الفصل الثاني

الدوافع والحوافز

إذا شاهدتَ علماء الاقتصاد يتحدثون معًا، في مؤتمرٍ على سبيل المثال، سرعان ما سيتعرَّض أحدهم للحديث عن «الحوافز». الحوافز هي العامل الرئيسي في التحليل الاقتصادي. فهي تشجِّع الأفراد على العمل بجديةٍ أكبر وبكفاءةٍ أعلى. كما تشجِّع الشركات على توفير منتجاتٍ أكثر وجودةٍ أفضل. عادةً ما يفترض علماء الاقتصاد أن المال هو الحافز الرئيسي، ولا شك أن المال من شأنه أن يمنحنا مقياسًا موضوعيًّا للقيمة (لكنه ليس بالضرورة دقيقًا أو عادلًا). يحفِّزنا المال في جوانبَ كثيرة من حياتنا العادية. فهو يحدِّد أسعار السلع والخدمات سواء كنا ندفعها أم لا، كما يحدِّد معدلات الأجور سواء كنا نكسبها أو لا. والأسعار والأجور المرتفعة هي المكافأة على عمليات اتخاذ القرارات البنَّاءة الجيدة. والحوافز المالية هي التي تحرِّك الأسواق التي تنسِّق خيارات العديد من الأفراد والشركات المختلفة.

بصفتي عالمةً في الاقتصاد السلوكي، لن أجادل في فكرة أن الأسعار والمال محفِّزان قويان على العمل بجديةٍ أكبر وبكفاءةٍ أعلى، لكنني سأقول إن هناك مجموعةً معقدةً من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية الأخرى تؤثِّر في كيفية اتخاذنا للقرارات أيضًا. فنحن مدفوعون بأسبابٍ أخرى عديدة غير المال. أنا مثلًا لا أجني مالًا كثيرًا من العمل في السلك الأكاديمي مقارنةً بما كنتُ سأكسبه من العمل في القطاع الخاص. ولو نظرتُ إلى الدخل الذي سأحقِّقه على مدى حياتي، ربما تفسِّر حقيقة أنني سأحصل على معاشٍ تقاعدي سخي، وأنني أستمتع بالأمان الوظيفي عدم سعيي لتحقيق أقصى دخلٍ ممكن في الوقت الحالي. لكنْ هناك أسبابٌ أخرى أيضًا؛ فهناك بعض الجوانب في وظيفتي أستمتع بها حقًّا؛ وتلك الجوانب تدخُل ضمن دوافعي غير المالية. أتخيَّل أحيانًا أنني لو فزتُ باليانصيب، ولم أعُد مضطرةً إلى أن أقلقَ بشأن كسب المال الكافي للعيش، فلن أتخلى عن وظيفتي. في بعض الأحيان، أجد وظيفتي ممتعةً لذاتها، لا للمال الذي أجنيه منها.

الدوافع والحوافز الداخلية والخارجية

نشهد ذلك كل يوم من حياتنا العملية؛ إن ما يدفعنا إلى العمل هو عدد من المكافآت المالية وغير المالية المختلفة. في حين يرغب أغلب الناس في تحصيل الأجر من العمل الذي يقومون به، فإن البعض لا يعمل من أجل تحصيل المال فحسب. فبعض الناس تحفِّزه أيضًا المكافآت الاجتماعية، مثل القبول الاجتماعي الذي يحصُل عليه الفرد من العمل الجاد والفوز بوظيفةٍ محترمة. ويحرِّك البعضَ حوافزُ أخلاقية، كالعاملين في الجمعيات الخيرية على سبيل المثال. والبعض يستمتع بما يفعله، ويواصلُ فيه حتى لو كان الأجر زهيدًا كالعديد من الرسَّامين.

يعبِّر علماء الاقتصاد السلوكي عن هذا النطاق الواسع من التأثيرات على قراراتنا واختياراتنا، من خلال تصنيفها ضمن فئتَين عامتَين من الحوافز والدوافع؛ الداخلية والخارجية.

الدوافع الخارجية

تعبِّر الدوافع الخارجية عن الحوافز والمكافآت المنبعثة من خارج ذواتنا كأفراد؛ على سبيل المثال عندما يشجعنا العالم والأشخاص الموجودون حولنا على فعل شيء كنا سنتردَّد في فعله لولاهما. في هذه الحالة، تتأثَّر أفعالنا بشيءٍ خارج عن ذواتنا؛ أي إننا نحتاج إلى دافعٍ خارجي في شكل حافز للقيام بها. وأحد أقوى الحوافز وأشيعها هو المال؛ فنحن نعمل لأننا نتقاضى أجرًا أو راتبًا. وثمَّة حافزٌ أقوى من المال وهو الشعور بتهديد على النفس. ومع هذا، قد تنبعث الدوافع الخارجية من دوافعَ غيرِ مالية، مثل المكافآت الاجتماعية كالقبول الاجتماعي والنجاح الاجتماعي. وتشمل المكافآت الخارجية الأجور المرتفعة، والنتائج الجيدة في الامتحانات، ونيل الجوائز والمكافآت، والقبول الاجتماعي.

الدوافع الداخلية

تعكس الدوافع الداخلية تأثير أهدافنا ومواقفنا الذاتية على أفعالنا. قد يشجِّعنا دافعٌ ذاتي على بذل الجهد من أجل أنفسنا لا من أجل تحصيل مكافأةٍ خارجية. وعندما نستمد الدافع من شيءٍ داخل ذواتنا، كالفخر الوظيفي أو الشعور بالواجب أو الولاء لقضيةٍ ما أو المتعة من حل لغز أو المتعة من النشاط البدني، فإننا لا نحتاج إلى حوافزَ خارجية. عندما نلعب لعبة الشطرنج أو الورق أو ألعاب الكمبيوتر، على سبيل المثال، نجد المتعة في التحدي، وهذه المتعة منبعثةٌ من داخل ذواتنا. والعديد من الفنانين والحرفيين، يستمتعون بعملهم ويفتخرون به، وفي حين أن المال الذي يحصِّلونه ذو أهمية لأنهم وعائلاتهم بحاجة إليه من أجل العيش، إلا أنه مجرد عاملٍ من ضمن عواملَ كثيرة تحفِّزهم على العمل.

المزاحمة

ليست الدوافع الداخلية والخارجية مستقلة بعضها عن بعض. في الحقيقة، تُزاحِم الدوافع الخارجية دوافعنا الذاتية. يحدث هذا عندما تُثبط المكافآت الخارجية دوافعَنا الذاتية. وقد أظهرَت بعض التجارب كيفية حدوث هذه الظاهرة. في مجموعة من الدراسات التي تهدف إلى ملاحظة مزاحمة الدوافع الداخلية، طلب المسئولون من طلابٍ جامعيين حل سلسلة من الألغاز. وقُسِّم الطلاب مجموعتَين بصورةٍ عشوائية: تلقت إحداهما أجرًا ماليًّا، في حين لم تتلقَّ الأخرى أي أجر. الغريب في الأمر أن بعض طلاب المجموعة الثانية كان أداؤهم أفضل من طلاب المجموعة الأولى. كان الطلاب الذين لم يتلقَّوا أجرًا يستمتعون بالتحدي الفكري؛ أما الطلاب الذين تلقَّوا أجرًا فربما أحبطهم انخفاضُ الأجر الذي تلقَّوه. عندما تلقَّى طلاب المجموعة الأولى أجرًا ماليًّا، صرفهم ذلك عن الاستمتاع بالتحدي الفكري للُّغز (الدافع الذاتي)، وتمحور تركيزهم حول الأجر وهل هو مُجزٍ أم لا (الدافع الخارجي). وكشفَت دراساتٌ أخرى أن الأجور الزهيدة يمكن أن تثبِّط من عزيمة المشاركين، وتؤثِّر في أدائهم بشكلٍ سلبي عما لو كانت غيرَ موجودة؛ لأنها تُزاحِم الدافع الذاتي دون أن تقدِّم حوافزَ خارجيةً كافية لتوليدِ دافعٍ خارجيٍّ قوي.

تؤثِّر الحوافز والمثبِّطات الخارجية في حياتنا العادية أيضًا بطرقٍ غير متوقعة، كما هو موضَّح في دراسةٍ أجراها عالما الاقتصاد يوري جنيزي وألدو روستيشيني على مدارس التعليم المبكر. واجهَت إحدى هذه المدارس في إسرائيل مشكلة تأخُّر الآباء في استلام أطفالهم. كان المدرسون يُضطَرون إلى الانتظار بعد وقت الإغلاق للاعتناء بالأطفال حالما يصل آباؤهم. تسبَّب ذلك في تكلفةٍ ماديةٍ كبيرة، وأخلَّ بنظام المدرسة وأزعج المدرسين، فقرَّر مديرو المدرسة فرضَ غرامة ردعًا للآباء.

كان تأثير هذا الإجراء مدهشًا؛ فبعد فرض الغرامة لم يقلَّ عدد الآباء الذين يتأخرون على أطفالهم، إنما زاد. افترضَ الباحثون أن السبب في ذلك هو عدم تفسير الآباء الغرامة كرادع. وفسَّروها ثمنًا. واعتبروا أن المدرسة تقدِّم خدمةً إضافية، وهي الاعتناء بأطفالهم بعد ساعات المدرسة العادية. كان بعض الآباء على استعدادٍ لدفع ثمن هذه الخدمة الإضافية، ولأنهم تصوَّروا هذا الإجراء اتفاقًا متبادلًا ومنفعةً مشتركة (إذ إن المدرسة تجني المزيد من المال في نهاية المطاف)، لم يشعروا بالذنب الذي كان يمنعهم في السابق من التأخر في الوصول مراتٍ كثيرة. قد تكون هذه الدراسة مثالًا آخر على مزاحمة الدوافع الداخلية. قبل فرض الغرامة، ربما كان الكثير من الآباء لديهم من الدافع الذاتي ما يشجِّعهم على الوصول في الموعد من باب التعاون مع المدرسة ومراعاة المدرسين قدْر المستطاع. لكن بعد فرض الغرامة تغيَّرت نظرتهم للموقف؛ أي إنهم شعروا أنهم يدفعون المال في مقابل رفاهية التأخر في الوصول. وهكذا كان تأثيرُ التثبيط المالي للغرامة يُزاحِم دافع الآباء الذاتي في التعاون مع المدرسة.

تُعتبر التبرعات بالدم مثالًا مهمًّا آخر على السياقات والكيفية التي تُزاحِم بها الدوافع الخارجية الدوافع الداخلية. يمثِّل انخفاض التبرعات بالدم مشكلةً كبيرة في عديد من البلدان، ولقد بحث بعضُ علماء الاقتصاد عن طرقٍ جديدة لتشجيع عددٍ أكبر من الأشخاص على التبرع بالدم. كان أبسط حل من الناحية الاقتصادية هو دفع المال للمتبرعين. لكن عندما أجرى الباحثون تجاربَ على تقديم المكافآت على التبرع بالدم لجذب المزيد من التبرعات، وجدوا أن لها تأثيرًا عكسيًّا وغير متوقَّع؛ فقد ثبَّطَت رغبة الأشخاص بدلًا من تحفيزها. قد يكون تفسير ذلك هو أن الدافع الخارجي المستمد من المكافآت النقدية أضعفُ من دافع المتبرعين الداخلي لأن يكونوا مواطنين صالحين.

الخيارات المحابِية للمجتمع ودافع السُّمعة

تُعتبر التبرعاتُ الخيرية مثالًا آخر على التفاعل المعقَّد بين الدوافع الداخلية والخارجية. البعض يتبرع للجمعيات الخيرية بدافع الالتزام الأخلاقي أو الديني. والبعض الآخر يتبرع للجمعيات الخيرية لأن ذلك يحسِّن صورته أمام الناس فحسب. ومن المحتمل أن الكثيرين منَّا يتبرعون لمزيجٍ من الأسباب المختلفة. عندما تبرَّع مارك زوكربيرج وزوجته بغالبية ثروتهما بمناسبة ولادة طفلهما الأول، هل كان خيارهما نابعًا من دافعٍ أخلاقيٍّ داخلي لمساعدة العالم؟ أم كان نابعًا من دافع إثارة إعجاب الآخرين من خلال التصرف بإحسان وسخاء، ووسيلة لتحسين صورتهما الاجتماعية؟

درس علماء الاقتصاد السلوكي هذه الدوافع الخيرية بمزيد من التفصيل، لبحث الحالات التي يمكن أن «تُفسِد» فيها المكافآت الخارجية قيمة السمعة المكتسبة من السلوكيات المُحابِية للمجتمع مثل السخاء والإحسان. ووجدوا أنه عندما يجني الأشخاصُ منافعَ شخصية من «سخائهم»، وتُذاع أخبارها على الملأ، تقل احتمالية تصرفهم بسخاء مرةً أخرى. أخبرَني أحد الباحثين الشباب أنه عندما يُقام مهرجان أو جنازة في تايلاند، يضع الأشخاصُ المالَ الذي يريدون التبرع به في ظرف، ويضعون عليه أسماءهم. وفي بعض الأحيان يعطون المال مباشرةً إلى جامع التبرعات الذي يسجل تفاصيل المتبرع والمبالغ التي تبرع بها. بعد ذلك، يعلن المنظمون على الملأ وبصوتٍ عالٍ، من خلال مكبرات الصوت المنتشرة في أرجاء القرية، أسماء المتبرعين والمبالغ التي تبرَّعوا بها. تلك الإعلانات تُسمَع على نطاق كيلومتر حول القرية ويُحَث الأطفال على الانتباه لأسماء المتبرعين.

تُظهر هذه السلوكيات أن سُمعتنا الاجتماعية لها أهمية بالنسبة إلينا، لا سيما في سياق السخاء والعمل الخيري، كما تُبرِز ذلك الدافعَ الخارجي ذا الطابع الاجتماعي، وهو دافع السُّمعة أو الصورة الاجتماعية. تعكس بعض خياراتنا حقيقة أننا نريد زيادة شهرتنا وتحسين صورتنا.

لبحث تأثير دافع السُّمعة، نظر دان أريلي وزملاؤه في كيفية تأثُّر خيارات الأشخاص المُحابِية للمجتمع بانكشاف المكافآت الخارجية للآخرين. انطلق أريلي وفريقه من الفرضية التي تقول إن الناس يتبرعون للأغراض الخيرية بدافع كسب السُّمعة، وإن تلك التبرعات بمثابة إشارة يريدون بها إعلام الآخرين بأنهم مواطنون صالحون. لكن إذا توافرَت مكافآتٌ إضافية على الأعمال الخيرية، ورأى الجميع أننا نُجازى على إحساننا بطرقٍ أخرى، فإن دافع السُّمعة يضعُف. عندما يكون معروفًا للجميع أننا تبرَّعنا لأغراضٍ خيرية، فإننا نقول للآخرين إننا مواطنون صالحون. لكن إذا رأى الآخرون أننا نجني منافعَ شخصيةً من إحساننا، تقل القيمة الإشارية الاجتماعية لتبرعاتنا.

لاختبار هذه الأفكار، صمَّم دان أريلي وفريقه، تجربة بعنوان «نقرة من أجل الخير». وقسَّموا المشاركين عشوائيًّا على جمعيتَين خيريتَين؛ جمعية خيرية «جيدة» وهي الصليب الأحمر الأمريكي، وجمعية خيرية «سيئة» وهي الاتحاد القومي الأمريكي للأسلحة. بعد ذلك، طلبوا من المشاركين القيام بمهمةٍ بسيطة للغاية مِثل الضغط على مفتاحي «إكس» أو «زِد» في لوحة المفاتيح. وتلقى جميع المشاركين مكافآت على أدائهم لهذه المهمة البسيطة من الضغط على لوحة المفاتيح، تمثَّلَت في تبرعات لصالح جمعيتهم الخيرية المُعينة. ومن أجل اختبار تأثير المنافع الشخصية الإضافية، قُسِّم المشاركون في التجربة إلى مجموعتَين؛ إحداهما يتلقى أفرادها مكافآتٍ مالية إضافية على حُسن الأداء، والأخرى لا يتلقى أفرادها أي مكافآتٍ ماليةٍ إضافية على الإطلاق. وقُسمَت هاتان المجموعتان إلى مجموعتَين أخريَين، في إحداهما أُعلِن أداء كل من المشاركين في مهمة «نقرة من أجل الخير» أمام باقي أفراد المجموعة التجريبية، وفي المجموعة الأخرى لم يُعلَن أداء المشاركين ولم يطلع عليه إلا أصحابه والقائمون على التجربة.

ولم يكن مستغربًا عندما وجد أريلي وفريقه أن المجموعة التي بذلَت الجهد الأكبر، قياسًا على عدد مرات الضغط على المفاتيح، هي المجموعة الداعمة للجمعية الخيرية «الجيدة» (الصليب الأحمر). لكن ما أثار دهشتهم حقًّا هو أن المشاركين أظهروا تفاعلاتٍ معقَّدة بين الدوافع الخارجية المتمثلة في الحوافز المالية ودافع السمعة. كانت أفضل المجموعات أداءً، هي التي أُعلنَت إنجازاتها على الملأ، لا التي تلقَّت مكافآتٍ ماليةً إضافية. ورجَّح أريلي وفريقه أن يكون دافع السُّمعة هو سبب أداء المجموعة المميز؛ أي إن أفراد هذه المجموعة عملوا بجد لتحسين صورتهم الاجتماعية؛ لأنهم يعلمون أن جهودهم ستُعرض على الملأ. كانت أسوأ المجموعات أداءً هي التي لم يتلقَّ أفرادُها أي حوافزَ ماليةٍ إضافية ولم تُعلَن إنجازاتهم لباقي المجموعة. فلم يجنِ أفرادها أي شيء، لا دخلًا إضافيًّا ولا مكانةً اجتماعية؛ لأنه لا أحد سيعرف مقدار الجهد الذي بذلوه. في الواقع، لم يكن هناك ما يدفع هذه المجموعة لبذل الجهد على الإطلاق؛ لأنها لم تتلقَّ أيَّ مكافآتٍ اجتماعية أو مادية.

أما أكثر النتائج إثارةً للدهشة فكانت نتيجة المجموعة التي حصَّل أفرادها دخلًا إضافيًّا جراء أدائهم المميز. فقد بذلوا جهدًا أقل مقارنة بأفضل المجموعات أداءً (الذين لم يتلقَّوا أي دخلٍ إضافي، لكن أُذيعَت جهودُهم على الملأ). ويتبيَّن من هذه الدراسة أن دافع السُّمعة أقوى من دافع المكافآت المالية، على الأقل في سياق التبرعات الخيرية. لكنه لا يُلغي حافز المال التقليدي تمامًا؛ فمن بين المجموعتَين اللتَين تلقى أفرادهما مكافآتٍ إضافية، أظهرَت المجموعة التي أُعلن أداء أفرادها على الملأ أداءً أفضل من المجموعة التي لم يُعلَن أداء أفرادها. لقد لعب كلٌّ من دافع السُّمعة وحافز المكافآت المالية دورًا في تحفيز المشاركين على بذل الجهد.

إجمالًا، تؤكد نتائج هذه الدراسة وغيرها، ما يتوقعه علماء الاقتصاد في أغلب الأحيان، وهو أن الحوافز المالية من شأنها أن تشجِّع على التبرعات المجهولة الهوية. ولعل ذلك هو سبب نجاح الإعفاء الضريبي على التبرعات الخيرية — مثل برنامج «جيفت إيد» في المملكة المتحدة — في العالم الواقعي. ومع ذلك، لا تنجح الحوافر المالية، في كل الحالات. فالكثيرون لا يستفيدون من الإعفاءات الضريبية على تبرعاتهم الخيرية، ربما بسبب التكاليف المتعلقة بإجراءات المطالبة بالاسترداد الضريبي أو المماطلة؛ وهو ما سنتناوله في الفصل السادس. كما تشير هذه الدراسات إلى درس قد يكون أكثَرَ فاعليةً في صياغة السياسات، وهو أنه كلما سُهِّلَت عملية الإعلان عن دوافع الأشخاص الخيرية، فسيزداد الميل إلى الإحسان، وقد يكون لهذا تأثيرٌ أقوى من الحوافز النقدية التقليدية مثل الإعفاءات الضريبية. وفي عالم تسوده وسائل التواصل الاجتماعي التي تمنحُنا فرصة إظهار الجانب الخيِّر السخي من شخصياتنا على الملأ، يزداد احتمال العطاء الخيري.

وترتبط هذه النتائج أيضًا بالنقاشات الدائرة حول أجور المديرين التنفيذيين في قطاع المؤسسات الخيرية. فقد يأتي منح مديري المؤسسات الخيرية أجورًا باهظة بتأثيرٍ سلبي على المؤسسة نفسها، من حيث الأشخاص الذين ينجذبون إلى هذا النوع من الوظائف، ومن حيث المتبرعون المحتمَلون الذين سيتولد لديهم انطباعٌ سيئ من هذه المرتبات. فإذا اتضح أن الدافع الأساسي لمدير المؤسسة الخيرية هو الحافز المالي، فسيتعارض ذلك مع أخلاقيات العمل الخيري المتوقَّع من المؤسسة الخيرية أن تلتزم بها، مما سيؤثِّر بالسلب على سُمعة المؤسسة الخيرية على الأغلب؛ إذ قد يقرِّر المتبرعون المحتمَلون مِثلي عدم التبرع لهذا النوع من المؤسسات الخيرية.

الدوافع المحفزة للعمل

تؤثِّر الحوافز والدوافع، الداخلية منها والخارجية، في حياتنا العملية بشكلٍ قوي. فمعظم العاملين تحرِّكهم تفاعلاتٌ بين مجموعة من المؤثِّرات الداخلية والخارجية. تتضمن الحوافز والدوافع الخارجية الأجور والرواتب التي نكسبها، وكذلك القبول الاجتماعي الذي تمنحُه لنا الوظيفة، لا سيما إذا كانت هذه الوظيفة ذاتَ قيمة عند الكثيرين (مثل أن تكون في مجال الطب أو التعليم). يعكس العمل أيضًا دوافع داخلية، مثل الاستمتاع بالتحدي، أو استشعار الرضا عند القيام بعملٍ مفيد، أو تحقيق التطلعات الشخصية.

ومن الممكن الربط بين اكتشافات علم الاقتصاد السلوكي، فيما يخص الحوافز والدوافع، وبين أحد أقوى المقاربات وأكثرها فاعلية في فهم العلاقة بين الأجور وجهود الموظفين وإنتاجيتهم، وهي نظرية الأجور الفعَّالة. تتناول هذه النظرية الدور الذي تؤديه العوامل الاقتصادية والنفسية الاجتماعية في تشجيع الفرد على العمل. ويعرِّف أصحاب هذه النظرية الأجر الفعَّال بأنه الأجر الذي من شأنه تقليل تكاليف العمالة في الشركة. فإذا كان رفع أجر العامل سيؤدي إلى زيادة في إنتاجيته أكبر من الزيادة التي حصل عليها في الأجر، فسترتفع أرباح الشركة لا العكس. على سبيل المثال، إذا زاد أجر العامل بنسبة ١٪، فشجعَتْه تلك الزيادة على الاجتهاد أكثر وزادت إنتاجيته بنسبة ٢٪، فقد انخفضَت بذلك تكاليف العمالة لكل وحدة إنتاج. ولو افترضنا عدم حدوث تغيرات في القطاعات الأخرى، فستزداد الأرباح.

كما يمكن تفسير الارتفاع المتزامن في الأجور والأرباح بشكلٍ جزئي من خلال المفاهيم الاقتصادية القياسية. إذا تقاضى الموظف أجرًا مجزيًا، فسيثمِّن وظيفته أكثر ولن يرغب في خسارتها، وبالتالي سيعمل باجتهادٍ أكبر. وفي الأنظمة الاقتصادية الشديدة الفقر، قد يساعد تقاضي الموظفين أجورًا مرتفعة في قدرتهم على تحسين مأكلهم ومسكنهم وملبسهم والرعاية الصحية التي ينالونها؛ ومن ثَم سيتمتعون بصحةٍ جسدية أفضل، ويقدرون على بذل المزيد من الجهد والعمل لفتراتٍ طويلة، دون التغيب عن العمل لفتراتٍ طويلة بسبب إصابتهم بالمرض. كما قد يؤدي رفع الأجور إلى الحيلولة دون وقوع الإضرابات بين العمال النقابيين.

وإن كانت الأجور المرتفعة تدفع الموظفين إلى الكدح في العمل، فلا يعود ذلك إلى الحوافر المالية فحسب، وإنما للمكافآت والحوافز الاجتماعية والنفسية أيضًا التي من بينها تأثير حسن المعاملة في شعور الموظف بالثقة والولاء. عندما يعاملك صاحب العمل بشكلٍ أفضل مما تتوقع، فسترغب في رد حسن المعاملة له، وأن تبذل جهدًا أكبر في العمل. فالعلاقة بين صاحب العمل وموظَّفيه لا تقتصر على التبادل المادي فحسب. إنما تنطوي أيضًا على حوافز ودوافع اجتماعية ونفسية من بينها الولاء والثقة والمعاملة بالمثل. يصف جورج أكرلوف وزملاؤه هذه العلاقة بأنها شكل من أشكال «تبادل الهدايا». يعاملك صاحب العمل معاملةً حسنة ويدفع لك راتبًا مجزيًا، فترغب أنتَ في ردِّ الجميل له بأن تكدح أكثر في العمل.

قد يكون الكثيرون منَّا اختبروا هذا الأمر في حياتهم العملية. فعندما يستعرض المرء الوظائف التي عمل فيها طوال حياته، وينظر إلى التباين بين أفضلها وأسوَئِها، يتضح له مدى تعقيد الدوافع المحركة على العمل. تخيل أن تعمل في متجرٍ مليء بالأشياء التي تُحب عادةً أن تبتاعها مثل المعدَّات الرياضية أو الوجبات اللذيذة أو الأحذية الجميلة. بادئ ذي بَدْء، ستجد متعة في عملك هذا على الأرجح، وستبذل الجهد فيه. فإذا أُضيف إلى ذلك أن مديرك يعاملك معاملةً حسنة، والوظيفة تشبع دوافعك الداخلية، فعلى الأغلب ستعمل دون الحاجة لأن تكون تحت مراقبةٍ دقيقة، مما سيوفِّر على مديرك تكاليف الرقابة؛ أي ستكون الثقة متبادلةً بينك وبين مديرك، وستأخذ بزمام المبادرة وستكدُّ في العمل. وقد تُحسِن الكلام عن عملك بين أصدقائك ومعارفك الآخرين، فتُساعد مديرك في جذب موظَّفين جيِّدين جُدُد، دون أن يُضطَر إلى الإعلان عن الوظائف على نطاقٍ واسع. وسيوفِّر ذلك تكاليف البحث عن العمالة، كما يقلِّل خطورة توظيف الكسالى.

ولا تتعلق مسألة دمج الحوافز غير المالية، في تحليلنا لأسواق العمل، بدوافعنا الخيرية فحسب. بل إن لها تأثيراتٍ مهمة على الشركات وصانعي السياسات. فخفض الأجور لا يؤدي بالضرورة إلى زيادة أرباح الشركات؛ لكن رفع الأجور ربما يؤدي إلى زيادة الأرباح. في الحقيقة، تُلقي نظرية الأجور الفعَّالة الضوء على النقاشات السياسية بشأن الحد الأدنى للأجور وأجور الكفاف (أي الأجور التي تُعين العمال على تلبية تكلفة المعيشة الأساسية حيث يعيش). بالمجمل، ستعود الأجور المرتفعة العادلة بالنفع على أصحاب العمل والموظَّفين على حد سواء. فلو تقاضى الموظفون أجورًا مرتفعة فسيرغبون في الكدح لصالح الشركة في أثناء العمل وخارجه، وسيُسهِّل ذلك تسويغ دفع أجورٍ أفضل.

لقد شرحنا في هذا الفصل كيف يأخذ علماء الاقتصاد السلوكي الأفكار الاقتصادية الأساسية — مثل أن الناس يستجيبون للحوافز — ويوسِّعون من تعريف المفاهيم (مثل مفهوم الحوافز والدوافع في هذه الحالة)، فيُقرون بدور العوامل الاجتماعية النفسية في قراراتنا. فور أن نعترف أن خياراتنا وسلوكياتنا تتأثر بمجموعةٍ واسعةٍ من الدوافع الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، تتغير حلولنا الاقتصادية القياسية المتعلقة بتحسين الأداء تغييرًا جذريًّا. رأينا أن اهتمامنا بمظهرنا الاجتماعي ومظهر الآخرين وسُمعتنا يؤثِّر على تبرعاتنا للمؤسسات الخيرية واستجاباتنا للغرامات الرادعة. وأن تفاعلاتنا الاجتماعية مع الآخرين تؤثِّر أيضًا في أدائنا المهني، وفي أرباح الشركة التي نعمل لصالحها. تعكس الأسواقُ تفاعلاتِ الأفراد بعضهم مع بعض، وفي حين أنه لا يشُك أحد في استجابة الأفراد للحوافز المالية، فإنهم يستجيبون كذلك لمؤثِّراتٍ قويةٍ أخرى. يمكن أن تساعدنا الرؤى المستمدة من الاقتصاد السلوكي، كأفراد ورؤساء ومرءوسين وصانعي سياسات ومواطنين، في إثراء فهمنا للدوافع المعقَّدة التي تدفعنا إلى اتخاذ القرارات وبذل الجهد، والنظر في عواقبها.

وهكذا، استعرضنا في هذا الفصل بعض العوامل المؤثِّرة في خياراتنا وقراراتنا، التي من بينها التأثيرات الاجتماعية، التي تعكس بعض الدوافع الخارجية التي تحركنا. وفي الفصل الثالث، سنرى كيف يتأثر الناس بمجموعةٍ واسعة من المؤثِّرات الاجتماعية من بينها النفور من النتائج غير المنصفة والثقة والمعاملة بالمِثل والتعلم الاجتماعي وضغط الأقران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥