المشهد الثالث
مطاردة الكلاب
غريب
:
وبدأ مأمون الأمين يَحكي عما حدث له بالأمس. لاحظت أن الدموع
تترقرَق في عينيه وأن الغصة تُحطم الكلمات التي تخرج مهشمة من
فمه. انظروا إليه وهو يقف أمام السبورة وينبح صوته كما هي
عادته من أربعين سنة.
المعلم
:
اليوم درس القواعد يا أولاد. قبل أن أشرح الدرس تذكروا ما
قلتُه لكم في الأسبوع الماضي.
تلميذ
:
أنا يا أستاذ، كل شيء له قواعد؛ الحياة والموت … الصحة
والمرض … السماء والأرض.
تلميذ آخر
:
يا لَلملل! كل يوم نَسمع نفس الكلام.
تلميذ ثانٍ
:
في الدرس يا أستاذ!
المعلم
:
نحن في الدرس يا ولدي … كلُّ مَن يُحطم النحو يحطم نفسه
وبلده … يُهمل الأساس فيقع السقف على رأسه … يتخلَّى عن
إنسانيته ويحيا كما كانت تحيا الكلاب.
تلميذ
:
هاي … هاي … أريد أرى أرى كلبًا.
تلميذ آخر
:
أنا رأيت الكلاب من كل الأنواع … عندما سافرت مع «دادي»
شاهدت الولف، والبودل، والكانيش.
تلميذ ثانٍ
:
إلا البلدي.
تلميذ ثالث
:
افتح عينَيك … إنه أمامك!
المعلم
:
تجاهلت ما قاله الولد العفريت. ارتجَّ عليَّ ولكني سامحتُه …
إنهم أولادي … وأنا أعلمهم القواعد … ورفعت صوتي قائلًا: ليس
في مدينتنا كلاب يا أبنائي … زميلكم رآها في مدن أخرى … أما
مدينتنا فقد تخلَّصَت منها … مدينتنا بحمد الله خالية من
الكلاب … لندخل الآن في الدرس … الجملة المفيدة نوعان؛ اسمية
وهي التي تبدأ باسم. وفعلية وهي التي تبدأ بفعل … هل يُمكنك أن
تُعطيني مثلًا … أنت يا بني.
تلميذ
:
الكلب يشرح الدرس.
التلاميذ
:
هاي … هاي … يشرح الدرس … يشرح الدرس.
المعلم
:
تجاهلت ما قاله … رأيت اللقمة المسمومة وخشيت الوقوع في الفخ
… أسرعت أقول: هذه جملة اسمية … برافو … من يُعطيني مثلًا
للجملة الفعلية؟ نهض تلميذ آخر لا يقلُّ وقاحة وقال …
التلميذ
:
يعض الكلب سيده.
المعلم
:
وصاح تلميذ ثالث تتدلى من معصمه سلسلة فضية ومن رقبته سلسلة
ذهبية …
التلميذ
:
يعضُّ سادته.
المعلم
:
صفَّق التلاميذ لقوله … هاج الفصل وماج بالضَّحك والتصفيق …
قلت في هدوء: يعضُّ الكلب الحصان … صاح تلميذ مُدلَّل ونادى
على زميله السابق …
التلميذ
:
أنت حصان يا أشرف.
المعلم
:
عاود التلاميذ الضحك بصوت عالٍ. حاولت أن أُسكتهم فقلت:
سأحكي لكم حكاية يا أولادي … سنُوضح الجملة الاسمية والفعلية
بحكاية … هتفوا جميعًا …
التلاميذ
:
اسمعوا الحكاية.
تلميذ
:
نُريد حكاية الكلب والحصان.
تلميذ
:
ومَن الذي سيَحكيها؟
تلميذ
:
الكلب الذي عضَّه طبعًا.
تلميذ
:
الكلب أدرى بالكلاب.
المعلم
:
كتمتُ غيظي وسكتُّ. أدركت لحظتها أن أعمدة حياتي تنهار على
رأسي وتثير عاصفة من الغبار. تحامَلتُ على نفسي وتلفَّت حولي
كمن يقف وسط الأنقاض. وبحثت عن صوتي فلم أجد إلا الغصَّة تبتلع
الغصة. لكنَّني سحبته بكل قوتي وقلت: استمعوا يا أولادي. خالد
فارس عربي. كان دائمًا يحب ركوب الخيل ويَنطلق بها في الصحراء.
وكان له حصان يُحبه كثيرًا ويخرج به للنزهة وملاقاة الأعداء.
ذات يوم ركب خالد فرسه وذهب يتحدَّى الأعداء. ولكنه نسيَ قواعد
الفروسية التي تعلَّمها في صباه وشبابه فوقع في أسرهم وقيَّدوه
بالسلاسل والحبال. ظلَّ الحصان واقفًا بجانبه ينظر إليه بعينين
تملؤهما الدموع … قاطعني أحد التلاميذ وصاح …
التلميذ
:
والكلاب يا أستاذ؟
المعلم
:
الكلاب؟ نعم نعم … أحاطت به الكلاب من كل مكان. لم يكن هناك
من يتخلَّص منها كما تخلصت مدينتنا من شرها. لذلك هاجمته
الكلاب وراحت تعضه وتنهش لحمه ولحم فرسه.
تلميذ
:
وماذا فعل الفارس يا أستاذ؟
المعلم
:
وماذا يفعل يا ولدي؟ ماذا يستطيع المقيَّد بالسلاسل والحبال؟
تألَّم وما زال يتألم .
تلميذ
:
والحصان العربي يا أستاذ؟
المعلم
:
ما تزال الكلاب تَنهش لحمه، وما زال يَنتظر.
تلميذ
:
ماذا ينتظر؟
المعلم
:
يَنتظر فارسًا يعرف قواعد الفروسية.
تلميذ
:
والكلاب يا أستاذ؟
المعلم
:
لا تزال كعادتها تَنبح وتعض … وتعض وتنبح.
تلميذ
:
هناك في التاريخ القديم.
تلميذ آخر
:
وفي البلاد الأخرى.
تلميذ ثالث
:
ولماذا البلاد الأخرى؟
المعلم
:
أسرعت أقول: لأنَّ مدينَتنا ليس بها كلاب … مدينتنا ليس بها
كلاب … فقاطعني التلميذ المدلل …
التلميذ
:
بها كلب واحد يا أستاذ.
المعلم
:
وأخذ التلاميذ يهتفون: كلب واحد يا أستاذ … هاي هاي … كلب
واحد يا أستاذ … هاي هاي … اضطربتُ واحتُبس صوتي. لم أعرف كيف
أرد عليهم أو كيف أعيد النظام … لحَّنوها ووقَّعوها وأخذوا
يُغنُّون … وفوجئت بالناظرة تدفع الباب وتدخل منه صائحة … ما
هذا؟ هل جُننتم؟ ماذا تفعل يا أستاذ؟
(المعلم يحاول أن يخرج صوتًا فلا يستطيع.)
الناظرة
:
ماذا تقولون؟ ما الذي قاله الأستاذ؟
تلميذ
:
شرح لنا درس القواعد.
تلميذ آخر
:
وكلمنا عن الكلاب التي تعضُّ الفارس والحصان العربي.
الناظرة
:
والنشيد الذي تغنونه؟
تلميذ
:
تعلَّمناه من الأستاذ.
الناظرة
:
صحيح يا أستاذ؟ تُكلمهم عن الكلاب ومدينتنا خالية من الكلاب؟
تُذكِّرهم بماضٍ ذهب ولن يعود؟ تُريد أن يُصبحوا كلابًا … أن
تدخل الكلاب من جديد إلى المدينة والمدرسة؟ لماذا لا ترد؟
اخرجوا الآن يا أولاد … اخرجوا … أريد أن أكون وحدي مع
الأستاذ.
التلاميذ
(وهم ينصرفون)
:
كلب واحد يا أستاذ! هاي هاي! كلب واحد يا أستاذ! هاي
هاي!
غريب
:
وانصرف الأشقياء وهم يغمزون ويلمزون … ترى مَن الذي علَّمهم
كيف تنبح الكلاب وكيف تعض؟ لقد اقترب بعضهم منه وأخذ يعوي:
هاو! هاو! ومال أحدهم على قدمه وقلَّد الكلب المسعور … ولولا
غضب الناظرة وصراخها فيهم لانقلب الفصل إلى حظيرة كلاب تنبح
وتعض، وتعض وتنبح … تقدمت الناظرة غاضبة إلى صديقي مأمون وقالت
وهي تدمدم …
الناظرة
:
أنت المسئول عما حدث. هذه أول مرة في المدرسة تُمثَّل فيها
هذه المهزلة … لقد أحسست من أول يوم رأيتك أنك لا تصلح. هل
نسيتَ أنك في مدرسة محترمة، تلاميذها أبناء ناس مُحترمين؟
نسيتَ أن مجلس الآباء يضمُّ وزراء ووكلاء وزارات، ورؤساء
وأعضاء مجالس إدارة، وتجارًا أغنياء ومُستوردين ومُصدِّرين
يَلعبون بالعملات الصعبة … نسيتَ ورُحتَ تُقدِّم ألعاب القرود
أمام تلاميذ تربوا في الفلل والقصور؟ وليتَكَ اكتفيت بألعاب
القرود … لقد دخلت في جلد كلب وأخذت تنبح وتقفز أمامهم … ولولا
يقظتي وحَزمي لغرزت أنيابك فيهم … تكلم … دافع عن نفسك … لماذا
تَكتفي بالأنين واجترار لعابك؟ لماذا يغص حلقك بالكلام؟ ألا
يمكنك أن تنبح أو تعوي؟ لا. لن تتكرر المهزلة … ولولا دموعك
لسلَّمتك لرجال الشرطة … تعالَ ورائي في الحال … تعالَ خذ
حسابك ولا تريني وجهك الآن.
غريب
:
لا أدري هل وصفته بالكلب أم لا. ولكن كلامها كان واضحًا بما
يكفي. ومشى صديقي وراءها حتى وصل إلى مكتبها. حدَّقت فيه من
أعلى إلى أسفل وتهكمت نظراتها على بذلته المترهلة وربطة عنقه
التي تبلغ حجم الفيل وعينيه الجاحظتين وراء زجاج النظارة
السميك … ولما يَئست من أن يُخرج من فمه حرفًا مدَّت يدها
بمظروف أصفر صغير. كانت فيه ورقة الاستغناء عن خدماته مع
مكافأة التدريس … فتح صديقي المظروف ووجد ثلاثين جينهًا. تراكم
الخجل مع اليأس مع المرارة في نفسه فجلس إلى جوار بيت قديم
وأخذ يبكي. تمنَّى كما سمعتم لو كان كلبًا ليموت في ظلِّ جدار
أو بجانب حائط مهجور. ثم نهض بعد أن أوغل الليل وأخذ يجوب
الشوارع حتى شعر بأنفاس الفجر على وجهه فاتجه إلى شاطئ النهر
الوحيد في المدينة … وهنالك لمح شبحًا يصلي فخلع حذاءه ووقف
وراءه … ثم تعارَفنا كما رأيتم وتكلَّمنا في الأحوال والأعمال،
حتى تخيَّلت أنه استعاد الأمان والاطمئنان. لكن الفأر لعب في
عبى، والشيطان وسوس لي وسواس الشر. ماذا سيفعل الآن؟ هل يتَّجه
إلى بيته وزوجته وعياله؟ أم يستأنف جولته في غابة المدينة؟
وتبعته من بعيد حتى خرج من أبواب المدينة … إلى أين ذهب؟ لن
تصدقوا حتى تروه وتسمعوه بأنفسكم.
(يخفت الضوء رويدًا رويدًا حتى ينطفئ. ويعود بعد أن يبزغ القمر وينشر غلالته الشاحبة على المقبرة الكبيرة.)