المشهد الرابع
قبر الأم
(منظر مقبرة كبيرة في ضوء القمر. المعلم مُنحَنٍ بجانب أحد القبور. يتسلَّل غريب من بعيد كالشبح ويقف قريبًا منه. المعلم يواصل حديثه المتقطِّع الذي يُشبه الهمس والمناجاة.)
المعلم
:
لماذا يا أمي؟ لماذا؟ لماذا ولدتِني بلا ظُفرٍ ولا ناب؟
لماذا لم تعلميني أن أناطح الثيران، وأبقر بطون الذئاب، وأعض
الكلاب قبل أن تعضَّني؟ لماذا لم ترميني في غابة أو صحراء، في
عرين الأسود أو عش النسور أو حجر العقارب والأفاعي والحيات؟
الحمامة لا بدَّ أن تنقلب صقرًا، وإلا قتَلتْها الصقور. الحياة
قاتل أو مقتول، آكل أو مأكول، غالب يمتطي صهوة الجواد أو مغلوب
يُسحق تحت سنابكه. أشبعت غزالك من لبن الحنان حتى شرَد في
المراعي ونسي النمور والفهود والسباع والضباع المتربصة خلف
التلال والروابي والأحراش. ماذا تفعل حمامتك في فكِّ الثعبان؟
ماذا يَملك غزالك مع ناب الأسد الفتاك وظلف النمر الغادر
والضبع الخوان؟ هل تسرح الحمامة في زرقة الأثير؟ هل تحلم
الغزالة بالخضرة والربيع؟ إنها تتكسر يا أمي وتتفتَّت. لماذا
لم تُرضعيها لبن الشراسة والوحشية؟ لماذا لم تُدفئي صدرها
العريان بالدروع والأسلاك والأشواك؟ لماذا لم تُعطيها الحربة
والبلطة والسكين؟ ولماذا لم تضَعي في يدي السوط والصولجان حتى
لا يَطعنَني لصوص المقابر المُلثَّمون؟ أهو خطؤك أم خطأ أبي؟
أيكون العيب في البذرة أم في الرحم؟ تائه وسط وحوش الغاب
أناديك: لم سقيتني من نبعك الطهور؟ لِم لَم تخلطيه بالسم
والعفن وحمم الجحيم؟ تطالع عيني النجوم بينما يغرق جسدي في
المستنقع. تنطلق روحي في جنة الجمال بينما يغرز القبح أسنانه
في لحمي واسمي وسيرتي وعرقي. أمدُّ يدي بزهور الأمل فتمتد
النصال لتَطعن الماضي وتُكفن الحاضر وتدفن المستقبل. حتى
الصغار يا حبيبتي! حتى الصغار! أهدهد مهدهم فيُسوون لحدي.
يقولون السياسة والاقتصاد. يتكلَّمون عن الهزائم والنكبات.
يلومون النحس والأقدار. لكن مَن يتذكر جثمان الضمير المدفون في
صندوق قمامة الصدور؟ من يتذكر طير النفس الأخضر الملطَّخ
بالوحل وهو يتخبَّط في دمائه في زنزانة الضلوع؟ ماتَ الضمير،
شوه طير النفس الحبيب. أين يا أمي، أين مياه النبع الأبدي
تُصفيه! أي بحار الأرض سيتَّسع لهذا الجبل من الأكدار وهذا
السيل من الأقذار؟ (ينظر إلى السماء، يُلاحظ القمر وهو يصارع
السحب السوداء) مَعذِرة يا أمي. لا أدري إن كنتِ تسمعينني أم
إني أعوي وأئنُّ على قبر آخر. من يَدري إن كان هذا هو قبرك أو
قبر قتيل أو طفل أو سفَّاح أو فلَّاح أو مجنون أو لصٍّ أو
سكِّير مسكين. لا أدري، لا أدري. أين أنت يا غريب لتقف بجانبي!
أين أنت يا غريب؟
(يتقدَّم الغريب وينحني عليه)
غريب
:
لقد عاد من غربته.
المعلم
:
أنت؟
غريب
:
نعم أنا. هل كنتَ تظنُّ أنني سأتركك وحدك؟
المعلم
:
كيف عرفت أنني هنا؟ هل كنتَ تَتبعني؟
غريب
:
وكان يَتبعني شبح آخر (يظهر شبح من بعيد).
المعلم
:
ماذا تعني؟
غريب
(مُشيرًا إلى الخلف)
:
لا أعني شيئًا. تائه مثلك أو غريب وعابر سبيل مثلي.
المعلم
:
أو لصٌّ أو مُخبر … لم أعُد أخاف شيئًا … ليفعلوا ما
يشاءون.
غريب
:
اهدأ يا مأمون.
المعلم
:
ليقتلوني أو يُقيِّدوني بالسلاسل أو يضعوا الكمامة على فمي
ويَسحبوني في شوارع المدينة.
غريب
:
قلت لعلَّه تائه مثلك أو عابر سبيل.
المعلم
(في حزن)
:
كنت تتبَعُني؟
غريب
:
النفس أمارة بالسوء.
المعلم
:
خفت أن تُغرقها في النهر أو في الخمر.
المعلم
:
ولهذا سِرتَ ورائي.
غريب
:
حتى تورَّمَت قدماي وتقطَّعت أنفاسي … سرتُ وراءك من حارة
إلى شارع، ومن شارع إلى ميدان. غبتُ قليلًا في أحد البيوت فقلت
هو مسكنه وسيَشفيه النوم من كل الأوجاع. وتريَّثت قليلًا
لأطمئنَّ فإذا بك تَخرُج مسرعًا وتجري بلا هدف. ظللت أُلاحقك
حتى خرجت إلى أطراف المدينة. ورأيتك تَندفِع نحو المدافن
القديمة فأسرعت وراءك. هل تدري ماذا فكرت في هذه
اللحظة؟
المعلم
:
إنَّني سأَدفن نفسي بنفسي؟
غريب
:
لم تُخطئ، ولهذا أسرعت لعلك تحتاج إليَّ!
المعلم
:
أصبتَ يا صاحبي. جئت أبحث عن أحد يقف بجانبي. تذكَّرت
الإنسان الوحيد الذي لا يُمكن أن يَخذلني.
غريب
:
ألم نُصبح أصدقاء؟
المعلم
:
أجل أجل، لكن الفرخ التائه يَبحث عن عشِّه.
غريب
:
وهل وجدته.
المعلم
:
كل الأعشاش سواء. على كلٍّ منها شاهد مكسور أو مُتآكل. رحت
أجري بينها وأهتف: أمي! أمي! وكأني أنتظر صوتًا من وراء القبر.
انحنَيت عليها جميعًا وتفرستُ في الأسماء المكتوبة على قِطَع
الرخام والمحفورة في الإسمنت المُتداعي. لا. لم يكن بينها اسم
أمي. حاولت أن أتذكَّر موقع قبرها. حين كان أبي يأخُذني من يدي
لزيارتها كنا نَنحرِف إلى اليمين من البوابة الرئيسية وكوخ
الحارس، ثم نَنعطِف بجوار قناة جافَّة، ونجتاز ضريح أحد
الأولياء. بحثت عن القناة والضريح فلم أجدهما. حتى كوخ الحارس
اختفى كأنهم أحالوه مثلي للمعاش. غربت الشمس وأنا أتخبَّط بين
القبور … أُنادي فيُجيبني الصدى ونعيق البوم. بدأ الظلام يَزحف
وأنا أتخبَّط في خوفي وارتعاش قدمي ووجيب قلبي! واشتد الظلام
فجلستُ أمام هذا القبر وأنا أُخفي نفسي عن نفسي. هل تُصدق أنني
خشيت أن يكون قبرها؟ وبماذا أُعلِّل نسياني وخجلي
وجُحودي؟
غريب
:
وفاء يليق بمَن سمَّتك «أمين».
المعلم
(صائحًا)
:
بل بجَروٍ يَبحث عن أمه.
غريب
:
معاذ الله … ألا تَرفع رأسك للسماء؟!
المعلم
:
أعرف ما ستقول. أرفع رأسي لأرى القمر … لأتطلَّع في وجهِه
الضاحك من نباح الكلاب … لقد جئت لأبحث عنها … لأدفن وجهي في
صدرها.
غريب
:
ولكنَّك لم تجدها ولم تبكِ.
المعلم
:
كنتُ أناجي نفسي وأناجيها.
غريب
:
أم كنت تلومها؟
المعلم
:
لأنَّها لم تَلِد أسدًا أو ذئبًا بدلًا من …
غريب
:
أستغفر الله … نسيت أنك مُعلِّم؟
المعلم
:
نسيتُ كل شيء!
غريب
:
حتى القواعد؟
المعلم
:
انهارَت فوقي (يغصُّ بكلماته).
غريب
:
وتركتك عاجزًا عن تكوين جملة مُفيدة؟
المعلم
(صارخًا)
:
تركتني وحيدًا. هل جربت أن تكون وحيدًا في فكِّ تنِّين يبتلع
الملايين؟ وحيدًا في بيتك، مع زوجتك وابنك وابنتك؟ وحيدًا لا
يأكُل أحد معك، ولا يتحدث أحد إليك ولا يُبادلك ابتسامة ولا
دمعة ولا سيجارة؟ هل جرَّبت أن تعيش هكذا أسابيع وشهورًا
وسنين؟ وحدك وحدك وحدك.
غريب
:
الإنسان لا يكون وحده أبدًا.
المعلم
:
هل قلت الإنسان؟ (صمت!)
غريب
:
لماذا سكت؟
المعلم
:
لم أسمع هذه الكلمة من سنوات طويلة … الإنسان … يا لهذا
الرنين العجيب … قلها مرةً أخرى!
غريب
:
أكُلُّ هذا لأنك مررت على بيتك؟
المعلم
:
ولم أَمكُث أكثر من دقائق.
غريب
:
ماذا حدث؟!
المعلم
:
ما يَحدث كل يوم وكل أسبوع وكل شهر وكل عام. سلَّمت فلم
يردَّ أحد. نادَيت فلم يفتح باب. وضعت الجنيهات على مائدة
الصالة وهتفت: نقود … نقود. هذه هي مكافأة المعاش. تسلَّلَت
زوجتي من حجرة نومها وصاحت: لا داعي للإزعاج. الأولاد نائمون.
هتفت: نائمون! نائمون! ألا يستيقظون أبدًا؟ أليس من حق الأب أن
يرى أولاده؟ كشَّرَت عن أسنانها الصفراء وقالت: الأب؟ وما هذا؟
قلت: ثلاثون جنيهًا. مكافأةَ الإحالة للمعاش … زغردَت هاتفة:
تعالوا يا أولاد! انظروا ما جاء به الغراب! ثرتُ غاضبًا ولكنها
اندفعت تطرق الأبواب بعنف. صحَتِ البنت من نومها وهي تقول:
أليس في الدنيا راحة؟ ماذا تُريدين يا ماما؟ قالت: أبوكَ
أحضَرَ لك ثمن الشقة والذهب والأثاث وفستان الزفاف … تحرَّكت
البنت إلى المائدة وقلَّبت الجنيهات بين يديها. صفَّرت بفمها
وضحكَت ثم عادت لتنام. خرج أخوها بصدر عارٍ وهو يَصيح: ألا
تكفَّان عن الشجار؟ هتفت أمه: أبوك أحضر معه خلوَّ الرِّجل
والمهر والشبكة وتكاليف المكتب الجديد. اتَّجَه الولد إلى
المائدة ونظر إلى الجنيهات وأخرج صوتًا مِن أنفه ثم رجع لنومه.
ومددتُ يدي في جيبي وأخرجتُها وقلتُ لزوجتي قبل أن أقصف الباب
ورائي: هذه هي الحبوب والدواء!
غريب
:
وتذكَّرتَ أمك فجئت تبحث عنها وتضع الذنب على رأسها؟
المعلم
:
أمي … أمي … (يبكي!)
غريب
:
لا تنسَ يا ولدي أنك على المعاش.
المعلم
:
إنني وحيد.
غريب
:
لستَ وحيدًا يا ولدي.
المعلم
:
كلبٌ ضالٌّ في مدينة مسعورة.
غريب
:
بل قمر يسطع في سمائها.
المعلم
:
ستَنبحُني الكلاب.
غريب
(يأخذه من يده)
:
لكنها لن تعضك!
(يَنهض في حنان. يضع يده على كتفه ويَنصرفان. يستدير الغريب ويقول …)
غريب
:
لم نكَد نخطو عدة خطوات حتى رأيت الشبح المتلصِّص يَهرب من
بوابة المقبرة. مشيتُ مع صاحبي صامتَين حتى وصلنا إلى بيته.
قلت له وهو يترنَّح من التعب: تذكر موعدنا. تذكَّر أن الكلاب
تَنبح القمر … قال وهو يبتسم: أتظن أنها لن تعضَّه؟ وفجأة صرخ
كمن لدغته العقرب أو غارت في قلبه السكين: عضَّتني الملعونة …
حاذر يا غريب … حاذر من الكلاب … وأسرع داخلًا من الباب …
وتركني في الليل والظلام (يسمع نباح الكلاب).