المشهد الثاني
الإحالة للمعاش
(قطعة أرض صغيرة على شاطئ النهر … فيها زاوية مُتواضعة، يُغطي مساحتها حصير أشدُّ تواضعًا … يظهر الغريب وهو يُتمتم على مسبحة في يده … يُخاطب الجمهور قائلًا …)
غريب
:
ما زلت أذكر يوم التقَينا لأول مرة … كان ذلك بعد دخولي
المدينة بأيام قليلة. الفجر يَنفث أنفاسه المنعشة. والشمس لم
تزَل مُحتجبة وراء السحب السوداء التي تجري كالقطعان المذعورة.
فرغت من صلاتي وسلمت فوجدته خلفي، تلَونا الآيات وتمتَمنا
بالدعوات، سلَّمنا وتعارفنا. والغريب يأنس للغريب. قلت له اسمي
فقال …
المعلم
:
اسم غريب والله.
غريب
:
يُناسب من يقف على باب الله … واسم الكريم؟
المعلم
:
مأمون أمين مأمون.
غريب
:
اسم على مُسمًّى … مأمون أمين … هل تأتي هنا كل يوم؟
المعلم
:
هذه أول مرة … ظللتُ أمشي طول النهار والليل على غير
هدًى.
غريب
:
حتى وجدت الأمان والإيمان.
المعلم
:
اللذَين لم أجدهما في أيِّ مكان.
غريب
:
ولماذا لم تَذهب إلى بيتك؟
المعلم
:
بيتي؟
غريب
:
لا بدَّ أن لك بيتًا وأسرة.
المعلم
:
زوجة وبنت وولد … ولكن ما الفائدة؟
غريب
:
ما الفائدة؟
المعلم
:
إذا كانوا يُعاملونني كالكلب.
غريب
:
الكلاب اختفت من مدينتكم … هذا ما سمعتُه وشجَّعَني على
دخولها.
المعلم
:
وهو ما تقوله الصحف … وتهتف به مُكبرات الصوت … ويُكتَب
بالأحرف الكبيرة على اللافتات والإعلانات … هل تعرف أنني
تمنَّيت الليلة لو قابلت واحدًا منها.
غريب
:
واحدًا منها؟
المعلم
:
من الكلاب … تمنَّيت لو صادفت كلبًا واحتضنتُه وشكوت له
وبكيت معه … ومت أيضًا معه؟
غريب
:
من حُسنِ حظك أنك لم تجده!
المعلم
:
نعم لم أجده … فالكلاب كلها خرجت من المدينة أو أُخرجت أو
قُتلت عن آخرها … أصبحت الآن ذكرى في خيال العجائز مثلي … كلمة
غامضة في أسماع الشباب والأطفال.
غريب
:
واختفى السعار … وأُغلق المستشفى الوحيد الذي كان ضحاياه
يزورونه كل يوم بالمئات.
المعلم
:
ومع أني اشتقتُ أن ألقى واحدًا منها … هل تُصدِّق أنني كدتُ
أتصور نفسي …
غريب
:
لا … لا تكمل.
المعلم
:
عندما تُحسُّ أنك ضائع وضال في الشوارع والطرقات … أن أحدًا
لا يشعر بك ولا يحتاج إليك … ألا تَشعُر عندئذ.
غريب
:
معاذ الله … قلتُ لا تكمل.
المعلم
:
واشتدَّ عليَّ الألم حتى كدتُ أجري في الشوارع وأصرخ وأعوي
كأنني …
غريب
:
أرجوك لا تخرجها من لسانك … ولماذا لم تذهب إلى بيتك؟
المعلم
:
هل تتصوَّر أن أجد فيه أحدًا يحس بي.
غريب
:
أتصور أنك ستَجد فِراشًا تنام عليه.
المعلم
:
وكيف أنام بعد كل ما حدث؟
غريب
:
وما الذي حدث؟ لقد نسيت يا أخي.
المعلم
:
أن تسألني عن عملي … لا داعي للسؤال عن عمري فأنا كما ترى
على المعاش … خرجت عليه مرتين!
غريب
:
تخرُج على المعاش مرتين؟
المعلم
:
مرةً من سنتين … ومرةً من يوم واحد.
غريب
:
وعملك؟ مهنتك؟
المعلم
:
معلم أطفال … النحو والصرف والخط والدين والإملاء … أربعين
سنة وأنا أمسح السبورة كل صباح وأكتب في أعلاها: قواعد …
أربعين سنة وأنا أهتف بالصغار: القواعد يا أولاد … كل شيء له
قواعد … كل شيء … إذا اختلَّت القواعد دب الخلل إلى الإنسان
وزُلزلت أركان الأرض وأعمدةُ الكون … القواعد يا أولاد هي هيكل
اللغة واللغة هي هيكل الوجود. مَن لم يعرف الحروف لم يعرف
الكلمات. ومن لا يعرف الكلمات لا يَعرف الجُمل … ومن لا
يُكوِّن الجمل المفيدة يَضطرب العالم في عينَيه ويُسقطه العالم
من عينيه. القواعد هي الأساس يا أولاد. والذي يُهمل الأساس
ينهار السقف على رأسه. القواعد يا أولاد … القواعد يا أولاد …
حتى بُحَّ صوتي وتحشرَجَ، وصارت تُعاودني الغصة كلما تكلمت
(يغصُّ بكلمات … يسقيه الغريب من زمزمية يخرجها من
جيبه).
غريب
:
أكمل أكمل!
المعلم
:
أُحلتُ للمعاش من سنتَين … شعرت بالحزن، ولكن شعوري بالرضا
كان أقوى … لقد نجحت في رعاية أسرة وتربية أبناء … ولو عرفتَ
أن زوجتي مريضة من سنين طويلة بالسكر والكبد والضغط والأعصاب …
لو عرفتَ أن ابني تخرج مهندسًا. وأن ابنتي أصبحت صحفية تَكتب
وتَنشر صورها وتحقيقاتها في المجلات.
غريب
:
من حقِّك أن تشعر بالرضا والاطمئنان.
المعلم
:
وكل هذا بثلاثين جنيهًا. آخر مرتَّب قبضتُه قبل المعاش. ربما
لا تعلم أنني بدأت حياتي بثلاثة جنيهات.
غريب
:
الرضا رضا النفس.
المعلم
:
وبقيتُ أعمل وأنبح صوتي … القواعد يا أولاد … لا تُهملوا
القواعد يا أولاد … مرَّت بي المِحَن وأنا أُردِّد نفس العبارة
وأكتبها بالخط النسخ على أعلى السبورة … سقطت بلدي في
النَّكبات وأنا لا أتوقَّف عن كتابتها وترديدها … عشتُ كما عاش
الناس في ظل الخوف والهزيمة، وسمعتُ عن التعذيب في السجون …
وظللتُ أُردِّد عبارتي وأُعلِّمها للأطفال: القواعد يا أولاد …
الويل لمن لا يرعاها يا أولاد … اللغة لها قواعد … الصحة
والمرض … المَشي والجري … السماء والأرض … الشمس والقمر
والنجوم.
غريب
:
جلَّ شأنه … وكلٌّ في فلك يسبحون.
المعلم
:
حتى كان الأمس فكشفت عن عيني الغطاء.
غريب
:
ماذا تقصد يا مأمون؟
المعلم
:
اكتشفت أنني كنتُ مُسخة الصغار والكبار … أنني تحفة تراكم
عليها التراب في متحف التاريخ.
غريب
:
وأين كان هذا؟
المعلم
:
في المدرسة التي التحقتُ بها بعد المعاش … لم أقل لك إنَّ
الأبواب جميعًا سُدَّت في وجهي.
غريب
:
حتى دخلت من هذا الباب.
المعلم
:
وليتَني ما دخلت.
غريب
:
ولماذا لا سمح الله.
المعلم
:
لأنني أُهنتُ وطُردت منه كأنني …
غريب
:
أرجوك … استغفر الله العظيم (يَنشج المعلم بصوت مُرتفع ويرتج
جسده … يخفت الضوء ويتغيَّر المنظر فنرى فصلًا في مدرسة خاصة.
المُعلِّم واقف أمام عدد من التلاميذ من خلفه سبورة كتب عليها
بخط نسخ واضح: قواعد)!