المشهد الخامس
القبض على المسعور
(صالة في مسكن مأمون أمين مأمون. تظهر مائدة عليها
أطباق وأكواب فارغة وبقايا خبز بعد العشاء. إلى اليسار كراسي وكنبة من
طقم قديم يَجلس عليها الزوجة والابن والابنة ويتحدَّثون. يدلف الغريب
من بابٍ خلفي ويقدم المشهد.)
غريب
:
تخلَّفَ عن موعده في الفجر على شطِّ النهر. لم أرَه إلا عصر
اليوم التالي وهو يجري ويلهث ويخرج من أتون صدره الحمم
والنيران. جرى الناس وجريت وراءه … ما الذي دفعه إلى هذا؟ ما
الذي أشعل فيه البركان؟ لم أكن بالطبع معه عندما دخل مسكنه.
لكنَّني فهمت بعد ذلك من إشاراته وبحَّاته واختلاجاته أن
الأمور سارَت على هذا الترتيب. تعالَ يا صديقي. تعالَ يا
مأمون. اعرض ما حدَث علينا بالتقريب. أدِر العجلة للماضي … هيا
يا مأمون.
(مأمون يدخل الصالة وهو يَعرج ويتحسَّس بطن
رجليه وقدميه. يُحاول أن يُلقي تحية المساء فلا تخرج إلا غصة
تُسمَع منها سين أو صاد!)
غريب
:
لا بد أنه ألقى تحية المساء. ولا بدَّ أن الألم تمكن منه
وحبس لسانه. جلس على المائدة. بدأ يئنُّ وهم لا يَلتفتون. بل
ربما لم يشعروا به ولم يُكلِّفوا أنفسهم أن ينظروا
إليه.
الابن
:
لا لا … لا تَحمِلي همًّا من هذه الناحية. كل شيء تمام
التمام. العقد في جيبي والتوقيع الليلة.
الابنة
:
ولماذا السرعة؟
الابن
:
ولماذا البطء أو التأجيل؟ الليلة نسهر في «الكهف السحري»
ويتمُّ التوقيع.
الابنة
:
هل تَثِق فيه؟
الابن
:
وهل يشكُّ أحد في منجم ذهب؟
الزوجة
:
أنا لا أطمع في ذهب. كل ما أُريده …
الابن
:
أعرف … أعرف. عشرة آلاف جنيه.
الزوجة
:
خلوُّ رِجل فقط. وليتَه يرضى!
الابنة
:
وأحلق عندك يا ماما … يا أعظم وأجمل كوافير!
(تقوم الابنة وتُقبلها … تتَّجه إلى أخيها
وتُقبِّله وهي تقول): وأنا؟ ألم تُفكِّر فيَّ؟
الابن
:
دماغك ناشفة!
الابنة
:
أترضى أن أبيع حريتي؟
الابن
:
منجم ذهب … ستَغرفين منه ونَغرف معك.
الابنة
:
وحريتي؟
الابن
:
ادخُلي المنجم ثم فكِّري فيها.
الابنة
:
أفكر فيها مع شيخ في الستين؟
الابن
:
قولي لها يا ماما.
الزوجة
:
كِبر وفقر لأبيها.
(الابن يَلتفت إلى أبيه ويضحك.)
(الابنة تَلتفت إليه وتضحك بصوت عالٍ.)
الزوجة
(تَلتفِت إليه وتصيح)
:
عندك الشوربة … ليس هنا غيرها.
غريب
:
كان يُتابعهم طول الوقت بعينَيه. تَجحظان قليلًا ويمدُّ
رقبته ويُحاول أن يُخرج كلمة. يَغلبه الألم فيتأوَّه، تقف
الغصة في حلقه فيُصفِّر أو يتنحنح أو يدمدم. يُواصِلون الضحك
ثم يستمرُّون …
الابن
:
ضعي عقلك في راسك.
الابنة
:
اعرف أنت خلاصك.
الابن
:
شقَّة على النيل بمائة ألف جنيه.
الابنة
:
قررت إحالة الفتنة للمعاش؟
الزوجة
:
يكفينا الهم الثقيل.
غريب
:
سخسخوا على نفسهم من الضحك. أشاروا إليه فرفع عينيه عن طبق
الشوربة. لم يرَوا الدمعة تلمع وتسقط فيها.
الزوجة
:
البوتيك؟ … البوتيك … ربع قرن وأنا أنتظر.
الابنة
:
ونسيت الكوافير؟
الابن
:
غالية والطلب رخيص … البوتيك والكوافير … الشيك سيكون عندك
الليلة!
الابنة
:
وأنا؟ نسيت الكاميرا؟
الابن
:
ماركة زايس وحياة عينيك.
الابنة
:
لا تُساوي صورتي على الغلاف.
الابن
:
والشيك سيكون في جيبك بعد يومَين.
الابنة
:
تحيا الشُّهرة … يحيا المجد!
الابن
:
منجم ذهب … منجم ذهب!
الزوجة
:
زحفنا طول العمر على البطون.
الابن
:
ستكون المرسيدس تحت أمرك.
الزوجة
:
عِشنا في الكهف سنين.
الابن
:
الفيلا تتَّسع للجميع.
الزوجة
:
نحن في حلم أو علم؟
الابن
:
هذه مِهنتنا يا ماما. نُحوِّل الحلم إلى علم.
الزوجة
:
وأعيش وأسكن في الفيلا.
الابن
:
سنعيش فيها معًا.
الابنة
(مُشيرة لأبيها)
:
والغزال القديم؟
الابن
:
والنحو والصرف؟
الزوجة
:
يَبلعه على راحته.
غريب
:
وقفت في حلقه اللقمة والشوربة. أخذ يَسعل ويسعل ويُحاول أن
يخرج صوتًا أو كلمة … بدأ الصفير المتقطِّع يَندفع من صدره
وحنجرته وفمه. تلوَّى وانتفض وأخذ يحكُّ قدمه ورجله. ثم كشَّر
عن أسنانه وراح يَعوي … حدق في وجوههم واحدًا بعد الآخر ثم
أدار ظهره وصفق الباب من ورائه.
الزوجة
:
كلب ابن كلب.
غريب
:
وذهبت الزوجة إلى حُجرتها وأغلقت عليها الباب بالمفتاح.
وتمطَّى الابن ودخل الحمام ليجهز نفسه لموعد الليلة.
الابن
:
غريب يا عم مأمون … ولا غريب إلا الشيطان!
غريب
:
وانطلقت الابنة تجري إلى حُجرتها المشتركة مع أمها فوجدتها
مُغلَقة بالمفتاح.
الابنة
:
افتحي يا ماما … بسُرعة … بسرعة.
صوت الأم
:
لا أريد أن أرى أحدًا.
الابنة
:
وأنا أريد الكاميرا … فرصة ذهبية يا ماما … فرصة ذهبية …
وحياتك لا تضيعيها عليَّ!
(تَنصرِف الابنة وتخلو الصالة. يَستأنف عابر
السبيل غريب حديثه ويتقدم إلى الوسط.)
غريب
:
كان صديقي قد اندفع كالسيل إلى الخارج. تراكم الزَّبد على
فمِه وبدأت الحمم تَخرج منه. هاجت في صدره شياطين الجحيم فراحت
تَقذِف اللهب في كل اتجاه.
صوت المعلم
:
كلاب وكلاب وكلاب … هاو … هاو … هاو … تَزحفون على البطون
وتملئون البطون وتعيشون للبطون … تقفون طوابير على صناديق
القمامة … هاو … حتى أصبحتم قمامة … هاو … هاو … ابتعدوا عن
طريقي … ابتعدوا … إني أنبح وأعض … أنبح وأعض … عرفت نفسي
فلماذا تأخَّرتم؟ هاجمني السعار فلماذا ترَكَكم؟ … السعار في
الهواء … السعار في الأشجار … السعار في الأحجار … هاو … هاو …
هاو … في عيونكم … دمائكم … كروشكم … جيوبكم … كلامكم … المال
المال … الشهرة الشهرة … السلطة السلطة … وتمدُّون ألسنتكم
وتلعقون … وتمدُّون مخالبكم وتَخمشون … وتمدون أنيابكم وتعضون
… لماذا لا تَعترفون بالحقيقة وتزحفون … هاو … هاو … تشجَّعوا
وجرِّبوا … ها أنا أزحف على أربع … أعضُّ الأرض … أعض الحجر …
أعض الطين … مَن منكم أحبابي؟ الكل ولا أحد بعينه … مَن منكم
أعدائي؟ الكل ولا أحد بعينه … السعار يَزحف عليكم. السيل
سيجرفكم … لن ينجو أحد منكم … يا نوح … أين أنت يا نوح … أين
أنت يا نوح؟!
غريب
:
كان الجري قد أنهَكَه وأهلك الجموع التي جرت وراءه. لم يجسر
أحد على الاقتراب منه أو الإمساك به. والجنود الذين رأوه
وسمعوه ذهلوا حتى عن إطلاق الصياح أو الرصاص أو الصفير … كان
منظره مُرعبًا عندما التفتُّ من صلاتي في الزاوية التي نلتقي
فيها فوجدته يسقط على الأرض مغشيًّا عليه. وبدأ الناس
يتحلَّقون حوله وهم يَلهثون ويُحوقِلُون … أما الأطفال فوجدوا
مُعجزةً لم يرَوها فأخذوا يَتصايحون ويتضاحكون: كلب … كلب … لم
نرَه إلا في كتب الوزارة! … يَنهرهم العجائز: هذا مريض يا
أولاد … ابتعدوا عنه وادعوا له بالشفاء … يَتزاحم الصغار عليه:
مَن أعداه وليس في المدينة كلاب؟ يُفرقهم الكبار بقسوة
ويُزمجرون: ابتعدوا عنه … اتركوه للشرطة أو لحراس الأمير …
وبرَز من الزحام وجه خُيِّل إليَّ أنه يَعرفني وأنني أعرفه …
حدَّق في وجهي وحدقت في وجهه. تذكرت شبح المقبرة الذي كان
يتبعني كظلي …
المخبر
:
أنت؟
غريب
:
التقَينا قبل الآن.
المخبر
:
ولكنَّنا لم نتعارَف (يَفتح بطاقته ويعرضها عليه
خفية).
غريب
:
ما أنا إلا عابر سبيل.
المخبر
:
يُعجبني اعترافك.
غريب
:
ماذا تعني؟
المخبر
:
أنت صاحبه.
غريب
:
وهو حبيبي.
المخبر
:
هيا معي.
غريب
:
وأخرج من جيبه قيدًا كبَّل به يدي … وشقَّ طريقه بين العيون
المتطلِّعة والأجسام المتكدِّسة وصيحات الأطفال وولولة النساء،
وفي صمتٍ انحنى رجال الشرطة على صديقي فوضَعُوه في عربة
البوكس. وفي لحظة كنت في داخلها أشد على يد صاحبي وأضع صدره
على صدري. وازداد الضجيج والصياح والضحك حتى خنَقَه صوت صارخ
انطلق من مكبرات الصوت المجهولة: «أنا الأمير … أبدتُ الكلاب
وقضَيتُ على السعار. من أين جاء هذا الكلب الحقير؟ مَن الذي
أعداه؟ مَن سمح له بالخروج دون إذن أو تصريح؟ أنا أبني الإنسان
الجديد وأغرس فيه قيَم الشجاعة والضمير. من الذي سمح بأن
يتسلَّل إلينا هذا المسعور؟ الأمر خطير … الأمر خطير … الأمر
خطير.»