التفاعلات الاجتماعية
تناولنا في الفصل الثاني العوامل التي تؤثِّر في قراراتنا الاقتصادية والمالية إلى جانب المال. تنطلق معظم النظريات الاقتصادية من فرضية أننا مخلوقات مستقلة وأنانية، لا تعتمد على الآخرين عند اتخاذ القرارات. وفي ظل الظروف العادية، تُعتبر الأسواق المجهولة أفضلَ طريقة لتنظيم النشاط الاقتصادي وضمان حصول المستهلكين والمنتجين على أفضل صفقات ممكنة، والتي تعود بالنفع على الطرفين.
الافتراض السائد في الاقتصاد هو أننا نتصرف جميعًا كما لو أن الآخرين لا وجود لهم كأفراد. وأننا لا نتأثر بهم إلا بشكلٍ غيرِ مباشر؛ لأن قراراتهم فيما يخصُّ العرض والطلب هي المحرك لأسعار السوق. وهذا الافتراض يُغفِل بُعدًا مهمًّا من حياة الناس الاقتصادية. فالأسعارُ غيرُ شخصية، وعندما يركِّز الاقتصاديون عليها دون غيرها في تحليلهم الاقتصادي، سيغفُلون بسهولة عن أهمية العلاقات الإنسانية والتفاعلات الاجتماعية في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية. هناك طرقٌ كثيرة تتأثر من خلالها خياراتنا الاقتصادية بالآخرين من حولنا. وتساعد أدبيات علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع في إظهار أسباب ذلك وكيفية حدوثه. في هذا الفصل، سنستعرض بعض الطرق الرئيسية التي من خلالها يتأثر السلوك الاقتصادي بالتفاعلات الاجتماعية.
الثقة والمعاملة بالمِثل والنفور من عدم الإنصاف
قد نكترث بأمر الآخرين أو لا نكترث؛ وقد يكترث الآخرون بأمرنا أو لا يكترثون. لكننا نحرص على الإنصاف، ونفضِّل النتائج المنصِفة على النتائج غير المنصِفة. كما نجد في أنفسنا الميل إلى الثقة في الآخرين في بعض المواقف، وكذلك الآخرون. وعندما نجد الآخرين جديرين بالثقة ويُحسنون معاملتنا، تزداد احتمالية أن نبادلهم الثقة بمثلها، وأن نكون أهلًا لثقتهم أيضًا. على سبيل المثال، إذا ساعدني زملائي في التدريس والمهام الإدارية، فسأرغب في مساعدتهم في التدريس والمهام الإدارية كذلك. وهذا التفاعل بين الثقة والمعاملة بالمِثل عاملٌ مهم في كثير من الأنشطة التعاونية المشتركة التي نباشرها كل يوم بشتى صورها؛ بدايةً من التعاون بين فريق العمل في أثناء العمل أو الدراسة، وانتهاءً إلى الإيثار الذي نظهره عند التبرع إلى المؤسسات الخيرية، والتضافر الذي لا بد منه للنجاح في الحياة الأسرية، والمشاريع المجتمعية، والحركات السياسية.
ينطلق تحليل الثقة والمعاملة بالمِثل في علم الاقتصاد السلوكي من منطلق الفكرة التي تقول إن الناس بصفةٍ عامةٍ لا يحبون رؤية النتائج غير المتساوية. لا يحب الأشخاص أن يتلقَّوا معاملةً غير منصفة، ويشعرون بعدم الراحة عندما يرون الآخرين يتعرضون لعدم الإنصاف. وإذا شعرنا أننا نتعرض للإجحاف، فستقل ثقتنا بالآخرين ولن نقدر على رد الإحسان بالإحسان. هذا العنصر المهم في تفاعلاتنا الاجتماعية، يرْبط ميلنا للإنصاف بتصورنا لوضعنا الاجتماعي مقارنة بالآخرين. فنحن نُبغِض المواقف التي يبدو فيها الآخرون أفضل أو أسوأ من وضعنا؛ لأننا لا نحب النتائج غير المتساوية. يسمِّي علماء الاقتصاد السلوكي ذلك الميل «النفور من عدم الإنصاف».
هناك نوعان من النفور من عدم الإنصاف، يمكن استيعاب كليهما، من خلال تصور مسئولٍ بنكي يلتقي بمشرَّد في شوارع لندن. ربما يحزن المسئول البنكي برؤية شخصٍ يعاني من الفقر، ويتمنى لو كانت ظروف المعيشة أكثر تكافؤًا؛ إذا كان الأمر كذلك، فإن ما يشعر به يسمَّى «نفورًا من عدم الإنصاف نابعًا من الأفضلية». إذ يأتي المسئول البنكي من وضعٍ أوفر حظًّا، لكنه ربما لا يحب رؤية الآخرين يعانون من تدنِّي ظروف المعيشة، وسيرغب في رؤية المشرَّد في وضعٍ أكثر إنصافًا. وكذلك الشخص المشرَّد لا يريد أن يعاني من عدم الإنصاف. وسيتمنى لو أنه يمتلك المال الكافي ليقدر على توفير مكانٍ آمن ومريح يأويه؛ ولذا فإن وضعه العصيب غير منصف، وسوف يشعُر بما يسمَّى «نفورًا من عدم الإنصاف نابعًا من الحرمان»؛ فهو يعيش في حرمان، ولا يرغب في أن يكون أسوأ حالًا ممن حوله.
فهما وإن كانا يتشاركان في كراهتهما للنتائج غير المتكافئة، إلا أنه يغلب أن يكون الشحَّاذ المشرَّد أكثر انزعاجًا من وضعه غير المتكافئ من المسئول البنكي؛ فالناس يتضرَّرون من عدم الإنصاف النابع من الحرمان أكثر من تضرُّرهم من عدم الإنصاف النابع من الأفضلية. ويغلب على الظن أن يشعر المسئول البنكي بانزعاجٍ بسيط من رؤية المشرَّد بلا مأوًى، لكن المشرَّد سيشعر ببؤسٍ شديد من وضعه المجحف.
ويمكن أن يفسِّر ميلَنا للإنصاف أيضًا شعورُنا بالإيثار، الذي يدفعنا على سبيل المثال إلى التطوع أو التبرع للمؤسسات الخيرية. قد نفعل ذلك لأننا نستمتع بالسخاء، ولأننا في بعض الأحيان نستقي الشعور بالدفء من سخائنا. غير أن بعض التجارب تُظهِر أن تلك الأفعال الإيثارية لا تنبع دائمًا من السخاء البحت، إنما تكون في بعض الأحيان طريقتنا في إعلام الآخرين بأننا مواطنون صالحون وكرماء. وكما أشرنا في الفصل الثاني، يميل الناس إلى التبرع أكثر عندما تُذاع أعمالهم السخية على الملأ.
أكدَت العديد من الأبحاث التجريبية أن النفور من عدم الإنصاف يُعد نزعةً قوية، وهي ليست موجودةً لدى البشر في معظم البلدان والثقافات فحسب، وإنما لدى الرئيسيات أيضًا. ثمة لعبةٌ تجريبيةٌ بسيطة تُستخدم لاختبار نفورنا من عدم الإنصاف، تسمَّى «الإنذار الأخير». تتألف هذه اللعبة، في أبسط شكل لها، من لاعبَين. يتلقى اللاعب (أ) الذي سنطلق عليه «مقدم العرض»، مبلغًا من المال — لنقُل مائة جنيه إسترليني — ويكون له مطلق الحرية في إعطاء أي جزء منه إلى اللاعب (ب)، الذي سنطلق عليه «المستجيب للعرض». إذا رفض المستجيب ما يمنحه له مقدم العرض، فلن يحصل أي منهما على أي مال، وسيتعيَّن على مقدم العرض إعادة المائة جنيه إسترليني إلى القائم على التجربة. على الأرجح سيفترض علماء الاقتصاد التقليدي أن المشاركَين سيلعبان هذه اللعبة بأنانية تامة، وسيسعيان للحصول على أكبر قدْرٍ ممكن من المال، في ضوء ما يفترضه كلٌّ منهما عن استراتيجيات الآخر. سيفترض اللاعب (أ) أن اللاعب (ب) سيفضِّل الحصول على جنيهٍ إسترليني على ألَّا يحصل على شيء على الإطلاق. ولذا سيعرض اللاعب (أ) على اللاعب (ب) عرضًا بقيمة جنيهٍ إسترليني معتقدًا أنه سيقبله. إذا كان اللاعب (ب) لا يكترث بما يعتقده اللاعب (أ) أو بما يفعله، فسيفضِّل الحصول على جنيهٍ إسترليني بدلًا من عدم الحصول على أي شيء، وبالتالي سيقبل عرض اللاعب (أ). هكذا، افترض اللاعب (أ) أن اللاعب (ب) سيتصرف بهذه الطريقة؛ ومن ثَم عرض عليه جنيهًا إسترلينيًّا، واستأثر بالتسعة والتسعين.
تُعتبر لعبة «الإنذار الأخير» من أكثر التجارب الشائعة في الاقتصاد السلوكي، وقد خضعَت للتعديلات حتى تختبر استجابات المشاركين للمبالغ المالية المختلفة، وتنظر في مختلف الاستجابات عَبْر كثير من البلدان والثقافات. كما استُخدمَت اللعبة في تجاربَ أُجريَت على الحيوانات أيضًا. وأظهرَت قرود الشمبانزي التي تلعب بهدف الفوز بالعصير والفاكهة، سلوكًا مشابهًا للسلوك البشري. لكن النتيجة المشتركة بين كل هذه الدراسات هي أن سلوك المشاركين في العالم الواقعي يختلف تمام الاختلاف عما قد يتوقعه معظم علماء الاقتصاد؛ إذ غالبًا ما يتصرف مقدم العرض بسخاءٍ كبير فيعرض مبلغًا أكبر بكثير من جنيهٍ إسترليني أو ما يعادله، في حين يرفض المستجيب العروض في كثير من الأحيان حتى في حال عُرض عليه أربعون بالمائة أو أكثر من إجمالي المبلغ المتاح.
يرى بعض علماء الاقتصاد السلوكي أن كراهتنا الظلم هو نوعٌ من الانفعالات الاجتماعية. قد تثير أوضاعُنا الاجتماعية انفعالات معيَّنة في نفوسنا، مثل الحسد والغيرة والاستياء، ومن المحتمل أن يكون للانفعال دورٌ عندما يتعرض المشاركون للظلم في لعبة «الإنذار الأخير». على سبيل المثال، إذا شعر المستجيب (اللاعب ب) بالاستياء من مقدم العرض (اللاعب أ) لأنه قدَّم له عرضًا مجحفًا، فقد لا يمانع أن يتخلى عن أربعين جنيهًا إسترلينيًّا أو أكثر نظير معاقبته. وقد استخدم علماء الأعصاب دراساتٍ تضمن تصوير الدماغ لمحاولة اكتشاف ما يحدث داخل أدمغتنا. قامت إحدى هذه الدراسات بتصوير أدمغة القائمين بدور المستجيب في لعبة «الإنذار الأخير». وأظهرَت الاستجابات الدماغية للمشاركين أن المناطق العصبية التي تنشط عندما يتعرضون للظلم في لعبة «الإنذار الأخير»، هي نفسها التي تنشط عندما يشعرون بالاشمئزاز من رائحةٍ كريهة على سبيل المثال. يرى بعض علماء الأعصاب وعلماء الاقتصاد العصبي هذه النتائج دليلًا على أننا نشعر بنوعٍ من الاشمئزاز الاجتماعي عندما يعاملنا الآخرون بإجحاف.
التعاون والعقاب والأعراف الاجتماعية
تمثل الأعراف الاجتماعية نوعًا آخر من التأثيرات الاجتماعية التي تحرِّك سلوكياتنا، وغالبًا ما يعززها ضغط الأقران. وبالنظر إلى أننا كائناتٌ اجتماعية، فإننا نُكافِئ (ونكافَأ على) السلوكيات المحابِية للمجتمع بشكلٍ عام؛ إذا قلَّد المراهقون أقرانهم في اختياراتهم وعاداتهم على سبيل المثال، فسيُدعون إلى أروع الحفلات على الأغلب. فالانصياع له تأثيره القوي، ويلعب دورًا مهمًّا في عاداتنا وتقاليدنا وممارساتنا الدينية. لكن عندما يكون الانصياع أعمى، لا تكون التأثيراتُ الاجتماعية محمودةَ العواقب دائمًا، مثلما يحدث عندما تتشكل الطوائف. وتُعتبر الطوائف الدينية المتشددة مثالًا متطرفًا على السلوك الاجتماعي الهدَّام، ومع ذلك للانصياع قوةٌ لا يُستهان بها في السياقات الطبيعية أيضًا. فكثيرًا ما نقارن سلوكنا بسلوك الآخرين؛ إذ يوفِّر لنا سلوك الآخرين ما يسمِّيه علماء الاقتصاد السلوكي «النقاط المرجعية الاجتماعية»؛ أي إننا نتخذ قراراتنا بالرجوع إلى ما نعتقد أنه القرار السائد في المجموعة. وتستخدم الكثير من المؤسسات — من صانعي السياسات الحكوميين إلى العاملين في مجال التسويق — المعلومات المتعلقة بنقاط مرجعيتنا الاجتماعية للحث على السلوك البنَّاء على سبيل المثال، أو لجني المزيد من الأرباح.
وتساعد الأعراف الاجتماعية في شرح الكيفية والأسباب وراء تطوُّر البشر ليكونوا نوعًا متعاونًا، لكن كيف نضمن عدم استغلال أحد لسخاء الآخرين دون مقابل؟ يُجيب عن هذا السؤال علماء الاقتصاد السلوكي الذين يدرسون مجموعة من الألعاب تُعرف باسم «ألعاب المنفعة العامة»، وهي عبارة عن أداةٍ تجريبية لدراسة ميلنا الفطري للتعاون، وكذلك دور الجزاءات والعقوبات الاجتماعية في الحفاظ على السلوك البشري التعاوني. وقد نشأَت ألعاب المنفعة العامة من المفهوم الاقتصادي للمنفعة العامة. وتُعرَّف المنفعة العامة، في أتم صورها، بالشيء الذي يمكن للجميع الوصول إليه بالمجَّان وبكل سهولة، ولا يُمنع من الاستفادة منه أحد، مما يعني أنه من الصعب تحويله إلى الملكية الخاصة. والمثال النموذجي للمنفعة العامة هو المنارة؛ إذ يمكن لأي مارٍّ أمام المنارة الانتفاع من ضوئها، لكن ليس من السهل فرضُ رسومٍ على كل فردٍ ينتفع منها. ولذلك أي شخصٍ يرغب في التربُّح من مشروعٍ تجاريٍّ خاص، لن يستثمر أمواله على الأغلب في منارة؛ لأنه يعلم أنه ليس من السهل التربُّح منها. من ثَم، لا بد من وجود دافعٍ آخر لتوفير المنافع العامة مثل المنارات. وقد وجد علماء الاقتصاد أن للمجتمعات المحلية دورًا مهمًّا في ضمان توفير المنافع العامة وصيانتها.
كشف علماء الاقتصاد السلوكي بعضَ العوامل التي تؤثِّر في سلوكنا تجاه المنافع العامة، من خلال ألعاب المنفعة العامة. وفي واحدةٍ من هذه الألعاب، يُجمع عدد من المشاركين في التجربة، ويُطالَبون بالمساهمة في صندوقٍ مالي، سيُقسَّم بينهم بالتساوي فيما بعدُ. تُشبه هذه اللعبة ما سيفعله المجتمع المحلي إذا أراد تدبير صندوقٍ مالي لإنشاء حديقةٍ عامة على سبيل المثال. ويفترض الكثير من الاقتصاديين أن معظم المشاركين في التجربة لن يتبرَّعوا بأي مبلغٍ مالي؛ لأن الصندوق المالي سيُقسَّم بين المشاركين بالتساوي، سواء شاركوا فيه أم لا. لذا فإن أفضل طريقة يحقِّق بها الفرد أقصى استفادة ممكنة هو أن يحصل على حصته من الصندوق المالي دون المساهمة فيه. المُشكِل في طريقة التفكير هذه هي أنه إذا تبناها الجميع، قاصدين استغلال سخاء الآخرين دون بذل أي مقابل، فلن يكون هناك مالٌ لمقاسمته، ولن تُوجَد منافعُ عامة على الإطلاق. وهُنا سيخلق الأفراد الأنانيون نتيجةً تضُر بمصلحة الجماعة.
لكن لحسن الحظ، وجد علماء الاقتصاد السلوكي والتجريبي أن المشاركين في تجارب ألعاب المنفعة العامة يُظهِرون سخاءً غير مسبوق، مثلما فعل المشاركون في لعبة «الإنذار الأخير». إذ يتبرَّع معظم المشاركين بسخاء بدلًا من الامتناع عن المشاركة تمامًا. وتكشف النسخ المختلفة من تجارب ألعاب المنفعة العامة أنه عندما يلاحظ طرفٌ ثالثٌ تصرفَ البعض بأنانية، فإنه يكون على استعداد لبذل مقابل كي ينالَ المشاركين غير المتعاونين عقابٌ، وتُعرف هذه الظاهرة باسم «العقاب الإيثاري». تنص هذه الظاهرة على أن أفراد المجتمع يُظهِرون استعدادًا للتخلي عن منافعهم الشخصية من أجل معاقبة الآخرين على انتهاك الأعراف الاجتماعية مثل السخاء والتعاون. وهذا في حد ذاته شكلٌ من أشكال التعاون؛ لأنه يرسخ السلوك التعاوني لأولئك الذين يتبرَّعون بسخاء، ويردَع السلوك الأناني لأولئك الذين يرغبون في استغلال سخاء الآخرين دون بذل مقابل. ولقد عكف علماء الاقتصاد العصبي وعلماء الأعصاب على دراسة ظاهرة العقاب الإيثاري في ألعاب المنفعة العامة. ووجدوا أن المشاركين في التجربة الذين يطبِّقون العقاب الإيثاري تُظهِر أدمغتهم نشاطًا عصبيًّا في مراكز المكافأة، مما يعني أننا نشعُر بالمتعة عندما نُعاقِب الآخرين على انتهاك الأعراف الاجتماعية.
تلعب ظاهرة العقاب الإيثاري دورًا مهمًّا في تطور سلوك التعاون. فالعقاب الإيثاري يُسهِم في عالمنا المعاصر في تفسير سبب تسرُّعنا في إدانة السلوكيات غير المقبولة اجتماعيًّا على الملأ. وهو ما سهَّلَته وسائل التواصل الاجتماعي رغم ما ينتُج عن ذلك من تبعاتٍ سيئة، مثل انتشار المنشورات التحريضية على تويتر. لكن بصفةٍ أعم، تفسِّر هذه الميول للتعاون وترسيخ الأعراف الاجتماعية، كونَ المعلومات الاجتماعية أداةً شديدة الفاعلية في التأثير على السلوك. وأحد الأمثلة على ذلك هو نتائج استهلاك الطاقة؛ فعند اطلاع المستهلكين على تقارير استهلاك جيرانهم، كانوا يعدِّلون استهلاكهم للطاقة للتوافق مع النقطة المرجعية الاجتماعية لاستهلاك أصدقائهم وجيرانهم. وبالمثل، عندما أرسلَت هيئة الضرائب في المملكة المتحدة، «إدارة الإيرادات والجمارك»، إلى المتخلفين عن دفع الضرائب رسائل تحتوي على بعض المعلومات الاجتماعية حول سلوك أقرانهم، مما يخبرهم بأن سلوكهم شاذٌّ اجتماعيًّا لأن معظم أقرانهم دفعوا فواتيرهم في الموعد المحدد، دفع ذلك أغلبهم (لا كلهم!) لسداد الضرائب المتأخرة، أسرع من المتأخرين عن السداد الذين تلقَّوا رسائل لا تحتوي على أي معلوماتٍ اجتماعية حول سلوك أقرانهم.
الهُوية
الهُوية هي جانبٌ آخر تتجسد فيه طبائعنا الاجتماعية، وهي تُعد من جوانب كثيرة نوعًا خاصًّا من الإشارات الاجتماعية، تشبه في ذلك الدور الذي يؤديه دافع السُّمعة في التبرعات الخيرية، كما ناقشنا في الفصل الثاني. إذا نظرنا إلى أنفسنا نجد أننا نشعُر بالألفة والميل تجاه بعض الجماعات دون غيرها، وهو ما يرتبط بالدراسة المبكرة التي أجراها عالم النفس الاجتماعي هنري تايفل على التحيز والتمييز. كان غرض تايفل من هذه الدراسة هو فهم سبب انبهار كثيرٍ من المواطنين البسطاء بهتلر والحزب النازي. وركَّز في دراسته على العلاقات بين الجماعات، التي يشعُر أفرادها بالانتماء إليها، ويكونون على استعدادٍ لتحدي الجماعات الأخرى والدخول في صدام معها، كأنها عدو لهم. ولاحظ تايفل أيضًا أن أفراد الجماعة الواحدة يميلون بعضهم لبعض، ويقرِّرون إنشاء علاقةٍ مستمرة من المحاباة المتبادلة لأبسط الأسباب. إذ يمكن لتفضيلاتٍ بسيطة مثل تفضيل أنواعٍ معيَّنة من الفن، أو حتى نتائج إلقاء عملةٍ معدنية، أن تفصل جماعةً عن الأخرى. كما أننا على استعدادٍ لتحمُّل تكاليف مقابل الانتماء لجماعة بعينها؛ على سبيل المثال، لا يمانع معجَبو نجوم البوب مثل كيتي بيري إنفاقَ آلاف الجنيهات أو الدولارات في السنة للشعور بالانتماء لمعجَبي كيتي بيري الآخرين. هذا وترتبط استنتاجات تايفل عن الجماعات بدراسات علماء الاقتصاد السلوكيين عن الهُوية. ولقد حلَّل عالما الاقتصاد السلوكي جورج أكرلوف وراشيل كرانتون مفهوم الهُوية؛ ولاحظا أن السلوكيات التي تبدو في ظاهرها منحرفة، مثل إلحاق الأذى بالنفس المتمثل في دق الوشوم والثقوب في الجسم، هي محاولاتٌ من أصحابها للإشارة لجماعتهم بأنهم ينتمون إليها.
وتلعب الهوية دورًا محوريًّا في السياسة. إذ يشعر معظمنا بحاجةٍ ملحة للانتماء إلى الآخرين اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا. في أعقاب تصويت المملكة المتحدة بشأن مغادرة الاتحاد الأوروبي في يونيو ٢٠١٦، لاحظ المعلقون أن كثيرًا من الذين صوَّتوا لصالح «الانفصال» كان يسيطر عليهم الشعور بضياع الهوية أو غيابها، بسبب ازدياد عدد المهاجرين من الاتحاد الأوروبي. وللمفارقة، أن أكثر المتحمسين لقرار «الانفصال» من عامة الشعب — الذين كانوا يشعرون بخطر المهاجرين — كانوا يعيشون في مناطق تشهد معدلات هجرة منخفضة، مع بعض الاستثناءات الجديرة بالذكر (مثل مدينة بوسطن في لينكونشر). ربما اعتبروا المهاجرين جماعةً منفصلةً عنهم، دون الاستناد في ذلك إلى أي خبرة مباشرة، وهي ظاهرة لم تكن لتُثير دهشة تايفل.
سلوك القطيع والتعلم الاجتماعي
من الجوانب المهمة لطبيعتنا الاجتماعية ميلُنا إلى التقليد واتباع السلوك الجماعي ومسلَك القطيع. يفسر علماء الاجتماع سلوك القطيع بأنه انعكاس لنوعَين من التأثيرات؛ المعياري والمعلوماتي. التأثيرات المعيارية هي الأعراف الاجتماعية التي تحرِّك قراراتنا؛ فالكثيرون منَّا يرغبون في الانسجام مع الآخرين والقيام بما يفعلونه. هذه الأعراف قد تعكس استجاباتِنا الغريزيةَ المتطورة. وينطوي كثيرٌ من قراراتنا، بما فيها الاقتصادية والمالية، على اتباع الآخرين، ربما لظننا أننا نتعلم منهم، أو ربما لسببٍ غريزيٍّ فطريٍّ آخر.
اكتشف عالم النفس الاجتماعي سولومون آش أنه عند اتخاذ القرارات البسيطة للغاية، مثل مقارنة أطوال بعض الخطوط، يمكن أن يتلاعب الآخرون بنا بسهولة. ووجد أنه عند ضم مشارك حقيقي واحد إلى مجموعة من المشاركين المزيَّفين — من تسعة عشر شخصًا مثلًا — كلهم يجيبون إجابات من الواضح خطؤها على أسئلةٍ بسيطةٍ للغاية، فإن هذا المشارك الحقيقي غالبًا ما يغيِّر رأيه في النهاية ويغيِّر إجاباته الصحيحة التي لا تحمل الشك إلى الإجابات الخاطئة؛ لأن هذا ما قرَّرَته المجموعة. وهذا ليس سلوكًا غير عقلاني بالضرورة، إذا كان الشخص يستند في حُكمه إلى الأكثرية؛ أي إنه لا يرجِّح أن يكون هو وحدَه على صواب والآخرون كلهم على خطأ.
لا تزال تظهر أبحاثٌ جديدةٌ مذهلة تبيِّن أسباب وكيفية تقليدنا للآخرين، ومن بين مجالات البحث الواعدة لعلماء الاقتصاد هو مجال التحليل الاقتصادي العصبي لما يسمَّى «الخلايا العصبية المرآتية». تُوجَد الخلايا العصبية المرآتية في أدمغة البشر والرئيسيات وفي بعض الحيوانات الأخرى أيضًا. يعتقد العلماء أن هذه الخلايا العصبية تلعب دورًا عند تقليدنا الآخرين. وقد أجرى علماء الأعصاب تجارب على القرود تضمَّنَت مراقبة معدَّلات النشاط العصبي لخليةٍ عصبيةٍ واحدة. فعندما يتحرك قرد بطريقةٍ معينة، تنشط الخلية العصبية المرآتية؛ لكنها لا تنشط عند تحرك القرد قيد الملاحظة فحسب، وإنما عند رؤيته لقردٍ آخر يتحرك بهذه الطريقة. وقد تُشير حقيقة رصد استجاباتٍ مماثلة لدى الرئيسيات إلى أن اتباع سلوك القطيع أمرٌ عفْوي وغريزي، ويعكس مشاعرنا البدائية مثل الاندفاع. ومن المحتمل أن عملياتٍ عصبيةً مشابهة هي المسئولة أيضًا عن اتباعنا لسلوك القطيع في السياقات الاقتصادية والمالية.
يستند أحد العناصر المهمة في تحليلنا الاقتصادي للسلوك الجماعي إلى ملاحظات علماء الاجتماع حول التأثير المعلوماتي. ينبع التأثير المعلوماتي من ميلنا للتعلم من أفعال الآخرين. عندما يسهُل رصد أفعال الآخرين، فإنها يمكن أن تكون دليلًا مفيدًا في الحالات التي يصعب فيها إيجاد معلوماتٍ بديلة. فقد يعرف الآخرون أمورًا لا نعرفها؛ لذا يكون من المنطقي أن نقلدهم؛ ومن ثَم فإن اتباع سلوك القطيع قد يكون أداةً عقلانية للتعلم الاجتماعي. لكننا في بعض الأحيان نتبع سلوك القطيع تلقائيًّا دون تفكير، وهو ما قد يعني أن اتباع القطيع غريزةٌ صقلَها التطور.
تُوجَد أمثلةٌ كثيرة على اتباعنا لسلوك القطيع في حياتنا اليومية. عندما أكون بحاجة إلى المال بشكلٍ عاجل، وأرى طابورًا طويلًا أمام صرافٍ آلي بعينه، ولا أجد شخصًا واحدًا أمام الصراف المجاور، أوفِّر على نفسي الوقت وأفترض أن هؤلاء الواقفين لا يستخدمون الصراف الآلي الآخر لسببٍ ما؛ إما أنه معطَّل أو أن البنك يفرض رسومًا باهظة على عمليات السحب منه. هُنا أتعلم من قرار المجموعة. ولا يُوصَف هذا التصرف بالصواب أو الخطأ؛ ففي بعض الأحيان يكون القطيع قد اختار الاستراتيجية الصحيحة، وفي أحيانٍ أخرى يكون قد اختار الاستراتيجية الخاطئة. لذلك تعتمد صحة قراري على اتباع سلوك القطيع على السياقات المختلفة. كما تصبح خيارات الآخرين مفيدة أيضًا، عند اختيار مطعم لتناول الطعام. فأنا لا أذهب إلى مطعمٍ خالٍ من الزبائن عادةً، لا سيما إن كان المطعم المجاور له مزدحمًا. وأفضِّل المطعم المزدحم ولو اضطُررتُ للوقوف في طابور، على افتراض أن الآخرين لديهم من المعلومات ما يفيد بأن النبيذ والطعام سيئ الجودة في المطعم الأول أو أن الطعام لذيذ في المطعم الثاني. وهُنا نسأل: هل اتباع سلوك القطيع أمرٌ جيد أم سيئ؟ والإجابة على ذلك تعتمد على إنْ كانت تلك الأحكام والقرارات الجماعية صحيحة أم خاطئة.
لكن قد ينشأ عن اتباع سلوك القطيع تبعاتٌ سلبية. إذا كنتُ أقرِّر بين مطعمٍ خال من الزبائن ومطعمٍ مكتظ بالزبائن، لِمَ أختار المطعم الثاني دون الأول؟ لو أنني اتبعتُ الآخرين إلى المطعم المكتظ فإنني حينها استخدمتُ المعلومات الاجتماعية المستمدة من قرارات الجماعة؛ لكن ماذا لو كانت لديَّ معلومةٌ خاصةٌ قيمة لكنها غير معلومة للآخرين؟ تخيَّل لو أن لديَّ معلومتَين؛ إحداهما مصدرُها توصيةٌ من صديق من سيدني يزور لندن وأخبرني أن المطعم الخالي من الزبائن جوهرةٌ مدفونة في لندن؛ والمعلومة الأخرى استنتجتُها من ملاحظة اختيار الآخرين للمطعم الآخر.
قد أقرِّر أن أتبع القطيع وأختار المطعم المزدحم؛ لكنني عندما أتجاهل المعلومة التي لديَّ (توصية صديقي)، فإنها ستغيب عمن يلاحظون سلوكي. وسيستنتجون من اختياري للمطعم المكتظ أن المطعم الخالي من الزبائن ليس فيه ما يميزه على الإطلاق؛ إذ من أين لهم معرفة أن لديَّ معلومةً خاصة تفيد أن المطعم الخالي هو في الحقيقة مطعمٌ جيد للغاية؟ بالتالي ستزيد احتمالية أن يصطفوا أمام المطعم الأقل جودة والأكثر ازدحامًا، وسيحذو الآخرون حذوهم أيضًا. هكذا تنتشر المعلومات الاجتماعية عن خيارات الآخرين بين أفراد القطيع. عندما يؤدي سلوك القطيع إلى تجاهل معلوماتٍ غيرِ شائعة قيِّمة بسبب انخداع الآخرين بسلوك القطيع، فإنه ينجم عنه تأثيرٌ سلبي على الآخرين، أو ما يُسمى بالتأثير الخارجي السلبي لسلوك القطيع. ولا شك في أن القطيع يُمِد الآخرين بالأمان؛ كما أن عمليات صنع القرار الجماعية، تحت ظروفٍ معينة، قد تؤدي إلى قراراتٍ أفضل. كما يمكن أن تكون المعلومات الجماعية أكثر دقة. لكن سلوك القطيع يعني أيضًا تجاهل المعلومات الخاصة القيمة وضياعها.
هناك سببٌ آخر لسلوك القطيع، وهو أننا نكترث بما يفكر فيه الآخرون بشأننا. فنحن نحرص على سُمعتنا، ونحميها بعناية، وهذا أمرٌ مرتبط بدافع الصورة الاجتماعية الذي تعرضنا له في الفصل الثاني. لا تتضرر سُمعتنا في كثير من الأحيان إذا اقتصر خطؤنا على المواضع التي يخطئ فيها الآخرون، أو كما يقول جون مينارد كينز: «تكون سُمعتنا في وضعٍ أفضل إذا جاء خطؤنا متفقًا مع السائد عما إذا كان صوابنا مخالفًا له.» ولنا في المتداولين المارقين درسٌ في هشاشة السمعة المبنية على معارضة التيار السائد. فالمتداولون المارقون يمكنهم تحقيق مكاسبَ هائلة، إذا قاموا بالمضاربة عكس التيارات السائدة في سوق المال. لكن عندما يكون التيار السائد على حق والمتداولون المارقون على خطأ، فلا يمكنهم إنقاذُ سُمعتهم بسهولة؛ إذ لن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بحجة أن ما ارتكبوه خطأٌ شائع.
وربما يكون للتطور دورٌ كبير في سلوك القطيع؛ لأن كثيرًا من الكائنات الحية الأخرى تشاركنا في سلوكيات التعلم الاجتماعي. على سبيل المثال، تُظهِر بطاريق آديلي في القارة القطبية الجنوبية ميولًا قوية لاتباع سلوك القطيع. تقع بطاريق آديلي في منتصف سلسلةٍ غذائية؛ فهي تتغذى على الكريل (نوع من القشريات) وتتغذى عليها الفقمة النمرية. تواجه تلك البطاريق معضلة عند بحثها عن الطعام؛ فهي إذا غاصت في البحر، يحتمل أن تعثر على بعض الكريل الشهي، أو أن تهاجمها فقمةٌ نمرية وتفترسها. حينها تقرِّر أن أفضل طريقة هي الاعتماد على التعلم الاجتماعي، وملاحظة سلوك أقرانها، قبل أن تتخذ قرارها في هذا الشأن. سوف يُقدِم على المغامرة بالغوص في البحر البطريق الأكثر شجاعة أو الأكثر جوعًا، وإذا رأى بقية أفراد المستعمرة أنه لم يتعرض لهجوم من فقمة، فسيحذون حذوه. يسلك البشر سلوكياتٍ مناظرة في عالمنا المعاصر؛ إذ نعتمد مثلًا على تقييمات المستهلكين للمنتجات ومراجعاتهم لها، قبل أن نتخذ قراراتنا الشرائية، التي أصبحَت أسهل بكثيرٍ مما كانت عليه في السابق مع انتشار الإنترنت والتسوق الإلكتروني. فنحن نتأثر بشكلٍ كبير حين نرى المشاهير يستخدمون منتجاتٍ معينة. كل هذه الأساليب التي نعتمد فيها على رأي الآخرين عند اختيار المنتجات التي نريد شراءها، ما هي إلا انعكاسٌ لنزوعنا للتأثر بالمعلومات الاجتماعية.
في الأغلب يتعلق سلوك القطيع لدى البشر أيضًا بالأمان الذي يوفِّره الانتماء لجماعة. فالكثرة تولِّد إحساسًا داخل المرء بالاطمئنان. تخيل أنك تريد عبور طريقٍ مزدحم بالسيارات والدراجات النارية في مدينة جاكرتا الإندونيسية. سبيلك الوحيد إلى ذلك هو أن تعبُر الطريق مع مجموعة من السكان المحليين؛ إذ يتيح لك ذلك أن تتعلم منهم عاداتهم في عبور الطريق، وفي الوقت نفسه ستنعم بالأمان والحماية التي توفِّرها المجموعة. فاحتمال أن تصدم سيارة شخصًا واحدًا أكبر بكثير من احتمال أن تصدم مجموعة من المشاة. وتُوجد أمثلة شبيهة في الأنظمة المدنية؛ فعلى سبيل المثال تستند الدعاوى القضائية الجماعية (التي يرفعها فرد بالنيابة عن مجموعة) إلى حقيقة أن الجماعة لها قوة وتأثير يفوق تأثير الأفراد، كما أنه يمكنها حمايتنا من الظلم أيضًا، إذا ما اتحدَت الجماعة لاتخاذ إجراءٍ قانوني لرفع ذلك الظلم. ولعل أبرز مثال على ذلك الدعوى القضائية الجماعية التي رفعت ضد الشركة المنتجة لعقار الفنفلورامين/فينترمين «فن فن» لعلاج السمنة. فقد وجدَت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية أن استخدام العقار مرتبط بحدوث أمراض في القلب. ورفع أكثر من ١٢٥٠٠٠ مُستخدم لهذا العقار دعوى قضائيةً جماعيةً ضد الشركة المنتجة، وهي شركة الأدوية الأمريكية وايث، التي سوَّت القضية خارج المحكمة في نهاية المطاف، ودفعَت تسوياتٍ تقارب ١٦٫٦ مليون دولار أمريكي. وهكذا اتحد الأفراد، الذين كانوا لا حول لهم ولا قوة منفردين، كي يحقِّقوا العدالة للجماعة كلها.
وإن كان الكثير من هذه الأمثلة معاصرًا إلا أن غريزة القطيع لدينا قديمة ومتأصلة وضاربة في القدم. وتشترك معنا في هذه الغريزة حيواناتٌ أخرى كثيرة مثل البطاريق التي أشرنا إليها سابقًا. وترتبط غريزة القطيع بسلوك الحيوانات. فسلوك القطيع لدى الأبقار هو غريزةٌ تطوَّرَت كوسيلةٍ دفاعيةٍ لحمايتها من الحيوانات المفترسة. وسلوك القطيع في البشر، وكذلك في العديد من الحيوانات، هو استراتيجيةٌ متطورة للبقاء، ساعدَت أسلافنا في البحث عن الطعام والمأوى وشركاء التزاوج المناسبين. كيف تلعب هذه الغرائز المتأصلة دورًا في البيئات الصناعية الحديثة حيث تقوم تقنيات الإنترنت والهاتف بدور الوساطة في علاقاتنا وتفاعلاتنا الاجتماعية، مثل عمليات البيع والشراء على موقع «إيباي»، وحجز أماكن العطلات وسيارات الأجرة من خلال تطبيقات «تريب أدفيسور» و«إير بي إن بي» و«أوبر»؟ لكن مزايا وعيوب سلوك القطيع والتأثير الاجتماعي تتضخم في عالمنا الحاسوبي الذي يتطور بسرعةٍ فائقة. فتحدُث الأزمات المالية في أيامنا الحالية بسبب المضاربين الذين يقلدون غيرهم من المضاربين سعيًا للربح، كما كانوا يفعلون لقرونٍ منذ أزمة هوس التوليب (جنون المضاربة الهولندي في القرنِ السابعَ عشرَ بشأن شراء وبيع بصيلات التوليب) وما قبلها.
ويُعد سلوك القطيع المالي شكلًا من أشكال سلوك القطيع، الذي طالما أثَّر في حياتنا جميعًا تأثيرًا جذريًّا، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. فنحن نعيش في نظام مالي عالمي حوسبي مترابط. وقد تكون سرعة وضخامة التدفقات المالية هائلة جدًّا، ولعل أبرز مثال على ذلك قضية نافيندر سينج ساراو، الذي اتُّهم بالمساهمة فيما سُمي «الانهيار الخاطف» لبرصة وول ستريت عام ٢٠١٠، الذي أدى إلى خسائر بقيمة تريليون دولار، عندما قام بتداولاتٍ وهمية من جهاز كمبيوتر في منزل والدَيه بضواحي لندن. في الواقع، سلوك القطيع المالي لديه القدرة على زعزعة الأسواق والأنظمة المالية. هذا بالإضافة إلى إرباك أنماطنا الشرائية، وعاداتنا في التصويت، وآرائنا وممارساتنا الدينية، وتفضيلاتنا الثقافية. كما يمكنه تشويه علاقاتنا وتفاعلاتنا الاجتماعية.
ولسلوك القطيع تبعاتٌ غير مباشرة واسعة النطاق أيضًا فيما يتعلق بالرفاه والمصلحة العامة. إذ قد يؤدي إلى أزمةٍ أخلاقية في حال استخدمَت الشركات والحكومات معلوماتٍ اجتماعية للتلاعب بقراراتنا؛ إذ سيتحول عالمنا إلى عالمٍ قائم على التفكير الجماعي وتحكُّم الأخ الأكبر على غرار رواية «١٩٨٤». وإذا كان التلاعب بالقرارات الاجتماعية له قيمةٌ سوقية، فإنها تكون دافعًا أكبر للشركات والحكومات لانتهاك خصوصية الأفراد وجمع معلوماتهم الشخصية، ما يُفضي إلى استغلال الشركات التكنولوجية المتطورة للأفراد. ويمكِن أن يؤثِّر سلوك القطيع أيضًا في مستقبلنا المالي؛ فإذا سيطر التفكير الجماعي على قرارات مجلس أمناء صناديق التقاعد — مما يسهِّل على الأفراد والجماعات المحتالة اختلاس الأموال — فإن الكثير من الأفراد سيواجهون صعوباتٍ مالية في سن التقاعد. وللأسف، فإن حوادث اختلاس صناديق التقاعد ليست نادرة — فمثل هذه الحوادث تقع منذ أيام روبرت ماكسويل فصاعدًا — وفي الآونة الأخيرة ظهرَت مخاوف في المملكة المتحدة حول كيفية إدارة صناديق التقاعد للموظفين السابقين في سلسلة متاجر «بريتيش هوم ستورز». لكن الجيد في الأمر أن الهيئات الرقابية أصبحَت على دراية بهذه التأثيرات، وتعمل على وضع سياساتٍ من شأنها تقليل المخاطر وضمان إدارة صناديق التقاعد بالشكل السليم.
استعرض هذا الفصل الطرق العديدة التي تؤثِّر بها المؤثِّرات الاجتماعية على مجموعةٍ كبيرة من قراراتنا الاقتصادية والمالية. فنحن نستجيب للمؤثِّرات الاجتماعية التي تعكس نظرتنا إلى أدائنا بالمقارنة بأداء الآخرين والعكس صحيح. ونرغب في رؤية نتائج أكثر إنصافًا، ونكره الظلم لا سيما إن كان يؤثِّر في حياتنا بشكلٍ مباشر. كما نميل إلى الثقة بالآخرين والمعاملة بالمثل، والكثير من العلاقات الاقتصادية تعتمد على هذا السلوك الاجتماعي. كما أننا نتعلم من الآخرين ونقلدهم في سلوكياتهم. وتتأثر قراراتنا الاقتصادية والمالية بأشكالٍ عديدة من سلوك القطيع والتعلم الاجتماعي. وفي كل هذا، يجمع علم الاقتصاد السلوكي بين المعارف المكتسبة من علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع وعلم الأعصاب وعلم الأحياء التطوري ليفسِّر بها أسباب تدخل المؤثِّرات الاجتماعية بقوة في سلوكنا الاقتصادي والمالي والأساليب التي يحدُث بها ذلك.
أحد تفسيرات سلوك القطيع هو أنه أداةٌ سريعة لاتخاذ القرارات — أو ما يسمِّيه علماء الاقتصاد السلوكي ﺑ «الطرق الاستدلالية» — تتيح لنا توفير الوقت والجهد المعرفي اللذَين تستلزمهما عملية اتخاذ القرارات من الصفر. تخيَّل أنك تريد شراء ثلاجةٍ جديدة، وتعرف أن جارك قد قضى الكثير من الوقت في البحث عن أفضل ماركة ثلاجة لشرائها. لماذا تبذل الجهد نفسه الذي بذله في حين أن بوسعك أن تطلب منه ترشيح ماركةٍ معينة؟ في هذه الحالة، إحدى الطرق الاستدلالية هي سؤال جارك، مما سيوفِّر لك الكثير من الوقت والجهد. لكن عيب الطرق الاستدلالية هي أنها قد تُوقِع صاحبها في انحيازاتٍ سلوكيةٍ منهجية رغم سرعتها وسهولتها وكفاءتها في كثيرٍ من الأحيان. في المجمل، عندما نتبع سلوك جيراننا وأصدقائنا إما أننا ننتفع من معلوماتٍ اجتماعيةٍ قيمة، أو أننا نكرِّر أخطاءهم فحسب. ويُعتبر سلوك القطيع إحدى الطرق الاستدلالية، وتُوجَد في علم الاقتصاد السلوكي مؤلفاتٌ كثيرة في موضوع الطرق الاستدلالية، وفي الفصل الرابع سنتعرض لبعض الأفكار الرئيسية في هذا الشأن.