوس. ومن المؤكَّد أن ما كان يدعو إليه مُصلحو البشرية وقادتها الرُّوحيُّون — منذ أقدم العصور حتى اليوم — إنما هو أن يكون للإنسان هدف أسمى من ذلك الرخاء المادي الذي يَعدُّه الكثيرون في عالَمنا هذا أقصى أمانيهم.
وإذا كُنا قد نظرنا إلى هذا الموضوع — حتى الآن — من وجهة النظر المثالية — أعني من حيث ما ينبغي أن يكون — فإنَّ هناك عوامل أخرى واقعية يَنبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، وتؤدِّي إلى هذه النتيجة نفسها، وأَعني بها ضرورة الحد من الاتجاه الاستهلاكي المتطرِّف الذي تَسير فيه بعض المُجتمَعات المتقدِّمة صناعيًّا، وتقود نحوَه كثيرًا من دول العالم الأُخرى التي تتخذ منها قدوة لها. فقد دأب الإنسان الغربي — منذ مَطلع العصر الحديث — على أن يتَّخذ من «السيطرة على الطبيعة» هدفًا لكل نشاطٍ يقوم به في ميدان العلم والمعرفة بوجه عام. ولقد كان لهذا الهدف — كما رأينا من قبل — ما يُبرره في الظروف التي ظهر فيها؛ إذ إنه كان شعار عصرٍ جديد يُريد أن يفهم العالم ويتحكَّم في الطبيعة عن طريق معرفة قوانينها، بل إنَّ كبار الفلاسفة الذين دار تفكيرهم حول مِحور هذا الشعار — مثل «بيكون» و«ديكارت» في أوائل القرن السابع عشر — كانت تدفعهم نزعة إنسانية قوية، هي الرغبة في استعادة مملكة الإنسان على الأرض، وتحريرُه من عبودية العمل الشاق الذي يُضني جسمه ويُضعِف نفسه ولا يدع له فرصةً لكي يمارس أفضل ما لديه من ملَكات. كانت تلك هي نُقطة البداية، وهي الدافع الذي حفَّز الرواد الأوائل إلى المناداة بشعار «السيطرة على الطبيعة» عن طريق العلم، واتِّخاذ المعرفة سبيلًا إلى اكتساب القوة المقدَّرة.
ولكنَّ استمرار التقدُّم العلمي والتكنولوجي، ووصوله إلى مستويات هائلة في الآونة الأخيرة، أصبح يُهدِّد نفس المثُل العليا التي كان يُنادي بها هؤلاء الروَّاد، فمنذ وقتٍ ليس بالقريب كنا نستمع إلى أصواتٍ تُحذِّرنا من أن وسائلنا التي نَستخدمها في السيطرة على الطبيعة، قد سيطَرت هي ذاتها علينا وخلقَت لدينا نوعًا جديدًا من العبودية. وبالفعل أكَّد الكثيرون أنَّ الآلة قد خيَّبت الآمال التي عُقِدَت عليها، وجعَلت الإنسان عبدًا لإنسان آخر (هو الذي يَملِك الآلة) أو للآلة نفسها. كما أن نفس القوة الجديدة التي خَلَقَت الثراء والوَفرة قد خلَقت البؤس والفاقة وولدت القُبح ونشَرت الظلم، وقسَّمت العالم إلى دُوَل مُترَفة ودول مَحرومة، وكرَّرت هذا التقسيم ذاته في كل مجتمع على حِدَة.
وفي عمرنا الراهن أدَّى التطرُّف في تطبيق شعار «السيطرة على الطبيعة» إلى انتشار رغبات جامِحة في الاستهلاك الذي يَصِل إلى حدِّ التبديد، وإلى سعي إلى النموِّ مقصود لذاته، والوقوع في جنون التوسُّع والانتشار في جميع المَجالات، وأخذ يَظهر للكثيرين بوضوحٍ أن هذا النموَّ الجنوني لو استمر بهذا المعدَّل لأدى إلى دمار العالم، أو إلى استِنفاد مواردِه المَحدودة، التي لا يُمكِن تجديد الكثير منها أو تعويضه. وهكذا بدأ عدد كبير من المُفكِّرين — في الدول المتقدِّمة — يرفعون أصواتهم محذِّرين من استمرار الاندفاع الجنوني نحو الاستهلاك، لا سيما وأن الكثير مما نَستهلِكه لا يزيد من قدرنا أو يُثري إنسانيَّتنا. وبدأ هؤلاء المُفكِّرون يُشكِّكون في جدوى فكرة «السيطرة على الطبيعة» بالمعنى الذي استُخْدِمَت به منذ أوائل العصر الحديث، ويَدعون إلى الاستعاضة عنها بفكر «التعاون مع الطبيعة».
والموقف الذي يدافع عنه هؤلاء المُفكِّرون هو أن العلاقة بين الإنسان والطبيعة ينبغي ألا تظلَّ علاقة قهر وسيطرة، ومُحاوَلة من الإنسان لكي يستنفد أكبر قدر من مواردها ويستغلها لإرضاء رغباته، بل عليه أن يُساير الطبيعة ويتعاون معها حتى لا يقضي على مواردها وعلى نفسه أيضًا. وحين يسودُ شعار «التعاون مع الطبيعة»، يكون معنى ذلك حِرص الإنسان على عدم الإخلال بالتوازن الطبيعي والبيئي، وتصرُّفه بحِكمة ورشد في مواردِه، وخاصةً تلك التي تُسْتَهْلَك مرةً واحدة ولا تتجدَّد. وهذا يَقتضي من الإنسان الحديث مُراجَعة شاملة لأهدافه في الحياة، يُحدِّد فيها نوع الغايات التي يَنبغي أن يَسعى إليها ويَضع على أساسِها خُطَط المستقبل.
ولا شكَّ أن من هذه الغايات: تغليب الكَيف على الكمِّ، بمعنى أن يَحرِص الإنسان على «نوع» أرفع من الحياة، بدلًا من حرصِه الحالي على الجمع والتكديس وزيادة «مقدار» ما يَملك من أدوات الاستِهلاك. وفي استطاعة الإنسان — إذا فكَّر في الأمر بتعمُّق — أن يَهتدي إلى وسائل تُعينه على رفع المستوى «الكَيفي» لحياته دون حاجةٍ إلى تَبديد أو تبذير لموارد الطبيعة، بل إنه سيدرك حينئذ أن جريه الحالي وراء «الكم» ورغبته العارمة في «الاقتناء» تؤدِّي — في كثير من الأحيان — إلى أن تزيد حياتُه خواءً وفراغًا، وتهبط بمستواها «النوعي».
ومِن الغايات الأخرى التي ينبغي أن يَستهدفها الإنسان — في تخطيطه للمستقبل — رعاية مصالح الأجيال التي سوف تَرِثه على هذه الأرض، وهو أمر لا يستطيع الإنسان الحالي أن يدَّعي أنه يَشغل أقلَّ قدر من اهتمامه. ولقد أشار بعض المُفكِّرين — في هذا الصَّدد — إلى مثال بسيط ومألوف، هو «السيارة الخاصة»؛ ففي العالم المتقدِّم صناعيًّا، وفي كثير من الدول الغنية غير المتقدمة صناعيًّا، وعند قطاعات غير قليلة من سكان الدول الفقيرة، تسود الآن فكرة استخدام «السيارة الخاصة» وسيلة للتنقُّل، ولكن هل فكَّر أحد في كمية الموارد التي تتبدَّد في هذه الوسيلة؟ هل فكر أحد في كمية الحديد والصلب والبترول وعدد غير قليل من الموارد الأخرى التي تَستهلِكها سيارة خاصة واحدة يستخدمها شخص واحد أو أسرة صغيرة لكي تُلْقَى بعد سنوات قليلة وسط أكوام من الحطام؟ وهل يحتمل عالم المستقبَل — الذي سيَتَضاعف عدد سكانه عدة مرات — مثل هذا الترف؟ وهل ستظلُّ موارده قادرة على تلبية هذه الرغبة الاستهلاكية المكلِّفة؟ وكم ستكون نسبة القادرين على استخدامها بالقياس إلى المجموع الكلي للسكان؟ وهل يُمكِن أن يستمر العالم يَسير على أساس هذا التفاوت الصارخ بين أفراد البشر؟ وماذا سيتبقَّى للأجيال التي ستعيش من بعدنا إذا أصرَّ الناس على تبديد مواردهم في هذه الكُتَل الضخمة من الحديد والبترول والمطاط المتحرِّك؟ لهذه الأسباب كلها أكَّد بعض المفكِّرين أن «عصر السيارة الخاصة» يَجِب أن يَنتهي إذا أراد الإنسان أن يكون رشيدًا في تعامله مع الطبيعة، وما هذا إلا مثل من أمثلة التغيير الذي يجب أن نُدخِله على عاداتنا الاستهلاكية إذا أردنا أن نَترك للأجيال القادمة عالَمًا يُمكنها أن تعيش فيه.
وأيًّا كان الأمر، فمن المؤكَّد أن في العالم الآن اتِّجاهات كثيرة تحتاج إلى تغيير أو مراجعة جِذرية، ولما كانت كثير من العادات الاستهلاكية التي ينبغي تغييرها مُرتبِطة برغبات يصعب على الإنسان — بعد اعتياده عليها — أن يَتخلَّص منها، فإن الأمر سيحتاج إلى مراجعة كاملة لنُظُم التعليم والتوجيه في المجتمع البشري، وربما احتاج — كما يؤكد الكثيرون — إلى التفكير جديًّا في إقامة نوع من الحكومة العالمية التي تشرف على شئون العالم وفي ذهنها مصالح الجميع، لا مصالح فِئات أو دول معيَّنة فحسب، وبغير هذا قد يكون تحقيق هدف «التعاون مع الطبيعة» أمرًا عسير المنال.
(٢-٤) مشكلة الوراثة والتحكُّم في صفات الإنسان
على الرغم من أن التقدُّم في الفيزياء والكيمياء — وفي الأبحاث التطبيقية التي نجمَت عنها — يبدو أنه أبرز السمات للعلم المعاصر؛ لأنه قد أدَّى بالفعل إلى تغيُّر وجه الحياة على هذه الأرض، فإنَّ كثيرًا من العلماء يؤكِّدون أن أخطر التطوُّرات في عصرنا الحاضر هي تلك التي تَحدُث في علم يتقدَّم بلا ضجيج أو دعاية أو أخبار تُنْشَر على الصفحات الأولى للجرائد، هو علم الحياة (البيولوجيا)، ويؤكِّد هؤلاء العلماء أنه إذا كان عصرنا هذا قد شهد تغيُّرات حاسمة في الحياة بفضل الفيزياء والكيمياء، فقد بدأت تظهر فيه بوادر تدلُّ على أن العِلم الذي سيُحدِث تغييرات جذرية في العالم خلال القرن المقبل — وربما قبل ذلك — هو علم الحياة.
إن العلوم الطبية — التي تَرتبط ارتباطًا أساسيًّا بعلم الحياة — قد أحرَزت — كما هو معروف — تقدُّمًا هائلًا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأدَّى هذا التقدم إلى زيادة كبيرة في متوسط عمر الإنسان على مستوى العالم كله، وفي الدول المتقدِّمة بوجهٍ خاص، كما أدَّى إلى انخفاضٍ هائل في نسبة الوَفَيات بين المواليد. وهكذا ازدادت فُرَص الحياة أمام الإنسان على طرفَي العمر؛ أي في أوله وفي آخره. ومن المؤكَّد أن هذا التقدم قد واجه الإنسان بمشكلات كبرى؛ إذ إنَّ زيادة متوسط العمر قد أبرزت — بصورة حادة — مشكلة الشَّيخوخة وموقف المجتمع منها؛ حيث يَعجز هذا المجتمع حتى الآن عن إيجاد حلٍّ حاسم لهذه المشكلة ولا سيما في الدول المتقدمة؛ ففي هذه الدول يَزداد بصورة مطَّردة عدد المسنِّين الذين يظلُّون طويلًا على قيد الحياة، وفيها أيضًا يَعجز نظام الأسرة عن استيعاب هؤلاء المسنِّين؛ إذ إنَّ الأبناء — الذين يعيشون في مجتمع تسودُه الاعتبارات العلمية ويبحث كل فرد فيه عن مصلحته الخاصة — يَضيقون ذرعًا بوالديهم، ولا يجد هؤلاء مفرًّا من الالتجاء إلى حلول لم يثبت نجاحُها حتى الآن كبيوت الكبار مثلًا. كذلك فإن الانخفاض الكبير في نسبة الوَفَيات بين المواليد قد أدَّى إلى تضاعُف نسبة الزيادة السكانية في العالم، وخاصةً في الدول الفقيرة التي كان ارتفاع نسبة الوَفَيات فيها من قبل يُحْدِث توازُنًا مع زيادة النسل. ولكن بالرغم عن هذه المشكلات فمن المؤكَّد أن التقدم في العلوم الطبية كان من أعظم الإنجازات الإنسانية التي حقَّقها العلم الحديث خلال القرن الماضي.
ومن ناحية أخرى فقد كانت العلوم البيولوجية أحدَ الأُسس الهامة التي بُنِيَ عليها اختراع العقول الإلكترونية؛ فالسيبرنطيقا — كما ذكرنا من قبل — كانت منذ بدايتها تطبيقًا للمبادئ البيولوجية وللأسس التي يعمل بها الجهاز العصبي على الآلات، ولما كانت الثورة الإلكترونية هي إحدى الدعامات الرئيسية التي يرتكز عليها عصرنا الحاضر، ففي وسعنا أن نجد في هذا مثالًا لإنجاز آخر ضخم حققته العلوم البيولوجية في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولكن بالرغم من أهمية كل هذه الإنجازات، فليست هي ما قصَدناه حين قلنا: إن الانقلاب الذي حدث في علم الحياة يُعَدُّ — في نظر الكثيرين — أهم من أي حدث علمي آخر عرفه الإنسان في هذا القرن، وأنه يَحمل في طياته بذور تغيُّرات مذهلة بالنسبة إلى المستقبل، وإنما الذي نَعنيه هو تلك الكشوف التي تمَّت في السنوات الأخيرة في ميدان الوراثة البشرية، والمُحاولات التي لا يكفُّ علماء البيولوجيا عن بذلها من أجل الكشف عن أسرار المخِّ البشري.
فمنذ عدد قليل من السنوات، توصَّل علماء البيولوجيا إلى كشف خصائص الخلايا الوراثية «الجينات» ومعرفة تركيبها الكيميائي، واهتدَوا إلى أول الخيط الذي يُؤدِّي إلى كشف شفرة الوراثة. وعلى الرغم من أن هذا الكشف لم يُعْرَف خارج نطاق الدوائر العلمية المتخصِّصة إلا في نطاقٍ ضيِّق في بداية الأمر، فقد كان من السهل إدراك النتائج الهائلة التي يُمكن أن يُسفر عنها، مما جعَل الكثيرين يعدُّونه نقطة بداية لعصرٍ جديد قد لا تتَّضح معالمه كلها في الوقت الراهن، ولكن من المؤكَّد أنها ستَظهر في وقتٍ ليس بالبعيد.
ذلك لأن معنى هذا الكشف هو أن العلم بدأ يَسير في الطريق المؤدِّي إلى معرفة العوامل الوراثية بدقة؛ ومن ثم معرفة سرٍّ من أهمِّ أسرار الحياة، ولو سار العلم في هذا الطريق شوطًا بعيدًا؛ لاستطاع أن يَتحكَّم بطريقة إرادية في الوراثة البشرية، بحيث يُغيِّر من خصائص الجينات تغييرًا مُتعمَّدًا، فتكون النتيجة تغيير صفات المواليد الجدد، وعلى حين أن الإنسان قد ظلَّ حتى الآن يَقبل خصائص الأجيال الجديدة من ذريته على ما هي عليه، فإنَّ التطور البيولوجي الذي نتحدَّث عنه قد وضع العلم في أول الطريق المؤدِّي إلى توسيع نطاق سيطرة الإنسان؛ بحيث تمتدُّ إلى إدخال تغييرات أساسية على مواليدِه الجُدُد. وكما أن الصِّناعة قد مدَّت سلطان الإنسان على إنتاجه الاقتصادي بحيث لم يَعُد مقتصرًا على ما تَجود به الأرض في الزراعة، بل أصبح الاقتصادي يُحوِّر مواد الطبيعة ويشكلها وفقًا لإرادته. كذلك يبدو أن العلم قد أمسَكَ الآن بأول الخيط المؤدِّي إلى إحداث تغيُّر مماثل في الكائنات البشرية التي تتألَّف منها أجياله الجديدة، بحيث تُصبِح علاقة العصور التي سيتحقَّق فيها هذا الإنجاز الضَّخم بالعصور السابقة أشبه بعلاقة العصر الصناعي بعصور الزراعة والرعي والالتقاط.
كذلك تُؤدِّي الأبحاث التي تُجْرَى في ميدان دراسة المخ البشري إلى نتائج مماثلة؛ ذلك لأن هذا العضو شديد التعقيد ظلَّ غامضًا حتى عهدٍ قريب، ولم تكن معلوماتنا عنه تُمثِّل إلا قدرًا ضئيلًا جدًّا مما ينبغي على الاقتصادي معرفته عن أهمِّ أجزاء جسمه جميعًا، ولكن المعرفة العلمية في هذا المجال تضاعفَتْ إلى حدٍّ هائل في السنوات الأخيرة، وبدأ العلماء يقتربون من اليوم الذي يَستطيعون فيه أن يَعرفوا آلية العمليات التي تتمُّ في المخ، ونوع التغيُّرات الفيزيائية والكيميائية التي تحدُث فيه عندما يؤدِّي وظائفه المختلفة، وطبيعة مراكز القدرات الذهنية المختلفة وكيفية التحكُّم فيها، إلى آخر هذه الأسرار التي ظلَّت مُستغلقة على البشر حتى وقتٍ قريب. ومن المؤكد أن التقدُّم في علم السيبرنطيقا والخلايا الإلكترونية كان له دور كبير في هذا الصدد؛ أي إن العلم مثلما استعان بمعلوماته المُتوافِرة عن الجهاز العصبي البشري — وضمَّنه المخ — في استحداث علم السيبرنطيقا، قد استعان بهذا العلم بدوره — بعد تطويره — لكي يُلقي مزيدًا من الضوء على طبيعة العمليات التي تحدث عندما يؤدِّي المخ البشري وظائفه العصبية والنفسية والعقلية، ونتيجةُ هذه الكشوف ستكون فائقة الأهمية؛ إذ إنها ستُتيح للعلم — يومًا ما — أن يتحكَّم في تركيب المخ البشري، ويزيد أو ينقص قدرات معينة فيه إلى حدٍّ لم تَعرفه البشرية من قبل.
على المرء بقدر ما يغتبط لقُدرة العلم على الامتداد بسيطرة الاقتصادي، بحيث تسري حتى على طبيعته الداخلية الخاصة بعد أن قطع شوطًا بعيدًا في السيطرة على الطبيعة الخارجية، لا يملك إلا أن يشعر بالجزع من جراء الاحتمالات المخيفة التي تُثيرها هذه الكشوف، وخاصةً إذا تصورنا أن هذه الاحتمالات قد تحقَّقت في إطار التنظيمات الحالية للمجتمعات البشرية، ففي يد من سيُترك هذا التحكم في حياة الاقتصادي وفي خصائصه الوراثية؟ وما إنتاجه الأهداف التي يَنبغي أن تراعى في إدخال هذه التعديلات الخطيرة؟ ومن الذي سيُحدِّد هذه الأهداف؟ بل إن السؤال الذي يسبق هذه الأسئلة هو: هل يجوز التفكير أصلًا في تعديل قدرات الاقتصادي؟ وإلى أي مدًى يُعَدُّ مثل هذا التدخل أمرًا مشروعًا؟ وهل يكون من حقنا أن نتَّخذ من الإنسان — وهو أرفع الكائنات مكانة — موضوعًا للتجارب وللتشكيل المتعمد في المختبرات؟
إنَّ الخيال العلمي كان — منذ وقت بعيد — يجزع أشد الجزع لمثل هذا التلاعب في الطبيعة البشرية، ويُصوِّره بصورة شديدة التشاؤم في قصة مثل قصة «فرانكشتين» ذلك الكائن المخيف الناتج عن تلاعُب العلم في المخ البشري. ومن النادر أن نجد — منذ ذلك الحين — قصة تُصوِّر نتيجة تدخل العلم في قدرات الإنسان الطبيعية بصورة تبعَث على التفاؤل والأمل. والواقع أن هذا التشاؤم له ما يبرره؛ إذ إننا لو تخيلنا أن العلم قد اكتسب قدرات كهذه في ظلِّ الأوضاع الاجتماعية والسياسية الحالية، فإن الاحتمالات تكون مخيفة حقًّا.
فمن المُمكِن أن تستغلَّ الدول ذات الأنظمة العدوانية كشفًا علميًّا كهذا لكي تَزيد من قسوة مواطنيها أو مِن قدراتهم على سحق خصومهم بلا رحمة. ومن المؤكَّد أن مثل هذا الكشف لو تُرِكَ لسياسيِّين من النوع الذي اتخذ قرار استخدام القنبلة الذرية في هيروشيما؛ لاستغلوه أبشع استغلال. كذلك لو تخيَّلنا أن هذه القدرة الفائقة للعلم على تشكيل صفات البشر قد وُضِعَت في يد مجتمع يحكمه أصحاب الأطماع الاقتصادية والمصالح التجارية؛ لكان من الجائز أن يَستغلُّوها في تكوين أجيال بشرية تُحمَل بلا شكوى وبلا كلل في مصانعهم أو تَستهلك منتجاتهم طائعة، وربما تعمدوا أن تكون هذه الأجيال في معظمها نمطية لا تنوُّع فيها.
وهكذا فإن هذه القدرة الهائلة على التحكم في طبيعة الإنسان ينبغي أن تقترن بها قدرة مماثلة على التحكم في التنظيمات الاجتماعية البشرية. ومن المؤكد أننا في حاجة إلى نوع جديد من السلطة، ومفهوم جديد للعلاقات بين البشر، حتى يُمكننا أن نأمن عدم استغلال هذه الكشوف ضد مصلحة الإنسان. وإذا كنا حتى الآن نَعدُّ هذه الاحتمالات بعيدة، فإن العلماء يقولون غير ذلك؛ إذ إن العلم قد اجتاز بالفعل بداية الطريق الذي سيؤدِّي به — عاجلًا أو آجلًا — إلى جعل هذه الاحتمالات حقيقة واقعة.
ومع ذلك فإن احتمال توصُّل الإنسان إلى نوعٍ من التنظيم الاجتماعي الذي يجعله أهلًا لمواجهة عصر التحكُّم في القدرات البشرية هذا، يبدو أضعف من احتمال وصول العلم إلى هذا العصر ذاته، وتلك ظاهرة تبدو محيِّرة بحق؛ إذ إن تغيير التنظيمات الاجتماعية والسياسية أمر يدخل في نطاق قدرتنا، ولا يتضمَّن عناصر خفية أو مجهولة أو مُستحيلة التحقيق، على حين أن الوصول بالكشف العِلمي إلى غايته يَنطوي على قدر كبير من الصعوبة، ويدخل جزء كبير منه في باب المجهول الذي لم تتحدَّد معالمه بعدُ، ولكن طغيان المصالح وسيطرة الأنانية يجعل التغيير الواقع في نطاق سيطرتنا أصعب وأبعد منالًا من ذلك الذي يَخرج عن هذا النطاق.
وعلى أية حال فإن المستقبل يحمل في طياته مفاجآت كثيرة في هذا الميدان، لا تقلُّ عن تلك التي حمَلها إلينا العلم في ميدان الفضاء خلال الأعوام العشرين الماضية، والمأمول أن يَثبُت العقل البشري أنه قد بلغ من النُّضج ما يسمح له بالتحكُّم في ذاته بنفس الكفاءة التي تحكَّم بها في العالم المحيط به.
(٢-٥) مشكلة التسلح
هي بغير شك أخطر المشكلات التي يواجهنا بها العلم المعاصر، وهي التي يتوقَّف عليها حلُّ كثير من المشكلات التي عرضناها من قبل إن لم يكن جميعُها، وهي تتميَّز بطابع فريد عن غيرها من المشكلات التي تُواجِهُها الإنسانية؛ إذ إنها «مصيرية» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنًى؛ لأن من طبيعة الأسلحة المعاصرة أنها قادِرة على إفناء العالم كله — حقيقة لا مجازًا — في لحظات.
ولقد كان الوضع الطبيعي والمعقول هو أن يَرتبط العلم بالسِّلم لا بالحرب؛ إذ إن العلم نتاج العقل، والعقل لا يَعترف بلغة العنف في فضِّ المنازعات، بل يُحكِّم المنطق السليم في أيِّ خلاف، وكان هذا بالفعل ما تصوَّره المُفكِّرون الفلاسفة في عصر التفاؤل والاستِنارة الفكرية في القرن الثامن عشر، حين أكَّد العقل — من خلال العلم — انتصارَه على الخرافة والتعصُّب وضيق الأفق، فقد كان الحلم الذي يُراودهم — وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني الكبير إيمانويل كانْت — هو أن يؤدِّي انتشار العلم إلى إقرار «سلام دائم»؛ وذلك على أساس أن المعقولية التي يشيعها العلم لا بد أن تؤدي بالإنسان إلى نبذ الحرب من حيث هي وسيلة لفضِّ النزاعات، والاحتكام إلى العقل القادر على إيجاد وسيلة سلمية لحلِّ كل خلاف.
ولكن هؤلاء الفلاسفة كانوا — بغير شك — مُتفائلين إلى حدِّ السذاجة، ومن المُمكِن التفكير في أسباب كثيرة ربما كانت هي التي أدَّت بهم إلى الوقوع في هذا الخطأ، فربما كانوا مخطئين حين تصوَّروا أن العقل — في حالة العلم — هو وحده يتحكَّم فيما ينتجه، وتجاهلوا بذلك عنصر المصالح والأحقاد والأطماع، وتدخُّل الحكام — من غير العلماء — في احتمال استخدام العقل من أجل نشر الجنون، واستغلال العلم — وهو أعظم أداة في يدِ العقل لإعلاء الحياة — من أجل الخراب والموت، إذ كان هذا الاحتمال هو الذي تحقَّق بالفعل طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية.
فقد ارتبط العلم بالحرب منذ أقدم العصور؛ إذ كانت عبقرية العلماء تُستخدَم في زيادة قدرة الإنسان على القتال والقضاء على الخصوم، بقدر ما كانت تُستخدَم في فهم قوانين الطبيعة. ومنذ عهد «أرشميدس» نجد العلم يتجه إلى خدمة الأغراض العسكرية، بل يبدو أن استخدامه في الحرب كان يفوق في أهميته — في كثير من الأحيان — استخدامه في السلم؛ فمن المعروف — على سبيل المثال — أن عالِمًا كبيرًا مثل «جاليليو» قد نال رضاء الحاكم عنه، لا لأنه اكتشف قانون القصور الذاتي أو قانون سقوط الأجسام أو صحَّح معلوماتنا الفلَكية، بل لأنه أقنعه بأن كشوفه في الميكانيكا وعلم المَقذوفات قادرة على تحسين الأسلحة وزيادة دقَّة تصويبها إلى حدٍّ بعيد، ويكاد يكون من المؤكَّد أن أبحاثه في ميدان الأسلحة هي التي أتاحَت له فرصة القيام بأبحاثه الأخرى — الأهم بكثير — في ميدان الطَّبيعة والفلك، وقد حدَث ذلك من قبل لعبقري النهضة الإيطالية ليوناردو دافنشي، ولعدد كبير من العلماء فيما بعد.
بل إنَّ كثيرًا من الكشوف العلمية السِّلمية قد ظهَرت «في ظل» أبحاث ذات أهداف حربية، مما دفع بالكثيرين إلى القول بأن العبقرية البشرية تتجلَّى في الميادين العسكرية أكثر مما تجلى في الميادين السلمية، وأن الإنسان أقدر على استخدام العلم من أجل الموت منه على استخدامه لخدمة الحياة. ولكن حقيقة الأمر بالإنسان أن التطوُّر السريع للبحث العلمي أيام الحرب يَرجِع إلى عوامل من بينها الإحساس وتركيزه لقُواه البشرية وموارده المادية في سُبُل إيجاد حلٍّ سريع للمشكلات التي تَعترِض جهده الحربي، وكل هذه عوامل لا وجودَ لها في فترات السلم.
على أنه مهما كانت طبيعة العلاقة بين الكشوف السِّلمية والكشوف الحربية في القرون الماضية، فإن تطوُّرًا هامًّا وحاسمًا قد طرأ على هذه العلاقة في القرن العشرين، الذي بدأه الإنسان وما زال للخَيل والفرسان دور في حروبه، وانتهى به الأمر — في عصرنا الحاضر — إلى حرب الأزرار الإلكترونية والصواريخ العابرة للقارات وأشعة الليزر والقذائف النووية. ففي القرن العشرين قفزت أداة الحرب ووسائل القتل والدمار قفزة هائلة إلى الأمام، وبقدر ما نجح العلم في إطالة عمر الإنسان عن طريق كشوفه الطبية والبيولوجية، وفي تحقيق الرخاء والرفاه لحياته عن طريق المخترعات التكنولوجية، نجح أيضًا (إن كان اسم «النجاح» يَصلُح للانطباق على هذه الحالة) في اختراع أفتك وأشرس أدوات القتل الجماعي ونشر البؤس والتعاسة بين البشر.
ولقد كان الارتباط بين العلم وبين تطوير الأسلحة من الوثوق إلى حدِّ أن أطلق البعض على الحرب العالَمية الأولى اسم حرب الكيميائيِّين (إشارة إلى دور الكيمياء في صناعة المتفجِّرات وتطوير الوقود ثم الغازات السامة في هذه الحرب)، وعلى الحرب العالَمية الثانية اسم حرب الفيزيائيِّين (إشارة إلى دور الفيزياء في صنعِ القنبلة الذرية والرادار وغيرهما). أما الحرب الثالثة فستكون — إذا وقعت — حرب علماء الصواريخ والفضاء والإلكترونيات؛ أي إن دور العلماء في هذه الحروب يفوق في أهميته دور الجيوش المُحارِبة، بل أصبح العلم مُتغلغلًا في عمل الجندي المُحارِب ذاته.
وليس من السهل أن يُحدِّد المرء النقطة التي بدأ عندها التحوُّل من أسلحة الدمار المحدود إلى أسلحة الدمار الشامل. إن الحرب العالَمية الثانية — التي استُخدمَت في جميع جبهاتها (باستثناء المرحلة الأخيرة من جبهة الشرق الأقصى) أسلحة تقليدية — أدَّت إلى قتل عشرات الملايين من العسكريِّين والمدنيين، منهم ثلاثون مليونًا من الاتحاد السوفيتي وحده. ولكن من المؤكد أن اختراع القنبلة الذرية واستخدامها في هيروشيما ثم نجازاكي في أغسطس ١٩٤٥ يُمثِّل نقطة تحول حاسمة في تاريخ التسلُّح المرتكز على كشوف علمية.
ولقد كانت دوافع العلماء الذين بدءوا هذا المشروع إنسانية خالصة؛ إذ كان الهدف الأصلي للمشتغلين في هذا المشروع — كما ذكرنا في الفصل السابق — هو الحيلولة دون قيام هتلر بفرض مبادئه الإرهابية والعنصرية على العالم عن طريق هذا السلاح الرهيب، ولكن الذي حدث بالفعل هو أن هزيمة هتلر قد تمَّت دون الحاجة إلى استخدام هذا السلاح، وقبل أن يتمكن العلماء الألمان من تطويره. وإذا كانت اليابان قد ظلَّت تحارب بعد ألمانيا فقد كان العالم كله يعرف أن أيامها معدودة، وأنها أخذت تَنسحِب من موقع تلو الآخر، لم يكن في إمكانها مواجهة الحلفاء الذين تفرَّغوا لها بعد هزيمة حلفائها الألمان. ومن هنا فقد كان العلماء الذين شاركوا في صنع القنبلة هم أشد الناس ذهولًا حين فوجئوا بنبأ إلقاء القنبلتين الذريتين — الأوليَين والأخيرتين حتى الآن — على المدينتَين اليابانيتين، وكان الدمار الذي أحدَثته القنبلتان، وعدد الأرواح التي أُزْهِقَت ومعظمها من المدنيين، وكذلك عدد المصابين بحروق وإشعاعات وتشويهات؛ كان ذلك كله شيئًا يفوق في بشاعته كل ما عرفناه من مجازر الحروب. ولم يجد هؤلاء العلماء مبررًا معقولًا لاستخدام اكتشافهم على هذا النحو الوحشي، وإذا كان أصحاب القرار السياسي قد أكَّدوا أن القنبلتين أنقذتا أرواح ألوف كثيرة من الجنود الأمريكيِّين الذين كانوا سيُقْتَلون لو لم تَستسلِم اليابان، فإن تقديرات الخبراء كانت تذهب كلها إلى أن اليابان كانت في حكم المهزومة، وكانت تُفاوِض سرًّا للاستسلام قبل إلقاء القنبلتين، فما الداعي إذن لكل هذه الآلام البشرية التي لحقتْ بمدنيين أبرياء؟ الواقع أن عددًا من المحللين السياسيين قد ذهبوا إلى أن المقصود من إلقاء القنبلتَين لم يكن الإسراع بهزيمة اليابان، بل كان قبل ذلك تأكيد سيادة الولايات المتحدة بوصفها الدولة العالَمية الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية، وإرهاب العالم وخاصة الاتحاد السوفيتي الذي كان قد بدأ يؤلف «معسكرًا اشتراكيًّا» بعد هذه الحرب؛ حتى لا تُحاول أية دولة — أو أي نظام مضاد — منافسة القوة العسكرية والاقتصادية الهائلة للولايات المتحدة.
على أنَّ أمثال هذه المبرِّرات — إذا كانت تقنع بعض السياسيين ممن لا يُفكِّرون إلا من خلال مصالِحهم — لا يمكن أن تُقنع علماء يَضعون نصب أعينهم — قبل كل شيء — الأهداف الإنسانية. ومن هنا فقد انتابَت العلماء الذين شاركوا في صنعِ القنبلة الذرية «أزمة ضمير» حادة، وشعروا بأن جهودهم قد أدَّت إلى إدخال الإنسانية عصرًا جديدًا، هو عصر أسلحة «الدمار الشامل»، التي لا تُفرِّق بين الجنود المُحاربين وبين النساء والأطفال، التي تهدِّد الحياة على سطح هذا الكوكب بالفناء التام.
ومنذ ذلك الحين طرأ تطور هائل على القوة التدميرية للأسلحة النووية، حتى أصبحَت قنبلتا هيروشيما ونجازاكي أشبه «بلُعَب الأطفال» بالقياس إلى القنابل الهيدروجينية الحالية، كما طُوِّرَت الصواريخ بحيث تستطيع أن تحمل رءوسًا نووية وتُصيب أي مكان في العالم، سواء من قواعد ثابتة أم من قواعد متحرِّكة (كالغواصات النووية). وكانت هذه التطورات كلها مرتبطة ارتباطًا أساسيًّا بالعلم؛ إذ إن علماء فترة «الحرب الباردة» لم يكونوا على نفس القدر من الحساسية الذي كان عليه رواد القنبلة الذرية، ربما لأن هؤلاء الأخيرين كانوا قد خرَجوا لتوِّهم من أهوال الحرب العالمية الثانية، وربما لأن أسلحة الدمار الشامل قد أصبحَت بعد ذلك شيئًا مألوفًا، تُحسَب قدرته التدميرية بحسابات رياضية باردة لا تؤخذ فيها آلام الإنسانية بعين الاعتبار.
ونتيجة ذلك كله هي أن العالم يعيش الآن على طرفَي «توازن الرعب» الذي تقوم فيه الدولتان العظيمتان؛ أمريكا والاتحاد السوفيتي، بتكديس كميات من الأسلحة تَكفي لقتل العالم كله «عدة مرات» (ولست أدري لماذا؟!)
وتقف فيها الصواريخ ذات الرءوس النووية على أُهبة الاستعداد في انتظار ضغطة زر من رئيس الدولة، وتُراقب فيه كل دولة الأخرى مراقبة دائمة في انتظار أية إشارة تُنبئ بخروج الصواريخ منها؛ لكي تضرب «الضربة الانتقامية» قبل وصول الصواريخ المُعادية إليها، ولو قُدِّر للبشرية أن تعيش قرنًا آخر أو قرنين، فمن المؤكَّد أنه سوف تسخر ما شاءت لها السخرية من حالة الرعب المتبادَل التي يعيش فيها إنسان اليوم في أرقى دول العالم، وهي حالة «بدائية» بكل ما تَحمِله الكلمة من معنى، حتى وإن كانت تستخدم فيها أرقى وأحدث تطورات العلم.
على أن المُغالَطة هنا واضحة؛ إذ إن الأرقام لم تتناوَل سوى الضَّحايا المدنيين، وتجاهلَت الضحايا العسكريِّين في نفس البلد، فضلًا عن أن المقارنة كان يجب أن تكون بين خسائر كل الحروب التي نَشَبت خلال مائة عام، والتي نجَمَت عن التقدم العلمي والتكنولوجي، ولكن الأهم من ذلك أن كوارث البشرية ليست مسألة أرقام وإحصاءات، بل إنَّ التسلُّح — سواء استُخْدِمَ بالفعل أم ظلَّ يُهدِّد «الآخرين» في كل لحظة — يخلق دمارًا نفسيَّا وخوفًا مستمرًّا من الفناء، ويولِّد انحرافات نفسية وخلقية لم يعرفها العالم إلا في عصرنا هذا، ويُبدِّد موارد الإنسان وجهده بلا طائل.
لذلك فإن هذا الجنون المدمِّر الذي يسيطر على عالم اليوم بفضل التسليح، قد أعطى لأعداء العلم فرصةً هائلة لمهاجمته؛ إذ إن العلم هو الذي يُتيح للدول المتقدمة تطوير أسلحتها؛ ومن ثم فإنهم يستنتجون من ذلك أن العلم «هو المذنب»، ولكن حقيقة الأمر هي أن العلم إذا كان هو أساس الأبحاث المؤدية إلى تطوير أسلحة الدمار، فمِن المؤكَّد أنه خاضع لتحكُّم قُوى أخرى خارجة عنه، هي القوى التي تَخطر له وتُحدِّد اتجاهاته، إنْ سلمًا أو حربًا، وتموِّل أبحاثه وتوظِّف المشتغلين فيه، وهي القوى التي تتخذ القرار وتُنفِّذه بعد أن يتم الكشف، وهذه القوى سياسية في المحل الأول، تتحكم في اتجاهاتها الأطماع والمصالح ولا تُصدِر قراراتها بعد استشارة العلماء إلا نادرًا، والمثل الواضح على ذلك هو القنبلتان الذريتان الأوليان أيضًا؛ فقد كان من رأي العلماء الذين اخترعوها أن تُجْرى تجربة دولية أمام مندوبين من مختلف بلاد العالم لإطلاعهم على مدى القوة التدميرية للقُنبلة، ويُطلَب إلى اليابان أن تستلم على هذا الأساس، ولكن الحاكم السياسي — وهو الرئيس «ترومان» في ذلك الوقت — كان له رأي آخر، وحين اتخذ قراره باستخدام القنبلَتين ضد أهداف مدنية كان يسير في اتجاه مضاد تمامًا لما يريده العلماء.
إن العلم لا يحمل في ذاته اتِّجاهات عدوانية، وإذا كان يُعادي شيئًا فهذا الشيء هو الجهل والشعور بالعجز أمام قُوى الطبيعة، ولكن طبيعة البحث العِلمي — في عصرنا هذا — قد طرَأ عليها من التعقيد ما يَجعل العالم مُضطرًّا إلى الإذعان لسلطة أقوى منه، فالأجهزة العلمية أصبحت باهظة التكاليف، وأدوات البحث — من كُتُب ومراجع — لا بد أن تُوفِّرها الدولة، ومن هنا أصبح العالم مجرد ترسٍ في آلة ضخمة هي الدولة، أو هي الشركة الكبيرة إن كان في بلدٍ يسودُه النشاط الاقتصادي الخاص. وهكذا أصبحت الاعتبارات السياسية أو الاقتصادية هي التي تتحكَّم في عمله العلمي، وهي التي ترسم له الخطة، وتُحدِّد اتجاهات بحثه، وتتَّخذ القرار النهائي بشأن التصرُّف فيه.
ولو نظَرنا إلى الموضوع من وجهة نظر علمية خالصة لبدا ذلك الجهد الذي تَبذُله دول العالم اليوم في ميدان التسلُّح أمرًا متنافيًا مع كل الأهداف التي يَسعى إليها أي عالم يَحترم مهنته ويفهم وظيفتها فهمًا صحيحًا؛ ذلك لأن هناك أموالًا طائلة تتبدَّد من أجل إنتاج أسلحة تظلُّ مخزونة بضع سنوات، ثم يظهر ما هو أحدث منها، فتُهمَل أو تُباع إلى دول أخرى أقلَّ تقدُّمًا وأقل ذكاءً. وهذه الأموال كافية لتَحقيق كثير من الأحلام التي يتمنى العلماء لو كرَّسوا لها حياتهم. بل إن المشروعات التي يمكن إنجازها — فيما لو خُصِّصَت هذه الأموال الطائلة للأغراض السليمة — كفيلة بتغيير مجرى الحياة على وجه الأرض، وبالقَضاء على مظاهر الجوع والفقر والجهل والمرض. ومثل هذا يقال عن الموارد الطبيعية — من معادن ومصادر للطاقة — التي تُبدِّدها مشروعات التسليح، والتي يحتاج إليها الإنسان في عالَمنا المعاصر احتياجًا شديدًا، وربما كان الأهم من ذلك أن العمل في الميدان العسكري يَستقطِب — في البلاد الصناعية الكبرى — عددًا من أفضل العقول التي كان يمكن أن تقدم إلى البشرية أجلَّ الخدمات لو اتَّجهَت في طريق بنَّاءٍ بدلًا من أن تخدم أمراض التسلح الهدامة. كل هذا التبديد يَحدُث من أجل هدف لا تجني منه الإنسانية سوى الخسارة؛ فلو استُخْدِمَت الأسلحة الهائلة المكدَّسة لكان من ذلك فناء الحياة على سطح هذه الأرض في دقائق معدودات، ولو لم تُستخدَم وظلَّت مخزونة لكان معنى ذلك تبديد أفضل الموارد والطاقات المادية البشرية — في عالَم يُعاني من عدد هائل من المشاكل — في صنع منتجات لن يستخدمها أحد.
وإذن، فلو تُرِكَ الأمر للعلماء لكان موقفهم — قطعًا — في جانب الاستخدام السلمي لموارد مجتمعاتهم، ولا بد أن هناك قوى أخرى، على رأسها ذلك «التحالف الصناعي العسكري» الذي أشار إليه إيزنهاور نفسه — أعني رئيس أكبر دولة صانعة للأسلحة في العالم، وقائد أكبر جهاز عسكري في الحرب العالَمية الثانية — وأكَّد أنه يقف من وراء هذا السباق الجنوني في التسلُّح.
على أن هذا يُعفي العالم من المسئولية؛ فبقدر ما أصبح عمل العالم — في أيامنا هذه — يؤثر على مصير البشرية تأثيرًا مباشرًا، أصبح هذا العالم مطالبًا بأن يكون لديه مزيد من الوعي بنتائج عمله. ولا شك أن هذا الوعي أمر عسير في الوقت الراهن بالذات؛ إذ إن العلم يَزداد تفرعًا وتخصُّصًا على الدوام، بينما الوعي يحتاج إلى نظرة شاملة وأفق واسع؛ أي إن تطور العلم نحو التخصُّص المتزايد يسير في اتجاه مضاد لذلك الوعي الاجتماعي والسياسي الذي أصبح العالم مطالبًا به؛ حتى لا يقع فريسة لسوء الاستغلال. ولكن عددًا غير قليل من أقطاب العلم في عَصرنا هذا تمكَّنوا من الجمع بين التفوق في تخصُّصهم، والقدرة على تكوين نظرة مُتكاملة تجمع بين حاجات العلم وحاجات الإنسان في المجتمع المعاصر، وهؤلاء الأقطاب هم الذين تَرتفِع أصواتهم في كل مناسبة، منادية باستخدامه لأهداف إنسانية، ومؤكِّدة أن العلم قادر — لو استخدم من أجل بناء حياة الإنسان لا هدمها — على أن يُحيل الصحراء إلى جنة، ويُطعم الملايين العديدة من الأفواه الجائعة، ويُخلِّص المرضى من آلامهم، ويكفل للمحرومين إنتاجًا سخيًّا فائضًا، ويَرعى عقل الإنسان في كل مكان بثقافة عالية وفن رفيع. وصحيح أن أصواتهم هذه ليست لها الكلمة الأخيرة، ولكن كلمتهم مع ذلك مؤثرة، ولو اتَّسعت قاعدة الوعي بين العلماء لأصبح لديهم من القوة ما يُمكِّنهم — على الأقل — من موازنة حماقات السياسيين.
ومع ذلك فإن للموضوع من الخطورة ما يَتجاوز نطاق اهتمام العلماء، فالمُشكلة تتعلَّق بمصير النوع البشري كله، وهذه مسألة أخطر عن أن تُتْرَك في أيدي العلماء، حتى ولو كان وعيهم عميقًا، وأخطر بالطبع من أن تُتْرَك في أيدي السياسيِّين أو أصحاب المصالح الاقتصادية، فعلى أيِّ نحو إذن ينبغي على البشرية أن تُواجه مثل هذه المشكلة الحاسمة؟ هذا ما سنُحاوِل مناقشته في الجزء الأخير من هذا الفصل.
(٣) العلم والقيَم الإنسانية
تُشير المشكلات السابقة كلها — بصورة واضحة كل الوضوح — إلى حقيقة أساسية هي أن التقدُّم العِلمي المعاصر يَسير في طريق تفجير النُّظُم الاجتماعية التي ظلَّ الإنسان يعيش في ظلِّها حتى اليوم. فمُشكلة الغذاء والسكان لا تُحَل إلا على نطاق عالَمي لم يَتوافر الإطار اللازم له حتى الآن، ومشكلة البيئة سوف تَخرج من أيدينا إن لم نُواجِهها بإجراءات تتجاوز نطاق أية دولة على حدة، ومشكلة الموارد الطبيعية تقتضي منا نوعًا من التفكير في الحاضر وفي المستقبل يخرج عن إطار «الأنانية» و«المصلحة» و«حب الاستهلاك» التي تسود المجتمعات البشرية الحالية، ومشكلة الوراثة والتحكم في الإنسان تبدو في نظرنا شيئًا سخيفًا إذا تصوَّرناها في إطار النُّظم السائدة الآن في العالم، وأساليب التفكير التي تحكم العلاقات بين الدول أو بين فئات المجتمع الواحد. وأخيرًا فإن مشكلة التسلُّح — وهي أخطر المشكلات جميعًا — تضع أمامنا الخيار واضِحًا: فإما أن نمضي قدمًا في طريق تطوير أسلحة الدمار الشامل في ظلِّ نظام المنافَسة والعداوة الحالي، فنقع جميعًا في الهاوية، وإما أن نُعيد النظرة في أهدافنا ونستغلَّ قدراتنا العِلمية المتزايدة من أجل تحقيق رخاء لم تحلم به البشرية في أي عصر من عصورها، وهذا يقتضي تغييرًا أساسيًّا في طبيعة النُّظُم التي تسود المجتمع الإنساني. وباختصار فإن التقدم العلمي الذي نشهد بوادره القوية في هذه الأيام، سيضعنا أمام «طريق السلامة» و«طريق الندامة» كما يقول التعبير الشعبي البليغ، وليس لنا من خيارٍ سوى السَّير في الطريق الأول؛ لأننا لو اخترنا الثاني فلن نكون هناك لكي نَندم!
ولكن ما الذي يَستطيع العلماء أن يَفعلوه في موقف كهذا؟ وما الذي يَعجزون عن القيام به؟ الواقع أن الآراء تختلف في هذا الموضوع بين أولئك الذين يؤمنون بأن العلم الذي يستطيع أن يحلَّ كافة المُشكلات التي خلَقها تقدُّمه السريع، وأولئك الذين يُنادون بضرورة الاستعانة بمصادر أخرى غير العلم؛ لكي نُعيد ذلك التوازن الذي أخلَّ به العلم، وكلٌّ من هذَين الرأيين يستند إلى حُجَج معقولة، وإن كنتُ أعتقد — كما سأبين فيما بعد — أن الفَرْق بينهما ليس كبيرًا إلى الحد الذي يبدو عليه للوهلة الأولى.
أما الرأي الأول الذي يَذهب إلى أن العلم هو الكفيل بإصلاح ما أفسده التقدم العلمي ذاته، فيُمكِن أن يبدو في ظاهره متناقضًا؛ إذ إن التقدم العلمي إذا كان قد خلَق مُشكلات معيَّنة، فمن غير المعقول — على ما يبدو — أن تعالَج هذه المشكلات عن طريق العلم نفسه؛ لأن هذا مجال لا ينفع فيه المثل القائل: «وداوِني بالتي كانت هي الداء.» ولكن هذا التناقُض الظاهري يَختفي بسهولة إذا أدركنا أن معنى العلم ليس واحدًا في الحالتَين؛ فالعلم المتقدم — الذي خلق مشكلات عديدة — هو العلم الطبيعي، أما العلم الذي يُمكنه أن يحلَّ هذه المشكلات فهو العلم الإنساني.
ولقد لاحظ مُفكرون أن تقدم العلم — في الآونة الأخيرة — يفتقر إلى التوازن، فهناك ميادين أحرز فيها تقدمًا هائلَا هي التي تتعلَّق بالعالم الطبيعي، على حين أن هناك ميادين أخرى لا يزال العلم يَحبو في أولها، وهي الميادين الخاصة بالإنسان، ومن المستحيل أن يكون هذا التفاوت الشديد في التقدُّم راجعًا إلى مدى أهمية الميدان الذي يَبحثُه العلم بالنسبة إلينا؛ ذلك لأن أحدًا لا يستطيع أن يزعم أن التنبؤ باليوم والدقيقة والثانية التي سيحدث فيها الكسوف التالي للشمس أهم في نظرنا من الاهتداء إلى علاج لمرض السرطان، أو أن إرسال قذيفة إلى مكان محدَّد على سطح القمر يُهمُّنا أكثر من معالجة انحرافات الشباب، أو أن كشف التركيب الداخلي للذرة أهم من الاهتداء إلى أساليب تُحقِّق الاستقرار للاقتصاد القومي. فمن حيث الأهمية يبدو لنا أن الموضوعات التي تمسُّ الإنسان مباشرة هي الأهم، ومع ذلك فإن العلم ما زال في هذه الموضوعات أشد تخلُّفًا منه في الموضوعات الأخرى التي قد يكون بعضُها متعلقًا بظواهر بعيدة عنا كل البعد.
والتعليل الشائع لهذا التقدُّم غير المتوازن مُستمَد من طبيعة الميادين التي يَبحثها العلم، فهناك ميادين أبسط من غيرها؛ بمعنى أن الأسباب فيها موحَّدة الاتجاه، لا تنطوي على تعقيد أو تعدد، وتلك هي التي يُحرز العلم فيها أعظم قدر من النجاح. أما الظواهر البشرية فإن الأسباب فيها شديدة التعقيد إلى حدٍّ لا يبدو معه أنها تؤدِّي دائمًا إلى نفس النتائج، أو على الأصح: إنَّ حصر الأسباب التي تتحكَّم في الظاهرة البشرية الواحدة (كانحراف أحد الأحداث مثلًا) هو من الصعوبة بحيث يصعب إخضاع كل جوانب الظاهرة للتحليل العلمي الدقيق، ويظلُّ فيها على الدوام «جانب مجهول» أو «لا يمكن التنبؤ به»، مما يجعل العلم عاجزًا عن أن يُحرِز في مجال الظواهر البشرية نفس القدر من النجاح الذي يُحرِزه في مجال الظواهر الطبيعية.
ومع اعترافنا بصحَّة هذا التعليل، فلا بد لنا أن نضيف إليه تعليلًا آخر مُستمدًّا من طبيعة الأوضاع السائدة في العالم المعاصر؛ ذلك لأن التقدم العلمي يتوقَّف أيضًا على الأهداف والمصالح السياسية والاجتماعية. فإطلاق قذيفة بها رواد فضاء إلى القمر والعودة بهم إلى الأرض سالِمين، هو على الأرجح أمرٌ لا يقلُّ تعقيدًا عن الاهتداء إلى علاج لمرض السرطان، ولكن العلم ينجح في تحقيق الهدف الأول ويتعثَّر حتى الآن في تحقيق الهدف الثاني؛ لأن المجتمع ذاته رسَم سياسة معيَّنة ووضع تخطيطًا خاصًّا يؤدي إلى هذا النجاح؛ وذلك نظرًا إلى وجود مصالح استراتيجية أو دعائية يُحقِّقها الوصول إلى القمر، على حين أن مرض السرطان لا يُحقِّق نفس الأهداف.
ولا شكَّ أن هذا الجانب المتعلِّق بأهداف المجتمع ومصالحه يُمكن أن يُعلِّل قدرًا كبيرًا من انعدام التوازن الذي يتَّصف به نمو العلم في مرحلته الحالية. وهكذا يُعلِّق الكثيرون آمالًا عريضة على قدرة العلم على اقتحام تلك الميادين التي ظلَّ حتى الآن يعالجها معالجة هامشية، ويؤكدون أن العلم لو استطاع تحقيق التوازن المفقود لأمكَنه حلُّ جميع المشكلات المترتبة على تقدمه السريع، بل لما عاد هذا التقدم يخلق أية مشكلات للمجتمع الإنساني. فلنتصوَّر مثلًا أن طريقة تنظيمنا للمُجتمع قد وصَلت إلى نفس القدر من الدقة التي وصَلت إليه قدرتنا على صنع العقول الإلكترونية أو تحليل جزيئات المادة، عندئذ تختفي المشكلات التي أشرنا إليها من قبل تلقائيًّا؛ إذ إنَّ هذه المشكلات لم تتوالَد نتيجة لحدوث تطورات سريعة في فهمنا للعالم الطبيعي، على حين أن المجتمعات البشرية لا تزال تسودُها تنظيمات ارتجالية عشوائية يَحكُمها منطق المصالح، ولا تَحُلُّ خلافاتها إلا عن طريق استخدام القوة العسكرية الغاشمة أو التهديد بها؛ أي إننا في مجال التنظيمات نثبت أننا لم نتجاوَز مستوى الحيوان كثيرًا، في الوقت الذي يَضع فيه العلم الطبيعي في يَدِنا قوة هائلة ويُكسبنا مقدرة فائقة على السَّيطرة على الطبيعة.
وهكذا يُمكن القول: إنَّ تفكير الإنسان في أهدافه العامة وفي طريقة تنظيم مجتمعِه ما زال يمر بالمرحلة «قبل العلمية»، ولو بلَغ تحكُّمه في هذا المجال نفس مستوى تحكُّمه في الظواهر الطبيعية؛ لاختفى القدر الأكبر من المَصاعب التي يُعاني منها عالم اليوم.
على أن أصحاب الرأي الآخر يَرَون أن هذا المطلب لا يُمكِن أن يتحقَّق على يد العلم وحده، فحين نتحدَّث عن طريقة توجيه حياة الإنسان وتنظيم مجتمعه، نخوض مجال القيم والغايات الإنسانية، وهو مجال يهمُّ البشر جميعًا لا العلماء وحدهم. وفي مثل هذا المَجال يكون من الصَّعب على العالم أن يُقدِّم إلينا توجيهًا كاملًا؛ لأن تكوينه يحول بينه وبين التعمُّق في أمور معنوية شديدة العمومية كتحديد الأهداف التي ينبغي أن يُستغلَّ العلم من أجلها؛ ففي عصر التخصُّص المُتزايد يَصعب أن نجد العالم الذي يَستطيع تخصيص الوقت والجهد الكافي للتفكير في الأوضاع الإنسانية ككل. بل إن النظرة المباشرة والضيقة تغلب على العلماء، وهو أمر لا يَعيبُهم؛ لأن طبيعة عملهم تقتضيه، ولأنهم بدونه لا يستطيعون — في العصر — أن يُنجِزوا شيئًا.
وإذن، فتحديد الأهداف التي يَنبغي أن يخدمها العلم هو أمر أسمى من أن يُتَرَكَ للسياسيين المُحترفين، وأوسع وأرحب من أن يُتْرَك للعلماء المتخصِّصين، وإنما الواجب أن يُشارك فيه المفكرون والأدباء والفنَّانون والفلاسفة، وكلُّ مَنْ يُهمه مصير الإنسانية ويفكر في هذا المصير بنزاهة وتجرُّد.
وإذا كان البعض يَذهبون في تأكيد هذا الاتجاه إلى حدِّ الدعوة إلى استبعاد العلماء استبعادًا تامًّا من عملية التوجيه الاجتماعي هذه، على أساس أن طغيان النزعة العِلمية والإيمان المفرط بقدرة العلم، هو واحد من أهم أسباب المشكلات التي يجلبها تطور العلم السريع في عصرنا الحاضر، فإنا نرى في هذا موقفًا مُتطرِّفًا، ونؤمن بأن العلماء — إلى جانب المفكرين والأدباء وأنصار الإنسان بوجه عام — ينبغي أن تكون لهم كلمتهم في هذا المجال؛ ذلك لأننا لا نستطيع — بعد أن قطَعنا كل هذا الشوط البعيد في طريق التفكير العلمي — أن نُحدِّد القيم العليا والغايات الأخلاقية والمستويات التي نريد أن يصل إليها الإنسان بطريقة تأمُّلية خالصة، وعن طريق مجرد التفكير فيها. فنحن في هذه الأمور لا نحتاج إلى وعظ أخلاقي بقدر ما نحتاج إلى مَنْ يُبصِّرنا بحقائق العصر. ولا نستطيع أن نعتمد على من يُخاطبنا عن المثل العليا بطريقة مجرَّدة بقدر ما نَعتمد على من يُحدثنا بلغة دقيقة تُحلِّل الظواهر وتُوضِّح أسبابها. ومن المؤكَّد أننا — حتى في هذا المجال ذاته — لا نستطيع أن نستغني عن تلك الأداة الفريدة التي اكتسبها الإنسان بعد كفاح طويل، والتي تُتيح لنا التفكير في مشاكلنا في إطار لا ينفصل عن الواقع، ومن الصعب إلى حدٍّ بعيد أن يقتنع الإنسان — بعد كل هذا الشوط الذي قطعه في طريق العلم — بتعاليم مَنْ يريدون العودة به إلى عصر التفكير الذي لا يُبْنَى على حقائق واقعية، والذي يعتمد على التأمل الاجتهادي غير المدروس.
ومن حسن الحظ أن عصرنا هذا قد عرف عددًا لا يستهان به من العلماء الذين تمكَّنوا — بالرغم من تفوقهم الساحق في ميادين تخصُّصهم — من أن يمتدُّوا بأنظارهم إلى ما وراء ميادين تخصُّصهم هذه، ويَستشرفوا الآفاق الواسعة والبعيدة للمجتمع الإنساني ولمستقبل الحياة على هذه الأرض. هؤلاء العلماء هم الذين وقفوا يُحذِّرون — في الخمسينيات — من أخطار الإشعاعات التي تجلبها التجارب الذرية، وهم الذين ناضَلوا من أجل تحقيق السلام في فيتنام، وحارَبوا الصهيونية والعنصرية بكل أشكالها، وهم الذين يُدافعون عن حق الإنسان العادي في بيئة نظيفة وحق المولود الجديد في فرص متكافئة للحياة. بهؤلاء العلماء ينبغي أن تفخر البشرية، لا لأنَّهم قدموا إليها الكثير في مجال كشف أسرار الطبيعة فحسب، بل لأنهم استَطاعوا — برغم جهودهم المُضنية هذه — أن يمتدوا بأبصارهم إلى أوسع الآفاق، وأن يرسموا لنا صورة المستقبل كما ينبغي أن تكون، ولو وصَل عالمنا إلى المرحلة التي يكون فيها لهؤلاء العلماء — مع الفلاسفة والأدباء والفنانين والمُفكِّرين الاجتماعيِّين والأخلاقيين — كلمتهم المسموعة؛ لأمكنه أن يوازن بين تقدمه العلمي وتنظيماته الاجتماعية، وأن يُحقِّق للبشرية ذلك الرخاء وتلك الحياة الفنية — ماديًّا ومعنويًّا — التي يستطيع العلم «بقدراته الحالية» أن يُحقِّقها لنا، لو كان لدينا التنظيم الذي يرقى إلى مستوى هذه القدرات.