المشهد الأول
بداية الحكاية
(مكان خالٍ، يُملأ باستمرار بقِطَع ديكور بسيطة
تُناسب المشهد ثم يُفرغ منها لمشهد آخر جديد. ضوء القمر غلالة فضية
ساحرة ترفُّ أجنحتها على كل شيء. يُسمَع نباح كلاب بين الحين والحين.
يَدخل الغريب، وهو رجل نحيل وطويل، في ثيابٍ تُشبه خِرَق الصوفية
والفقراء وشُعراء العصور الغابرة، يُخاطب الجمهور ويشترك عند الضرورة
في أداء دور أو أكثر، ويُعلِّق على ما يحدث أمامه أو يُبرِّره أو يثور
عليه، ولكنه في النهاية لا يعدو أن يكون عابر سبيل غريبًا، يدخل
المدينة الصغيرة ويَخرج منها بمَحضِ المصادفة، وكأنه عرَّاف أو رسول
جاء بنبأ ثم انصرف إلى حال سبيله.)
الغريب
:
معذرة … معذرة يا سادتي وسيداتي … أريد أن أتكلَّم إليكم
فتَمنعني الكلاب … هل تسمعونها؟ (يتردَّد نباح الكلاب) مع أنني
لستُ كلبًا مثلها، ولا كلبة (يتلفَّت حوله ثم ينظر إلى جسمه)
أو هذا على الأقل ما أشعر به منذ ولادتي … ما أنا إلا عابر
سبيل غريب … دخلت هذه المدينة بمَحض المصادفة … نعم نعم … هش …
إنها لا تريد أن تسكت كأنَّ بينها وبيني ثأرًا … شجَّعني على
دخولها أنَّ الحراس طمأنوني … سألوني فقلت لهم: رجلٌ من أهل
الله … ماذا تقصد؟ قلت أسبح بحمده وأتأمل … قالوا: صوفي أنت؟ …
قلت فقير أسعى في الأرض … قالوا: الخير كثير … ما دمت لا تنبح
ولا تعض … قالوا أيضًا: مدينتنا بلا كلاب … كل ما نَحرص عليه
ألا يدخلها كلب … ومع ذلك فها هي تنبح … (يرتفع نباح الكلاب)
هل تسمعون؟ وما أردتُ إلا أن أحكي لكم حكاية … حكاية كلب في
المدينة التي خلَت من الكلاب … المدينة التي أمر أميرها — رعاه
الله — أن تُباد منها الكلاب … اسمعي أيتها الكلاب … اسمعوا
أيها البشر … (يهدأ النباح) لقد هدأَت قليلًا … (ينظر حوله)
لعلَّها يَئسَت بعد أن رأتْني عظمًا بلا لحم … أو لعلَّها
(ينظر للسماء فيرى القمر) كما هي العادة تنبح القمر … إنه يسطع
في السماء كقطعة لحم طازجة حمراء … ظلَّت تنبحه حتى أدركت أنها
لا تَستطيع أن تعضَّه … معذرة فقد ظلمتها … أو لعلِّي أخطأت
ولم تَنبح أبدًا … أكرِّر معذرتي لكم أيضًا … قلت سأروي لكم
حكاية … حكاية صديق عرفته وأحببتُه … المفروض أنه الآن يَرقد
في المشرحة … وربما بدأ اللحَّاد يُغسِّله ويهيئه للقبر … بعد
أن أُغلق باب القضية وأُعلن الحكم … لكنَّني سأستأذنكم وأستأذن
قانون الموت فأدعوه ليَمثُل أمامكم … فالضرورة تقضي بأن نُعيد
الحكاية بعد أن مات البطل وتمَّت فصولها … أنت … أنت … يا
صديقي (يظهر معلم الأطفال. رجل قصير مُنكسِر في ثيابٍ مُهمَلة
قديمة … يخطو مُتأففًا ساخطًا … يُجيب على أسئلة الغريب بكلام
مُفكَّك تتخلَّله غصة تندُّ عنها بحة أليمة).
غريب
:
تقدَّمْ … تعالَ!
المعلم
:
من يَطلُبني في هذا الوقت من الليل؟
غريب
:
صاحبك ونجيُّك!
المعلم
:
ليس لي صاحب. كلُّكم تخلَّيتم عني.
غريب
:
لا تتسرَّع بالحكم.
المعلم
:
الحكم صدَر وأعلنه المحقِّق.
غريب
:
سنُعيد النظر فيه … أنا وهؤلاء السيدات والسادة (ينحني
للجمهور).
المعلم
:
دعني في حالي … ألم تتركني راقدًا في المشرحة؟
غريب
:
الضرورة الفنية أقوى من كل ضرورة.
المعلم
:
حتى من الموت؟
غريب
:
حتى من الموت … هيا اروِ حكايتك علينا.
المعلم
:
ولماذا أرويها وأنت تعرفها؟
غريب
:
واشتركتُ فيها أيضًا. لكن من حقِّ هؤلاء …
المعلم
:
فليدَعوني في حالي.
غريب
(يَجذبه إلى مقدمة المسرح فيرى
الجمهور)
:
لقد حضروا بالفعل.
المعلم
(مذعورًا)
:
دعني … دعني … أنا الآن في المشرحة!
غريب
:
لكنَّ الكلاب ما تزال تنبح!
المعلم
:
لا لا … لا تُغضبهم … لا ترفع صوتك حتى لا يسمعك أمير
المدينة … أنا الكلب الوحيد في مدينتهم … اطمئنُّوا أيها
السادة … اطمئنوا ودعوني في حالي … أنا الكلب الوحيد … أنا
الكلب الوحيد. (يَبكي … يغصُّ بكلامه … يُهوهو!)
غريب
:
لا تَقُل هذا … ولا ترجع للهوهوة أيضًا … كان هذا قبل أن
تموت … وأنت الآن بحكم الضرورة.
المعلم
:
ماذا تُريدون مني … لقد سلَّمت بحكمكم (يئنُّ ويبكي).
غريب
:
نحن لم نُصدر هذا الحكم عليك (يتجه إليه ويُسكته
بحنان).
المعلم
:
أصدره القاضي والمحقِّق والأمير.
غريب
:
ونحن سنُعيد النظر فيه.
المعلم
:
ستعيدون … هذا فعل يدلُّ على حدوث شيء في المستقبل … وأنا
الآن بلا مُستقبل.
غريب
:
بل في الحال … سنبدأ الحكاية في الحال.
المعلم
:
كل شيء حدث في الماضي … كيف تستخدم فعل المضارع
والمستقبل؟
غريب
(يَلتفت للجمهور)
:
معذرة … إنه مُدرِّس نحو … وهو حريص على القواعد حتى بعد
موته … ولكني سأستَعمل معه فعل الأمر.
المعلم
(يُقاطعه)
:
هو ما دلَّ على حدوث شيء في زمن التكلم.
غريب
:
أحسنت … تقدم! … (بقسوة) قلت تقدم!
(المُعلم يخضع لأوامره … يمدُّ لسانه ويحاول أن
يقعي عند رقبته ويئنُّ ككلب.)
غريب
:
لا لا … لم تُصبح كلبًا بعد … لا تنسَ أنك الآن صديقي … لا
تنسَ.
المعلم
(يقف على قدمَيه … الغريب يجلس على سورٍ
حجَريٍّ بجانبه)
:
يوم تعرَّفت عليك؟
غريب
:
ليلة تعارفنا … هل تذكر؟
المعلم
:
نعم … نعم … كانت ليلة مُقمرة.
غريب
:
وبدأت تشكو حالك.
المعلم
:
لا أحد يحسُّ بي … لا أحد يُشاركني في شيء.
غريب
:
وكانت الكلاب تَنبح (يرتفع نباح الكلاب).
المعلم
:
أذكر … أذكر … وقلتُ لك … كل الكلاب تعضُّني.
غريب
:
وارتعشت رعبًا وقلت: هل قلتَ الكلاب؟ … أخشى أن يسمعنا جندي
أو مُخبر.
المعلم
:
وظلَّت الكلاب تنبح (الكلاب تنبح).
غريب
:
وقلتُ لك ليس في المدينة كلاب.
المعلم
:
طبعًا … طبعًا … وهل كنتُ أجهل هذا؟ مدينتنا والحمد لله
خالية من الكلاب … لا بدَّ أن العيب في أذني.
غريب
(يقف للجمهور)
:
لكنني كنت أسمعها … شككتُ أنا أيضًا في أذني … مع ذلك قلت
له: لا تَكترِث يا صاحبي … الكلاب دائمًا تَنبح القمر.
(المعلم يَنهض ويتجوَّل في المكان ويَنظر
للقمر.)
غريب
(يُربِّت على كتفه كصديقَين قديمين)
:
اطمئنَّ … هذا دأبها منذ الأزل … أنسيت ما قلته لك؟
المعلم
(يَجلس يائسًا)
:
قلت إنها لا تعضُّه.
غريب
:
تذكر بيت الشعر؟
المعلم
:
لقد نبَحُوني وما هِجتهم.
غريب
(مكملًا)
:
فما أدرَكوا غير ضوء القمر.
المعلم
:
وما الفائدة؟ الشهود كلهم ضدي.
غريب
:
سنَسمعهم أيضًا: لن تترك أحدًا منهم … هيه! … أنتم.
(يتقدَّم الشهود واحدًا بعد الآخر … الزوجة …
والابنة … والابن … والمحقِّق … والمخبر … إلى آخر الشخصيات التي
ستظهر تباعًا.)
غريب
(مُشيرًا إليهم ومتقدمًا بضع خطوات نحو
الجمهور)
:
ها هم الذين حكموا عليه … لا نُريد أن نَدينهم … ولا نُريد
كذلك أن نُعفيهم من المسئولية … نريد أن نعرف الحقيقة … نعرفها
للحقيقة والتاريخ … هذه هي زوجته … (تتقدَّم الزوجة ناحيته
صامتة) امرأة تستقبل سن الشيخوخة.
الزوجة
:
أنا في الثالثة والعشرين!
غريب
:
وابنك أيضًا في الثالثة والعشرين … سنرى هذا بعد
قليل.
الزوجة
:
سمعتُم كلامه … إنه كلب وابن كلب.
غريب
:
لا تتسرَّعي … المدينة حفظها الله وحفظ الأمير.
الزوجة
:
خالية من الكلاب … ولكنه كان طول عمره …
غريب
:
قلت لا تتسرَّعي … ابتعدي الآن قليلًا وسنَسمع غيرك.
الزوجة
:
لن يقولوا غير ما قلت … أنا أَعرفه أكثر منهم … كلب وابن كلب
… عاش كالكلب ومات كالكلب.
غريب
(بعد أن ابتعدَت المرأة)
:
امرأة شَرِسة … مع ذلك لن تتسرَّع بالحكم (ملتفتًا للابنة
التي تقدمت نحوه في استخفاف وكأنها تُبدي فتنتها) وأنت؟
الابنة
:
هل تُكلمني؟
غريب
(بنفاد صبر)
:
وهؤلاء (مشيرًا للجمهور) يَنتظرون ردك.
الابنة
:
أنا متُّ من الضحك عليه.
غريب
:
متى كان هذا؟
الابنة
:
عندما نبح كالكلب المسعور … أليس منظرًا يُميت من
الضحك؟
غريب
:
أبوكِ يَنبح فتضحكين؟
الابنة
:
ولم لا؟ وأسرعتُ وراءه بالكاميرا وأخذتُ له صورًا
نادرة.
(تخرج ألبومًا من الصور وتُريد عرضه عليه وعلى
الجمهور.)
غريب
:
فيما بعد … فيما بعد.
الابنة
:
أنا صحفية أؤدِّي واجبي … هل تُريد أن يفوتني هذا
المنظر؟
غريب
:
بالطبع لا.
الابنة
:
فهمتَني … أنا أحبُّ الأذكياء (تَعرض فتنتها عليه).
غريب
:
وماذا فعلتِ بالصور؟
الابنة
:
عملت ريبورتاج آ … وان (A,
one).
غريب
:
لا أفهم لغة الفرنجة.
الابنة
:
حسبتُ أنك ذكي … خسارة.
غريب
(منصرفًا عنها)
:
صدقتِ … نعم خسارة … وأنتَ (للابن الذي يتقدم).
الابن
:
ماذا تريد يا سيد؟
غريب
:
ماذا فعلتَ عندما رأيت أباك يَنبح؟
الابن
:
وماذا تُريدني أن أعمل؟
غريب
:
أنا الذي يسأل.
الابن
:
ارتديتُ ملابسي وذهبت إلى عملي.
غريب
:
ألم تُفكِّر في منعه؟
الابن
:
ولماذا أمنعه؟ كل إنسان حرٌّ في تصرُّفاته.
غريب
:
ألم يَخطر ببالك أنه يُمكن أن يعضَّ أحدًا؟
الابن
:
وهل أصبح المُهندسون مختصِّين بعلاج مرضى الكلب؟
غريب
:
المدينة كما تَعلم خالية من الكلاب.
الابن
:
سمعتُ هذا أيضًا … والفضل للأمير ورئيس المدينة ورجال
الشرطة.
غريب
:
ولماذا لم تعاونهم؟
الابن
:
قلت لك أنا مُهندس … ثم إني أُعاون نفسي وحسب.
غريب
:
تعاون نفسك فحسب … شكرًا … لا نحبُّ أن نُعطِّلك.
المحقق
(يظهر آتيًا بخطوات مَهيبة وهو يرفع
صوته)
:
أنت تُعطل الجميع وتُضيِّع وقتهم … ما هذه المهزلة؟
غريب
:
أنا لا أعطل أحدًا … ثم إنها ليست مهزلة.
المحقق
:
بل مهزلة … تُريد أن تُعيد التحقيق الذي تم.
غريب
:
نحن جميعًا نُريد إعادته (يشير للجمهور).
المحقق
(يلتفت للجمهور)
:
عبثًا يا سادة … هذا عبث … القانون لا يَسمح بهذا.
غريب
:
قانوننا يَسمح به.
أصوات مُتفرِّقة من الصالة
:
نعم قانوننا يسمح به.
– نحن نُريد الحقيقة!
– ولا شيء غير الحقيقة!
– لماذا دفعنا ثمن التذاكر إذن؟
– إنها مهزلة.
– بل مأساة.
– مهزلة أو مأساة … استمروا.
– حرام تضيعوا وقتنا.
المحقق
:
انتظروا … انتظروا … اسمعوا القرار الأخير في القضية ثم
احكموا (يبحث في جيوبه).
صوت
:
نُريد أن نعرف القضية كلها.
المحقق
:
ولكن القرار صدر.
صوت
:
قلنا القضية كلها.
المحقق
:
أغلق ملف القضية … ختم عليها بالشمع الأحمر.
صوت
:
جئنا لنَسمع ونرى.
صوت
:
لم نرَ رواية قصيرة إلى هذا الحد!
صوت
:
لا تُعطِّلنا يا رجل.
المحقق
:
لحظة واحدة … وجدتها … (يقرأ من ورقة بيده) لما كانت مدينتنا
خالية تمامًا من الكلاب … (ضحك من الصالة) وكانت بفضل أميرنا
المحبوب (ضحك) ورئيس مدينتنا المعظم (ضحك) ورجال الشرطة
الأشدَّاء (ضحك) ووعي الأهالي ويقظتهم … (ضحك مُتواصِل وتصفيق)
وبفضل الجهد الذي بذلته أنا شخصيًّا (ضحك عالٍ) والعرق الذي
تصبَّب أيامًا طويلة على جبهتي (ضحك وتصفيق وضرب بالأرجل على
الأرض … يَتراجع المُحقِّق للخلف وهو يُحاول أن يعرض ورقته
الطويلة على الجمهور دون فائدة).
غريب
:
أرجوكم … أرجوكم … شكرًا لكم … هؤلاء السادة سيَظهرون بعد
قليل … كل واحد منهم سيُشارك في الحكاية … الزوجة والابنة
والابن.
(مُشيرًا إليهم وقد اصطفُّوا وراءه) وهذا الرجل المحترم الذي
تشرفت بمعرفته (يَنحني للمحقق) أشهد أنه بذل جهدًا عظيمًا …
وسيظهر أيضًا أشخاص آخرون … أما معلم النحو الذي مات في الواقع
…
صوت
(من الجمهور)
:
كيف يَظهر وهو ميت؟
صوت آخر
:
يا أخي ضرورة … ضرورة فنية.
صوت آخر
(متأففًا)
:
جمهور آخر زمن … لماذا يَدخلون المسرح وهم لا يفهمون
فيه؟
غريب
:
أرجوكم … أرجوكم … الموضوع خطير … ولا بدَّ أن تُترك الفرصة
للجميع … كل ما نريده هو الحقيقة … الحقيقة ولا شيء غير
الحقيقة … هل هذا المُعلِّم هو الكلب الوحيد في المدينة؟ …
ومِن أين أصابته العدوى وليس في المدينة كلها كلب واحد؟
(يتَّجه ناحية المعلم … يأخذ بيده ويُحاول أن
يهدئه … يتقدَّمان ناحية السور الحجري بينما يئنُّ المعلم وتسمع
منه غصة مبحوحة بين كل كلمة وأخرى.)
غريب
:
قلت هوِّن عليك … أنت تُبالغ بغير شك.
المعلم
:
أعطيتُهم عمري … عَلَّمتُ الأجيال.
غريب
:
اهدأ … اهدأ … انظر للقمر واهدأ.
المعلم
:
أنظر للقمر (يبكي … يسمع نباح الكلاب … فيزداد
بكاؤه).
غريب
:
تذكر أنها تنبح القمر … لكنها لن تعضَّه (يَنصرفان ويد غريب
على كتفه. وينصرف الجميع).